قال النسفي رحمه الله تعالى: قالَ أهلُ الحقّ:
قال الشارح: فقال: (قَالَ أَهْلُ الحَقِّ) وهو الحكمُ المطابق للواقع، يطلَقُ على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب، باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل، وأما الصِّدْقُ فقد شاع استعمالُه في الأقوال خاصة، ويقابله الكذب، وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ المطابقةَ تعتبر في الحقِّ من جانب الواقع، وفي الصِّدقِ من جانب الحكم، فمعنى صدق الحكم مطابقته للواقع، ومعنى حَقِّيتَه مطابقة الواقع إياه.
قال الخيالي:
قوله: (فقال قال أهل الحق) الظاهر أن المقول مجموع ما في الكتاب، فالمراد بأهل الحق: أهل السنة والجماعة، وإن خص بقوله: “حقائق الأشياء ثابتة” فالمراد أهل الحق في هذه المسألة، وهم ما عدا السوفسطائية عن آخرهم، ويحتمل أن يراد أهل الحق في جميع المسائل، وهم أهل السنة وتخصيصهم بالذكر اعتداد بهم، فكأنهم القائلون.
قوله: (و هو الحكم المطابق للواقع) قد تفتح الباء رعاية لاعتبار المطابقة من جانب الواقع بملاحظة الحيثية، لكن لا يلائمه قوله: “وأما الصدق…إلخ”، وقوله: “وقد يفرق…إلخ”.
قوله: ( فقد شاع في الأقوال خاصة) يشير إلى أن الصدق قد يطلق على غير الأقوال، قال في “حواشي المطالع” يوصف بكل منهما القول المطابق والعقد المطابق.
قوله: (تعتبر في الحق من جانب الواقع) إذ المنظور أولا في هذا الاعتبار: هو الواقع الموصوف بكونه حقا، أي: ثابتا متحققا، وأما المنظور أولا في الاعتبار الثاني: فهو الحكم الذي يتصف بالمعنى الأصلي للصدق، وهو الإنباء عن الشيء على ما هو عليه، وهذا أولى مما قيل: سمي الاعتبار الثاني بالصدق تمييزا.
قوله: (و معنى حقيته مطابقة الواقع إياه) فإن مفهوم قولنا مطابقة الواقع إياه وصف للحكم إلا إنه مركب فلا يشتق منه له صفة، كذا أفاده الشارح في “نظائره”، ولبعض الأفاضل ههنا كلام طويل حاصله: حمل مثله على التسامح في العبارة بناء على ظهور المعنى، فالمعنى ههنا كون الحكم بحيث يطابقه الواقع.
قال السيالكوتي:
قوله: (الظاهر أن المقول مجموع ما في الكتاب…إلخ) أي الظاهر أن يكون مقول القول مجموع ما في الكتاب؛ لأن القرينة لا تدل على تخصيص البعض، والمراد بمجموع ما في الكتاب مجموع المسائل التي تصلح أن تكون مقول القول، ولا يرد أنه يلزم على هذا التقدير أن يكون قوله: “خلافًا للسوفسطائية” أيضًا مقول القول، فيكون هو أيضًا مقصودًا بالنقل مع أنه ليس كذلك، وأن قوله: “والإلهام ليس من أسباب المعرفة عند أهل الحق” يأبى عنه؛ لأن قوله: “خلافًا للسوفسطائية” لم يصلح أن يكون مقول القول؛ لأنه حال عن مقول القول، أي: قال أهل الحق: حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق حال كونهم مخالفين للسوفسطائية، وكذلك قوله: “والإلهام المفسر بالفاء معنى في القلب…إلخ” جملة اسمية وقعت حالًا، أي: قال أهل الحق: وأسباب العلم منحسرة في الثلاثة: الحواس والعقل والخبر الصادق، والحال أنه ليس الإلهام من أسباب المعرفة عندهم، فلا يكونان مقول القول بل قيدًا له، فلا يلزم شيء مما ذكر، والفاضل الجلبي أجاب عن الإباء بأنه يجوز أن يكون إعادة لفظ عند أهل الحق في قوله: “والإلهام ليس من أسباب المعرفة…إلخ” للتأكيد. انتهى. ولا يخفى أن هذا الجواب مما يأباه الطبع السلم؛ إذ هو ليس محل التأكيد مع أنه يلزم أن يكون قوله: “والإلهام…إلخ” مقصودًا بالنقل وليس كذلك، فإنه إنما ذكره لدفع بطلان حصر أسباب العلم في الثلاثة كما سيجيء.
قوله: (ويحتمل…إلخ) أي على تقدير أن يكون مقول القول هو قوله: “حقائق الأشياء” يجوز أن يكون المراد بأهل الحق: أهل السنة والجماعة، ووجه تخصيصهم بالذكر مع أن غيرهم أيضًا مشاركون لهم في هذه المسألة للاعتداد بهم، وللإشارة إلى أن غيرهم بمنزلة العدم في هذه المسألة.
قوله: (قد تفتح الباء) أي تفتح الباء رعاية لكون المعتبر في الحق المطابقة من جانب الواقع، وإنما تحصل تلك الرعاية بملاحظة الحيثية أي الحكم المطابق من جانب الواقع وتحصيل تلك الرعاية من حيث إنه مطابق للواقع، إذ لولا اعتبار الحيثية وملاحظتها لَصَدَقَ تعريف الحق على الصدق أيضًا، إذ يصدق عليه أنه الحكم المطابق للواقع؛ لأن المطابقة بين الشيئين تقتضي نسبة كل منهما إلى الآخر بالمطابقة كما علم في باب المفاعلة، لكنه ليس من حيث إنه مطابق بل من حيث إنه مطابق على ما سيجيء.
قوله: (لكن لا يلائمه قوله…إلخ) فإن قوله: “وأما الصدق…إلخ” يدل على أن الفرق بين الحق والصدق بحسب الاستعمال وشيوع الصدق في الأقوال دون الحق، لا بحسب المفهوم، إذ على تقدير فتح الباء يفهم الفرق بحسب المفهوم، وأما قوله: “وقد يفرق” فلأنه يدل على أن الفرق بينهما بهذا الاعتبار ليس مبينًا في السابق بهذا الاعتبار، فلو كان الباء في قوله: “الحكم المطابق” مفتوحًا يكون بعينه الفرق المبين بقوله: “وقد يفرق…إلخ”. إذ لا قائل باعتبار المطابقة من جانب الواقع فيهما حتى يحمل قوله: “والحكم المطابق” عليه تأمل.
قوله: (يشير) الإشارة مستفادة من الشيوع والخصوص فإنه إذا كان الشيوع مختصًّا بالقول كان أصل الإطلاق باقيًا في غيره بناء على أن كل قيد يرجع إليه الحكم سواء وقع في الإثبات أو النفي يكون هو مقصود المتكلم منه كما صرح به الشيخ عبد القاهر، لا بطريق المفهوم كما زعم الفاضل المحشي.
قوله: (إذ المنظور فيه أولًا…إلخ) تعليل للحكم المطوي؛ أي: إنما سمي الحكم باعتبار كونه مطابقًا بالفتح للواقع بالحق؛ لأن المنظور فيه أولًا…إلخ. يعني أن الذي ينظر إليه ويلاحظ أولًا في حصول هذا الاعتبار للحكم؛ أعني: كونه مطابقًا بفتح الباء هو الواقع، فإن الحكم إنما يصير مطابقًا بفتحها إذا نسب إليه الواقع واعتبر من جهة الفاعلية صريحًا، فيقال: طابق الواقع الحكم والواقع متصف بالحق بالمعنى اللغوي، أعني: الثابت من حق، بمعنى ثبت، فنقل الحق عن معناه اللغوي الذي هو صفة الواقع، وسمي به كون الحكم مطابقًا تسميةً للشيء بوصف ما هو منظور في حصوله أولًا، ثم أخذ منه صفة مشبهة ووصف العقد والحكم به، فللحق معان ثلاثة: أحدهما: اللغوي، وهو الثابت المنقول عنه، والثاني: كون الحكم مطابقًا، والثالث: الصفة المشبهة المأخوذة من هذا المعنى التي يوصف بها الحكم بالمواطأة بأن يقال حكم حق، وإنما قيد بقوله: “أولًا” لأن الحكم أيضًا منظور فيه من جهة الفاعلية في هذا الاعتبار لكن ضمنًا لا صريحًا؛ لأنه إذا لم يكن منسوبًا إلى الواقع من جهة الفاعلية لا يتصف بكونه مطابقًا بفتحها، فإن مقتضى باب المفاعلة النسبة بالفاعلية والمفعولية من الطرفين، وكذلك الواقع منظور فيه بذينك الاعتبارين، لكن ذلك منظور إليه ثانيًا، أي: ضمنًا، إذ الفاعل الصريح للمطابقة على هذا الاعتبار هو الواقع.
قوله: (هو الواقع الموصوف حقًّا) الواقع هو النسبة إلخبرية الثابتة مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر. بيانه: إن الكلام الذي دل على وقوع النسبة بين الشيئين إما بالثبوت أو بالانتفاء مع قطع النظر عن حصولها في الذهن لا بد أن يكون بينهما نسبة ثبوتية أو سلبية، لأنه إما أن يكون هذا ذاك أو لم يكن، وتلك النسبة هي الواقع في إلخارج ونفس الأمر، ومعنى ثبوتها وتحققها أنها ثابتة مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر لا أنها موجودة في إلخارج، فلا يرد ما قيل: إن النسب أمور اعتبارية، فلا معنى لثبوتها وتحققها.
قوله: (وأما المنظور…إلخ) يعني: إنما سمي كون الحكم مطابقًا بكسرالباء للواقع بالصدق؛ لأن الملحوظ في هذا الاعتبار أولًا هو الحكم، فإنه إنما يصير الحكم مطابقًا بكسرها إذا نسب إلى الواقع واعتبر من جهة الفاعلية صريحًا، فيقال: طابق الحكم الواقع، والحكم متصف بالمعنى اللغوي للصدق؛ أعني: الإنباء عن الشيء على ما هو عليه، فيكون تسميته بهذا الاعتبار بالصدق أيضا تسمية للشيء بوصف ما هو منظور فيه أولًا، فإن قلت: لِمَ لَمْ يجعل الأمر بالعكس بأن يسمى كون الحكم مطابقًا بفتحها بالصدق، وكون الحكم مطابقًا بكسرها بالحق تسمية للشئ بوصف ما هو منظور فيه ثانيًا؟ أجيب بأن التسمية بوصف المنظور أولًا أرجح من التسمية بوصف المنظور فيه ثانيًا؛ لقربه منه وانسياقه إلى الفهم أولًا من وصف المنظور فيه ثانيًا.
قوله: (وهو الإنباء) قال الفاضل المحشي: وفيه نظر؛ لأن الإنباء صفة المتكلم، والمقصود ههنا: بيان حال الصدق الذي هو صفة للحكم، والجواب أن هذا إنما يرد لو كان الإنباء مصدرًا مبنيًّا للفاعل، أي: الإخبار، فإنه صفة المتكلم، أما لو كان المتكلم مصدرًا مبنيًّا للمفعول؛ أعني: كون الشيء مخبرًا عنه على ما هو عليه، فلا شك في كونه صفة الحكم، أو يقال: إن هذا مبني على التسامح، فإن إخبار المتكلم عن الشيء على ما هو عليه يستلزم كون الشيء بحيث يخبر عنه على ما هو عليه كما في تعريف الدلالة بالفهم الذي هو صفة السامع أو المعنى، فإنه يستلزم كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى كما حققه السيد الشريف في حاشية المطول، وقال المحشي المدقق: لكن اتصاف الحكم بأي معنى كان بالإنباء عن الشيء على ما كان عليه محل كلام. انتهى كلامه، يحتمل أن يكون مراده ما مرّ في كلام الفاضل المحشي، وقد عرفت جوابه، ويحتمل أن يكون مقصوده: إن كون الإنباء المذكور صفة للحكم إنما يصح لو كان كل حكم ثابتًا في نفس الأمر ومدلول كل ما هو في نفسالأمر، إذ حينئذ يصح أن يقال: كل حكم صادق أي مخبر عنه على ما هو عليه، والجواب أنه لا يلزم في وجه المناسبة اتصاف جميع أفراد الحكم بالوصف المذكور بل يكفي اتصاف بعضها به، وإن مدلول الكلام في نفس الصدق والكذب احتمال عقلي بناء عل أن دلالة الألفاظ ليست قطعية، بقي الكلام في أن كون الإنباء المذكور معنى لغويًّا للصدق محل تردد، إذ لم يوجد في “الصحاح” وغيره من الكتب المشهورة.
قوله: (و هذا أولى مما قيل…إلخ) لأنه يدل على وجه المناسبة في التسمية على وفق ما ذكره في الحق على أن التمييز المطلق لا يكفي في وجه التسمية.
قوله: (فإن مفهوم…إلخ) دفع لما يقال: الحقية صفة الحكم ومطابقة الواقع إياه صفة الواقع، فلا يصح تعريفها بها وحملها عليها بهو هو، وحاصل الدفع أن المطابقة وحدها وإن كانت صفة الواقع، لكن المفهوم الحاصل من مطابقة الواقع إياه؛ أعني: المطابقة المتعلقة بالحكم صفة الحكم، ألا ترى أنه يصح أن يقال: الحكم موصوف بمطابقة الواقع إياه، فإن المعنى مطابقة الواقع إياه هو بعينه معنى كون الحكم بحيث يطابقه الواقع، تأمل.
قوله: (إلا أنه مركب) جواب عما يقال: إنه لو كان صفة للحكم لصح أن يشتق منه صفة له كما يشتق من الحقية، فيقال: حكم حق.
قوله: (كذا أفاده الشارح) حيث قال في شرح التلخيص: عرفوا الدلالة الوضعية اللفظية بأنها فهم المعنى من اللفظ، واعترض عليه بأن الفهم إن كان مصدرًا مبنيًّا للفاعل؛ أعني: الفاهمية فهو صفة الفاهم، وإن كان مصدرًا مبنيًّا للمفعول؛ أعني: المفهومية فهو صفة المعنى، فلا يصح حمله على الدلالة التي هي صفة اللفظ، ثم أجاب بأنا لا نسلم بأنه ليس صفة اللفظ، فإن الفهم وحده وإن كان صفة الفاهم وكذا الانفهام وحده صفة المعنى إلا أن فهم المعنى من اللفظ صفة اللفظ، فإن معنى فهم المعنى من اللفظ أو انفهام المعنى منه هو معنى كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى، غاية ما في الباب أن الدلالة مفرد يصح أن يشتق منه صفة تحمل على اللفظ، وفهم المعنى وانفهامه منه مركب لا يمكن اشتقاقها منه إلا بواسطة مثل أن يقال اللفظ منفهم منه المعنى.
قوله: (ولبعض الأفاضل) أراد به السيد الشريف حيث رد ما قاله الشارح في شرح التلخيص بما حاصله أن يكون فهم المعنى من اللفظ صفة اللفظ باطل، وكون معناه كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى ظاهر البطلان، نعم إنه يستلزمه وأين الإستلزام من الاتحاد، فالأولى أن يقال: إن أمثال هذا محمول على التسامح من القوم، واعتمادهم على ظهور أن الدلالة صفة اللفظ، والفهم صفة السامع فلا بد أن يقصد بتعريفها به ما هو صفة اللفظ؛ أعني: كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى، ودلالة فهم المعنى من اللفظ على كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى دلالة واضحة لا تشتبه، فالمقصود من فهم المعنى من اللفظ كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى.
قوله: (فالمعنى…إلخ) يعني إذا لم يكن مطابقة الواقع إياه صفة للحكم بل محمولًا على التسامح على ما حققه بعض الفضلاء يكون معناه كون الحكم بحيث يطابقه الواقع بناءً على ظهور دلالته عليه واعتمادًا على فهم السامع، قال المحشي المدقق: لكن على هذا التقدير يكون المنظور أولًا في اعتبار المطابقة هو الحكم أيضا في الحقيقة. أقول: ليس المراد بكونه منظورا فيه أولا أن يذكر في اعتبار المطابقة أولا حتى يرد عليه ما ذكر، بل المراد: إن الذي يلاحظ أولًا في حصول هذا المفهوم؛ أعني: كون الحكم مطابقًا – بفتح الباء- هو الواقع؛ لأنه الفاعل الصريح لها سواء ذكر مقدمًا أو مؤخرًا، ولا يخفى أنه ثابت على هذا التقدير، تأمل.
قال الباجوري:
قوله: (فقال) عطف على محذوف معلوم مما تقدم، والتقدير: صدر فقال، وبعضهم جعله معطوفا على قوله: “ناسب”.
قوله: (قال أهل الحق) الظاهر أن المقول مجموع ما في الكتاب؛ لأنه لا قرينة على تخصيص المقول ببعض ما في الكتاب دون البعض الآخر، وعليه فالمراد بأهل الحق أهل السنة؛ لأنهم القائلون بمجموع ما في الكتاب، ولا يرد أن من مجموع ما في الكتاب قوله هنا “خلافا للسوفسطائية”، وقوله فيما يأتي: ” والإلهام ليس من أسباب المعرفة عند أهل الحق” فيكون ذلك جزء المقول، فيلزم عليه أن يكون قوله المذكور مقصودا بالنقل، وأن يكون قوله “عند أهل الحق” لا حاجة إليه مع قوله “قال أهل الحق”؛ لأن المراد بمجموع ما في الكتاب: مجموع المسائل التي تصلح أن تكون مقول القول، وما ذكر لا يصح أن يكون مقول القول؛ لأن قوله “خلافا للسوفسطائية” حال من أهل الحق، أي حال كونهم مخالفين للسوفسطائية، وكذلك “والإلهام…إلخ” جملة اسمية وقعت حالا، أي والحال أن الإلهام…إلخ، وقال الفاضل الجلبي: يجوز أن يكون لفظ “عند أهل الحق” في قوله: “والإلهام…إلخ” للتأكيد أ.ه. قال العلامة عبد الحكيم: ولا يخفى أنه مما يأباه الطبع السليم؛ إذ هو ليس محل التأكيد، مع أنه يلزم عليه أن يكون قوله: و”الإلهامإلخ” مقصودا بالنقل، وليس كذلك، فإنه إنما ذكره لدفع بطلان حصر أسباب العلم في الثلاثة، كما سيجيء إن شاء الله تعالى، ويحتمل أن يكون المقول خصوص قوله: “حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق” وعليه فالمراد أهل الحق في هذه المسألة، وهم من عدى السوفسطائية عن آخرهم، أي بجميع فرقهم، ومن عدى السوفسطائية شامل للمعتزلة وغيرهم من سائر الفرق، فيصدق عليهم أنهم أهل الحق في هذه المسألة، ويحتمل على تقدير أن المقول خصوص قوله “حقائق الأشياء ثابتة…إلخ” أن يراد أهل الحق في جميع المسائل، وهم أهل السنة، وعليه فوجه تخصيصهم بالذكر مع أن غيرهم قائل بهذه المسألة أيضا، الاعتداد بهم، فكأنهم هم القائلون لا غيرهم، ففيه إشارة إلى أن غيرهم بمنزلة العدم.
قوله: (وهو الحكم المطابق للواقع) المراد بالحكم هنا النسبة التامة الخبرية، والمراد بالواقع النسبة الخارجية ، أي الثابتة في خارج الأذهان، بمعنى أنها متحققة في نفسها بقطع النظر عن اعتبار المعتبر وفرض الفارض، فالحق هو النسبة التامة الخبرية المطابقة للنسبة الخارجية ، والمطابق بكسر الباء وقد تفتح رعاية لاعتبار المطابقة من جانب الواقع بملاحظة الحيثية، أي حيثية كونه مطابق بفتح الباء، ولولا ملاحظة الحيثية لصدق التعريف بالصدق؛ لأنهم عرفوه بأنه الحكم المطابق للواقع بكسر الباء، ويلزم من كونه مطابقا بكسر الباء أنه مطابق بفتحها؛ لأن المطابقة مفاعلة من الجانبين، كذا قال بعضهم، ورده العلامة الخيالي بأنه لا يلائمه قوله: “وأما الصدق…إلخ”، وقوله: “وقد يفرق…إلخ”؛ لأن قوله “وأما الصدق…إلخ” يفهم منه أنه لا فرق بين الحق والصدق، إلا بحسب الاستعمال، وعلى فتح الباء يفهم الفرق بحسب المفهوم. وقوله: “وقد يفرق…إلخ” يفهم منه أن الكلام السابق ليس فيه فرق بينهما بحسب المفهوم، وعلى فتح الباء يفهم الفرق بحسب المفهوم، فالمتعين في كلام الشارح كسر الباء.
قوله: (يطلق) أي الحق.
وقوله: (على الأقوال) أي كقولك زيد قائم، فيطلق عليه حق.
وقوله: (والعقائد) أي: كثبوت القدرة لله، فإنه عقيدة بمعنى معتقدة، فيطلق عليه حق.
وقوله: (والأديان) أي: كثبوت الوجوب للصلاة؛ فإنه دين، أي: يتدين به، فيطلق عليه حق.
وقوله: (والمذاهب) أي: كثبوت الوجوب لنية الوضوء، فإنه مذهب، أي: حكم ذهب إليه المجتهد، فيطلق عليه حق.
وقوله: (باعتبار اشتمالها على ذلك) أي باعتبار اشتمال كل من الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب على الحكم المذكور، لكن اشتمال الأقوال عليه من اشتمال الدال على المدلول، واشتمال العقائد والأديان والمذاهب عليه من اشتمال الجزئي على الكلي، فالحكم المطابق للواقع كلي، والمذكورات جزئيات له، وفي ذلك إشارة إلى أن الإطلاق مجازي: أما الأول فظاهر، وأما غيره فمبني على أن استعمال اسم الكلي في جزئياته مجاز وهي مسألة خلافية، وعلم مما تقرر: أنه ليس المراد بالعقائد القضايا التي يعتقد مدلولها، وبالأديان القضايا التي تتعلق بالدين، وبالمذاهب القضايا التي يذهب إلى نِسَبَها المجتهدون، وإلا رجعت إلى الأقوال، وحينئذ فلا يكون هناك فرق بين الحق والصدق في الاستعمال، مع أنه بصدد الفرق بينهما بحسب الاستعمال، كما يفيده قوله: “وأما الصدق…إلخ”.
قوله: (ويقابله الباطل) أي فهو الحكم المخالف للواقع، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك.
قوله: (وأما الصدق…إلخ) لما بين معنى الحق وموارد استعماله ومقابله كان مظنة أن يتردد السامع: هل الصدق ومقابله مثل الحق ومقابله؟ أو بينهما تفاوت في الاستعمال؟ فلذلك قال: “وأما الصدق…إلخ”.
قوله: (فقد شاع في الأقوال الخاصة) أي دون العقائد والأديان والمذاهب، وعلى هذا يكون الصدق أخص مطلقا من الحق بحسب الاستعمال الشائع، وفي قوله: “شاع في الأقوال” إشارة إلى أن الصدق قد يطلق على غير الأقوال فإنه إذا كان الشيوع مختصا بالأقوال كان أصل الإطلاق باقيا في غيرها ويؤيد ذلك ما قاله في “حواشي المطالع” من أن يوصف بكل منهما القول المطابق والعقد المطابق فيكون الصدق مثل الحق بحسب أصل الاستعمال وأخص مطلقا منه بحسب الاستعمال الشائع.
قوله: (ويقابله الكذب) أي فهو الحكم المخالف للواقع لكن شاع في الأقوال خاصة.
قوله: (وقد يفرق بينهما) أي بين الحق والصدق.
وقوله: (بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع) أي بأن يكون الواقع فاعلا والحكم مفعولا، فيقال طابق الواقع الحكم.
وقوله: (وفي الصدق من جانب الحكم) أي بأن يكون الحكم فاعلا والواقع مفعولا، فيقال طابق الحكم الواقع، فالمنظور إليه أولا في اعتبار الأول هو الواقع، وهو متصف بالحق بالمعنى اللغوي، الذي هو الثابت المتحقق من حق بمعنى ثبت، فناسب أن يسمى ما كانت المطابقة فيه من جانب الواقع بالحق؛ تسمية للشيء باسم وصف ما هو ملحوظ فيه أولا، والمنظور إليه أولا في اعتبار الثاني هو الحكم، وهو متصف بالصدق بالمعنى الأصلي، الذي هو الإنباء عن الشيء على ما كان، فناسب أن يسمى ما كانت المطابقة فيه من جانب الحكم بالصدق؛ تسمية للشيء باسم وصف ما هو ملحوظ فيه أولا، ولا يرد أن الإنباء المذكور ليس صفة للحكم، وإنما هو صفة للمتكلم؛ لأنه مصدر المبني للمفعول، فهو بمعنى كونه مُنْبَأ عنه، وهو بهذا المعنى صفة للحكم، لا مصدر المبني للفاعل حتى يكون صفة للمتكلم. نعم يرد أن كون الإنباء المذكور معنى أصليا للصدق محل تردد؛ لأنه لم يوجد في كتب اللغة المشهورة كالصحاح وغيره، فإن قيل: لم لم يجعل الأمر بالعكس؟ فيسمى ما كانت المطابقة فيه من جانب الواقع بالصدق؛ نظرا للملحوظ فيه ثانيا وهو الحكم، ويسمى ما كانت المطابقة فيه من جانب الحكم بالحق؛ نظرا للملحوظ فيه ثانيا وهو الواقع؟ أجيب: بأن الملحوظ أولا أقرب من الملحوظ ثانيا، فالنظر للملحوظ أولا، أرجح من النظر للملحوظ ثانيا، وهذا أولى مما قيل: سمي الاعتبار الثاني بالصدق تمييزا؛ لأن ما ذكرناه يدل على وجه المناسبة في التسمية، على أن التمييز المطلق لا يكفي في وجه التسمية.
قوله: (فمعنى صدق الحكم…إلخ) تفريع على قوله: “وقد يفرق…إلخ”، لكن كان الموافق للمفرع عليه أن يقول: فمعنى الصادق الحكم المطابق للواقع- بكسر الموحدة- ومعنى الحق الحكم المطابق–بفتحها- وأما التفريع الذي ذكره فغير موافق للمفرع عليه؛ لأنه جعل الصدق في التفريع صفة للحكم وفسره بمطابقته للواقع، مع أنه قد جعله في المفرع عليه نفس الحكم، وفسره بالحكم المطابق، كما هو صريح كلامه، وفسر حقية الحكم في التفريع بمطابقة الواقع إياه، مع أنه قد فسر الحق في المفرع عليه بالحكم الذي طابقه الواقع، وأن الحقية هي مطابقة الواقع للحكم، والذي في كلام غيره تفسير الصدق بمطابقة الخبر للواقع، وتفسير الحق بمطابقة الواقع للخبر، وهو المشهور، لكن الذي حققه الشارح ما علمت.
قوله: (ومعنى حقيتة مطابقة الواقع إياه) أي ومعنى حقية الحكم، أي كونه حقا مطابقة الواقع له، فإن قيل حقية الحكم صفة للحكم، ومطابقة الواقع إياه صفة للواقع، فلا يصح تعريفها بها وحملها عليها بهو هو. أجيب: بأن مفهوم قولنا مطابقة الواقع إياه صفة للحكم، فإنه بمعنى قولنا كون الحكم بحيث يطابقه الواقع، لا يقال لو كان وصفا للحكم لصح أن يشتق له منه صفة فإن كل من قام به وصف يصح أن يشتق له منها وصف، فيقال عالم وهكذا، مع أنه لا يصح أن يشتق له منه صفة فيما نحن فيه؛ لأنا نقول منع من اشتقاق الوصف به منه هنا مانع، وهو التركيب؛ إذ اشتقاق الوصف من الصفة إنما يكون إذا كانت مفردة، كذا إفادة الشارح في نظائره، كتعريف الدلالة الوضعية اللفظية بأنها فهم المعنى من اللفظ، فإنه اعترض بأن الدلالة صفة اللفظ، والفهم ليس صفة اللفظ بل صفة الفاهم، فأجاب الشارح في شرح التلخيص: بأنا لا نسلم إنه ليس صفة اللفظ، بل هو صفة اللفظ؛ لأن معنى فهم المعنى من اللفظ، كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى، غاية ما في الباب أن فهم المعنى من اللفظ مركب، لا يمكن أن يشتق منه صفة تحمل على اللفظ، وقد رد بعض الفضلاء، وهو السيد السند، جواب الشارح: بأن كون فهم المعنى من اللفظ صفة اللفظ، وكون معناه كون اللفظ يفهم منه المعنى، ظاهر البطلان. نعم هو يستلزمه، وأين الاستلزام من الاتحاد! قال: فالأولى أن يجاب بأن مثل هذا محمول على التسامح في العبارة؛ بناء على ظهور المعنى الأصلي، فالمراد من قولهم فهم المعنى من اللفظ لازمه، وهو كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى، والمراد هنا من قولهم مطابقة الواقع إياه لازمه، وهو كون الحكم بحيث يطابقه الواقع. قال المحشي المدقق: لكن على هذا يكون المنظور إليه أولا في الحق، هو الحكم لا الواقع، ورده العلامة عبد الحكيم بأنه ليس المراد بكونه منظورا إليه أولا، أنه يذكر في اعتبار المطابقة أولا حتى يرد ما ذكر، بل المراد أنه الذي يلاحظ أولا في اعتبار المطابقة، بأن يكون هو الفاعل لها سواء ذكر مقدما أو مؤخرا، ولا يخفى أنه على هذا كذلك.
حقائقُ الأشياءِ ثابتةٌ
قال الشارح: (حَقَائقُ الأشْيَاءِ ثَابِتَةٌ) حقيقة الشيء وماهيته مَا به الشيءُ هُوَ هُوَ، كالحيوان الناطق للإنسان، بخلاف مثل الضاحك والكاتب مما يمكن تصور الإنسان بدونه، فإنه من العوارض، وقد يقال: إنَّ ما به الشيءُ هو هو باعتبار تحقُّقِه حقيقةٌ، وباعتبار تَشخّصِه هُويَّة، ومع قطع النظر عن ذلك مَاهِيَّة.والشيء عندنا الموجود، والثُّبوتُ والتَّحققُ والوُجودُ والكَونُ ألفاظٌ مُترادفةٌ، معناها بديهي التصور.
قال الخيالي:
قوله: (ما به الشيء هو هو) لا يقال هذا صادق على العلة الفاعلية؛ لأنا نقول: الفاعل ما به الشيء موجود لا ما به الشيء ذلك الشيء؛ إذ
الماهية ليست بجعل جاعله، فإن قلت: الشيء بمعنى الموجود فيرد الإشكال. قلت: بعد التسليم فرق بين ما به الموجود موجود وبين ما به موجود ذلك الموجود، والفاعل إنما هو الأول، وبه يظهر أن الضميرين للشيء، وقد يجعل أحدهما للموصول فلا يتوهم الإشكال بالفاعل ولكن ينتقض حينئذ ظاهر التعريف بالعرضي؛ إذ الضاحك ما به الإنسان ضاحك. وجعل هو هو بمعنى الاتحاد في المفهوم خلاف المتبادر والاصطلاح فلا يرتكب مع ظهور الوجه الصحيح هذا، ولو قيل في التعريف: ما به الشيء هو لكان أخصر.
قوله: (مما يمكن تصور الإنسان بدونه) أي: بالكُنه، وأما تصوره بالوجه فقد يمكن بدون الذاتي أيضا. قيل: عليه يستفاد منه أن الذاتي ما لا يمكن تصور الشيء بدونه ويرد عليه اللوازم البينة بالمعنى الأخص، وجوابه بعد تسليم الاستفادة بطريق التعريف أن المستلزم لتصور اللازم إنما هو تصور الملزوم بطريق الاخطار على ما نص عليه في “حواشي المطالع” فأمكن تصوره بدونه في الجملة بخلاف الذاتي، وأيضا زمان تصوراللازم غير زمان تصور الملزوم فانفك في هذا الزمان بخلاف الذاتي، وهذا القدر كاف في هذا المقام، وقيل أيضا إن أُريد بالإمكان الإمكان الخاص يلزم أن يجوز تصور الكُنه بالعرضي وهو باطل وإن أريد بالإمكان الإمكان العام فهو حاصل في الذاتي أيضا وجوابه اختيار الأول ومنع الملازمة؛ إذ اللازم إمكان تصور الكنه مع العرضي لا به، ولو سلم يعتبر الإمكان بالنسبة إلى المقيد؛ أعني: تصور الإنسان بدونه لا بالنسبة إلى القيد؛ أعني: كون تصوره بدونه، وانتفاء المقيد قد يكون لعدم التصور، على أن تصور الكنه بالعرضي غير ممتنع وإن لم يطرد، ويمكن اختيار الثاني بأن يراد الإمكان العام من جانب الوجود أي ليس عدمه ضروريا.
قوله: (و باعتبار تشخصه هوية) المشهور أن الهوية نفس التشخص وقد يطلق على الوجود الخارجي أيضا والشارح قد أطلقها على الماهية لاعتبار التشخص.
قال السيالكوتي:
قوله: (لا يقال هذا صادق) يعني أن الظاهر أن يكون الباء في قوله: “ما به” للسببية، والضمير أن للشيء، فالمعنى: الأمر الذي بسببه الشيء ذلك الشيء، ولا شك أنه يصدق على العلة الفاعلية، لأن الإنسان مثلًا إنما يصير إنسانًا متمايزًا عن جميع ما عداه بسبب الفاعل وإيجاده إياه ضرورة أن المعدوم لا يكون إنسانًا، بل لا يكون ممتازًا عن غيره لما تقرر من أنه لا تمايز في المعدومات، فيلزم أن تكون العلة الفاعلية ماهية لمعلولاتها وهو باطل.
قوله: (لأنا نقول الفاعل ما به الشيء موجود…إلخ) أي الفاعل ما بسببه الشيء موجود في الخارج، وذلك إما بأن يكون أثر الفاعل نفس ماهية ذلك الشيء مستتبعًا له استتباع الضوء للشمس، والعقل ينزع منه الوجود ويصفها به على ما قال الإشراقيون وغيرهم االقائلون بأن الماهيات مجعولة، فإنهم ذهبوا إلى أن الماهية هي الأثر المترتب على تأثير الفاعل، ومعنى التأثير الاستتباع، ثم العقل ينزع منها الوجود ويصفها به، مثلًا ماهية زيد تستتبع الفاعل في الخارج ثم يصفها العقل بالوجود، والوجود ليس إلا اعتباريًّا عقليًّا انتزاعيًّا كما أنه يحصل من الشمس أثر في مقابلها من الضوء المخصوص، وليس هناك ضوء متقرر ثابت في نفسه تجعله الشمس متصفًا بالوجود لكن العقل يعتبر الوجود ويصفه به، فيقول: وجد الضوء بسبب الشمس، وأما بأن يكون أثر الفاعل الماهية باعتبار الوجود لا من حيث نفسها ولا من حيث كونها تلك الماهية على ما ذهب إليه المشائيون وغيرهم القائلون بأن الماهيات ليست مجعولة، فإنهم قالوا: أثر الفاعل هو ثبوت الماهية في الخارج ووجودها فيه بمعنى أنه يجعل الماهية متصفًا به في الخارج، وأما الماهية فهي أثر له باعتبار الوجود لا من حيث هي بأن يكون نفس الماهية صادرة عنه، ولا من حيث كونها تلك الماهية بأن يجعل الماهية ماهية، فعلى كلا التقديرين أثر الفاعل الشيء الموجود في الخارج، إما بنفسه وإما باعتبار الوجود.
قوله: (لا ما به الشيء…إلخ) يعني ليس أثر الفاعل كون الشيء ذلك الشيء بل إما نفس الماهية أو الماهية باعتبار الوجود، وأما كون الماهية ماهية فليس بجعل الجاعل ضرورة أنه لا مغايرة بين الشيء ونفسه حتى يتصور بينهما جعل، وأما عدم التمايز في المعدومات فإنما هو في الخارج لا في نفسها، فإن الماهيات متمايزة بعضها عن بعض في نفسها، ولا مجال للنزاع في هذا وإن فسر بعضهم قولهم الماهية مجعولة أو غير مجعولة به إذ لا يعقل صحته على ما يشهد به الفطرة السليمة، إنما النزاع في كون الماهيات مجعولة أو غير مجعولة بالمعنى الذي مرّ من أن أثر الفاعل نفس الماهيات أو الماهيات باعتبار الوجود، فاندفع ما قال بعض الفضلاء، وإن هذا الجواب إنما يستقيم على مذهب من قال: إن الماهيات غير مجعولة، وأما من يقول بأن الماهيات مجعولة فلا، إذ لم يذهب أحد إلى أن الماهيات مجعولة بمعنى كون تلك الماهية ماهية، إذ لا معنى له فلا يصلح محلًّا للنزاع، وإن شئت مصداق ما ذكرناه فعليك الرجوع إلى “شرح المواقف” والحواشي الشريفة على شرح حكمة العين وشرح الزوراء للمحقق الدواني.
قوله: (فيرد الإشكال) إذ يصير محصل التعريف ما به الموجود موجود، وهذا يصدق على العلة الفاعلية.
قوله: (قلت بعد التسليم…إلخ) يعني لا نسلم أولًا أن الشيء ههنا بمعنى الموجود بل بمعنى ما يصلح أن يعلم ويخبر عنه ولو مجازًا، وإن سلمناه باعتبار أن الأصل في التعريفات الحمل على الحقيقة والاحتراز عن المجاز وإن كان مشهورًا بحسب الاستعمال، لكن فرق بين ما به الموجود موجود فإنه الفاعل وبين ما به الموجود ذلك الموجود فإنه الماهية، فإن معنى الأول: الأمر الذي بسببه الشيء الموجود متصف بالوجود، وما ذلك إلا الفاعل، ومعنى الثاني: الأمر الذي يسببه الشيء الموجود هو ذلك الشيء الموجود الممتاز عن جميع ما عداه، وما ذلك إلا الماهية؛ إذ لا مدخل للفاعل في كون هذا الموجود الممتاز هو الموجود الممتاز، بل تأثيره إما في نفسه أو في اتصافه بالوجود على ماحقق، فإن قيل: لا مغايرة بين الشيء وماهيته حتى يتصور بينهما سببية، قلت: هذا من ضيق العبارة، والمقصود أنه لا يحتاج الشيء في كونه ذلك الشيء إلى غيرها، وهذا كما قالوا: الجوهر ما يقوم بنفسه، إذ لا مغايرة بين الشيء ونفسه حتى يتصور القيام بينهما.
قوله: (وبه يظهر) أي بما ذكرنا في بيان الفرق من أن الماهية ما به الشيء ذلك الشيء.
قوله: (وقد يجعل أحدهما) أي الثاني إذ لا صحة لرجوع الأول؛ لأن الضمير الثاني محمول على الأول، والمحمول إنما هو الماهية لا الذات، فالمعنى الأمر له الذي بسببه الشيء ذلك الأمر بمعنى أنه لا يحتاج في ثبوت ذلك الأمر له إلى غير ذلك الأمر، فيرجع محصل التعريف إلى ما قالوا في تعريف الذاتي بالمعنى الأعم بأنه لا يعلل ثبوته للذات.
قوله: (فلا يتوهم الإشكال…إلخ) إذ الفاعل ليس الأمر الذي بسببه المعلول ذلك الفاعل لعدم الحمل بالمواطأة بينهما.
قوله: (لكن ينتقض ظاهر التعريف بالعرضي) إنما قال: “ظاهر التعريف” لأن مآل التعريف على ما بيناه هو أن لا يحتاج في كونه ذلك الأمر إلى غير ذلك الأمر، والعرضي ليس كذلك، فإن الماهية في اتصافها به سواء كان لازمًا أو مفارقًا يحتاج إلى أمر غير ذلك العرضي يكون علة لثبوته سواء كان نفس تلك الماهية أو غيرها، مثلًا الإنسان في كونه ضاحكًا يحتاج إلى ما هو منشأ كونه ضاحكًا؛ أعني: التعجب لكن بقي الانتقاض بالذاتي بمعنى الجزء ظاهرًا وباطنًا، فإن الإنسان في كونه ناطقًا لا يحتاج إلى أمر غير الناطق لأن ثبوته له غير معلل بشيء، أما بالغير فظاهر، وأما بنفس الذات فلتقدمه عليها، فما قاله الفاضل الجلبي من اندفاع النقض بالذاتي والعرضي باطنًا سهو، ولعل المحشي إنما لم يتعرض لهذا النقض؛ لأن المقصود تعريف الماهية بحيث يمتاز عن العرضي كما يدل عليه قول الشارح بخلاف الضاحك…إلخ. فدخول الذاتي في تعريفها لايضر بالمقصود، ويؤيد ما قلنا ما ذكره بعض الفضلاء من أنه جرت عادة القوم في ابتداء مبحث الماهية من الأمور العامة ببيان الفرق بين الماهية وعوارضها دون ذاتياتها؛ لأنه قد يشتبه الماهية بالعوارض فيما إذا عارض الشيء لنفسه كالكلي للكلي، بخلاف الذاتيات فإنه لا اشتباه بين الكلي والجزئي، فتدبر.
قوله: (وجعل هو هو…إلخ) رد لما قيل: إن هو هو علم في الاتحاد، والباء في به متعلق بالاتحاد المفهوم من هو هو، والمراد بالاتحاد الاتحاد في المفهوم، فالمعنى ما به يتحد الشيء في المفهوم، فلا يصدق التعريف على الفاعل لأنه غير متحد به، ولا على العرضي لأنه غير متحد به في المفهوم، ووجه الرد أن المفهوم المتبادر من هو هو الاتحاد في الصدق وعليه الاصطلاح، فإن معنى حمل المواطأة؛ أعني: حمل هو هو اتحاد المتغايرين في الصدق، فحمله عليه خلافالمتبادر والاصطلاح الذي وجب الاحتراز عنه في التعريفات فلا يرتكب، مع أن الوجه الصحيح هو أن يكون الباء للسببية، والضميران للشيء ظاهر متبادر سالم عن ورود النقض على أنه يرد هذا التقدير أن يكون المحدود ماهية للحد، إذ يصدق عليه أنه ما يتحد الحد مع أنه ليس كذلك.
قوله: (هذا) أي خذ هذا؛ أي: خذ ما ذكرناه.
قوله: (لكان أخصر) لكن الذكر أظهر وأسبق إلى الفهم.
قوله: (أي بالكنه) أي المقصود منه دفع ما يرد على ظاهر عبارة الشارح من أنه يلزم أن تكون الذاتيات أيضًا داخلة في العوارض، فإنه يمكن تصور الشيء بدونها بأن يتصور بالوجه لا بالكنه، وحاصل الدفع: إن ليس المراد بالتصور في قوله: مما يمكن تصور الإنسان بدونه التصور مطلقًا، ولا التصور بالوجه فقط حتى يرد ما ذكر، بل المراد التصور بالكنه، فالمعنى أن ما يمكن تصور الشيء بالكنه بدونه فهو من العوارض، وتصور الشيء بالكنه بدون تصور ذاتياته وماهيته محال، قال الفاضل المحشي: لا يخفى عليك أن المقصود من تعريف الماهية تميزها عن سواها، فينبغي أن تخرج أجزاء الماهية عن تعريفها كما يخرج عوارضها عن تعريفها مع أنه على تقدير إرادة التصور بالكنه تبقى الأجزاء داخلة فيها، أقول: مقصود الشارح من قوله بخلاف…إلخ. بيان مغايرة الماهية لعوارضها اللازمة والمفارقة لأن بعض المفهومات كان يعرض لنفسها كالمفهوم والكلي، فكان محل أن يتوهم أن حقيقة العارض والمعروض واحدة، وأما مغايرة الماهية لأجزائها فقد ظهر من تعريف الماهية، إذ المراد بقوله: “ما به” السببية التامة، ولذا ذكر في جميع الكتب الكلامية أن ماهية الشيء مغايرة لجميع عوارضه اللازمة والمفارقة مع عدم التعرض لبيان المغايرة بين الماهية وأجزائها.
قوله: (وأما تصوره بالوجه…إلخ) بيان لسبب تفسير التصور بالتصور بالكنه، يعني لو لم يفسر به لدخل الذاتي بالمعنى الأعم في العوارض؛ لأنه مما يمكن تصور الشيء بدونه بالوجه أيضًا أي كما أنه يمكن تصوره بدون العرضي.
قوله: (قيل عليه يستفاد…إلخ) يعني يستفاد من تفريع قوله: “فإنه من العوارض” على قوله: مما يمكن تصوره بدونه أن العرضي ما يمكن تصور الشيء بدونه، والذاتي بخلافه؛ أعني: ما لا يمكن تصور الشيء بدونه، فيرد عليه اللوازم البينة بالمعنى الأخص؛ أعني: ما يمتنع انفكاكها عن الشيء ويستلزم تصوره تصورها إذ يصدق عليها أنه لا يمكن تصور الشيء بدونه ضرورة أن تصوره مستلزم لها بحيث يستحيل الانفكاك بينهما، فينتقض تعريف الذاتي منعًا، وكذلك ينتقض تعريف العرضي بهما جمعًا، فاختيار الاستفادة في توجيه هذا الاعتراض تطويل للمسافة، إذ يكفي أن يقال أنه يرد على التعريف المذكور للعرضي اللوازم البينة بالمعنى الأخص، اللهم إلا أن يقال المقصود من ذكر الاستفادة الإشارة إلى ورود الاعتراض على تعريفهما ودفعه عنهما، وحينئذ يكون ضمير قوله: “فيرد عليه” راجعًا إلى كل واحد من التعريفين، تأمل.
قوله: (وجوابه…إلخ) يعني لا نسلم الاستفادة أولًا، فإن بيان حكم العرضي لأجل مغايرته بالماهية لا يستلزم أن يكون حكم الذاتي بخلافه، وعلى تقدير تسليم الاستفادة لا نسلم أن الاستفادة المذكورة تكون بطريق التعريف أي بحيث تصلح أن تكون معرفًا للذاتي مساويًا له، لم لا يجوز أن يكون المستفاد حكمًا عامًّا شاملًا له ولغيره كما أن ما ذكره؛ أعني: ما يمكن تصوره بدونه ليس معرفًا مساويًا للعرضي، يدل عليه من التبعضية في قوله: “فإنه من العوارض” ويؤيده ما قاله في شرح المطالع: للذاتي خواص ثلاث: الأولى أن يمتنع رفعه عن الماهية على معنى أنه إذا تصور الذاتي وتصورت معه الماهية امتنع الحكم بسلبه عنها، الثانية يجب ثبوته لها على معنى أنه ليس يمكن تصور الماهية إلا مع تصوره ومع التصديق بثبوته لها، وهما ليستا بخاصتين مطلقتين لأن الأولى تشمل اللوازم البينة بالمعنى الأعم، والثانية بالمعنى الأخص، انتهى كلامه، وعلى تقدير الاستفادة بطريق التعريف فنقول في الجواب: إن معنى عدم إمكان تصور الشيء بدون الذاتي أنه لا يمكن تصور ذلك الشيء بالكنه بدونه بوجه من الوجوه سواء كان بطريق الإخطار بأن يكون ملحوظًا قصدًا وبالذات، أو لا بأن يكون ملحوظًا تبعًا، إذ ليس تصور ذلك الشيء إلا تصور ذاتياته، فلا يمكن بدونه أصلًا، والمستلزم تصور اللازم ليس إلا تصور الملزوم بطريق الإخطار بأن يكون الملزوم ملحوظًا قصدًا وبالذات، فيمكن تصور الملزوم بدون ذلك اللازم في الجملة، وهو ما إذا لم يكن الملزوم متصورًا بطريق الإخطار والقصد، وإلا لزم أن يكون الذهن منتقلًا عن ملزوم واحد إلى لازمه وإلى لازم لازمه بالغًا ما بلغ حتى تحصل اللوازم بأسرها في الذهن وهو محال، فلا يصدق التعريف الذاتي عليهما، فإن قيل: قد صرح السيد الشريف قدس سره في حاشية المطالع بأن الخاصة الثانية للذاتي؛ أعني: ما لا يمكن تصوره بدونه مما لا بد فيه من تصور الذاتي والماهية بطريق الإخطار، ولا يكفي فيه إخطار الماهية فضلا عن تصورها، قلت: المحتاج إليه هو التصديق بثبوت الذاتي لها ضرورة لها تصديق لا بد فيه من تصور طرفيه بالذات لاستلزام تصورها تصوره يرشدك إليه عبارته.
قوله: (على ما نص عليه في “حواشي المطالع”) قال السيد الشريف قدس سره في بيان قوله بأن المستلزم لتصور اللازم تصور الملزوم التفصيلي، فربما يطرأ على الذهن ما يوجب إعراضه عن اللازم، فلا يستمر اندفاعه، أي إذا تصور الملزوم، وكان ملحوظا قصدًا مخطرًا بالبال استلزم تصوره على هذا الوجه تصور لازمه القريب، وفي هذا المقام بحث نص عليه في “حواشي المطالع” فليرجع إليه.
قوله: (وأيضًا زمان تصور اللازم) جواب ثان عن الإيراد المذكور يعني أن معنى قولنا: “الذاتي ما لا يمكن تصور الشيء بدونه” أنه لا يمكن تصور الشيء بالكنه في زمان لا يكون الذاتي متصورًا في ذلك الزمان ضرورة أن تصور الشيء بالكنه لا يكون إلا تصور ذاتياته، فيكون تصوره عين تصور ذاتياته، فلا بد أن يكونا في زمان واحد، بخلاف تصور اللازم فإنه في زمان غير زمان تصور الملزوم ضرورة أن تصور اللازم مغاير لتصور الملزوم وتابع له، وامتناع توجه النفس نحو الشيئين في زمان واحد، وإذا كان زمان تصوريهما متغايرين صدق أنه يمكن تصور الملزوم بدون اللازم لانفكاكه عنه في زمان تصوره، فلا ينتقض حد الذاتي باللوازم المذكورة، نقل عنه، لأن تصور الملزوم معد لتصور اللازم لا سبب موجب له، وإلا لما جاز بقاؤه مع زوال تصور الملزوم واللازم باطل بالضرورة، ثم إن تحقق معنى اللزوم بين المعد والمعد له مما لا يخفى، ولذا قالوا: الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والمعرف ما يلزم من تصوره تصور شيء آخر مع أن المبادئ معدات للمطالب، فإن قيل: فما معنى قولهم: تصور اللازم البين لا ينفك عن تصور الملزوم، قلت: معناه أن تصوره يعقب تصور الملزوم بدون فصل، ولقائل أن يمنع تغاير زماني التصورين، فإن من تمسك بامتناع توجه النفس في زمان واحد إلى شيئين يرد عليه أن الحال في تصور الذاتي كذلك أيضًا تامل، والأولى في الجواب أن يقال: معنى عدم إمكان تصور الشيء بدون الذاتي عدم إمكان ملاحظته مجردًا عنه كما أن معنى إمكانه بدون العرضي إمكان ملاحظته مجردًا عنه، انتهى كلامه، إن أراد أنه معد حقيقةً فهو باطل؛ لأن المعد ما يمتنع تصور اجتماعه مع المعد له ضرورة أنه يتوقف على وجده وعدمه، وتصور الملزوم قد يجامع تصور اللازم، وإن أراد أنه بمنزلة المعد في عدم لزوم الاجتماع كما يدل عليه قوله مع أن المبادئ معدات، فإن المعدات الحقيقية هي الحركات الواقعة فيها، وتسمية المبادئ معداتٍ على سبيل التشبيه، نص بذلك السيد الشريف في حواشي شرح الرسالة، فهو لا يفيد إذ حينئذ يجوز اجتماعهما، فيرد عليه نقضًا على تقدير الاجتماع، وهذا البحث مندرج في قوله: ولقائل أن يمنع تغاير زماني التصورين كما لا يخفى، وحاصل معنى اللزوم الذي اعتبره في اللوازم البينة هو أن لا يتخلل زمان بين تعقل الملزوم وتعقل اللازم، وبذلك صرح العلامة التفتازاني في شرح المقاصد في بحث الإضافة، ومنع تغاير زماني التصورين بعد الاستدلال عليه راجع إلى دليله وإلا فهو غير موجه، وحاصله أن الدليل المذكور إنما يتم فيما إذا كان تصور الملزوم معدًّا، وذلك غير لازم في جميع الملزومات بالنسبة إلى لوازمها البينة لجواز أن لا يتوقف اللازم على ملزومه أصلًا بل يكون الأمر بالعكس كالأعدام بالنسبة إلى ملكاتها، فإن الإضافة لما كانت داخلة في مفهوماتها وتعقل الإضافة يتوقف على تعقل الملكات لكونها طرفا لها كانت الأعدام موقوفة عليها، أو لا يتوقف شيء منهما على الآخر كالمتضايفين، فإنهما يحصلان معًا من غير أن يتوقف أحدهما على الآخر، وإلا لبطلت المعية، وخلاصته أن التلازم منحصر في العلة والمعلول أو بين معلولي علة واحدة، فعلى تقدير أن يكون الملزوم علة معدة يكون زمان تصور الملزوم مغايرًا لزمان تصور اللازم، وعلى التقدير الأخير يكون زمان تصور الملزوم هو زمان تصور اللازم، وبما حررنا لك من توجيه المنع ظهر أن اعتراض المحشي المدقق بعد نقل هذه الحاشية بأن جوابه الثاني لا يجري في الأعدام بالنسبة إلى ملكاتها، وفي المتضايفين مبني على عدم التدبر في توجيه المنع المذكور، ووجه التأمل أن وجود الماهية بالتغاير ليس إلا وجود الأجزاء، فلا يكون تصور الذات مغايرًا بالذات لتصور الذاتي، ولذا قالوا بالتغاير بالإجمال والتفصيل بين الحد والمحدود، بخلاف الملزوم واللازم فإن تصور الملزوم مغاير بالذات لتصور اللازم كما لا يخفى، والجواب الحق ما ذكره بقوله: والأولى…إلخ. وحاصله أن في الذاتي تصور الذات بدونه غير ممكن لأن وجوده عين وجودها كما أن المتصور أيضًا غير ممكن، وفي اللوازم التصور ممكن لكن المتصور وهو انفكاك الملزوم عن اللازم محال، وهذا كما قالوا: إن في الكليات الفرضية فرض الاشتراك ممكن، وإن كان المفروض محالًا، بخلاف الجزئي فإن الفرض والمفروض فيه محال، وتفصيل ذلك في حواشي السيد الشريف قدس سره على شرح مختصر الأصول.
قوله: (هذا القدر يكفينا في هذا المقام) يعني هذا القدر من الانفكاك؛ أعني: كون زمان تصور اللازم غير زمان تصور الملزوم يكفينا في الفرق بين الذاتي واللازم، وأما في قسمة الخارج عن الماهية إلى اللازم والمفارق فلا، بل يجب فيه الانفكاك بمعنى الانفصال وعدم الاستعقاب، ففي هذا إشارة إلى دفع ما يتوهم أن القول بالانفكاك يهدم قاعدة اللزوم وحاصله أن الانفكاك الهادم للزوم هو بمعنى الانفصال وعدم الاستعقاب لا المغايرة لزمان تأمل.
قوله: (وقيل أيضًا…إلخ) اعتراض ثانٍ على قوله: “مما يمكن…إلخ” يعني إن أريد بالإمكان في قوله: “مما يمكن تصور الإنسان بدونه” الإمكان الخاص؛ أعني: سلب الضرورة عن جانبي الوجود والعدم يلزم جواز تصور كنه الشيء بالعرض وهو محال، إذ العارض لا يفيد معرفة حقيقة المعروض وإلا لم يكن عارضًا، إذ يصير محصله أن تصور كنه الإنسان بدون العرضي وتصوره لا بدونه؛ أعني: به ليسا ضروريين، فيكون تصور كنه الإنسان بدون العرضي وتصوره لا بدونه جائزًا، إذ لو امتنع لوجب أن يكون تصور كنهه بدونه ضروريًّا، وإن أريد بالإمكان الإمكان العام؛ أعني: سلب الضرورة عن أحد الطرفين، فهذا المعنى حاصل في الذاتي أيضًا إذ كما يصدق على العرضي أن تصور الإنسان بدونه واجب وكل واجب ممكن بالإمكان العام كذلك يصدق على الذاتي أن تصور الإنسان بدونه ممتنعوكل ممتنع ممكن بالإمكان العام، وتلخيصه أنه لما لم يقيد الإمكان العام بشيء من الطرفين كان صادقًا على كل من الواجب والممتنع.
قوله: (وجوابه…إلخ) يعني أنا نختار أن المراد بالإمكان الإمكان الخاص، ونمنع لزوم جواز تصور كنه الشيء بالعرضي بأن يكون هو سببًا لحصوله الذي هو محال بل اللازم جواز تصور كنهه مع العرضي بأن يكون مقارنًا له، فإن الجانبين المتقابلين في قولنا: مما يمكن تصور الإنسان بدونه، وتصور الإنسان لا بدونه يعني معه لا به، إذ المقابل بقولنا بدونه معه لا به، فالمعنى تصور الإنسان بالكنه مقرونا بغير العرضي، وتصوره معه ليسا بضروريين، ولا استحالة فيه، فإنه يجوز أن يتصور الشيء بالكنه بحيث يلزمه تصور الأمور العرضية من اللوازم البينة، أقول: وهذا الجواب إنما يتم لو كان الباء في قوله: بدونه للملابسة، أما لو كان للسببية فالمقابل بدونه به لا معه، فالسؤال باق، ولعل هذا وجه التسليم في قوله: لو سلم.
قوله: (يعتبر الإمكان بالنسبة إلى المقيد) يعني أن الإمكان في قوله: مما يمكن تصور الإنسان بدونه داخل على التصور المقيد بقيد بدونه، فالإمكان إن اعتبر كيفية نسبة التصور إلى بدونه حتى يكون المعنى كون التصور بالكنه بدون العرضي أو به ليسا ضروريين يلزم ما ذكر من جواز التصور بالكنه المقيد بكونه حاصلًا بدون العرضي ممكن يعني ليس وجوده ولا عدمه ضروريًّا بمعنى أنه قد يحصل وقد لا يحصل، فلا استحالة فيه لأن الإمكان حينئذ راجع إلى ذات التصور لا إلى بدونه حتى يلزم ما ذكر، نقل عنه، وتوضيحه أن قولنا: إن الرومي الأبيض ممكن لا يستلزم جواز عدم البياض عن الرومي لأن الإمكان أعتبر كيفية نسبة الوجود إلى ذات الرومي لا كيفية نسبة البياض إليه، فههنا يجوز أن يعتبر الإمكان كيفية نسبة الوجود إلى ذات التصور الذي يكون بدون العرضي، لا كيفية نسبة الكون بدون العرضي إليه، فعدم التصور بدونه مثل عدم الرومي الأبيض بأن لا يوجد أصلًا حينئذ لا بأن يوجد ولا يوجد وصفهما فتأمل، انتهى كلامه، وجه التأمل أن اعتبار الإمكان بالنسبة إلى التصور المقيد بعيد يأبى عنه الذوق السليم، فإنه يصير المعنى بخلاف الضاحك والكاتب من الأمور التي يكون تصور الشيء الحاصل بدونها ممكنًا، فإنه من العوارض، أقول: ويستفاد منه أن الذاتي الأمر الذي يكون تصور الشيء بالكنه الحاصل بدونه غير ممكن، ومن هذا يخرج جواب آخر للاعتراض السابق؛ أعني: صدق تعريف الذاتي على اللوازم البينة بالمعنى الأخص، وهو أن التصور بدون اللوازم ممكن لكن التصور محال، بخلاف الذاتي فإن التصور بدونه غير ممكن إذ ليس تصور الشيء إلا تصور ذاتياته، فلا يكون بدونه ممكنًا بخلاف تصور اللازم، فإنه مغاير لتصور الملزوم فيجوز تصوره بدونه وإن لم يوجد، وهذا هو الجواب الثاني الذي أشار إليه فيما نقل عنه.
قوله: (على أن تصور…إلخ) أي على أنا لو سلمنا أن مقابل قولنا بدونه به وأن الإمكان كيفية نسبة القيد إلى المقيد فنقول: إن تصور الشيء بالكنه العرضي بأن يكون العرضي سببًا لحصوله غير ممتنع، إذ يجوز للعرضي نسبة خاصة يلزم من العلم به العلم بكنهه، كيف لا وقد قالوا: إنه يجوز أن يكون للمتباينين نسبة خاصة يلزم من العلم به العلم بمباين آخر، وإن لم يطرد في جميع العوارض.
قوله: (و يمكن في اختيار…إلخ) جواب عن الاعتراض باختيار الشق الثاني، وهذا هو الجواب الأسلم الأسبق إلى الفهم يعني أنا نختار أن المراد بالإمكان في قوله: مما يمكن تصور الإنسان بدونه الإمكان العام لكن لا مطلقًا حتى يرد أنه متحقق في الذاتي بل مقيدًا بكونه من جانب الوجود، فمعنى قوله: مما يمكن تصور الإنسان بدونه أن تصور الإنسان بالكنه بدون العرضى يمكن وجوده يعني عدم التصور بالكنه بدون العرضي؛ أي: التصور به ليس بضروري، وهذا المعنى؛ أي: الإمكان العام المقيد بجانب الوجود غير حاصل في الذاتي، إذ لا يصح أن يقال تصور الإنسان بدون الذاتي يمكن وجوده يعني التصور به ليس بضروري نعم الإمكان المقيد بجانب العدم حاصل فيه كما مر لكن هذا ليس بمعتبر في العرضي.
قوله: (قد أطلقها على الماهية) إن كان المراد من الماهية باعتبار التشخص الماهية المشروطة بشرط التشخص كما هو الظاهر، فهذا الإطلاق غير مشهور بين القوم، وإن كان المراد به الماهية مع التشخص فعدم شهرته في حيز المنع، قال السيد الشريف قدس سره: والحقيقة الجزئية تسمى هوية، وفي شرح التجريد: وقد يراد بالذات ما صدقت عليه الماهية من أفراد الحقيقة الجزئية وتسمى هوية.
قال الباجوري:
قوله: (حقائق الأشياء ثابتة) ظاهر كلامهم أن المراد بالحقائق الماهيات الكلية، وبالأشياء الأنواع، وهذا هوالمتبادر من قول الشارح: “كالحيوان الناطق للإنسان” وعليه يكون قوله: “ثابتة” أي في نفسها، بقطع النظر عن اعتبار المعتبر وفرض الفارض، أو موجودة في ضمن أفرادها على القول بذلك، كما هو قول الشارح، وإن اختار السيد الشريف خلافه، ويحتمل أن المراد بالحقائق الماهيات الجزئية، وبالأشياء الأفراد، كما قاله العلامة عبد الحكيم، وعليه يكون قوله “ثابتة” أي موجودة في الخارج، وحمل كلام المصنف على هذا الاحتمال أولى؛ لأن الخلاف في ثبوت الماهيات الكلية لا يختص بالسوفسطائية.
قوله: (حقيقة الشيء) إنما لم يقل حقائق الأشياء، كما هو الظاهر فإنه كلام المصنف؛ لأنه إذا عرف المفرد، فقد عرف جمعه.
وقوله: (وماهيته) عطف مرادف، وأتى بالماهية في مقام تفسير الحقيقة؛ تنبيها على أنهما مترادفان، وأما الفرق بينهما بالاعتبار الآتي فخلاف الأشهر، كما يدل عليه قوله “وقد يقال…إلخ”، وقد عرفت الماهية بما به الشيء هو هو، كما قاله الشارح، وبما به يجاب عن السؤال بما هو وبين المعنيين العموم والخصوص من وجه، فيجتمعان في الماهيات الكلية بالنسبة إلى أنواعها، كماهية الإنسان التي هي الحيوانية والناطقية، فإنها يصدق عليها ما به الشيء هو هو، وما به يجاب عن السؤال بما هو كأن يقال: الإنسان، ما هو؟ فيقال: حيوان ناطق، وينفرد المعنى الأول في الماهيات الجزئية بالنسبة إلى أفرادها، كماهية زيد التي هي مجموع الحيوانية والناطقية في التشخص، فإنها يصدق عليها ما به الشيء هو هو، ولا يصدق عليها ما به يجاب عن السؤال بما هو؛ إذ لا يسئل عن الجزئيات بما هو وينفرد المعنى الثاني في الجنس بالنسبة إلى أنواعه؛ فإنه يصدق عليه ما به يجاب عن السؤال بما هو كأن يقال: الإنسان والفرس والحمار ماهو؟ فيقال حيوان، ولا يصدق عليه ما به الشيء هو هو؛ إذ ليس تمام الماهية، ولفظ ماهية نسبة للفظ ما؛ لأنها يجاب بها عن السؤال بما هو، كما قاله العصام، بزيادة ألف قبل ياء النسب، ثم قلبها همزة ثم هاء، فأصلها مائية، قلبت الهمزة ها كما قلبوها في إياك، حيث قالوا هياك، وله نظائر فإنه يقال لما يجاب به عن السؤال بكيف: كيفية؛ نسبة إلى لفظ كيف، ولما يجاب به عن السؤال بكم: كمية؛ نسبة إلى لفظ كم. وقال السيرامي: “ما” محصلة أن ماهية نسبة للفظ ما هو؛ لأنها يجاب بها عن السؤال بما هو؟ فأصلها ماهويَّة: سكنت الواو وحذفت الياء الأولى، فصار ماهويَة، ثم يعل إعلال مبني، فإن أصله مَبْنُوِيّ، فيقال اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وقلبت الضمة كسرة لتصح الياء، فحصل ماهية.أ.ه.
قوله: (ما به الشيء هو هو) أي الأمر الذي بسببه الشيء هو هو، فما اسم موصول بمعنى الذي، والباء سببية، والضمير عائد على ما التي بمعنى الذي، والشيء: مبتدأ أول، وهو الأول: ضمير منفصل عائد للشيء مبتدأ ثاني، وهو الثاني: ضمير منفصل أيضا عائد إما للشيء أو للموصول الذي هو ما التي بمعنى الذي، فكل من الضميرين راجع للشيء أو أحدهما راجع للشيء والآخر راجع للموصول، والمعنى على الأول وهو جعل الضميرين للشيء: حقيقة الشيء وماهيته الأمر الذي بسببه يكون الشيء ذلك الشيء بعينه، كالحيوانية والناطقية للإنسان، فإنها أمر بسببه يكون الإنسان ذلك الإنسان بعينه، بخلاف مثال: الضاحك والكاتب، فإنه ليس أمرا بسببه يكون الإنسان ذلك الإنسان بعينه، بل هو أمر بسببه يكون الإنسان ضاحكا أو كاتبا مثلا، وكذلك الجزء كالناطق فإنه ليس أمرا بسببه يكون الإنسان ذلك الإنسان، بل هو أمر بسببه يكون الإنسان ناطقا، لا يقال هذا التعريف أي تعريف الحقيقة والماهية وهو ما به الشيء هو هو، صادق على العلَّة الفاعلية، وهي التي يتوقف عليها الشيء بالإيجاد كالنجار بالنسبة للسرير، فيكون التعريف غير مانع؛ لأنا نقول الفاعل ما به الشيء موجود، أي ما بسببه تكون ماهية الشيء موجودة في الخارج بعد أن كانت معدومة؛ بناء على قول جماعة من الفلاسفة وهم الإشراقيون وغيرهم: بأن الماهيات مجعولة، أي بجعل جاعل، أو ما بسببه تكون ماهية الشيء ظاهرة في الخارج بعد أن كانت كامنة؛ بناء على قول جماعة من الفلاسفة وهم المشاؤون وغيرهم: بأن الماهيات غير مجعولة، أي ليست بجعل جاعل، وليس الفاعل ما به الشيء هو هو، أي ما به الشيء ذلك الشيء؛ إذ ليس أثر الفاعل كون الشيء ذلك الشيء؛ لأن كون الماهية ماهية ليس بجعل جاعل اتفاقا ضرورة أنه لا تغاير بين الشيء ونفسه حتى يتصور بينهما جعل، وبهذا اندفع ما قاله بعض الفضلاء: من أن هذا الجواب إنما يستقيم على مذهب من قال: إن الماهيات غير مجعولة؛ وأما من يقول: بأن الماهيات مجعولة فلا أ.ه.
وقد اغتر بظاهر عبارة العلامة الخيالي حيث قال في تعليل ذلك: أن الماهية ليست بجعل جاعل، وما دري أن المراد بذلك: إذ كون الماهية ماهية ليس بجعل جاعل، ولم يقل أحد بأن ذلك بجعل جاعل، كما يعلم بالرجوع إلى شرج المواقف والحواشي الشريفية على شرج حكمة العين، فإن قيل الشيء بمعنى الموجود، فيصير حاصل التعريف ما به الموجود موجود فيرد الإشكال؛ لأنه يصدق على الفاعل ما به الموجود موجود، أجيب: بأنا لا نسلم أن الشيء هنا بمعنى الموجود، بل بمعنى ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ولو مجازا، وبعد تسليم أن الشيء هنا بمعنى الموجود نظرا؛ لكون الأصل في التعريفات الحمل على الحقيقة، بخلاف المجاز، ولو مشهورا بحسب الاستعمال، ففرق بين ما به الموجود موجود، وما به الموجود ذلك الموجود، والفاعل إنما هو الأول؛ لأن معناه الأمر الذي بسببه الموجود متصف بالوجود، وما ذالك إلا الفاعل، والحقيقة والماهية إنما هي الثاني؛ لأن معناه الأمر الذي بسببه الموجود ذلك الموجود بعينه، بحيث يكون ممتازا عن جميع ماعداه، وما ذاك إلا الماهية والحقيقة؛ إذ لا مدخل في ذلك للفاعل؛ لأن كون الماهية ماهية ليس بجعل جاعل اتفاقا كما تقدم، فليس ذلك بسبب الفاعل، بل بسبب الحقيقة والماهية، وقد يقال لا مغايرة بين الشيء وماهيته حتى يتصور بينهما سببية حتى يقول ما به…إلخ، أي ما بسببه…إلخ. وقد يجاب: بأن المقصود أن الشيء لا يحتاج في كونه ذلك الشيء إلى غير ماهيته، وإنما قالوا: “ما به…إلخ” من ضيق العبارة، كما قالوا في تعريف الجوهر: هو ما يقوم بنفسه، فإن المراد أنه لا يحتاج في قيامه إلى غير نفسه، وإنما قالوا ما يقوم بنفسه من ضيق العبارة، وإلا فلا تغاير بين الشيء ونفسه حتى يتصور القيام بينهما، والمعنى على الثاني: وهو جعل أحد الضميرين الذي هو الأول للشيء، وجعل الآخر الذي هو الثاني للموصول؛ إذ لا صحة لرجوع الأول للموصول والثاني للشيء؛ لأن الثاني محمول على الأول والمحمول هو الماهية، لا الذات حقيقة الشيء وماهية الأمر الذي بسببه الشيء هو الأمر المذكور كالحيوانية والناطقية للإنسان، فإنها أمر بسببه يكون الإنسان هو حيوان ناطق بمعنى أنه لا يحتاج في ثبوت ذلك الأمر له إلى غير ذلك الأمر، الذي بسببه يكون الشيء هو الأمر المذكور، وإلا لزم أن يكون المفعول بسبب الفاعل هو الفاعل المذكور وهو باطل؛ لعدم صحة الحمل بالمواطأة بينهما، لكن ينتقض ظاهر التعريف بالعرضي كالضاحك، فإنه يصدق عليه الأمر الذي بسببه يكون الشيء هو الأمر المذكور؛ لأن الإنسان بسبب الضاحك يكون هو ضاحكا، وما قيل: من جعل هو هو بمعنى الاتحاد في المفهوم، فمعنى التعريف الأمر الذي بسببه يتحد الشيء به في المفهوم، فلا يصدق على العرضي كالضاحك بالنسبة إلى الإنسان؛ لأنه غير متحد به في المفهوم خلاف المتبادر والاصطلاح؛ لأن المتبادر من هو هو، والمصطلح عليه فيه إنما هو الاتحاد في الماصدق، أي الأفراد لا في المفهوم، كما في قولهم: زيد قائم، فإنهما متحدان في الماصدق، أي الأفراد لا في المفهوم؛ لأن مفهوم زيد هو الذات، ومفهوم قائم ذات ثبت لها القيام، لكن ماصدقهما شيء واحد وهو الفرد المعين، فحمل هو هو في تعريف الحقيقة، والماهية على الاتحاد في المفهوم، خلاف المتبادر والاصطلاح، فلا يرتكب مع ظهور الوجه الصحيح، وهو كون الضميرين للشيء فهو ظاهر؛ لسلامته عن ورود النقض بالعرض على ظاهر التعريف، وإنما قلنا ظاهر التعريف؛ لأن باطنه لا ينتقض على الاحتمال الثاني بالعرضي؛ لأن المراد منه على ما بيَّنا أن لا يحتاج الشيء في كونه هو الأمر المذكور إلى غير ذلك الأمر، والعرضي ليس كذلك؛ لأن الشيء يحتاج في اتصافه به إلى غيره، ليكون ذلك الغير علة لثبوته للشيء، كالإنسان فإنه يحتاج كونه ضاحكا إلى غيره، وهو التعجب فإنه منشأ كونه ضاحكا، لكن بقي أن التعريف ينتقض ظاهرا وباطنا بالجزء الناطق، فإن الإنسان في كونه ناطقا لا يحتاج إلى غيره؛ لأن ثبوته له غير معلل بشيء. ولعل العلامة الخيالي لم يتعرض للنقض بالجزء؛ لأن المقصود تعريف الحقيقة والماهية بحيث تمتاز عن العرضي، كما يدل عليه قول الشارح، بخلاف مثل الضاحك والكاتب…إلخ، فدخول الجزء في تعريفها لا يضر بالمقصود، لأنه لا اشتباه بين الكل والجزء، بخلاف العرضي فإنه قد يشتبه بالحقيقة والماهية فيما إذا عرض الكلي لنفسه، فإن بعض المفهومات قد يعرض لنفسه كالمفهوم والكلي؛ ولذلك جرت عادة القوم، كما قاله بعض الفضلاء، في ابتداء مبحث الحقيقة والماهية، ببيان الفرق بين الحقيقة والماهية وعوارضها دون ذاتياتها، هذا ولو قيل في التعريف ما به الشيء هو، بضمير واحد، لكان أخصر؛ لأن المعنى حينئذ الأمر الذي بسببه يكون الشيء عينه لا غيره، قال عبد الحكيم: لكن الذكر، أي للضمير الثاني أيضا، أظهر وأسبق إلى الفهم.
قوله: (كالحيوان الناطق للإنسان) أي وكالحيوان الناطق، مع التشخص للفرد الخارجي؛ لأن تعريف الحقيقة والماهية المذكور للحقيقة والماهية الصادقة بالكلية والجزئية، وإن اقتصر الشارح في التمثيل على الكلية.
قوله: (بخلاف مثل الضاحك والكاتب) أي حال كون ما ذكر ملتبسا بمخالفة مثل الضاحك والكاتب، وقد عرفت أن المقصود تمييز الحقيقة والماهية عن العرض، كماهو ظاهر قول الشارح، بخلاف مثل الضاحك والكاتب كما تقدم. وبما ذكر اندفع قول الفاضل المحشي: لا يخفى عليك أن المقصود تعريف الحقيقة والماهية عما سواهما، فينبغي أن يخرج أجزاء الماهية كما أخرج عوارضها.أ.ه. على أن مغايرة الحقيقة والماهية لأجزائها قد ظهرت من التعريف؛ إذ المراد بقوله “ما به…إلخ” ما بسببه…إلخ، والقصد السببية التامة.
قوله: (مما يمكن تصور الإنسان بدونه) بيان لمثل الضاحك والكاتب، وفي الكلام تقدير مضاف، والضمير عائد على “ما” فالمعنى من الأمر الذي يمكن تصور الإنسان بدون تصوره، ولا يرد أن ذلك شامل للذاتي أيضا، فإنه يمكن تصور الإنسان بدون تصوره بالوجه لا بالكنه؛ لأن المراد من تصور الإنسان تصوره بالكنه، وأما تصوره بالوجه فقد يمكن بدون الذاتي أيضا، فيكون الذاتي من العرضي وهو باطل، واعترض على الشارح باعتراضين: فالاعتراض الأول أنه يستفاد من كلامه حيث قال بعد قوله: “مما يمكن تصور الإنسان بدونه فإنه من العوارض” أن الذاتي ما لا يمكن تصور الشيء بدونه، فيرد عليه اللوازم البينة بالمعنى الأخص، وهي التي يمتنع انفكاكها عن ملزوماتها، كالبصر اللازم للعمى، إذ يصدق عليها قولنا: ما لا يمكن تصور الشيء بدونه، فتكون داخلة في تعريف الذاتي وخارجة من تعريف العرضي، فكما ينتقض تعريف الذاتي بها منعا ينتقض تعريف العرضي بها جمعا. وجوابه: إنا لا نسلم أولا الاستفادة؛ لأن بيان حكم العرضي المخالف للماهية لا يستلزم أن يكون حكم الذاتي بخلافه؛ لجواز اشتراك الذاتي مع العرضي في ذلك الحكم، ولا نسلم ثانيا أن الاستفادة المذكورة بطريق التعريف، بحيث يكون المستفاد صالحا لأن يكون معرّفا للذاتي، بأن يكون مساويا له لِمَ لا يجوز أن يكون المستفاد حكما شاملا له ولغيره، كاللوازم البينة بالمعنى الأخص، فيكون الحكم أعم والذاتي أخص، كما أن ما ذكره في العرضي بقوله “مما يمكن…إلخ” ليس بطريق التعريف بحيث يكون ذلك صالحا لأن يكون معرفا للعرضي بأن يكون مساويا، لم لا يجوز أن يكون العرضي أعم منه لشموله له ولغيره كاللوازم البينة بالمعنى الأخص، فيكون العرضي أعم والحكم أخص، وبعد تسليم الإفادة بطريق التعريف نقول: إن المستلزم لتصور اللازم إنما هو تصور الملزوم بطريق الإخطار، أي ملاحظته قصدا دون تصوره بطريق الخطور، أي ملاحظته لا قصدا بل تبعا على ما نص عليه تصور الزوجية، والثاني كما إذا تصورت الخمسة، فإن في ضمنها الأربعة، فقد تصورت الأربعة لا قصدا، فلا يلزمه تصور الزوجية، فيمكن حيئذ تصور الأربعة بدون تصور الزوجية. فقد أمكن تصور الملزوم بدون اللازم في الجملة، أي في بعض الأحوال، بخلاف تصور الشيء بدون الذاتي، فإنه لا يمكن أصلا، سواء كان تصور ذلك الشيء بطريق الإخطار، أو كان بطريق الخطور، ونقول أيضا: زمان تصور اللازم غير زمان تصور الملزوم؛ ضرورة أن تصور اللازم غير تصور الملزوم، فقد أمكن تصور الملزوم بدون اللازم في زمان تصور الملزوم، فانفك في هذا الزمان بخلاف الذاتي، فإن زمان تصوره هو عين زمان تصور الشيء؛ لأنه لا يمكن تصور الشيء في زمان لا يكون الذاتي متصورا فيه، وما ذكر من أن زمان تصور الملزوم مُعِدّ التصور اللازم، كما نقل عن العلامة الخيالي، وإلا فيجوز أن لا يتوقف تصور اللازم على تصور الملزوم، بل يكون الأمر بالعكس، كالملكات بالنسبة لإعدامها نحو البصر بالنسبة إلى عدمه، وأن لا يتوقف شيء منهما على الآخر كالمتضايفين نحو الأبوة والبنوة، فإنهما يحصلان معا من غير أن يتوقف أحدهما على الآخر وإلا لبطلت المعية، وبعد نقل هذا عنه، لا يرد عليه اعتراض المحشي المدقق بأن ذلك لا يجري في الإعدام بالنسبة إلى ملكاتها وفي المتضايفين، وهذا القدر من الانفكاك بين اللازم والملزوم كاف في مقام الفرق بين الذاتي واللازم. وأما في مقام الفرق بين اللازم والمفارق، فلا يكفي هذا القدر، بل المعوّل عليه الانفصال وعدم الاستعقاب، ففي هذا إشارة إلى دفع ما يتوهم من أن الانفكاك المذكور يهدم قاعدة اللزوم، ووجه الدفع أن الانفكاك الهادم للقاعدة المذكورة، إنما هو بمعنى الانفصال وعدم الاستعقاب. والاعتراض الثاني: أنه إن أريد بالإمكان في قوله: “ما يمكن تصور الإنسان بدونه” الإمكان الخاص، وهو سلب الضرورة بمعنى الوجوب عن الطرفين، أي الطرف الموافق للمنطوق به، كوجود تصور الإنسان بدون العرضي في عبارة الشارح، والطرف المخالف للمنطوق به، كوجود تصور الإنسان بدون العرضي في عبارة الشارح، اقتضى أنه يجوز تصور الكنه، أي الحقيقة، بالعرضي؛ لأنه إذا انتفت الضرورة التي هي الوجوب عن الطرفين معا، كان كل من الطرفين جائزا، فيكون تصور الكنه، أي الحقيقة، بالعرضي جائزا وهو باطل؛ لأن العارض لا يفيد كنه المعروض، أي حقيقته، وإن أريد بالإمكان في ذلك، الإمكان العام: وهو سلب الضرورة عن الطرف المخالف فقط، فهو حاصل في الذاتي أيضا؛ لأن الشارح أطلق التصور، فلم يقيده بالوجود أو بالعدم، فيكون صادقا بكل منها، فدخل في التعريف المستفاد من كلامه العرضي، باعتبار صدقه بالوجود، فكأنه قال بالنظر لذلك، ما يمكن وجود تصور الشيء بدونه، فالطرف الموافق وجود التصور بالدون، والطرف المخالف عدم التصور بالدون، وهو كناية عن التصور به، فإذا سلبت عنه الضرورة التي هي الوجوب، صدق بالامتناع وبالجواز، والمراد الأول بدليل استحالة تصور كنه الشيء، أي حقيقته بالعرضي في الواقع، ودخل فيه الذاتي باعتبار صدقه بالعدم، فكأنه قال بالنظر لذلك، ما يمكن عدم تصور الشيء بدونه، فالطرف الموافق عدم التصور بالدون، والطرف المخالف وجود التصور بالدون، فإذا سلبت عنه الضرورة التي هي الوجوب، صدق بالامتناع وبالجواز. والمراد الأول؛ بدليل استحالة تصور كنه الشيء، أي حقيقته، بدون الذاتي في الواقع، وحيث دخل الذاتي في تعريف العرضي، كان غير مانع. وجوابه أنا نختار الأول، ونمنع أنه يقتضي أنه يجوز تصور الكنه، أي الحقيقة، بالعرضي، وإنما يقتضي أنه يجوز تصور الكنه، أي الحقيقة، مع العرضي، لا به؛ إذ المقابل لقولنا “بدونه”، معه، لا به، ولو سلم أن المقابل لقولنا “بدونه” به، لا معه، فجعل الإمكان بالنسبة إلى المقيد، وهو التصور المقيد بالدون، فيكون الإمكان كيفية لنسبة الوجود إلى ذات التصور المقيد بالدون، فيصير المعنى تصور الشيء المقيد بكونه بالدون ممكن، أي وجوده ليس بواجب، وعدمه ليس بواجب، بمعنى أنه قد يحصل، وقد لا يحصل بأن يفقد التصور من أصله، فانتفاء المقيد لعدم التصور رأسا، ولا نجعل الإمكان بالنسبة إلى القيد، وهو كون التصور بالدون، فيكون الإمكان كيفية لنسبة التصور إلى قيده، وهو كونه بدونه، فيصير المعنى كون تصور الشيء بدونه ممكن، أي وجوده ليس بواجب، وعدمه ليس بواجب؛ فيقتضي حينئذ أن تصور كنه الشيء، أي حقيقته، بالعرضي جائز، وهو باطل، ولو سلم أن الإمكان منصب على القيد المقتضي لجواز تصور كنه الشيء، أي حقيقته، بالعرضي، فجري على أن تصور الكنه بالعرضي غير ممنوع، وإن لم يطرد، فقد يكون للفرضي نسبة خاصة بماهية المعروض، بحيث يلزم من العلم به، العلم بكنه المعروض، كيف لا! وقد ذكروا أنه قد يكون للمباين نسبة خاصة بماهية مباينة، بحيث يلزم من العلم به، العمل بكنه المباين الآخر، ويمكن اختيار الثاني، لكن بقيد التصور في التعريف بالوجود، فلا يدخل الذاتي فيه، فيكون خاصا بالعرضي؛ لأنه إذا سلبت الضرورة بمعنى الوجوب عن الطرف المخالف، وهو عدم وجود التصور بدونه، الذي هو كناية عن التصور به، كان صادقا بالامتناع وبالجواز، والمراد الأول كما تقدم، ولا يعقل امتناع ذلك في الذاتي.
قوله: (فإنه من العوارض) أي فإن مثل الضاحك والكاتب، مما يمكن تصور الإنسان بدونه، من العوارض لا من الذاتيات، فالضمير عائد على مثل قوله: “وقد يقال…إلخ” هذا مقابل لما أشار إليه الشارح فيما سبق، وقد تعرض لها هنا، ولا يخفى أنها على الأول أخص من الحقيقة والماهية، وعلى الثاني متحدة مع الحقيقة بالذات مختلفة معها بالاعتبار، على ظاهر كلام الشارح على ما سيأتي، وبين كل من الحقيقة والهوية وبين الماهية، عموم وخصوص مطلق، فكل حقيقة أو هوية ماهية، ولا عكس؛ لانفراد الماهية في العنقاء، فإنها ليست حقيقة لعدم تحققها، وليست هوية لعدم الشخص.
قوله: (إن ما به الشيء هو هو) أي الذي هو تعريف الحقيقة والماهية فيما سبق.
قوله: (باعتبار تحققه حقيقة) ظاهر عبارة الشارح أن التحقق شرط في التسمية بالحقيقة، فحينئذ تعرف الحقيقة بما به الشيء هو هو، من حيث تحققه في الخارج بنفسه، إن كان المراد الحقيقة الجزئية، أو في ضمن الأفراد، إن كان المراد الحقيقة الكلية؛ بناء على أن الكلي له وجود في أفراده، كما ذهب إليه الشارح، والتحقيق كما قاله السيد: إنه لا وجود للكلي إلا في الذهن، والمقومات الموجودة في الخارج في ضمن الأشخاص أمثال للكلي؛ إذ لا يعقل كون الحيوان المتعين بالشخص كليا؛ للقطع بامتناع قبول المتعين بالشخص للشركة، كذا يؤخذ من كلام ابن الغرس مع زيادة.
قوله: (وباعتبار تشخصه هوية) ظاهر عبارة الشارح أن التشخص شرط في التسمية بالهوية، فحينئذ تعرف الهوية بما به الشيء هو هو، من حيث تشخصه أي تعينه وتميزه عما عداه، واعترض العلامة الخيالي بأن المشهور أن الهوية نفس التشخص، وقد تطلق على الوجود الخارجي أيضا، ففي إطلاق الشرح لها على الماهية، باعتبار التشخص، مخالفة للمشهور. وأجيب عن الشارح: بأنه يمكن جعل الباء بمعنى “مع” وجعل الاعتبار بمعنى” المعتبر” وتكون إضافته حينئذ لما بعده بيانية، فيكون جاريا على إطلاق الهوية على مجموع الماهية والتشخص، وعدم شهرة ذلك في حيز المنع، كما قاله عبد الحكيم، مستدلا بقول السيد قدس سره، والحقيقة الجزئية تسمى هوية، وفي شرح التجريد: وقد يراد بالذات ماصدق عليه الماهية من الأفراد الحقيقة الجزئية وتسمى هوية.
قوله: (ومع قطع النظر عن ذلك ماهية) أي ومع قطع عن كل من التحقق والتشخص ماهية، فاسم الإشارة عائد على كل من التحقق والتشخص.
قوله: (والشيء…إلخ) لما تكلم على الحقيقة التي هي مفرد الحقائق، شرع يتكلم على الشيء الذي هو مفرد الأشياء.
وقوله: (عندنا) أي معاشر أهل السنة.
وقوله: (الموجود) أي خارجا أو ذهنا على التحقيق، خلافا لمن نفى الوجود الذهني؛ إذ الكليات والمفاهيم ونحوهما لابد من ثبوتها ذهنا، وهو المراد بالوجود الذهني، وأشار بقوله “عندنا” إلى خلاف المعتزلة حيث قالوا إن المعدوم الممكن شيء، أي ثابت متفرد في الخارج، فيكون كامنا فقط، فإذا تعلق به الوجود ظهر وبرز في الخارج، بحيث تمكن رؤيته، وقال أهل السنة وكذا الحكماء: إن المعدوم الممكن ليس شيئا، أي ثابتا متقررا في الخارج. نعم قد يطلق عليه الشيء مجازا؛ ولذا يقال في اجتماع النقيضين مثلا: هذا شيء ممتنع، فليس الخلاف في إطلاق الشيء على المعدوم، وإنما الخلاف في كونه حقيقة أو مجازا، فعند أهل السنة والحكماء مجاز، وعند المعتزلة حقيقة.
قوله: (والثبوت والتحقق والوجود والكون…إلخ) أتى بذلك لشرح قول المصنف “ثابتة”، وإنما أتى بالتحقق والوجود والكون، ولم يقتصر على الثبوت؛ ليبين أن الألفاظ الأربعة مترادفة على معنى واحد، والترادف المذكور مذهب أهل السنة، والمعتزلة يقولون إن الثبوت أعم من الوجود؛ لأن الممكن المعدوم ثابت عندهم كما سبق.
قوله: (ألفاظ مترادفة) على معنى واحد.
وقوله: (معناها بديهي التصور) أي يحصل بأول توجه الفكر، فلا يحتاج في حصوله إلى حد أو رسم، لكن بعضها أظهر في الدلالة على المعنى من بعض، فإن قيل لو كان معناها بديهي التصور، لما عرف الوجود، ولما اختلف في معناه كما هو مشهور، أجيب: بأن المراد ببداهة تصوره، بداهة تميزه عن مقابله، وهو العدم، فلا ينافي أن معنى الوجود خفي؛ فلذا اختلف فيه.
قال الشارح: فإن قيل: فالحكم بثبوت حقائق الأشياء يكون لغواً، بمنزلة قولنا: الأمور الثابتة ثابتة، قلنا: المرادُ أنَّ ما نعتقده حقائق الأشياء ونسميه بالأسماء من الإنسان والفرس والسماء والأرض أمورٌ موجودةٌ في نفس الأمر، كما يقال: واجب الوجود موجود، وهذا الكلام مفيد ربما يحتاج إلى البيان، وليس مثل قولك: الثَّابتُ ثَابتٌ، ولا مثل قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري، على ما لا يخفى.
قال الخيالي:
قوله: (فالحكم بثبوت حقائق الأشياء) أورد الفاء إيذانا بأنه ناشئ عما سبق، والمنشأ مجموع أمور ثلاثة: تعريف الحقيقة، وكون الشيء بمعنى الموجود، وكون الثبوت بمعنى الوجود؛ إذ لا لغوية في قولك: عوارض الأشياء ثابتة، وحقائق المعدومات ثابتة، وحقائق الموجودات متصورة والقصر على البعض التقصير فلا تكن من القاصرين.
قوله: (ربما يحتاج إلى البيان) أي قلما يحتاج إلى بيان معناه فإن أكثر من يسمعه يفهم منه ذلك المعنى كما في مثل واجب الوجود موجود والحاصل أن أخذ موضوعه بحسب الاعتقاد مشهور فيما بين الناس فهو مفيد بلا حاجة إلى بيان معناه، اللهم إلا بالنسبة إلى بعض الأذهان القاصرة.
قوله: (و ليس مثل قولك الثابت ثابت) هذا ناظر إلى قوله: “وهذا الكلام مفيد” أي: ليس مثل المثال الذي ذكره السائل فإنه غير مفيد؛ إذ قد اعتبره متحد الموضوع والمحمول وقوله: “ولا مثل أنا أبو النجم وشعري شعري” ناظر إلى قوله “ربما يحتاج إلى البيان” فإن “شعري شعري” يحتاج ألبتة إلى بيان معناه؛ لخفائه وهو ظاهر، ولك أن تقول: حقائق الأشياء ثابتة يحتاج إلى البيان، لا بطريق التأويل والصرف عن الظاهر المتبادر؛ لشهرة أمر المراد به بخلاف شعري شعري، فإنه يحتاج إلى التأويل، وهو أن يقال: شعري الآن كشعري فيما مضي، أو شعري هو الشعر المعروف بالبلاغة، وهذا المعنى لا يحصل بجعله الإضافة للعهد؛ لأن معنى العهد: إرادة بعض أشعار المتكلم معينا، وكم فرق بين المعنيين، والمشهور أن المراد بالبيان بيان صدق الكلام ففيه تأكيد كونه مفيدا، ويرد عليه أن “شعري شعري” كذلك واعلم أن الاشاعرة لا ينكرون إطلاق الشيء على ما يعم الموجود والمعدوم مجازا، فلو حمل لفظ الأشياء على هذا المعنى المجازي لم يتوجه السؤال أصلا.
قال السيالكوتي:
قوله: (أورد الفاء) يعني أورد الفاء في قوله: “فالحكم بثبوت…إلخ” إيذانًا بأن هذا السؤال ناشئ عما سبق، وأما الفاء في قوله: “فإن قيل” فهو دال على تفرعه، ووروده على ما قبله سواء كان منشؤه ذلك أو لا على ما هو طريق سائر الأسئلة المورودة في الكتب، فمن قال: إن الفاء الثاني للتأكيد لم يأت بشيء.
قوله: (مجموع أمور ثلاثة) أحدها: تعريف الحقيقة بما به الشيء هو هو، وثانيها: كون الشيء بمعنى الموجود، وثالثها: كون الثبوت بمعنى الوجود، فإنه يصير المعنى الأمور التي بها الموجودات تلك الموجودات موجودة، ولا خفاء في لغوية هذا الحكم، لأن عقد الوضع مستلزم لعقد الحمل لزومًا بينًا، كأنه قيل: الأمور الثابتة ثابتة، إذ حقائق الأشياء ليست إلا نفس تلك الأشياء فوجودها وجودها، وبما ذكرنا اندفع ما قيل: إنه إذا كانت الحقيقة معنى الماهية لا لغوية في هذا الحكم، إذ المعنى ماهيات الجزئيات الموجودة في الخارج موجودة، كيف ووجود الكلي الطبيعي معركة بين الفضلاء، إذ ليس المراد بالحقيقة ههنا الماهية الكلية المفسرة بما به يجاب عن السؤال بما هو، فإن ذلك اصطلاح أهل الميزان حتى يكون المعنى الطبائع الكلية للجزئيات موجودة، إذ لا اختصاص لهذا الخلاف بالسوفسطائية، بل المراد أن الأشياء التي نشاهدها ونسميها بالأسماء المخصوصة لها حقائق هي بها هي تلك الحقائق التي هي نفس الأشياء المخصوصة موجودة ليست بتابعة لاعتقادنا وأذهاننا، وأين هذا من ذاك؟ وتحقيقه لفظ الماهية يطلق على معنيين: ما به يجاب عن السؤال بما هو، وما به الشيء هو هو، والنسبة بين المعنيين عموم من وجه؛ لتحقق الأول بدون الثاني في الجنس بالقياس إلى النوع، والثاني بدون الأول في الماهية الجزئية، واجتماعهما في الماهية النوعية بالقياس إلى النوع، والماهية بالمعنى الثاني لا يكون إلا نفس ذلك الشيء، فإذا كانت تلك الأشياء موجودة كانت حقائقها موجودة، والباحث لم يفرق بين المعنيين فقال ما قال، وأما ما قاله الفاضل الجلبي هربًا عن هذا الاعتراض في بيان قوله: تعريف الحقيقة؛ أي: تعريفها بالماهية باعتبار التحقق والوجود، ففيه بحث. أما أولًا فلأن اعتبار الوجود في الحقيقة الماهية الموجودة غير مراد في قوله: حقائق الأشياء ثابتة؛ لأنه يكون ذكر الأشياء حينئذ مستدركًا، إذ يصير المعنى الماهية الموجودة للأمور الموجودة موجودة، ولذا عبر الشارح عن هذا المعنى بقد يقال، إشارة إلى أنه غير مرضي في هذا المقام، وتوجيه الاعتراض على ذلك التعريف لا وجه له، وأما ثانيًا فلأنه لا مدخل حينئذ لكون الشيء بمعنى الموجود في لغوية الحكم، إذ قولنا: الماهيات الموجودة موجودة لا خفاء في لغويته، وأما ثالثًا فلأنه يجب على المحشي أن يقول: إذ لا لغوية في قولنا: عوارض الأشياء موجودة وماهيات الأشياء موجودة؛ لأن المقابل للحقيقة بهذا المعنى إما العوارض أو الماهية مع قطع النظر عن الوجود.
قوله: (وكون الشيء بمعنى الموجود) قال بعض الفضلاء: إن كون الشيء بمعنى الموجود، فلم يلزم مما سبق، بل اللازم التصادق والتساوي، ولا مدخل للتساوي في لغوية الحكم، أقول: معنى قوله الشيء عندنا الموجود إن معناه أن الشيء بمعنى الموجود، حيث قال في شرح المقاصد: أما أنه هل يطلق المعدوم لفظ الشيء حقيقة فبحث لغوي، فعندنا هو اسم الموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى، ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازًا، وما ذكره الحسن البصري من أنه حقيقة في الموجود مجاز في المعدوم هو مذهبنا بعينه، وقال في “شرح المواقف”: خاتمة للمقصد السادس، وفيها بحثان: الأول في تحقيق معنى الشيء وبيان اختلاف الناس فيه، وهذا بحث لفظي متعلق باللغة، والشيء عندنا الموجود.
قوله: (إذ لا لغوية…إلخ) بيان لكون المنشأ مجموع الأمور الثلاثة، وحاصله أنه لو لم يفسر الأمور الثلاثة بما ذكر بل بمعنى آخر. مثلًا لو فسر الحقيقة بالعارض، فيكون المعنى عوارض الموجودات موجودة، أو فسر الأشياء بالمعدومات أو المعلومات، فيكون المعنى: الأمور التي بها المعدومات هي هي موجودة، أو فسر الثبوت بمعنى سوى الوجود كالتصور مثلًا، فيكون المعنى: الأمور التي بها الموجودات هي هي متصورة لم يلزم لغوية الحكم، فثبت أن المنشأ للسؤال هو مجموع الأمور الثلاثة، فما ذكره الفاضل المحشي من أنه فرق بين المورد والمنشأ، والمحشي غير المورد ليس بشيء منشؤه قلة التدبر والمتابعة لظاهر قوله: “إذ لا لغوية في قولك…إلخ”.
قوله: (قلما يحتاج إلى بيان) يعني أن رب للتقليل، وقلة الاحتياج باعتبار قلة المحتاجين؛ أعني: أصحاب الأذهان القاصرة.
قوله: (كما في مثل…إلخ) فإن المعنى أن ما نعتقده ونسميه بواجب الوجود فهو موجود في نفس الأمر، لا أن ما هو واجب وجوده في نفس الأمر موجود فيه.
قوله: (والحاصل) يعني أن أخذ موضوع هذه القضية بحسب الاعتقاد الذي هو حقيقة عرفية كما هو التحقيق من مذهب الشيخ من أن اتصاف ذات الموضوع بوصفه بالفعل بحسب الفرض مشهور بين الناس، بل هي الحقيقة اللغوية وعرفية عامة على ما ذكره المحقق الرازي في شرح الرسالة من أن ما ذكره الشيخ مطابق للعرف واللغة، قال السيد السند قدس سره في حواشي المطول: إن أهل الميزان لا يخالف أهل العربية؛ إذ هم بصدد بيان مفهومات القضايا بحسب العرف واللغة، ولايحتاج في إفادتها لذلك المعنى إلى بيان إلا قليلًا بالنسبة إلى الأذهان القاصرة الغير الواقفة على الاصطلاح، بخلاف قول السائل “الثابت ثابت” على ما زعمه، فإنه أخذ الموضوع بحسب نفس الأمر ،ولذا حكم بلغويته، وبخلاف “شعري شعري” فإنه وإن كان مفيدًا لكنه يحتاج إلى بيان المعنى بالنسبة إلى جميع الأذهان؛ لأن أخذ الموضوع والمحمول مقيدًا بالوصف المذكور معنى مجازي، والمعنى المجازي وإن اشتهر لا بد من بيانه؛ لأن المتبادر المعنى الحقيقي على ما تقرر في موضعه، وهذا معنى قوله: في الحاشية الآتية “هذا ناظر إلى قوله: وهذا الكلام مفيد، وقوله: ولا مثل أنا أبو النجم…إلخ. ناظر إلى قوله: ربما يحتاج إلى البيان”، وبما ذكرنا اندفع ما قاله بعض الفضلاء من أن أخذ الموضوع على الوجه المذكور كما هو المشهور فيما بينهم كذلك أخذ طرفي شعري شعري على الوجه المذكور مشهور فيما بينهم، تدبر، وأما بالنسبة إلى القاصرين فهما متساويان والفرق غير بين؛ لأن أخذ طرفي شعري شعري على الوجه المذكور وإن كان مشهورًا لكنه مجاز، والمعنى المجازي لا بد له من البيان ألبتة، بخلاف أخذ الموضوع على الوجه المذكور فإنه حقيقة اصطلاحية بل لغوية وعرفية أيضًا، فلا حاجة إلى البيان.
قوله: (أي ليس مثل المثال الذي ذكره السائل) إذ لا فرق بين الأمور الثابتة ثابتة وبين الثابت ثابت، كذا نقل عنه.
قوله: (إذ قد اعتبره…إلخ) يعني أن السائل اعتبر المثال متحد الموضوع والمحمول لأخذه الموضوع والمحمول بحسب نفس الأمر، ولذا حكم بلغويته، وفيه إشارة إلى أنه لو لم يعتبر كذلك بل أخذ الموضوع بحسب الفرض كما هو التحقيق يكون مفيدًا، وبهذا اندفع ما أورده بعض الفضلاء من أن الفرق بين العنوانات تكلف؛ لأنا إذا قلنا: “كل ج ب” يكون مفهومه بحسب العرف واللغة ثبوت الباء ل”ج” بالفعل بحسب نفس الأمر كما هو ظاهر مذهب الشيخ وفهم المتأخرين، أو بالفعل بحسب فرض العقل على ما هو تحقيق مذهب الشيخ كما حققه الرازي في شرحه للمطالع؛ لأن مقصود الشارح ليس أنه فرق بين عنوان قولنا: حقائق الأشياء ثابتة، وبين عنوان الثابت ثابت حيث أخذ الأول بحسب الفرض، والثاني بحسب نفس الأمر، بل مقصوده أن السائل قد أخذ العنوان في الثاني كذلك، وليس قولنا من هذا القبيل.
قوله: (ولك أن تقول…إلخ) أي ولك أن تقول في توجيه قوله: ربما يحتاج إلى البيان أن قولنا: حقائق الأشياء ثابتة، قلما يحتاج في إفادته إلى البيان؛ لعدم ظهوره بالنسبة إلى الأذهان القاصرة، لكن ذلك البيان ليس بطريق التأويل والصرف عن الظاهر المتبادر لشهرة أمر المعنى المراد منه، وتبادره لكونه معنى حقيقيًّا، بخلاف “شعري شعري” فإنه يحتاج ألبتة إلى التأويل والصرف عن الظاهر؛ لعدم شهرة المعنى المراد منه وتبادره، وعلى تقدير شهرته فهو معنى مجازي، والفرق بين هذا التوجيه والتوجيه السابق أن السابق كان ناظرًا إلى كلمة التقليل حيث قال: فإن شعري شعري يحتاج ألبتة إلى بيان معناه لخفائه، وهذا ناظر إلى مدخولها؛ أعني: الاحتياج إلى البيان حيث قال: فإنه يحتاج إلى التأويل، وفيه أنه حينئذ لا يكون لقوله: ولا مثل أنا أبو النجم وشعري شعري مدخل في بيان عدم اللغوية إلا أن يراد به إفادة ظهور الإفادة في هذا القول وعدم ظهورها في شعري شعري، كذا نقل عنه، وما قاله الفاضل الجلبي: إنه إن أراد أن حقائق الأشياء ثابتة مستعملة في الموضوع له وليس فيه مجاز فهو أمر بديهي البطلان، وإن اراد المعنى المراد منه وإن كان مجازا بالكنه لشهرته صار كالحقيقة في انفهامه من اللفظ من غير احتياج إلى القرينة، فهو لا يوجب الاستغناء عن التأويل ليس بشيء، فإن المعنى المراد منه حقيقي على ما قالوا من أن التحقيق من مذهب الشيخ أن عقد الوضع هو اتصاف ذات الموضوع بمفهومه بحسب الاعتقاد
قوله: (و هذا المعنى لا يحصل…إلخ) دفع لتوهم كون شعري شعري غير محتاج إلى التأويل؛ لأن شعري المقيد بالآن أو المقيد بما مضى أو المتصف بالبلاغة بعض من أشعاره، فلو جعل إضافة شعري للعهد يكون المراد أن بعض شعري المعهود، وهو شعري الآن، كبعض شعري المعهود، وهو المقيد بما مضى، أو المتصف بالبلاغة يكون معناه على ما هو الظاهر المتبادر من المعنى الحقيقي للإضافة بلا تأويل، وحاصل الدفع أن معنى العهدية هو إرادة بعض الأشعار المعين، وأما ملاحظته بقيد كونه الآن وفيما مضى أو موصوفا بالبلاغة فمما لا يدل عليه الإضافة، فإرادته ليس إلا بالتأويل والصرف عن الظاهر.
قوله: (و كم فرق…إلخ) أي وكم من فرق بين شعري الآن كشعرى فيما مضى أو هو شعري المعروف بالبلاغة وبين إرادة البعض المعين، سواء كان بالتعيين الشخصي أو النوعي لعدم دلالة إرادة المعين على التقييد المذكور بشيء من الدلالات على أن العهد يقتضي الذكر الحقيقي لفظًا أو تقديرًا أو الذكر الحكمي والكل منتف ههنا، كذا نقل عنه، وبما ذكرنا اندفع ما قاله بعض الفضلاء: إن شعري الآن كشعري فيما مضى أو المعروف بالبلاغة بعض الأشعار معينة لكن بالتعيين النوعي، والتعيين المعتبر في العهد ليس مقصورًا على الشخصي، فيجوز أن يراد بالإضافة التعيين النوعي وهو شعري المعروف بالبلاغة أو فيما مضى؛ لأن الإضافة إنما تدل على أن المراد بعض الأشعار سواء كان معينًا بالنوعي أو بالشخصي، أما أن تعيينه باعتبار كونه فيما مضى أو موصوفًا بالبلاغة فمما لا دلالة لها عليه.
قوله: (والمشهور) يعني أن التوجيه المشهور في بيان قوله “ربما يحتاج إلى بيان” أن المراد بالبيان بيان صدق الكلام ومطابقته لنفس الأمر، وهو البيان بالدليل، فالمعنى أن هذا الكلام مفيد، بل قد يحتاج على هذا التقرير إلى بيان صدقه بالدليل بالنسبة إلى بعض الأشخاص كالسوفسطائية، فيكون ذكره تاكيدًا للإفادة، فإن السائل لما أنكر الإفادة أكد بأنه محتاج إلى الدليل، فكيف ينكر كونه مفيدًا بخلاف التوجيهين السابقين؟ فإن في ذكره بيان ظهور الإفادة على ما مر.
قوله: (و يرد عليه أن شعري…إلخ) يعني يرد على هذا التوجيه أن شعري شعري أيضًا قد يحتاج إلى بيان صدقه ومطابقته لنفس الأمر بالدليل كما أنه في استقامة معناه يحتاج إلى تأويل وتقدير؛ إذ لا بد لإثبات أن شعري الآن كشعرى فيما مضى أو شعري هو شعري المعروف بالبلاغة من شاهد، خصوصًا بالنسبة إلى الأذهان القاصرة عن فهم البلاغة، فاندفع ما قيل: إن شعري شعري يحتاج إلى التاويل لا إلى بيان صدقه بالدليل، فلا يكون قوله: ولا مثل أنا أبو النجم وشعري شعري ناظرًا إلى قوله: ربما يحتاج إلى البيان، وأما جعل قوله: ولا مثل أنا أبو النجم…إلخ مبنيًّا على وجه لم يذكره في الكتاب، فمما لا يرضاه من له أدنى درية بالأساليب، كذا نقل عنه، ومن ههنا ظهر ركاكة ما قاله بعض الأفاضل من أن المراد بالبيان: البيان بالدليل، فيكون تأكيدًا للإفادة، وقوله: ولا مثل أناأبو النجم…إلخ نفي للتوجيه المشهور في اتحاد المسند والمسند إليه لا أنه ناظر إلى قوله: ربما يحتاج إلى البيان.
قوله: (واعلم…إلخ) جواب حسن لدفع الاعتراض المذكور بقوله: فإن قيل فالحكم…إلخ. وحاصله أن المراد بالحقيقة ما به الشيء هو هو، وبالشيء ما يعم الموجود والمعدوم ولو مجازًا؛ أعني: ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وبالثبوت الوجود، فالمعنى ماهيات الأمور التي يصح أن تعلم ويخبر عنها ثابتة في الخارج، فلم يتوجه السؤال باللغوية، وعلى ما ذكرنا لا يرد شيء مما ذكره الفاضل الجلبي بقوله: ويرد عليه أن الحقيقة بالمعنى المذكور لا تطلق إلا على الموجود بالوجود الأصلي، فعلى تقدير تعميم الأشياء لا يجوز إضافة الحقائق إليها، ونقول: إن اللغوية وعدم الإفادة باق في الكلام المذكور سواء أريد بالشيء الموجود أو أعم منه، ومن المعدوم لأن الوجود معتبر في الحقيقة كما عرفت. أ.هـ. لأن هذا مبني على ما ذكره سابقًا في توجيه السؤال من أن المراد بالحقيقة الماهية باعتبار الوجود، وليس كذلك على ما عرفت سابقًا، فبناء هذين الاعتراضين عليه بناء الفاسد على الفاسد، فإن قيل: الحكم بأن ماهيات الأمور التي يصح أن تعلم ويخبر عنها ثابتة لا يصح ظاهرًا؛ لأن من تلك الأمور المعدومات، فيلزم أن يكون ماهيات المعدومات ثابتة وليس كذلك، قلت: المراد بالأمور الجنس كما سيحققه الشارح في قوله: والعلم بها متحقق وثبوت ماهيات جنس ما يصح أن يعلم ويخبر عنه بكيفية ثبوت ماهيات بعض أفراده وهو الموجود، فتأمل.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل فالحكم…إلخ) أتى بالفاء الأولى؛ إشارة إلى تفرع هذا السؤال، ووروده على ما قبله، كما هو طريق سائر الأسئلة الموردة في الكتب، وأتى بالفاء الثانية؛ إشارة إلى أن هذا السؤال ناشئ عما سبق من مجموع أمور ثلاثة: تعريف الحقيقة بما به الشيء هو هو، وكون الشيء بمعنى الموجود، وكون الثبوت بمعنى الوجود، فكأنه قال: إذا كانت هذه الأمور الثلاثة ما ذكر، فالحكم…إلخ. وإنما كان مجموع الأمور الثلاثة منشأ لهذا السؤال؛ لأنه لو انتفى واحد منها، لم يرد؛ إذ لا لَغْوِيَّة في قولك: عوارض الأشياء ثابتة، إذا فسرت الحقيقة بالعارض، ولا في قولك حقائق المعدومات ثابتة، إذا فسرت الشيء بالمعدوم ولا في قولك حقائق الأشياء متصورة، إذا فسرت الثبوت بالتصور، وقصر منشأ هذا السؤال على بعض الأمور الثلاثة تقصير، فلا تكن من القاصرين.
قوله: (يكون لغوا) خبر أول عن المبتدأ الذي هو “الحكم”.
وقوله: (بمنزلة…إلخ) خبر ثان عنه، وإنما كان لغوا حينئذ؛ لأنه يصير معنى كلام المصنف الأمور التي بها الموجودات. تلك الموجودات موجودة ولا خفاء في لغوية هذا الحكم؛ لفقد شرط إفادة الحمل، وهو عدم استلزام عقد الوضع لعقد الحمل استلزاما جليا، فإن عقد الوضع هنا مستلزم لعقد الحمل استلزاما جليا؛ لأن حقائق الأشياء ليست إلا نفس تلك الأشياء، فوجود الأشياء وجود حقائقها، وقد حكم عليها بالوجود، فعقد الوضع أي: وصفه الذي عنون عنه به مستلزم لعقد الحمل، أي وصفه الذي عنون به، فهو بمنزلة قولنا الأمور الثابتة ثابتة في اتحاد الموضوع والمحمول؛ لأن مفهوم الموضوع هو بعينه مفهوم المحمول في كل من التركيبين.
قوله: (قلنا المراد أن ما نعتقده…إلخ) حاصله أنه يحمل الوجود في الموضوع على الوجود بحسب الاعتقاد، والوجود في المحمول على الوجود في نفس الأمر، فتغاير الموضوع والمحمول، فلا يكون الحكم المذكور لغوا، لأن اللغوية إنما تكون إذا اتحد الموضوع والمحمول، كأن يحمل الوجود في كل منهما على الوجود في نفس الأمر.
قوله: (ونسميه بالأسماء) لا دخل لذلك في الجواب، وإنما هو زيادة فائدة،
وقوله: (من الإنسان…إلخ) بيان للأسماء.
قوله: (موجودة في نفس الأمر) أي في الخارج، فالوجود في نفس الأمر والوجود في الخارج مترادفان، وهذا عند الشارح. وأما عند غيره فالوجود في نفس الأمر أعم من الوجود في الخارج، والوجود في نفس الأمر عموما مطلقا، فتجتمع الثلاثة في ذات زيد فإنها موجودة في الخارج وفي نفس الأمر وفي الذهن وينفرد الوجود في نفس الأمر عن الوجود في الخارج في الأمر الاعتباري الانتزاعي، وهو ما له تحقق في نفس الأمر بقطع النظر عن اعتبار المعتبر وفرض الفارض، كحدوث العالم، وينفرد الوجود في الذهن عن الوجود في الخارج، والوجود في نفس الأمر في الأمر الاعتباري الاختراعي، وهو ما ليس له تحقق إلا في ذهن المعتبر، وفرض الفارض: ككرم البخيل، واختلف في نفس الأمر، فقيل: هو علم الله وقيل: هو اللوح المحفوظ وقيل: هو الأمر نفسه بقطع النظر عن اعتبار المعتبر وفرض الفارض.
قوله: (كما يقال واجب الوجود موجود) أي فالمراد أن ما نعتقده ونسميه بواجب الوجود موجود في نفس الأمر.
قوله: (وهذا كلام مفيد…إلخ) كان الأولى أن يأتي بفاء التفريع؛ ليكون مفرعا على كون المراد ما ذكره، فحيث أريد به ما ذكره كان مفيدا؛ لوجود شرط الإفادة بالإرادة المذكورة، وأخذ الموضوع بحسب الاعتقاد والمحمول بحسب نفس الأمر حقيقة عرفية؛ لأنه مشهور بين الناس، بل حقيقة لغوية أيضا، فما ذكر مطابق للعرف واللغة، وقال السيد السند: إن أهل الميزان لا تخالف أهل العربية؛ لأنهم بصدد بيان مفهومات القضايا بحسب العرف واللغة.أ.ه.
قوله: (ربما يحتاج إلى البيان) أي قلّما يحتاج إلى بيان معناه، ف”رب” للتقليل وقلة الاحتياج باعتبار قلة المحتاجين، وهم أصحاب الأذهان القاصرة التي لم تقف على ما قاله أهل اللغة، واصطلح عليه أهل العرف وأهل الميزان من أن اتصاف الموضوع بوصف من الأوصاف بحسب فرض العقل، وهو في الحقيقة الاعتقاد، واتصاف المحمول بوصف من الأوصاف، بحسب نفس الأمر؛ ولذلك كان أكثر من سمعه من أصحاب الأذهان غير القاصرة يفهم منه هذا المعنى، كما في مثل واجب الوجود موجود، والحاصل: إن أخذ موضوعه بحسب الاعتقاد، ومحموله بحسب نفس الأمر مشهور فيما بين الناس، فهو مفيد بلا حاجة إلى بيان معناه، إلا بالنسبة إلى الأذهان القاصرة.
قوله: (ليس مثل قولك الثابت ثابت) هذا راجع لقوله كلام مفيد، فالمعنى أن قول المصنف “حقائق الأشياء ثابتة” بعد حمله على ما ذكرنا كلام مفيد، وليس كقولك: الثابت ثابت المساوي لقول السائل الأمور الثابتة ثابتة، فإنه كلام غير مفيد؛ لأن السائل قد اعتبره متحد الموضوع والمحمول؛ لأخذه الموضوع والمحمول بحسب نفس الأمر، ولذا حكم بلغوية الحكم، وكلام المصنف ليس من هذا القبيل؛ لمغايرة الموضوع فيه للمحمول كما تقدم، ولو لم يعتبر السائل المثال المذكور، متحد الموضوع والمحمول، لأخذه الموضوع بحسب الاعتقاد،والمحمول بحسب نفس الأمر، لكان مفيدا مثل كلام المصنف، وبهذا اندفع ما أورده بعض الفضلاء من أن الفرق بين العنوانين تكلف؛ لأنه ليس المقصود أن هناك فرقا بين عنوان قول المصنف: حقائق الأشياء ثابتة، وعنوان قولك: الثابت ثابت بحسب نفس الأمر، وليس قول المصنف: “حقائق الأشياء ثابتة” كذلك.
قوله: (ولا مثل قولك: أنا أبو النجم وشعري شعري) هذا راجع لقوله “ربما يحتاج إلى البيان” فالمعنى أن قول المصنف “حقائق الأشياء ثابتة” قلما يحتاج لبيان معناه؛ لشهرته فيما بين الناس، فلا يحتاج لبيان معناه إلا أصحاب الأذهان القاصرة، وليس مثل قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري، فإنه يكثر احتياجه لبيان معناه لخفائه، فإن المراد به: أن شعري الآن كشعري فيما مضى، أو شعري هو الشعر المعروف بالبلاغة والفصاحة، وهذا المعنى خفي فيحتاج إلى البيان كثيرا، وهذا الفرق ظاهر. ولك أن تقول في الفرق بين كلام المصنف، وقوله “أنا أبو النجم وشعري شعري” إن كلام المصنف يحتاج إلى البيان، لا بطريق التأويل والصرف عن الظاهر المتبادر منه؛ لشهرة المعنى المراد به، بخلاف قوله “أنا أبو النجم وشعري شعري” فإنه يحتاج إلى البيان بطريق التأويل والصرف عن الظاهر المتبادر منه؛ لعدم شهرة المعنى المراد به: وهو أن شعري الآن كشعري فيما مضى، أو شعري هو الشعر المعروف بالبلاغة والفصاحة، فإن قيل لا نسلم أن ذلك يحتاج إلى البيان بطريق التأويل والصرف عن الظاهر المتبادر منه؛ لأن المعنى المذكور يحصل بجعل الإضافة للعهد، ويكون هو الظاهر المتبادر منه؛ لكونه هو المعنى الحقيقي للإضافة؛ إذ المعنى على جعل الإضافة للعهد أن شعري المعهود وهو شعري الآن، كشعري المعهود، وهو المعروف بالبلاغة والفصاحة. أجيب: بأن هذا المعنى لا يحصل بجعل الإضافة للعهد؛ لأن معنى العهد إرادة بعض أشعار المتكلم معينا، وأما ملاحظة كونه الآن أو فيما مضى أو معروفا بالبلاغة والفصاحة، فلا تدل عليه الإضافة، فإرادته ليست إلا بالتأويل، والصرف عن الظاهر المتبادر، وكم من فرق بين هذا المعنى وبين البعض المعين. وبحث في ذلك بعض الفضلاء: بأن المعتبر في العهد ليس مقصورا على التعين الشخصي، فيجوز أن يراد به التعين النوعي، وهو الشعر الآن أو فيما مضى أو المعروف بالبلاغة والفصاحة، ورده عبد الحكيم: بأن الإضافة إنما تدل على أن المراد بعض الأشعار معينا بالنوع أو بالتشخص، وأما تعيينه باعتبار كونه الآن أو فيما مضى أو معروفا بالبلاغة والفصاحة، فلا دلالة لها عليه. ثم إن الوجهين السابقين في الفرق بين قول المصنف “حقائق الأشياء ثابتة” وقوله “أنا أبو النجم وشعري شعري” مبنيان على أن المراد بالبيان في قوله “ربما يحتاج إلى البيان” بيان معناه كما تقدم، وعليه يكون ذكر قوله “ربما يحتاج إلى البيان” لبيان ظهور الإفادة، والمشهور أن المراد بالبيان: بيان صدق الكلام بإقامة الدليل عليه، فيكون معنى قوله “ربما يحتاج إلى البيان” قلما يحتاج إلى بيان صدقه بإقامة الدليل عليه بالنسبة إلى بعض الأشخاص كالسوفسطائية، وعلى هذا يكون ذكر قوله “ربما يحتاج إلى البيان” لتأكيد كونه مفيدا؛ لأنه المحتاج إلى بيان صدقه؛ إذ لو لم يكن مفيدا لما احتاج إلى بيان صدقه، وإنما أكده بذلك؛ لأن السائل لما أنكر إفادته، حيث ادعى لغويته، أكد إفادتة بذلك، ويرد على الشارح باعتبار حمل البيان في كلامه على المشهور المذكور أن شعري شعري كذلك؛ إذ لابد لإثبات أن شعري الآن كشعري فيما مضى، أو أن شعري هو الشعر المعروف بالبلاغة والفصاحة من شاهد خصوصا بالنسبة إلى الأذهان القاصرة، وما قيل من أن شعري شعري يحتاج إلى التأويل لا إلى البيان مردود: بأنه كما يحتاج في استقامة معناه إلى التأويل، يحتاج في إثباته إلى بيان صدقه بإقامة الدليل عليه، وحينئذ فلا يصح رجوع قوله “ولا مثل قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري”، إلى قوله: “ربما يحتاج إلى البيان”، وما قاله بعض الفضلاء من أنه نفي لاتحاد المسند والمسند إليه، وليس ناظرا لقوله “ربما يحتاج إلى البيان”، بعيد عن السياق هذا، ولو حمل لفظ الأشياء على ما يعم الموجود والمعدوم: بأن يراد بها الأمورالتي تصح أن تعلم ويخبر عنها، فإن الأشاعرة والماتريدية لا ينكرون إطلاق الشيء على ما يعم الموجود والمعدوم مجازا لم يتوجه سؤال أصلا؛ لأن السؤال إنما نشأ من مجموع الأمور الثلاثة التي من جملتها تفسير الشيء بالموجود فقط، وعلى هذا فالمعنى: حقائق الأمور التي يصح أن تعلم ويخبر عنها، ثابتة في الخارج، وليست الحقيقة مأخوذة في ذلك باعتبار التحقق حتى يرد ما ذكره الفاضل الجلبي من أن اللغوية باقية، ولو أريد بالأشياء ما يعم الموجود والمعدوم؛ لأن الوجود معتبر في الحقيقة، فإنه ناظر في ذلك للفرق الذي أشار إليه الشارح بقوله “وقد يقال…إلخ” وهو خلاف الأشهر كما تقدم، فإن قيل الحكم حينئذ لا يصح؛ لأنه يقتضي أن حقائق المعدومات ثابتة في الخارج، وليس كذلك. أجيب بأن المراد بالأشياء حينئذ الجنس، كما سيحققه الشارح، وثبوت حقائق الجنس يكفيه ثبوت حقائق بعض أفراده، وهو الموجودات. وظاهر ذلك كله أن محل الشاهد قوله “وشعري شعري” وجعل بعضهم قوله “أنا أبو النجم” محل الشاهد أيضا، فإنه يحتاج إلى البيان، كأن يقال المراد: أنا المعروف بالبلاغة والفصاحة، فهو مثل أنا حاتم، فإن المراد به: أنا المعروف بالكرم، لكن لم يُعَرِّج على ذلك العلامة الخيالي.
قوله: (على ما لا يخفى) أي لما لا يخفى، فعلى للتعليل.
والعلمُ بها مُتَحققٌ
قال الشارح: وتحقيقُ ذلك أنَّ الشَّيء قد يكون له اعتبارات مختلفة يكون الحكم عليه بالشيء مفيداً بالنظر إلى بعض تلك الاعتبارات دون البعض، كالإنسان إذا أخذ من حيث إنه جسم ما كان الحكم عليه بالحيوانية مفيداً، وإذا أخذ من حيث إنه حيوان ناطق كان ذلك لغواً. (والعِلْمُ بِهَا) أي بالحقائق من تصوراتها والتصديق بها وبأحوالها. (مُتَحَقِّقٌ)، وقيل: المراد العلم بثبوتها؛ للقطع بأنه لا علم بجميع الحقائق. والجواب: أن المراد الجنس رداً على القائلين بأنه لا ثبوت لشيء من الحقائق ولا علم بثبوت حقيقة ولا بعدم ثبوتها.
قال الخيالي:
قوله: (من تصوراتها والتصديق بها وبأحوالها) فاللام في العلم لاستغراق الأنواع بمعونة المقام، ثم إن الاستدلال على ثبوت الصانع وصفاته كما يحتاج إلى العلم بالثبوت يحتاج إلى العلم بالأحوال من الحدوث والإمكان ونحوهما، فمن قدر الثبوت وقال: لا يتم غرض الاستدلال إلا بتقدير الثبوت، فقد غلط غلطين.
قوله: (العلم بثبوتها) بتقدير المضاف، فالضمير للحقائق، وقيل الضمير لثبوت الحقائق، والتأنيث باعتبار المضاف إليه.
قوله: (للقطع بأنه لا علم بجميع الحقائق) يرد عليه أنه إن أريد عدم العلم بالجميع تفصيلا فمسلّم ولا يضرنا؛ لأنه غير مراد، وإن أريد إجمالا، فإن قولنا حقائق الأشياء ثابتة يتضمن العلم الإجمالي بالجميع، وقد سبق أن المراد ما نعتقده حقائق الأشياء فيكون معلوما لنا ألبتة، لا يقال: نحن نقيد العلم بكونه بالكُنه؛ لأنا نقول لا دليل على هذا التقييد مع أن تعميم الشارح ينافيه، ولو سلم فبطلان المقيد لا يوجب تقدير الثبوت بل يجوز أن يترك القيد، وقد يقال أيضا ثبوت الكل غير معلوم وإن أريد البعض فلا وجه للعدول عن الظاهر.
قوله: (والجواب أن المراد الجنس) يرد عليه أن ثبوت الجنس لا يلزم أن يكون في ضمن ما نشاهد من الأعيان والأعراض، فلا يحصل التنبيه على وجودها كما مر، وجوابه أن المراد هو التنبيه على وجود جنس ما يشاهد، فالكلام السابق على حذف المضاف، أو نقول إذا ثبت شيء من الأشياء، فالأحق بالثبوت هو هذه المشاهدات، وكفى بهذا القدر تنبيها.
قال السيالكوتي:
قوله: (والتصديق بها) أي: التصديق بثبوتها في نفسها وبأحوالها؛ أي: التصديق بثبوت الأحوال لها فلا يتجه ما قيل: إن الكلام في العلم بالحقائق، فكيف يصح عد التصديق بالأحوال من العلم بها؛ لأن التصديق بحال الشيء من حيث النسبة إلى ذلك الشيء علم بذلك الشيء.
قوله: (فاللام في العلم لاستغراق الأنواع) يعني لام التعريف في قوله: والعلم لاستغراق أنواع العلم من التصور والتصديق، فالمعنى: جميع أنواع العلم بالحقائق؛ أعني: التصور والتصديق متحقق، و إنما حمل على استغراق الأنواع؛ لأنه لو أريد استغراق الأفراد يلزم أن يكون جميع أفراد العلم بالحقائق ثابتة وهو غير صحيح كما لا يخفى، بخلاف جميع أنواعه فإنه ثابت ولو باعتبار بعض الأفراد، و إنما قال “بمعونة المقام” لأن جعل الاستغراق للأنواع مما لم يعهد عند أهل العربية حقيقة، و إنما هو باعتبار أن معنى الاستغراق هو استيفاء الأفراد وأفراد الجنس أولًا هي الأنواع.
قوله: (بمعونة المقام) يعني أنما جعل اللام للاستغراق بمعونة المقام؛ لأن المقام مقام الرد على اللاأدرية، وهو لا يحصل بجعل اللام للجنس لأنهم لا ينكرون ثبوت جنس العلم بالحقائق ضرورة أنهم معترفون بالشك، والشك من التصور، بل ينكرون التصديق بها، وأيضًا المقصود الأهم؛ أعني: الاستدلال بوجود المحدثات لا يتم إلا بالتصديق بها وبأحوالها ولاقرينة على العهد حتى يختص بالتصديق مع أن التصديق لا يحصل بدون التصور، فيجب الحمل على الاستغراق ويكون المعنى جميع أنواع العلم من التصور والتصديق متحقق، فما قيل: إن مقام الرد لا يستدعي الاستغراق مطلقًا فضلًا عن الاستغراق النوعي. إذا ثبوت جنس العلم كاف في الرد كما أن ثبوت جنس الحقيقة كاف فيه ليس بشيء كما لا يخفى.
قوله: (ثم إن الاستدلال) يعني أن الاستدلال على أن الصانع موجود متصف بالعلم والقدرة والحياة وغيرها كما يحتاج إلى العلم بأن الحقائق ثابتة يحتاج إلى العلم بأحوالها بأنها ممكنة أو حادثة كما سيجيء في باب إثبات الصانع، إذا تقرر هذا فاعلم أن من قدر لفظ الثبوت في قوله: والعلم بها…إلخ، ووجه التقدير بأن الاستدلال على وجود الصانع إنما هو بوجود المحدثات، فلا بد من تقدير الثبوت ليفيد أن العلم بوجود الحقائق متحقق، فقد غلط في توجيهه غلطين الأول ظن وجوب التقدير حيث قال: لايتم غرض الاستدلال إلا به إذ لا معنى للعلم بها إلا تصورها والتصديق بها وبأحوالها، فلا حاجة إلى التقدير، والثاني ظن كفاية العلم بالثبوت وإلا فلا وجه لتخصيص التقدير به إذ لا بد من العلم بالأحوال أيضًا على ما سيجيء، أقول: ويمكن توجيه كلام من قدر الثبوت بحيث لا يرد عليه الغلط الثاني بأن المراد بثبوتها أعم من ثبوتها في نفسها أو ثبوت الأحوال لها، فيشمل العلم بالأحوال أيضًا.
قوله: (فقد غلط غلطين) نقل عنه الأول: ظن كفاية العلم بالثبوت، فلذا قدره ولم يقدر غيره، والغلط الثاني: ظن وجوب التقدير.
قوله: (والتأنيث باعتبار المضاف إليه) نقل عنه فإن مصدر ثابتة المسندة إلى ضمير الحقائق هو ثبوت الحقائق، ففي ضمنها مصدر مضاف والضمير له كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬﱠ انتهى كلامه، قال بعض الفضلاء: فيه أن كفاية الإضافة بحسب المعنى محل خدشة. قوله: (لأنه غير مراد…إلخ) لأن المقصود من قولنا: والعلم بها متحقق الرد على اللاأدرية المنكرين للعلم مطلقًا، فيكفيهم إثبات العلم الإجمالي بجميع الحقائق ولا حاجة إلى العلم التفصيلي بها.
قوله: (وإن أريد إجمالًا…إلخ) أي إن أريد بقوله: لا علم…إلخ. عدم العلم الإجمالي بأن يلاحظه بوجه يشمل جميع الحقائق، فعدم هذا العلم غير مسلم، فإن قولنا: حقائق الأشياء ثابتة يتضمن العلم بجميعها بوجه الثبوت، وهو العلم الإجمالي مع أنه قد سبق أن المراد ما نعتقده حقائق الأشياء والاعتقاد لا يتحقق بدون العلم، وهذا القدر كاف في العلم الإجمالي.
قوله: (لا يقال نحن نقيد العلم…إلخ) يعني نختار أن المراد عدم العلم تفصيلًا، ونقول: إنه مضر لأن العلم في قوله: والعلم بها متحقق على تقدير عدم إرادة الثبوت مقيد بالكنه، وذلك لأنه إذا لم يقدر الثبوت يكون المراد من العلم بها العلم التصوري لأن المتبادر من العلم بالحقائق نفسها، إذ التصديق علم بأحوالها، وحينئذ لا بد من أن يقيد العلم بالكنه وإلا لم يحصل الرد على اللاأدرية لأنهم أيضًا معترفون بالعلم بالوجه ضرورة أن الشك فرع التصور فيصير حاصل الاستدلال أنه لا بد من تقدير الثبوت، إذ لو لم يقدر لكان المراد بالعلم العلم بها بالكنه، لكنه باطل للقطع بأنه لا علم بالحقائق تفصيلًا فضلًا عن أن يكون بالكنه، والفاضل الجلبي فهم أن مقصود المحشي أنا نقيد العلم بالكنه على تقدير إرادة الثبوت، فاعترض بأن بينهما تنافيًا ظاهرًا لأن الأول علم تصوري والثاني علم تصديقي، فكيف يصح أن يقال نحن نقيد العلم على تقدير إرادة الثبوت بالكنه؟ ولايخفى أن ما ذكره بعيد عن المقصود بمراحل، والفاضل المحشي فسر قوله: نحن نقيد العلم بالعلم المذكور في قوله: إذ لا علم بجميع الحقائق ولا يخفى أن قوله في الجواب لا دليل عليه مع أن تعميم الشارح ينافيه يأبى عن ذلك.
قوله: (نقول لا دليل عليه…إلخ) أي لا دليل على تقييد العلم بالكنه والرد على اللاأدرية يحصل بدونه بأن يكون المراد العلم الشامل للتصور بالكنه وبالوجه، فيكون المعنى العلم بالحقائق أي تصورها بالكنه أو بالوجه المتحقق.
قوله: (مع أن تعميم الشارح ينافيه) يعني أن تعميم الشارح العلم في قوله: والعلم بها متحقق بحيث يشمل التصور والتصديق حيث قال من التصور بها والتصديق بها وبأحوالها ينافي أن يقيد العلم بالكنه؛ لأن التقييد بالكنه مبني على أن يكون المراد بالعلم تصورها وأن لا يكون العلم بها متناولًا للتصديق بها وبأحوالها على ما مر، وقول الشارح يدل على شموله التصور والتصديق.
قوله: (ولو سلم فبطلان…إلخ) يعني ولو سلم أن المراد بالعلم العلم بالكنه لكن لا يلزم من بطلان هذا المقيد وجوب تقدير الثبوت بل يجوز أن يترك القيد؛ أعني: بالكنه ويكون المراد العلم مطلقًا سواء كان تصورًا بالكنه أو بالوجه أو تصديقًا بها وبأحوالها كما فعله الشارح، إذ الخلاص من ذلك البطلان كما يكون بتقدير الثبوت يكون بترك القيد المذكور وتعميم العلم أيضًا له كما لا يخفى، وحاصل الجواب أنا لانسلم تحقق تقييد العلم على تقدير عدم إرادة الثبوت، ولو سلم ذلك فالقضية المركبة ههنا اتفاقية، فلا يلزم من بطلان التقييد تقدير الثبوت وذلك لأن بين تقدير الثبوت والتقييد بالكنه منع الجمع، والأمران اللذان بينهما منع الجمع لا يستلزم منع أحدهما عين الآخر، بل عين أحدهما عدم الآخر، فلا يستلزم عدم تقدير الثبوت للتقييد المذكور، وبما حررنا اندفع ما قاله المحشي المدقق: فيه أنه على تقدير تسليم التقييد لا يجوز ترك القيد فيجب تقدير الثبوت انتهى. لأنه إنما سلم تحقق التقييد على ذلك التقدير، وحينئذ يجوز أن يكون بطلان ذلك المقيد بانتفاء قيده لا لانتفاء التقدير؛ إذ لا علاقة بينهما وما سلم لزوم التقييد لذلك التقدير حتى لا يمكن ترك التقييد على ذلك التقدير، فيكون استحالة التقييد مستلزمة لاستحالة ذلك التقدير، فيجب تقدير الثبوت، فتدبر.
قوله: (وقد يقال أيضًا ثبوت الكل غير معلوم…إلخ) حاصله: إيراد النقض على ما قاله من أن المراد العلم بثبوتها يعني إن أريد بقوله: العلم بثبوت الحقائق التصديق بثبوت جميع الحقائق ليس بصحيح؛ لأن ثبوت الكل غير معلوم، وإن أريد التصديق بثبوت بعض الحقائق فلا وجه للعدول عن الظاهر وتقدير الثبوت، إذ كما يعلم ثبوت بعض الحقائق يعلم بعض الحقائق أيضًا، قال المحشي المدقق: فإن قيل: ثبوت الكل معلوم إجمالًا لأن ما مر من قولنا حقائق الأشياء ثابتة…إلخ يتضمن العلم الإجمالي بالجميع والمراد هذا قلنا فلا يكون العدول موجهًا. انتهى كلامه، وفيه تأمل.
قوله: (والجواب أن المراد الجنس…إلخ) يعني أن المراد بقوله: حقائق الأشياء ثابتة جنس حقائق الأشياء، فالمعنى جنس حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بذلك الجنس متحقق سواء كان في ضمن فرد واحد أو أكثر، فحينئذ يرجع إلى الإيجاب الجزئي، وذلك كاف في الرد على الخصم لأنه يدعي السلب الكلي في المقامين.
قوله: (يرد عليه…إلخ) يعني أن إرادة الجنس وإن اندفع بها الإشكال وحصل بها الرد على الخصم لكن لايحصل ما هو المقصود من التصدير بهاتين القضيتين لأن المقصود منه التنبيه على وجود ما نشاهده من الأعيان والأعراض وتحقق العلم بها ليتوصل به إلى معرفة الصانع على ماصرح به الشارح، وإذا كان المراد الجنس لا يلزم أن يكون ثبوته والعلم به في ضمن ذلك البعض لجواز أن يكون في ضمن فرد آخر سوى ما نشاهده، فلا يحصل التنبيه على وجوده.
قوله: (وجوابه…إلخ) يعني أن المراد في قوله: التنبيه على وجود ما نشاهده التنبيه على وجود جنس مما نشاهده إذ التوسل إلى معرفة الصانع إنما يتوقف على وجود المحدثات والعلم بها سواء كان مما نشاهده أو لا، أقول: هذا الجواب لا يدفع الاعتراض إذ وجود جنس ما نشاهده لا يكون إلا في ضمن ما نشاهده لأن معنى قولنا: التنبيه على وجود جنس ما نشاهده التنبيه على وجود ماهية ما نشاهده سواء كان في ضمن فرد واحد أو أكثر كما أن معنى قولنا: جنس حقائق الأشياء ثابتة أن ماهية حقائق الأشياء ثابتة سواء كان في ضمن حقيقة واحدة أو أكثر على ما هو مدلول لام الجنس، نعم يدفعه إذا كان المراد بالجنس الجنس المنطقي، إذ يجوز أن يكون وجود جنس ما نشاهده بهذا المعنى في ضمن ما نشاهده أو غيره لكونهما فردين له، لكن حمله على هذا المعنى بعيد مع أن تقدير لفظ الجنس أيضًا بعيد لا يدل عليه قرينة، فالجواب إما مبني على التلبيس أو التلبس، تأمل تعرف.
قوله: (فالكلام السابق على حذف المضاف) وهو لفظ الجنس، قال الفضل المحشي: لا حاجة إلى تقدير المضاف؛ لأن ما في قوله: ما نشاهده إما موصولة أو موصوفة، وأيًّا ما كان فهي تفيد معنى الجنس أو معنى الاستغراق على ما علم في موضعه، وقد حملت ههنا على الجنس انتهى. ولايخفى أنه ليس بشيءٍ لأنه يصير المعنى التنبيه على وجود الجنس المشاهد أو جنس مشاهد، والجنس ليس بمشاهد أصلًا، فلا بد من تقدير المضاف أو يؤول بالمشاهدة أفراده.
قوله: (أو نقول) يعني نقول: التنبيه على وجود ما نشاهد حاصل مع أن الكلام السابق ليس على حذف المضاف لأن في الكلام؛ أعني: قوله: حقائق الأشياء ثابتة تنبيه على وجود شيء من الحقائق، وإذا ثبت شيء منها فالأحق بالثبوت هي المشاهدات لأنها أظهر وجودًا وأسبق حصولًا من غيرها، ولذا لا يخلو عنه الإنسان في بدء الطفولية لكن في كفاية هذا القدر من التنبيه تأمل.
قال الباجوري:
قوله: (وتحقيق ذلك) أي إثباته على الوجه الحق في ضمن قاعدة كلية، واسم الإشارة عائد لكل من السؤال والجواب، فقوله “يكون الحكم عليه بشيء” مفيدا بالنظر إلى بعض تلك الاعتبارات تحقيق للجواب.
وقوله: (دون البعض) تحقيق للسؤال، فحقائق الأشياء لها اعتباران، أحدهما: كونها ماهيات الأمور الموجودة في نفس الأمر، وبهذا الاعتبار يكون الحكم عليها بأنها ثابتة في نفس الأمر لغوا. وثانيهما: كونها ماهيات الأمور الموجودة في اعتقادنا، وبهذا الاعتبار يكون الحكم عليها بأنها ثابتة في نفس الأمر مفيدا.
قوله: (إن الشيء) كالإنسان في مثاله الآتي.
وقوله: (له اعتبارات مختلفة) أي كاعتبار كونه جسما ما، واعتبار كونه حيوانا ناطقا.
وقوله: (يكون الحكم عليه بشيء…إلخ) وكذا الحكم به على الشيء مفيدا، باعتبار تلك الاعتبارات دون البعض.
وقوله: (بالنظر إلى بعض تلك الاعتبارات) أي كالجسمية.
وقوله: (دون البعض) أي كالحيوانية والناطقية.
قوله: ( كالإنسان) مثال للشيء الذي له اعتبارات مختلفة، فإن له اعتبارين كما يعلم من كلام الشارح.
وقوله: (إذا أخذ من حيث إنه جسم ما) أي إذا لوحظ من حيث إنه جسم كان، بأن كان السامع يعلم أن الإنسان جسم ما، ولا يعلم أنه حيوان ناطق.
وقوله: (كان الحكم عليه بالحيوانية مفيدا) أي لتحقق شرط الإفادة السابق؛ إذ الجسم الملحوظ في الموضوع غير الحيوانية المأتي بها في المحمول. وقوله: (وإذا أخذ من حيث أنه حيوان ناطق) أي إذا لوحظ من حيث الحيوانية والناطقية، بأن كان السامع يعلم أن الإنسان حيوان ناطق.
وقوله: (كان ذلك لغوا) أي لعدم تحقق شرط الإفادة المتقدم، إذ الموضوع مستلزم للمحمول؛ لأن الحيوانية جزء من مجموع الحيوانية والناطقية.
قوله: (والعلم بها…إلخ) اللام في العلم لاستغراق الأنوا ع، كما يؤخذ من قول الشارح (من تصوراتها…إلخ) فهي لاستغراق أنواع العلم من التصور والتصديق، خلافا لمن خصه بالتصديق وهو صاحب القيل الآتي. ولا يرد أن جعل اللام لاستغراق الأنواع مما يعهد عند أهل العربية؛ لأنها إنما حملت على ذلك بمعونة المقام، فإن المقام للرد على السوفسطائية، ومنهم اللاأدرية، ولا يكفى في الرد عليهم جعل اللام للجنس؛ لأنهم لا ينكرون ثبوت جنس العلم ضرورة أنهم معترفون بالشك، وهو من التصور، ولا قرينة على العهد حتى يخص بالتصديق، فيجب الحمل على الاستغراق. فما قيل إن مقام الرد لا يستدعي الاستغراق مطلقا، فضلا عن الاستغرق النوعي، ليس بشيء كما لا يخفى.
قوله: (أي بالحقائق) فالضمير عائد على الحقائق من غير تقدير، بخلافه على القيل الآتي.
قوله: (من تصوراتها…إلخ) بيان للعلم بها، وفي كلامه حذف من الأول لدلالة الثاني، والتقدير: من تصوراتها وأحوالها أخذا مما بعده. ولا يرد أن الكلام في العلم بالحقائق، فكيف يصح عد تصورات أحوالها، والتصديق بأحوالها من العلم بها؛ لأن العلم بحال الشيء من حيث نسبته إلى ذلك الشيء علم بذلك الشيء. فإن قيل: يكفي في الرد على السوفسطائية حمل العلم على التصديق بثبوتها، وأما حمله على ما يشمل التصور فلا حاجة إليه. أجيب: بأن المقصود الأهم، الاستدلال بوجود المحدثات على ثبوت الصانع وصفاته. وهو كما يتوقف على التصديق، يتوقف على التصور؛ لأن التصديق لا يحصل بدون تصور الطرفين، بل ويتوقف أيضا على التصديق بأحوالها. فمن قدر الثبوت، وقال: لا يتم غرض الاستدلال إلا بتقدير الثبوت فقط، غلط غلطين، الأول: ظن كفاية العلم بالثبوت، مع أنه لا يكفي؛ إذ لابد في الاستدلال المذكور من العمل بأحوالها أيضا. والثاني: ظن وجوب التقدير، مع أنه لا يجب؛ إذ لا معنى للعلم بالحقائق إلا تصورها، والتصديق بها وبأحوالها.
قوله: (والتصديق بها) أي بثبوتها.
وقوله: (وبأحوالها) أي بثبوت أحوالها من الحدوث والإمكان ونحوهما: كالجوهرية والعرضية.
قوله: (متحقق) أي ثابت في نفسه، إن قلنا بأن العلم من قبيل الإضافة، أو موجود في الخارج إن قلنا بأنه من قبيل الكيف، وهو الراجح.
قوله: (وقيل المراد العلم بثوبتها) أي المراد من قول المصنف “والعلم بها” العلم بثبوتها، فالضمير راجع للحقائق بتقدير مضاف، وقيل الضمير راجع لثبوت الحقائق، المفهوم من قوله “ثابتة” على حد قوله تعالى: ﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬﱠ وتأنيث الضمير باعتبار المضاف إليه، فيكون المضاف قد اكتسب التأنيث من المضاف إليه، وبحث فيه بأن الإضافة هنا بحسب المعنى وهي لا تكفي في الاكتساب المذكور.
قوله: (للقطع بأنه لا علم بجميع الحقائق) علة لكون المراد ما ذكر، وخبر “لا” محذوف، أي: للجزم بأنه لا علم لأحد من عامة الخلق بجميع الحقائق موجود، وحينئذ لا يستقيم كلام المصنف إلا بتقدير الثبوت؛ إذ لو لم نقدر الثبوت لاقتضى بواسطة أن الضمير عائد على حقائق الأشياء، وهو جمع مضاف فيفيد العموم أن العمل بجميع الحقائق متحقق وهو باطل، فنتخلَّص من بطلانه بتقدير الثبوت. ويرد عليه أنه إن أريد بقوله “لا علم…إلخ” عدم العلم بالجميع تفصيلا فمسلم؛ لأنه ليس في قدرة أحد من عامة الناس، ولا يضر المصنف؛ لأنه غير مراد، فإن الغرض من ذلك الرد على السوفسطائية، ولا حاجة في الرد عليهم إلى إثبات العلم التفصيلي، بل يكفى إثبات العلم الإجمالي، وإن أريد به عدم العلم بالجميع إجمالا فممنوع؛ لأن قولنا حقائق الأشياء ثابتة يتضمن العلم بالجميع إجمالا؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد سبق أن المراد ما نعتقده حقائق الأشياء، فيكون معلوما لنا ألبتة؛ إذ الاعتقاد لا يتحقق بدون العلم، وهذا القدر كاف في العلم الإجمالي. لا يقال نحن نقيد العلم في قول المصنف “والعلم بها متحقق” على تقدير عدم إرادة الثبوت، بكونه بالكنه وحينئذ يكون مراده العلم بالجميع تفصيلا؛ لأن العلم بالكنه لا يكون إجمالا، فيكون حصرا؛ لأنه يقتضي أن العلم بجميع الحقائق بالكنه، وهو باطل كما تقدم؛ لأنا نقول لا دليل على هذا التقييد. فإن: قيل عليه دليل، وهو قصد الرد على اللاأدرية فإنهم معترفون بالعلم بوجه ضرورة أنهم شاكون، والشك فرع التصور، فلو لم يقيد بالكنه لم يحصل الرد عليهم. أجيب: بأن الرد عليهم يحصل بدونه، بأن يكون المراد بالعلم ما يشمل التصور بالكنه وبالوجه، مع أن تعميم الشارح في العلم بقوله “من تصوراتها والتصديق بها وبأحوالها” ينافي التقييد بالكنه؛ لأن التقييد بالكنه مبني على أن المراد بالعلم خصوص التصور، لا ما يشمل التصديق، ولو سلم تحقق التقييد بالكنه عند عدم تقدير الثبوت، فبطلان المقيد وهو العلم المقيد بالكنه، لا يوجب تقدير الثبوت للخلوص من ذلك البطلان، بل يجوز أن يترك القيد وهو كونه بالكنه، ويكون المراد العلم مطلقا كما فعله الشارح، وبه يحصل الخلاص من البطلان المذكور؛ لأن بين تقدير الثبوت والتقدير بالكنه، منع الجمع، كما في قولك هذا الشيء: إما شجر أو حجر، والأمران اللذان بينهما منع الجمع، لا يستلزم عدم أحدهما عين الآخر، فحينئذ لا يستلزم عدم تقدير الثبوت التقييد بالكنه. وقد يقال أيضا لصاحب القيل المذكور بثبوت الكل غير معلوم، فلا يصح تقدير الثبوت. وإن أردت ثبوت بعض الحقائق فلا وجه للعدول عن الظاهر، وهو عدم التقدير لصحة إرادة البعض من غير تقدير الثبوت، وبقولنا فيما سبق “لأحد من عامة الخلق” يندفع ما يقال: إن القطع بأنه لا علم بجميع الحقائق ينفيه قوله تعالى: ﱡﭐ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱠ وينفيه أيضا علمه تعالى بجميع الحقائق.
قوله: (والجواب) أي عما قاله صاحب ذلك القيل، من أنه على تقدير عدم الثبوت، يكون كلام المصنف باطلا؛ للقطع بأنه لا علم بجميع الحقائق.
وقوله: (إن المراد الجنس) أي أن المراد بمرجع الضمير وهو الحقائق الجنس المتحقق في ضمن بعض الأفراد، وحينئذ فيصح كلام المصنف من غير تقدير الثبوت. ويرد عليه أن ثبوت الجنس لا يلزم أن يكون في ضمن ما يشاهد من الأعيان والأعراض، فلا يحصل التنبيه على وجود ما يشاهد من الأعيان والأعراض وتحقق العلم بها كما مر في كلامه، حيث قال ناسب تصدير الكتاب بالتنبيه على وجود ما يشاهد من الأعيان والأعراض وتحقق العلم بها، ويجاب عنه بأن الكلام السابق على حذف المضاف؛ لأن المراد التنبيه على وجود جنس ما يشاهد سواء كان في ضمن ما يشاهد أو في ضمن غيره كالأمور المغيبة عنا مما تحت الأرض مثلا، أو نقول: إن قوله “حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق” يدل على ثبوت شيء من الأشياء وتحقق العلم به. وإذا ثبت شيء من الأشياء وتحقق العلم به، فالأحق بالثبوت وتحقق العلم به هو هذه المشاهدات؛ لأنها أظهر وجودا وأسبق في الذهن حصولا، وكفى بهذا القدر تنبيها. قال العلامة عبد الحكيم: وفي كفاية هذا القدر في التنبيه تأمل. أ.ه. ولعل وجه التأمل: أن الأحقية المذكورة لا تمنع احتمال تحقق الجنس في ضمن غير ما يشاهد. وبحث العلامة بعد الحكيم أيضا في الجواب الأول: بأن وجود جنس ما يشاهد لا يكون إلا في ضمن ما يشاهد دون غيره؛ لأن معنى وجود جنس ما يشاهد وجود ماهية ما يشاهد، ولو فيه ضمن بعض أفراد ما يشاهد، اللهم إلا أن يراد بالجنس: الجنس المنطقي، وهو كما يكون في ضمن ما يشاهد، يكون في ضمن غيره؛ لكونهما فردين له، لكن حمله عليه بعيد. فالجواب: إما مبني على التلبيس من المجيب، أو اللبس عليه.
قوله: (ردا على القائلين…إلخ) علة لكون المراد الجنس على ما هو المتبادر، وعليه فهي علة مصححة لإرادة الجنس، لا موجبة لها؛ لأن الرد كما يكون بإرادة الجنس يكون بإرادة الجميع، ويحتمل على بعد أنه تعليل لمحذوف، والتقدير: وأتى بقوله “حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق” ردا على القائلين…إلخ.
وقوله: (بأنه لا ثبوت لشيء من الحقائق) الرد على القائلين بذلك، وهم العنادية والعندية، حصل بقوله “حقائق الأشياء ثابتة”.
وقوله: (ولا علم بثبوت حقيقة…إلخ) الرد على القائلين بذلك، وهم اللاأدرية، حصل بقوله: “والعلم بها متحقق”. كذا كتبوا وكتب بعضهم أن الرد على القائلين بالأول وبالثاني، حصل بقوله “والعلم بها متحقق”، لكن الرد على القائلين بالثاني حصل بالتصديق. والرد على القائلين بالأول حصل بالتصور؛ لأنهم يقولون لا ثبوت لشيء من الحقائق حتى يتصور، وحينئذ كون حصل الرد عليهم مرتين، الأولى: بقوله “حقائق الأشياء ثابتة” والثانية: بقوله “والعلم بها متحقق”.
وقوله: (ولا بعدم ثبوتها) أتى به لأنه لا يتم معنى الشك بدونه؛ إذ المراد أنه رد على القائلين بالشك، وهم اللاأدرية، ومعنى الشك بدون نفي العلم بعدم الثبوت، فاندفع ما قد يتوهم من أن قوله “والعلم بها متحقق” إنما هو رد لنفي العلم بثبوت حقيقة، لا لنفي العلم بعدم ثبوتها.
خلافًا للسوفسطائية.
قال الشارح: (خلافاً للسوفسطائية) فإنَّ منهم مَنْ ينكرُ حقائق الأشياء، ويزعم أنها أوهام وخيالات باطلة، وهم العنادية، ومنهم مَنْ ينكر ثبوتها ويزعم أنها تابعة للاعتقادات، حتى إن اعتقدنا الشيء جوهراً فجوهر، أو عرضاً فعرض، أو قديماً فقديم، أو حادثاً فحادث وهم العِنْدية، ومنهم من ينكر العلم بثبوت شيء ولا ثبوته، ويزعم أنه شاك، وشاك في أنه شاك وهلم جرا، وهم اللاأدرية.
قال الخيالي:
قوله: (وهم العنادية) سموا بذلك لأنهم يعاندون ويدّعون الجزم بعدم تحقق نسبة أمر إلى أمر آخر في نفس الأمر، ويقولون ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة تقاومها وتماثلها في القوة، وبه يظهر أن إنكارهم لا يختص بحقائق الموجودات فتخصيص إنكارهم لها بالذكر جري على وفق السياق والأظهر أن يحمل الأشياء ههنا على المعنى الأعم.
قوله: (من ينكر ثبوتها) أي تقررها وهم يقولون مذهب كل قوم حق بالنسبة إليه وباطل بالنسبة إلى خصمه، ويستدلون بأن الصفراوي يجد السكر في فمه مرّا فدل على أن المعاني تابعة للإدراكات.
قوله: (و يزعم أنه شاك) هذا الزعم بمعنى القول الباطل لا الاعتقاد الباطل إذ لا اعتقاد للشاكّ.
قال السيالكوتي:
قوله: (وهم العنادية…إلخ) الفرق بين مذهب العنادية والعندية أن العنادية ينكرون ثبوت الحقائق وتميزها في نفس الأمر مطلقًا بتبعية الاعتقاد وبدونه، ويلزم من ذلك نفي الحقائق بالمرة لأنها إذا لم تكن متميزة في نفسها ارتفعت بالمرة، فالحقائق عندهم كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ليس له ثبوت في نفسه ولا بتبعية اعتقاده يدل على ذلك قول المحشي: ويدعون الجزم بعدم تحقق نسبة أمر…إلخ. حيث نفوا التحقق أي التقرر، والعندية ينكرون ثبوتها وتميزها في نفس الأمر مع قطع النظر عن اعتقادنا، يعني أنه لو قطع النظر عن الاعتقادات ارتفعت الحقائق عن نفس الأمر بالمرة لعدم بقاء تميز بعضها عن بعض لكنهم يقولون بثبوتها وتقررها فيها بتبعية الاعتقادات أو بتوسطها، وهذا كما ذهب إليه المصوبة من تصويب كل مجتهد، وما في قواعد العربية فإنها ليست من العلوم الحقيقية الثابتة في نفسها مع قطع النظر عن اعتبار لغة العرب لكن لها ثبوت فيها بتوسطها، ولذا تتصف بالصدق والكذب، فالاعتقادات عندهم ليست تابعة للمعاني كما هو عندنا، فإنا نقول: نجد هذا الشيء مرًّا لأنه في نفسه كذلك، وهم يقولون: هذا الشيء مر لأنا نجده كذلك، ومن هذا تبين معنى كون مذهب كل طائفة حقًّا بالنسبة إليه عندهم؛ لأنه لما كان ثبوت الأشياء في أنفسها تابعة للاعتقادات، كان اعتقاد كل شخص مطابقًا لما في نفس الأمر فيكون حقًّا كما يقال: إن تقديم المضاف إليه على المضاف حق بناء على لغة الفرس، والعكس أيضًا حقًّ بناء على لغة العرب، ولا حاجة إلى ما قيل من أن الحق ههنا على مذهب النظام كما سيجيء، وقال بعض الفضلاء: إن الفرق بين المذهبين أن العنادية ينفون كون نفس الأمر ظرفا لنفسها، والعندية ينفون كونها ظرفا لثبوتها، ولايخفى أن هذا الفرق أيضًا إنما يتم لو كان الثبوت في قولهم بمعنى الوجود بناء على أن نفي ظرفية نفس الأمر لوجود شيء لايستلزم انتفاء ذلك الشيء، بخلاف ظرفيتها لنفسه كما حقق في محله، أما إذا كان بمعنى التميز كما سيجيء، فانتفاء ظرفية نفس الأمر لتميزها يستلزم انتفاءها بالمرة، فلايكون ظرفًا لنفسها أيضًا، فالتعويل على ماذكرنا، فإن قيل: عبارة الشارح في بيان المذهبين ناظرة إلى الفرق الذي اعتبره بعض الفضلاء حيث زاد لفظ الثبوت في الثاني دون الأول، قلت: أخذ الشارح قدس سره بالمآل، فإن نفي التميز مطلقًا يستلزم الانتفاء بالمرة، وإثبات التميز بتوسط الاعتقاد يستلزم انتفاء الثبوت في نفس الأمر.
قوله: (لأنهم يعاندون…إلخ) يعني يعاندون العقلاء الجازمين بثبوت الأشياء من الواجب والممكن ويدعون الجزم بعدم ثبوت نسبة أمر إلى آخر في نفس الأمر حتى نسبة التميز، فلا يكون الحقائق إلا أوهامًا وخيالات كالسراب، فليس في الحقيقة رب ولا عبد ولا نبي ولا مرسل، لا أن الكل راجع إلى أصل واحد في الحقيقة هو الوجود المجرد العاري عن التكثر وأن التمايز إنما هو بحسب التعينات الوهمية كما ذهب إليه الصوفية الوجودية، فمن قال: مراد السوفسطائية نفي حقيقة سوى الحق فيكون راجعًا إلى مذهب الصوفية لم يتتبع كلامهم ولم يتفحص دلائلهم، وبما حررنا اندفع ما يتوهم أن قوله: ويدعون الجزم بعدم تحقق نسبة أمر إلى آخر في نفس الأمر يدل على أنهم ينكرون ثبوتها، وأن إنكارهم مختص بالنسبة وليس كذلك، فإنهم ينكرون نفس الحقائق نسبةً كانت أو لا كما عرفت، فالأولى أن يقال: ويدعون الجزم بعدم أمر في نفس الأمر، ولعل الباعث على تخصيص النسبة أن قوله: إذ ما من قضية بديهية…إلخ. دليل لما ادعوه، وهو إنما يدل على عدم تحقق النسبة فقط، وليس كذلك لأنه بيان لمنشأ غلطهم، فيجوز أن لا يخص مذهبهم ويخص منشأ مذهبهم، قال في “شرح المواقف”: ومنهم فرقة تسمى بالعنادية، وهم الذين يعاندون ويدعون أنهم جازمون بأن لا موجود أصلًا، وإنما نشأ مذهبهم من الإشكالات المتعارضة مثل ما يقال: لو كان الجسم موجودًا لم يخل من أن يتناهى قبوله للانقسام فيلزم الجزء وهو باطل لأدلة تعانده، أو لا يتناهى وهو أيضًا باطل لأدلة مثبتة، ولو كان شيئًا موجودًا لكان إما واجبًا أو ممكنًا، وكلاهما باطل للإشكالات المعارضة للوجوب والإمكان.
قوله: (وبه يظهر…إلخ) أي بما ذكرنا من وجه التسمية، ونقل مذهبهم يدل على إنكارهم ليس مخصوصًا بحقائق الموجودات بل يعم الموجود والمعدوم الثابت في نفس الأمر لإنكارهم نسبة أمر إلى آخر مطلقًا.
قوله: (فتخصيص…إلخ) يعني أن تخصيص الشارح إنكارهم بحقائق الموجودات بالذكر حيث قال: ومنهم من ينكر حقائق الأشياء جري على وفق ما سبق، فإن الكلام في ثبوت حقائق الموجودات.
قوله: (والأظهر…إلخ) يعني أن الأظهر أن يحمل الأشياء ههنا أي في قول الشارح: منهم من ينكر حقائق الأشياء على المعنى الأعم الشامل للموجود والمعدوم؛ أعني: ما يصح أن يعلم ويخبر عنه.
قوله: (أي تقررها…إلخ) يعني ليس المراد بالثبوت معناه الحقيقي؛ أعني: الوجود الخارجي، بل الأعم الشامل للموجود والمعدوم ولو مجازًا، وهو تقررها وامتيازها مع قطع النظر عن فرض العارض لأن إنكارهم أيضًا لا يختص بالموجودات الخارجية بل يعمها والمعدومات، فالمعنى أنهم ينكرون كون الأشياء متصفة بالتقرر والامتياز بحسب نفس الأمر مع قطع النظر عن الاعتقادات، وقال الفاضل الجلبي: أي تقررها وكونها على قرار واحد، فإنه لما كانت أحوال الأشياء بحسب الاعتقاد، فلو اعتقدنا في بعض الأوقات وجود شيء فهو موجود، ثم اعتقدنا عدمه فهو معدوم، فلا يكون لشيء من الأشياء تقرر وقرار في شيء من الأوقات، وإنما فسرنا الثبوت بالتقرر؛ لأنهم لا ينكرون الثبوت مطلقًا لما عرفت من أنا لو اعتقدنا ثبوت شيء فهو ثابت على رأيهم لكن بالنسبة إلى المعتقد انتهى كلامه، وفيه بحث. أما أولًا: فلأن التقرر على هذا المعنى مع أنه خلاف المصطلح يكون أخص من الثبوت لأنه أريد به الوجود الذي يكون على قرار واحد حيث قال: لا ينكرون الثبوت مطلقًا، والثبوت هو الوجود سواء كان على قرار واحد أو لا، فلا يكون قوله: “حقائق الأشياء ثابتة” ردًّا على العندية لأنهم أيضًا قائلون بثبوت الحقائق، وإنما ينفون عنها التقرر، ولو حمل الثبوت في قوله: حقائق الأشياء ثابتة على التقرر لم يكن لذكر ترادف الثبوت والوجود والكون مع ترك المعنى المقصود وجه، وأما ثانيًا: فلأن ما ذكره وجهًا لتفسير الثبوت بالتقرر وهو قوله: “لما عرفت…إلخ.” بعينه جار في التقرر بأن يقال: لو اعتقدنا تقرر الشيء فهو متقرر على رأيهم لكن بالنسبة إلى المعتقد، فينبغي أن لاينكرون التقرر.
قوله: (يقولون مذهب كل قوم حق…إلخ) فإن قيل: ما معنى الحق والباطل ههنا؟ إذ ليس ههنا نسبة خارجية يطابقها الحكم أو لا يطابقها، أجيب: هو ماذهب إليه النظّام وهو مطابقة الحكم للاعتقاد وعدم مطابقته له، أقول: قد سمعت منا سابقًا مايغني عن اعتبار هذا التمحل مع أنه على هذا لا فائدة في ايراد هذه المقدمة بعد القول بأن الحقائق تابعة عندهم للاعتقادات.
قوله: (هذا الزعم بمعنى القول الباطل) وهو القول الدال على نسبة لا تطابق الواقع سواء اعتقدها القائل أو لا، فلا يرد ما قال بعض الأفاضل: أن القول العاري عن الاعتقاد لا يوصف بالبطلان ولا بالزعم، ويؤيد ما قلنا ما قاله الشارح في المطول في بحث الإسناد الخبري لا يقال المشكوك ليس بخبر ليكون صادقًا أو كاذبًا لأنه لا حكم معه ولا تصديق، بل هو مجرد تصور كما صرح به أرباب المعقولات، لأنا نقول: لا حكم ولا تصديق للشاك بمعنى أنه لم يدرك وقوع النسبة أو لاوقوعها وذهنه لم يحكم بشيء من النفي والإثبات، لكنه إذا تلفظ بالجملة الخبرية وقال: زيد في الدار مثلًا مع الشك فكلامه خبر لا محالة.
قال الباجوري:
قوله: (خلافا للسوفسطائية) أي قال أهل الحق ما سبق، حال كونهم مخالفين للسوفسطائية عن آخرهم. فقوله: “خلافا للسوفسطائية” حال من أهل الحق، وهو راجع للجملتين السابقتين. فإن طائفتين من السوفسطائية تنكران ثبوت الحقائق، وطائفة منهم تنكر تحقق العلم بها، كما يعلم من صنيع الشارح، والسوفسطائية: قوم من حكماء اليونان توغلوا في الرياضة حتى أتوا بالهذيان الذي منه ما حكي عنهم، وهم منسوبون إلى سَوْفَسْطَا التي هي اسم للحكمة المُمَوَّهَة، كما سيذكره الشارح.
قوله: (فإن منهم…إلخ) تعليل لقوله “خلافا للسوفسطائية”.
وقوله: (من ينكر حقائق الأشياء) أي ينكر ثبوتها في نفس الأمر بحسب ذاتها وبحسب الاعتقاد، وإنكارهم للحقائق، فلا يختص بحقائق الأشياء التي هي الموجودات، فتخصيص الشارح لإنكارهم لها بالذكر حيث قال: “من ينكر حقائق الأشياء” جري على وفق السياق؛ لأن سياق الكلام في حقائق الأشياء، وقد تقدم تفسير الشيء بالموجود. والأظهر أن تحمل الأشياء ههنا على المعنى الأعم، وهو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيدخل فيها الموجودات وغيرها.
قوله: (ويزعم) أي يعتقد اعتقادا باطلا، ويلزم على ذلك التناقض في كلامهم، فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وأثبتوا الاعتقاد وهو حقيقة من الحقائق، ففي كلامهم نفي وإثبات.
وقوله: (أوهام) أي أمور متوهمة.
وقوله: (وخيالات) أي أمور متخيلة، وهذا العطف من قبيل عطف المرادف.
وقوله: (باطلة) أي لا ثبوت بها، لا بحسب ذاتها ولا بحسب الاعتقاد، فهي عندهم كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
قوله: (وهم العنادية) نسبة إلى العناد سموا بذلك؛ لأنهم يعاندون العقلاء في ثبوت حقائق الأشياء، ويدعون الجزم بعدم تحقق شيء في نفس الأمر، ولذلك قال في “شرح المواقف”: ومنهم فرقة تسمى بالعنادية، وهم الذين يعاندون ويدعون أنهم جازمون بأن لا موجود أصلا، ويقولون: ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها قضية معارضة لها تقاومها وتماثلها في القوة، فلا تحقق نسبة أمر ما إلى آخر في نفس الأمر، فلا تكون الحقائق إلا أوهاما وخيالات باطلة، كالسراب فليس في الحقيقة رب ولا عبد ولا نبي، وهذا كما ترى مخالف لما ذهب إليه الصوفية الوجودية: من أن الكل في الحقيقة راجع إلى الوجود المجرد العاري عن التكثر، وأن التمايز إنما هو بحسب التعينات الوهمية، وهذا هو المراد بوحدة الوجود، فمن قال مراد السوفسطائية: نفي حقيقة سوى الحق فيكون راجعا إلى مذهب الصوفية الوجودية، فلم يتتبع كلامهم ولم يتفحص دلائلهم.
قوله: (ومنهم من ينكر ثبوتها) أي ينكر تقررها في نفس الأمر باعتبار ذاتها وقطع النظر عن الاعتقادات.
وقوله: (ويزعم أنها تابعة للاعتقادات) أي يعتقد اعتقادا باطلا أنها تابعة في الثبوت في نفس الأمر للاعتقاد، فعندهم أنها غير ثابتة في نفس الأمر باعتبار ذاتها وقطع النظر عن الاعتقاد، وثابتة في نفس الأمر باعتبار الاعتقاد. ففي كلامهم نفي و إثبات، فيكون في كلامهم تناقض كالعنادية؛ ولذلك قال في شرح المقاصد: في كلام العندية والعنادية تناقض، حيث اعترفوا بحقيقة إثبات ونفي، سيما إذا تمسكوا فيما ادعوا بشبهة، وبما تقرر في بيان ما ذهب إليه العنادية والعندية ظهر الفرق بين مذهبهما؛ لأن العنادية ينفون ثبوت الحقائق في نفس الأمر باعتبار ذاتها لا باعتبار الاعتقاد، كما في قواعد العربية، فإنها ليست من العلوم الثابتة باعتبار لغة العرب.
قوله: (حتى إنا…إلخ) تفريع على كونها تابعة للاعتقادات فهو بكسر الهمزة.
وقوله: (إذا اعتقدنا الشيء جوهرا فجوهر) أي إذا اعتقدنا الشيء كالحجر جوهرا فهو جوهر في نفس الأمر تبعا للاعتقاد.
وقوله: (أو عرضا فعرض) أي إذا اعتقدنا الشيء كالشجر عرضا فهو عرض في نفس الأمر تبعا للاعتقاد.
وقوله: (أو قديما فقديم) أي إذا اعتقدنا الشيء، كالسماء والأرض قديما، فهو قديم في نفس الأمر تبعا للاعتقاد.
وقوله: (أو حادثا فحادث) أي إذا اعتقدنا الشيء كزيد وعمرو حادثا، فهو حادث في نفس الأمر تبعا للاعتقاد، فالجوهرية والعرضية والقدم والحدوث بل وسائر المعاني تابعة للاعتقادات عندهم بخلافه عندنا، فإنا نقول نعتقد هذا الشيء مرَّا؛ لأنه في نفسه كذلك، وهم يقولون هذا الشيء مرّ؛ لأنا نعتقده كذلك ويستدعون بأن الصفراوي يجد السكر في فمه مرّا، فيدل على أن المعاني تابعة للإدراكات. ولذلك يقولون: مذهب كل قوم حق بالنسبة إليه وباطل بالنسبة إلى خصمه تبعا للاعتقاد، فلما كان مذهب الشخص بالنسبة إليه مطابقا لما في نفس الأمر بالنظر لاعتقاده كان حقا، ولما كان بالنسبة إلى خصمه مخالفا لما في نفس الأمر بالنظر لاعتقاده كان باطلا. كما أن تقديم المضاف على المضاف إليه حق بالنسبة للغة العرب، وباطل بالنسبة للغة الفرس، والعكس بالعكس. ولا يخفى أنه يلزمهم كون الشيء الواحد جوهرا وعرضا على تحقق الاعتقادين، بأن اعتقد شخص جوهريته وآخر عرضيته، وكون الشيء الواحد قديما وحادثا كذلك.
قوله: (وهم العندية) نسبة إلى “عند” بمعنى الاعتقاد، كما يقال: عند أبي حنيفة كذا، وسموا عندية؛ لأنهم يقولون بأن ثبوت الأشياء تابع للعند، أي الاعتقاد.
قوله: (ومنهم من ينكر العلم…إلخ) فهؤلاء لا يقولون بثبوت حقائق الأشياء ولا بعدم ثبوتها بل يقولون لا ندري.
قوله: (بثبوت شيء) أي ثبوته في نفس الأمر.
وقوله: (ولا ثبوته) أي وعدم ثبوته كذلك.
قوله: (ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك) أي يقول ذلك قولا باطلا، فهذا الزعم بمعنى القول الباطل لا الاعتقاد الباطل؛ إذ لا اعتقاد للشاك، وفسره العصام بالاعتقاد الباطل، وألزمهم التناقض، حيث اعتقدوا أنهم شاكون، مع كونهم أنكروا الاعتقاد.
قوله: (وهلم جرا) أي ويستمر على كونه شاكا في كونه شاكا، فيشك في أنه شاك، ويشك في أنه شاك وهكذا إلى ما لا نهاية له.
قوله: (وهم اللاأدرية) نسبة للا أدري؛ لأنه إذا سئل أحدهم عن أي شيء أجاب: بلا أدري، ويقال هم أفضل السوفسطائية، كما قاله العلامة العصام؛ لأن الشاك أفضل من الجاهل جهلا مركبا.
لنا تحقيقاً.
قال الشارح: لنا تحقيقاً: أنَّا نجزمُ بالضرورة بثبوت بعض الأشياء بالعَيَان، وبعضها بالبيان، وإلزاماً: أنه إنْ لم يتحقق نفي الأشياء فقد ثبتت، وإن تحقق، والنفي حقيقة من الحقائق لكونه نوعاً من الحكم، فقد ثَبَتَ شيءٌ من الحقائق، فلم يصح نفيها على الإطلاق.ولا يخفى أنه إنما يتم على العِنَادِيَّة، قالوا: الضروريات منها حسيات، والحسُّ قد يغلط كثيراً، كالأحول يرى الواحد اثنين، والصفراوي يجد الحلو مراً. ومنها بديهيات، وقد يقع فيها اختلافات، وتعرض شبه يفتقر في حلها إلى أنظار دقيقة، والنظريات فرع الضروريات، ففسادها فسادها، ولهذا كثر فيها اختلاف العقلاء.
قال الخيالي:
قوله: (إن لم يتحقق نفي الأشياء فقد ثبت) يرد عليه أن عدم ارتفاع النقيضين من جملة المخيلات عندهم، فلا يلزم من عدم تحقق النفي الثبوت، فالصواب في الإلزام أن يقتصر على الشق الأخير ويقال إنكم جزمتم بنفي الحقائق مطلقا، وهذا النفي من جملة تلك الحقائق، فثبت بعض ما نفيتم، وقد يتوهم أن إنكارهم مقصور على حقائق الموجودات، ويوجه الإلزام بأن النفي حكم، والحكم تصديق، والتصديق علم، والعلم من الأعراض الموجودة في الخارج، ويرد عليه أنه لا وجود للعلم في الخارج عند كثير من المتكلمين، ولو ثبت فبأنظار دقيقة فكيف يُبنى الإلزام لمنكر أجلى البديهيات على مثل هذا الأمر الخفي، لا يقال ترديد هذا الإلزام في التحقق وهو بمعنى الوجود، لأنا نقول ليس ههنا بمعناه؛ إذ عدم وجود النفي لا يستلزم وجود الأشياء لجواز كون النفي الثابت في نفسه معدوما في الخارج.
قوله: (إنما يتم على العنادية) عدم تمامه على اللاأدرية ظاهر، وأما على العندية ففيه تأمل، وقال في شرح المقاصد: في كلام العندية والعنادية تناقض؛ حيث اعترفوا بحقيقة إثبات أو نفي، سيما إذا تمسكوا فيما ادعوا بشبهة.
قوله: (قالوا الضروريات) هذا دليل اللاأدرية وحاصله أنه لا وثوق بالعيان ولا بالبيان، فتعين التوقف والشك، وغرضهم من هذا التمسك: حصول الشك والشبهة لا إثبات أمر أو نفيه.
قوله: (قد يغلط كثيرا) إطلاق الغلط منهم بناء على زعم الناس. إن قلت “قد” الداخلة على المضارع للقلة فتنافي الكثرة، قلت: قد تستعار وتستعمل للتحقيق أيضا على أن القلة يحسب الإضافة لا ينافي الكثرة في نفسه.
قال السيالكوتي:
(قال الشارح إن لم يتحقق نفي الأشياء…إلخ) أي إن لم يثبت نفي جميع الأشياء التي ادعيتم بقولكم: لا شيء من الحقائق في نفسه مع قطع النظر عن الاعتقاد فقد ثبت شيء من الأشياء في نفسه ضرورة أنه إذا لم يثبت السلب الكلي تحقق الإيجاب الجزئي وإلا لزم ارتفاع النقيضين، وإن ثبت النفي في نفسه فقد ثبت ماهية في نفس الأمر لأنه حقيقة من الحقائق، قال بعض الفضلاء في تحرير هذه العبارة: إن لم يتحقق نفي الأشياء، أي: إن لم يتصف شيء من الأشياء بصفة النفي لم يكن شيء منها منفيًّا، إذ المنفي ما اتصف بالنفي وقام به النفي، واذا لم يتصف بالنفي لزم الاتصاف بنفي النفي، ونفي النفي إثبات، إذ هو ملزوم له فلزم الثبوت، وإن تحقق النفي فقد ثبت ماهية من الماهيات، إذ من جملة الماهيات النفي، وكذا الاتصاف بصفة النفي من جملتها، أقول: فيه بحث؛ لأنا لا نسلم أنه إذا لم تتصف الأشياء بالنفي يلزم أن تتصف بنفي النفي لجواز أن لا تكون الأشياء ثابتة في نفسها، فلا تتصف بشيء منهما، ولو قيل: إن عدم الاتصاف بالنفي يستلزم الاتصاف بنفي النفي بناء على تلازم الموجبة المعدولة المحمول والسالبة لزم إلزام منكري أجلى البديهيات بمقدمة خفية عند العلماء بل فاسدة عند الأذكياء على أن شقي الترديد ليس على طريق النقض، إذ قد حمل التحقيق في الشق الأول على الاتصاف وفي الثاني على الثبوت، وإلا لمّا لزم من الاتصاف ثبوت ماهية النفي إذ اتصاف شيء بشيء إنما يستلزم وجود المثبت له لا ثبوت المثبت. تأمل.
قوله: (يرد عليه…إلخ) يعني أن عدم ارتفاع النقيضين وكذا اجتماعهما من جملة الموهومات الفاسدة عندهم، فلا يلزم من عدم ثبوت نفي الأشياء في حد ذاته ثبوت شيء ما في نفسه، بل يجوز أن يرتفعا ويكون مخيلة من جملة المخيلات، فإن الفاضل المحشي قال: والحق أن الإلزام عليهم ليس مبنيًّا على عدم ارتفاع النقيضين حتى يرد عليه ما ذكر، بل حاصله أن ما ادعيتم من نفي الأشياء إن زعمتم أنه مخيل فقد ثبت مقصودنا وهو إبطال مادعيتم، وإن زعمتم أنه متحقق ثابت فقد أقررتم بثبوت غرضنا أيضًا، وأيًّا ما تزعمون فمرحبًا بالوفاق لغرض، أقول: من الاستدلال إثبات أن حقائق الأشياء ثابتة لا مجرد إبطال مذهبهم ليثبت غرضنا بمجرد كون النفي مخيلًا يدل على ذلك قول الشارح: “لنا تحقيقًا وإلزامًا”.
قوله: (فالصواب في الإلزام أن يقتصر على الشق الأخير) وحاصله أنكم جزمتم بنفي الحقائق مطلقًا موجودةً كانت أو معدومة حيث قلتم لا شيء من الحقائق في نفس الأمر، وهذا النفي من جملة الحقائق، إذ قد ادعيتم بأنه ثابت في نفس الأمر حيث تمسكتم في إثباته بالشبهة، فقد ثبت بعض ما نفيتم، فلا يرد ما قاله بعض الفضلاء: إنه يرد عليه مثل ما يرد على ما ذكر، مثل أن يقال: إن النفي من جملة المخيلات الباطلة عندهم، وكذا الجزم، فلا يلزم ثبوت ما نفي
قوله: (قد يتوهم…إلخ) يعني أن بعض الناس توهموا أن السوفسطائية إنما ينكرون الحقائق الموجودة في الخارج، فلا يلزم من ثبوت النفي ثبوت الحقائق الخارجية ، فتكفلوا في توجيه الإلزام بأنه إذا ثبت النفي ثبت الحقائق الموجودة في الخارج؛ لأنه قسم من العلم الذي هو قسم من العرض الموجود في الخارج؛ لأنه إما كيف أو انفعال على ما قيل.
قوله: (ويرد عليه…إلخ) حاصله أنه كيف يمكن الإلزام لمنكري أجلى البديهيات بأمر خفي؟ فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن العلم موجود، بل هو من جملة المخيلات والدلائل المثبتة له مخيلات باطلة، كيف وقد أنكره جماعة مثبة للحقائق؟ فلا يرد ما قاله بعض الفضلاء من أن عدم وجود العلم عند كثير من المتكلمين لا ينافي كونه ملزومًا به، إذ لا يجب كون الملزوم به معتقدًا لمن تمسك به، إذ مقصود المحشي أنه لا يتم الإلزام عليهم بل توسيع دائرة مقالتهم لأن المتمسك به هم المتكلمون، وهم لا يقولون بوجود العلم حتى يرد ما ذكر.
قوله: (لا يقال…إلخ) حاصله أنه لا حاجة في توجيه الإلزام على تقدير أن يكون إنكارهم مقصورًا على الموجودات إلى ما مرّ، بل هو تام بدونه لأن ترديد هذا الإلزام في التحقق وهو بمعنى الوجود، فيصير المعنى إن لم يوجد في الخارج نفي الأشياء فقد ثبت شيء منها، وإن وجد النفي في الخارج فقد ثبت أمر موجود في الخارج، ولا شك أن تلك المقدمات مستدركة لأنه ترديد بين وجود النفي وعدمه، فإن قالوا بعدمه يلزم وجود الأشياء، وإن قالوا بوجوده فهو المدعى، قال الفاضل الجلبي في تحرير هذا السؤال: يعني أن هذا الإيراد مشترك الورود بين قول ذلك المتوهم وبين قول الشارح؛ لأن الشارح أيضًا أخذ الوجود في الدليل الإلزامي، لأن ترديد هذا الإلزام في التحقيق، إذ محصل الترديد نفي الأشياء إما محقق أو غير محقق، وهو أي التحقق بمعنى الوجود، فيحتاج كلامه أيضًا إلى المقدمات المذكورة وإلا لم يثبت وجود شيء من الأشياء على هذا التقدير الثاني أي على تقدير تحقق النفي انتهى، أقول: فيه بحث لأنه إن أراد أنه يحتاج تصحيح شقي الترديد إلى هذه المقدمات بأن يكون ترديدًا في الأمور الممكنة الموجودة فإنه إذا لم يبين بتلك المقدمات وجود النفي يكون الشق الأخير محض احتمال فرضي على ما يشعر به قوله، فيحتاج كلامه أيضًا إلى المقدمات المذكورة، فنقول: كون الترديد بين الأمور الممكنة ليس بلازم إذ يجوز وقوعه في الأمور الممتنعة سد الطريق الخصم بحيث لا يمكن له التكلم بل مملوءة منه الكتب، وإن أراد أنه على تقدير فرض الشق الثاني لا يلزم تحقق شيء من الأشياء بدون تلك المقدمات على مايشعر به قوله، وإلا لم يثبت وجود شيء من الحقائق على تقدير الشق الثاني، فهو باطل بديهة لأنه إذا فرض وجود النفي فقد ثبت المدعى سواء كان محالًا أو ممكنًا.
قوله: (لأنا نقول ليس ههنا…إلخ) حاصله أن التحقق ههنا أي في الترديد ليس بمعناه الحقيقي؛ أعني: الوجود الخارجي إذ لو كان بمعناه لا يكون الشق الأول من الترديد؛ أعني: قوله: إن لم يتحقق نفي الأشياء فقد ثبت صحيحًا لأنه يكون المعنى إن لم يوجد النفي في الخارج يلزم وجود الأشياء في الخارج، ولاشك أن عدم وجود النفي في الخارج لا يستلزم أن يكون الأشياء موجودة في الخارج لجواز أن يكون النفي المتصف به جميع الأشياء ثابتًا في نفسه معدومًا في الخارج، فلا يلزم وجود الأشياء فيه إذ يجوز أن يكون تلك الأشياء متصفة بالنفي المعدوم كالممتنع المتصف بالامتناع المعدوم.
قوله: (عدم تمامه على اللاأدرية ظاهر) لأنهم لا يدعون الجزم بمقدمة من المقدمات حتى يتصور الإلزام معهم بخلاف الطائفتين الباقيتين، فإن العنادية يدعون الجزم بعدم الحقائق، والعندية يدعون الجزم بعدم ثبوتها في نفسه.
قوله: (ففيه تأمل) نقل عنه وجه التأمل أن حاصل قولهم بنفي تقرر الأشياء وثبوته هو أنه لا نسبة متحققة في نفس الأمر حتى تتقرر، فحينئذ يمكن أن يقال إن لم تتحقق نسبة النفي في نفسه فقد تحققت نسبة الثبوت، إذ الواقع لا يخلو عن إحدى النسبتين، نعم يرد عليه مثل ما أورد في إلزام العنادية من أن عدم ارتفاع النقيضين من جملة المخيلات عندهم. انتهى. يريد أن ليس مرادهم بهذا القول نفي التقرر في نفسه، إذ لا نزاع في كونه اعتباريًّا بل مرادهم نفي نسبة التقرر إلى الأشياء، فالمراد بقوله: “لا نسبة متحققة” إما نفي جنس نسبة التقرر إلى الأشياء أو نفي جنس مطلق النسبة لأنه إذا لم يثبت نسبة التقرر لم يثبت شيء من النسب، وبالجملة فحينئذ يمكن أن يقال: إن لم تتحقق نسبة النفي في نفسها يلزم أن تتحقق نسبة الثبوت في نفس الأمر، إذ الواقع لا يخلو عن إحدى النسبتين، فيلزم ثبوت الأشياء، وإن تحققت نسبة النفي فقد تحققت حقيقة من الحقائق في نفس الأمر، ففيه إثبات بعض ما نفيتم، ويرد عليه أن عدم خلو الواقع عن إحداهما تخيل تابع لاعتقادنا، وليس في نفس الأمر شيء منهما، هذا حاصل ما نقل عنه، فإن قلت: إن أراد بقوله: “الواقع لا يخلو عن إحدى النسبتين” أنه لا يخلو عن تحقق إحداهما كما يدل عليه السياق، فلا نسلم ذلك بل اللازم أن تكون ذات إحداهما باقية، ألا ترى أنه ليس شيء من نسبة ثبوت الامتناع وسلبه إلى شريك البارى مع تناقضهما متحققًا في نفس الأمر، أما الثانية فلكونها كاذبة، أما الأولى فلأنها لو كانت متحققة في نفس الأمر لوجب تحقق طرفيها، نعم إنه متصف بالامتناع فيه، لكن اتصاف شيء بشيء لا يستلزم ثبوت المثبت له فضلًا عن ثبوت النسبة كما تقرر في موضعه، وإن أراد أن الواقع لا يخلو عن ذات إحداهما بمعنى أن الأشياء إما متصفة بهذا أو بذلك، فنختار أنها نسبة السلب، فلا يلزم من اتصاف الأشياء بها تحققها وثبوتها حتى يكون فيه إثبات بعض ما نقيم لجواز أن يكون اعتباريًّا مع اتصاف الأشياء بها كما في لزوم اللزوم ووحدة الوحدة إلى غير ذلك مما يتكرر نوعه، قلت: قد مرّ أن ليس المراد بالتحقق الوجود بل المراد التقرر والتميز في نفس الأمر، فإذا كان النفي أمرًا في نفسه كان متميزًا عما هو فرض محض ولو في الذهن، ولا يكون تابعًا للاعتقاد والفرض المحض كما زعمه العندية، هذا ما عندي ولعل ما عند غيري أحسن من هذا.
قوله: (قال في شرح المقاصد) تأييد لقوله “ففيه تأمل” يعني أنه تام على العندية على ما قال في شرح المقاصد، وإشارة إلى أن بين كلاميه نوع تدافع.
قوله: (حيث اعترفوا بحقية إثبات الشيء ونفيه) وفي بعض النسخ بحقية إثبات الشيء أو نفيه، والترديد ناظر إلى قول كل منهما؛ أعني: إنكار الحقائق وادعاء كونها خيلات وإنكار ثبوتها وادعاء كونها تابعة للاعتقاد، وإنما أورد كلمة “أو” مع أنهم اعترفوا بهما؛ نظرًا إلى أن في إثبات التناقض يكفي أحدهما.
قوله: (هذا دليل اللاأدرية) وفيه إشارة إلى دليل العندية أيضًا حيث قال: فإن الصغراوي يجد السكر في فمه مرًّا.
قوله: (وحاصله أنه لا وثوق بالعيان…إلخ) أما أنه لاوثوق بالعيان أو بالبديهة فلتطرق التهمة إلى الحس وبديهة العقل، وأما أنه لا وثوق بالبيان أي بالدليل فلتفرعه على العيان، ففساده فساده.
قوله: (وغرضهم…إلخ) دفع لما يتوهم من أن في كلام اللاأدرية أيضًا تناقضًا، فإن تمسكهم بما ذكر يدل على أن غرضهم إثبات أمر أو نفيه لا الجزم بثبوت أمر أو انتفائه مع أنهم يدعون الشك في جميع الحقائق بل في الشك أيضًا، ووجه الدفع ظاهر.
قوله: (إطلاق الغلط منهم) بناء على زعم الناس وإلا فهم يشكون في وجود الحس وفي إفادته وفي غلطه…إلخ، بل في الشك أيضًا.
قوله: (قلت قد تستعار) كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱠ
قوله: (على أن القلة…إلخ) أي يجوز أن يكون الغلط قليلًا بالنسبة إلى الإحساس الواقع كثيرًا في نفسه ولا منافاة بين القلة الإضافية والكثرة في نفسه، فيكون المعنى والحس قد يغلط غلطًا قليلًا بالنسبة إلى عدم غلطه كثيرًا في نفسه قال بعض الفضلاء: هذا مبني على ما هو المشهور، والتحقيق أن قد الداخلة على المضارع تفيد القلة بحسب الزمان، ولا شك أن ثبوت القلة بحسب الزمان لا ينافي الكثرة الإضافية بحسب المادة تأمل.
قال الباجوري:
قوله: (لنا تحقيقا أنا نجزم…إلخ) “لنا”: خبر مقدم، و”إنا نجزم”: مبتدأ مؤخر، و”تحقيقا”: إما حال أو تمييز. والمعنى على الأول: جزمنا بالضرورة…إلخ، دليل لنا حال كونه تحقيقا؛ أي: محققا لما ادعيناه من ثبوت حقائق الأشياء، وإن العلم بها متحقق. وعلى الثاني: جزمنا بالضرورة…إلخ، دليل لنا من جهة التحقيق؛ أي: تحقيق ما ادعيناه مما ذكر؛ لأنه يعلم من ثبوت حقائق الأشياء، وأن العلم بها متحقق. فإن ثبوت حقائق الأشياء هو متعلق الجزم المذكور. والجزم هو العلم. وعلم من قوله: “تحقيقا” إن هذا الدليل دليل تحقيقي، والدليل التحقيقي: هو المحقق للمدَّعَى وإن لم يكن ملزما للخصم كما هنا، فإن هذا الدليل لا يلزم السوفسطائية، لأنهم يقولون إن ما جزمتم به وهم وخيال.
قوله: (بالضرورة) أي جزما ملتبسا بالضرورة، فإن قيل: قد جعل الشارح الجزم بالضرورة شاملا لما يثبت بالبيان أي بالبرهان، مع أن ما ثبت بالبرهان ليس بالضرورة؛ لأن الضرورة عدم النظر والاستدلال، فلا يظهر جعل الجزم بالضرورة شاملا لما ثبت بالبيان. أجيب: بأن المراد بالضرورة اليقين، لا عدم التوقف على النظر والاستدلال، والمعنى: جزما ملتبسا باليقين من ملابسة العام للخاص؛ لأن الجزم أعم من اليقين أو أن المراد بالبيان التنبيه لا البرهان والضروري قد ينبه عليه؛ لأنه قد يغفل عنه.
قوله: (بثبوت) متعلق بـ”نجزم” والباء فيه للتعدية.
وقوله: (بعض الأشياء) أي الذي هو الضروري منها.
وقوله: (بالعَيان) متعلق بـ”نجزم” والباء فيه للسببية والعيان بكسر العين، المعاينة وهي: المشاهدة بإحدى الحواس الخمس الظاهرة لا بخصوص البصر.
وقوله: (وبعضها) أي الذي هو النظري منها كحدوث العالم.
وقوله: (بالبيان) متعلق بـ”نجزم” والباء فيه للسببية، والبيان: إما البرهان أو التنبيه على ما تقدم.
قوله: (وإلزاما) عطف على “تحقيقا”، فهو إما حال أو تمييز والمعنى على الأول: الترديد الآتي دليل لنا حال كونه إلزاما، أي ملزما للسوفسطائية أن يقولوا بما قاله أهل الحق. وعلى الثاني: الترديد الآتي لنا من جهة الإلزام، أي إلزام السوفسطائية أن يقولوا بما قاله أهل الحق. وعلم من قوله “إلزاما” أن هذا الدليل دليل إلزامي والدليل الإلزامي: هو الملزم للخصم أن يقول بمدعَى المستدل، وإن لم يكن محققا للمدعَى؛ لكون إحدى مقدماته غير صحيحة، لكن الخصم يعترف بصحتها، وهذا الدليل محقق للمدعى أيضا، وإنما أتى بهذا الدليل الإلزامي مع أن الحق أنه لا طريق للمناظرة معهم كما سيجيء؛ لحفظ الطالب للحق من اتباع ما ذهبوا إليه من الباطل؛ لأنه إذا رأى أن لنا دليلا يلزمهم، رسخ في ذهنه اعتقاد بطلان ما ذهبوا إليه.
قوله: (أنه) أي الحال والشأن.
وقوله: (إن لما يتحقق نفي الأشياء فقد ثبتت) أي إن لم يثبت نفي الأشياء الذي ادعيتموه بقولكم: لا شيء من الحقائق ثابت، فقد ثبتت الأشياء أي جنسها؛ لما علمت فيما تقدم من أن المراد الجنس، فكأنه قال فقد ثبتت بعض الأشياء؛ ضرورة أنه إذا لم يثبت السلب الكلي تحقق الإيجاب الجزئي، وإلا لزم ارتفاع النقيضين مع أن عدم ارتفاع النقيضين واجب، فارتفاعهما محال.
وقوله: (وإن تحقق والنفي…إلخ) أي وإن ثبت نفيكم المذكور في نفس الأمر، والحال أن النفي حقيقة من الحقائق، فالجملة حالية.
وقوله: (لكونه نوعا من الحكم) أي لكون النفي قسما من الحكم، وهو حقيقة من الحقائق فيكون النفي كذلك؛ لأن ما كان قسما من شيء هو من أفراد شيء آخر، كان فردا من أفراد ذلك الشيء الآخر.
وقوله: (فقد ثبت شيء من الحقائق) أي الذي هو نفيكم المذكور.
وقوله: ( فلم يصح نفيها على الإطلاق) أي كما قلتم لمعارضته بثبوت شيء من الحقائق، وهو النفي الذي اعترفتم به، فالإيجاب الجزئي أبطل السلب الكلي، ويرد على الشق الأول من الترديد أن عدم ارتفاع النقيضين خيال عندهم، وحينئذ فلا يلزم من عدم تحقق نفي الأشياء ثبوتها، فلا يكون هذا الدليل ملزما لهم. فلا يصح قوله “وإلزاما…إلخ” فالصواب في الإلزام أن يقتصر على الشق الأخير من الترديد وهو قوله “وإن تحقق والنفي…إلخ” فيقال: إنكم جزمتم بنفي الحقائق على الإطلاق، موجودة كانت أو معدومة، حيث قلتم لا شيء من الحقائق بثابت وهذا النفي من جملة تلك الحقائق، وقد اعترفتم بأنه ثابت في نفس الأمر حيث تمسكتم في إثباته بالشبه فقد ثبت بعض ما نفيتم فينتقض نفيكم الذي ادعيتموه ولا يرد على هذا الشق مثل ما ورد على الشق الأول بأن يقال: النفي من المخيلات عندهم؛ لأنهم معترفون بإثباته حتى تمسكوا على إثباته بالشبه. وظاهر ما تقرر أن إنكارهم للحقائق شامل للموجودات وغيرها وعليه فإلزامهم بالنفي ظاهر. وقد يتوهم أن إنكارهم مقصور على الحقائق الموجودات، وحينئذ يكون إلزامهم بالنفي غير ظاهر؛ لأنه ليس من الحقائق الموجودات، فيوجه الإلزام بأن النفي حكم والحكم تصديق والتصديق قسم من العلم والعلم من الأعراض الموجودة في الخارج. ويرد على هذا التوجيه أنه لا وجود للعلم في الخارج عند الأكثر من المتكلمين، وإنما هو من النسب والإضافات، فكيف يمكن إلزامهم بأمر ينكر وجوده أكثر من يثبت الحقائق؟ ولو ثبت أنه موجود، فبأنظار دقيقة، فكيف ينبني الإلزام لمنكري أجلَى البديهيات على مثل الأمر الخفي؟ لا يقال لا حاجة في توجيه الإلزام على توهم أن يكون إنكارهم مقصورا على الموجودات في الخارج إلى التكلف السابق؛ لأن ترديد الإلزام إنما هو في التحقق وهو بمعنى الوجود، فيصير معنى الترديد حينئذ، إن لم يوجد في الخارج والنفي، حقيقة من الحقائق، فقد ثبت شيء من الحقائق وهو النفي؛ لأنا نقول ليس التحقق ههنا بمعنى الوجود في الخارج، بل بمعنى الثبوت في نفس الأمر؛ لأنه لو كان بمعنى الوجود في الخارج، لبطلت الملازمة في الشق الأول من ترديد الإلزام، وهو إن لم يتحقق نفي الأشياء فقد ثبتت؛ لأن معناه على ذلك إن لم يوجد نفي الأشياء في الخارج فقد ثبتت الأشياء أي وجدت، مع أن عدم وجود نفي الأشياء في الخارج لا يستلزم وجود الأشياء؛ لجواز أن يكون النفي ثابتا في نفسه معدوما في الخارج، فلا توجد الأشياء لثبوت نفيها في نفسه، وإن كان معدوما في الخارج.
قوله: (ولا يخفى أنه إنما يتم على العنادية) أي لأنهم نافون لثبوت الأشياء في نفس الأمر، باعتبار ذاتها وباعتبار الاعتقاد، وعدم تمامه على الَّلاأدرية ظاهر؛ لأنهم ينفون الأشياء كما لا يثبتونها، بل شاكون وشاكون في أنهم شاكون، فإذا وجهنا إليهم الإلزام المذكور يقولون: لا ندري هل تحقق النفي أو لا. وأما عدم تمامه على العندية ففيه تأمل؛ لأنهم يقولون بثبوتها في نفس الأمر بالنظر للاعتقاد، فحينئذ يتوجه إليهم الإلزام المذكور بالنسبة إلى نفيهم للأشياء في نفس الأمر بالنظر لذاتها، فيقال لهم: إن لم يتحقق نفي الأشياء في نفس الأمر بالنظر لذاتها، فقد ثبتت الأشياء في نفس الأمر بالنظر لذاتها وإن تحقق في نفس الأمر، والنفي حقيقة من الحقائق، فقد ثبت شيءمن الحقائق في نفس الأمر بالنظر لذاته، فلم يصح نفي ثبوتها في نفس الأمر بالنظر لذاتها على الإطلاق. وقد عرفت أنه يرد على الشق الأول ما تقدم، فالصواب في الإلزام الاقتصار على الشق الأخير.
قوله: (قالوا…إلخ) هذا قدح في الدليل الأول، وهو التحقيق المشار له بقوله “لنا تحقيقا…إلخ” والضمير للسوفسطائية، لكن المراد بهم فرقة منهم وهم اللا أدرية؛ لأن ما ذكر دليلهم؛ إذ لا يحصل منه إلا الشك، فإن حاصله أنه لا وثوق بالعيان الذي هو سبب في الضروريات، ولا بالبيان الذي هو سبب في النظريات، فتعين الشك، ويمكن أن يقال: إنه دليل العنادية والعندية أيضا على نفي الثبوت في نفس الأمر، لكن بضميمة أنّ ما لا دليل عليه ليس بثابت؛ لأن الأصل العدم. لا يقال إن الشك من قبيل التصور فيكف تقيم اللا أدرية عليه دليلا، مع أن الدليل لا يقال إلا علي التصديق؛ لأنا نقول غرضهم من هذا الدليل حصول الشك لا إثبات أمر أو نفيه. واعلم أنه اختلف في تصدير الكتب الكلامية بأمثال هذه الشبهات، فقال بعضهم: إنه تضليل لطلاب الحق، وقال العلامة العصام: ونحن نقول ذكر هذه الكلمات المزَيَّغَة بمنزلة الإيقاظ للطالب من نوم الغفلة والتنبيه له، على أنه لا يعتمد على ما يبدو للعقل، إلا بعد أن يتأمل حق التأمل. انتهي ببعض تصرف.
قوله: (الضروريات) أي الحقائق المدركة بالضرورة التي هي من جملة الحقائق، التي وقع فيها النزاع بين أهل الحق والسوفسطائية، والضروريات: جمع ضروري وهو ما لا يتوقف على نظر واستدلال، وإن توقف على حدس أو تخمين؛ كقولهم: نور القمر مستفاد من نور الشمس، أو على تجربة؛ كقولهم: السقمونيا مسهلة للصفراء، أو على حس؛ كقولهم: النار حارة. ومما يتنبه له أن قولهم الضروريات والبديهيات والنظريات والخلط والاختلافات والأحوال والصفراوي وغير ذلك، مبني على زعم أهل السنة، فقولهم “الضروريات” أي على زعمكم وكذا الباقي؛ لأنهم يدعون الشك في كل شيء حتى في الشك نفسه.
قوله: (منها حسيات) أي من الضروريات حقائق تدرك بالحس، بأن كانت تدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة.
قوله: (والحس قد يغلط كثيرا) أي وكلما كان كذلك، فلا وثوق بمعلومة، فحصل الشك، وقس على ذلك. و”يغلط” بفتح اللام كيعلم، وإسناد الغلط إلى الحس مجاز؛ إذ هو سبب في غلط صاحبه، كما يشير إليه التمثيل بالأحول والصفراوي. فإن قيل: “قد” الداخلة على المضارع للقلة، وحينئذ فالإتيان بـ”قد” ينافي قوله “كثيرا”، أجيب بأن “قد” الداخلة على المضارع قد تستعار للتحقيق فتستعمل فيه أيضا، كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱠ على أن التقليل بحسب الإضافة لا ينافي الكثرة في نفسه، فقلة الغلط بالنسبة للإصابة لا تنافي كثرته في ذاته. وقال بعض الفضلاء: التحقيق أن “قد” الداخلة على المضارع تفيد القلة بحسب الزمان، ولا شك أن ثبوت القلة بحسب الزمان لا ينافي الكثرة بحسب المادة. أ.ه.
قوله: (كالأحول) هذا مثال لمن غلط بسبب حس البصر، والمراد بالأحول: من يتكلف الحول بغمز جفنه؛ لأنه الذي يرى الواحد اثنين، وأما الأحول الخلقي فلا يرى الواحد اثنين؛ لاعتياده الوقوف على الصواب في الرؤية.
قوله: (يرى الواحد اثنين) أي بسبب انحراف في العصبتين أو غير ذلك، كانقسام الشعاع في رؤية من يتكلف الحول بغمز جفنه، فرأى القمر قمرين. وقوله: (اثنين) مفعول مطلق بتقدير مضاف، أي يرى الواحد رؤية اثنين، لا مفعول ثان ليرى؛ لأنها بصرية وهي لا تنصب إلا مفعولا واحدا.
قوله: (والصفراوي) هذا مثال لمن غلط بسبب حس الذوق، والصفراوي هو الذي ساء مزاجه فغلب عليه خِلْطُ الصفرا.
قوله: ( يجد الحلو مرا) أي بسبب تكيفه عند ملاقاته فمه بكيفية فمه، وقوله: “مرا” مفعول مطلق بتقدير مضاف، أي وجدان مُرة لا مفعول ثان ليجد؛ لأنه بمعنى يصيب وهو لا ينصب مفعولين إلا إذا كان بمعنى اليقين.
قوله: (ومنها بديهيات) أي: ومن الضروريات حقائق تدرك بالبداهة؛ أي: بمجرد التوجه إليها، والبديهيات جمع بديهي: وهو ما لا يتوقف على شيء أصلا، وقيل ما لا يتوقف على نظر واستدلال وإن توقف على حدس أو تجربة أو حس، فهو أخص من الضروري على الأول، ومرادف له على الثاني. ويؤخذ من قوله “منها… ومنها” أن الضروريات لا تنحصر في الحسيات والبديهيات وإنما اقتصر عليهما؛ لأنهما أظهر الأقسام.
قوله: (وقد يقع فيها اختلافات) أي: كأن يقال إمكان انقلاب الرصاص ذهبا ثابت في نفس الأمر، فيقال: ليس بثابت في نفس الأمر.
وقوله: (وتعرض شبه يفتقر في حلها إلى أنظار دقيقة) أي كأن يقول في المثال المتقدم: من قال بعدم الثبوت لو كان ثابتا، لكان إمكان انقلاب الواحد من نصفيته للاثنين إلى ربعيته لهما ثابتا، فيفتقر في حل تللك الشبهة إلى نظر دقيق بأن يقال: فرق بين انقلاب الرصاص ذهبا وانقلاب الواحد من النصفية إلى الربعية؛ لأن الأول ممتنع عادة فقط، وأما الثاني فهو ممتنع عقلا وعادة. و”الشبه”: جمع شبهة، وهي ما يظن دليلا وليس بدليل، وإن شئت قلت كلام مزخرف الظاهر فاسد الباطن و”حَلُّها” دفعها و”الأنظار” الأدلة و”الدقيقة” الخفية التي يختص بإدراكها الأذكياء، ومن الجائز أن لا يطلع عليها فلا ترتفع الشبه، وحينئذ يكون عروض الشبه مانعا من الجزم بثبوت البديهيات، فيحصل الشك كما تقول اللاأدرية.
قوله: (والنظريات) أي الحقائق المدركة بالنظر التي هي من جملة الحقائق التي وقع فيها النزاع بين أهل الحق والسوفسطائية، والنظريات: جمع نظري، وهو ما يتوقف على نظر واستدلال، وذلك كحدوث العالم.
وقوله: (فرع الضروريات) أي لأنها لا تستنتج إلا من الضروريات ابتداء أو انتهاء، فإذا كانت المقدمات نظرية فلابد أن تنتهي إلى مقدمات ضرورية.
وقوله: (ففسادها فسادها) أي: ففساد الضروريات سبب فسادها؛ أي: النظريات؛ لابتناء النظريات على الضروريات.
قوله: (ولهذا كثر فيها اختلاف العقلاء) أي ولأجل كون فساد الضروريات سبب فساد النظريات، كثر فيها اختلاف العقلاء، وبحث فيه بأن اختلاف العقلاء في النظريات لا يترتب على ذلك، فضلا عن كثرته. نعم الاختلاف في الضروري يوجب الاختلاف في النظري المبني عليه، وحيث كثر الاختلاف فيها لم يحصل جزم بحقيقتها، بل يحصل الشك كما تقول اللا أدرية.
قلنا
قال الشارح: قلنا: غَلَطُ الحِسِّ في البعض لأسباب جزئية لا ينافي الجزم بالبعض بانتفاء أسباب الغلط، والاختلاف في البديهي لعدم الألف أو لخفاء في التصور لا ينافي البداهة، وكثرة الاختلافات لفساد الأنظار لا ينافي حقيقة بعض النظريات. والحقُّ أنه لا طريق للمناظرة معهم، خصوصاً اللاأدرية، لأنهم لا يعترفون بمعلومٍ ليثبت به مجهول، بل الطَّريقُ تعذيبهم بالنار، ليعترفوا أو يحترقوا. و”سوفسطا” اسم للحكمة المموهة والعلم المزخرف، لأن “سوفا” معناه العلم والحكمة، و”اسطا” معناه المزخرف والغلط، ومنه اشتقت السفسطة، كما اشتقت الفلسفة من “فيلاسوفا”، أي: محب الحكمة.
قال الخيالي:
قوله: (بانتفاء أسباب الغلط) إن قلت لعل هناك سببا عاما لغلط عام فمن أين يجزم بانتفاء مطلق أسباب الغلط، قلت: بداهة العقل جازمة به في مثل إدراك حلاوة العسل، والكلام على التحقيق لا الإلزام.
قال السيالكوتي:
قوله: (إن قلت لعل…إلخ) إثبات للمقدمة الممنوعة بقوله: “غلط الحس…إلخ” فإن اللاأدرية لما تمسكوا بأن الحس قد يغلط في بعض المواد ومتى كان كذلك يجوز أن يغلط في جميعها، فالحس يجوز أن يغلط في جميعها فلا يكون مفيدًا للعلم، ومنع الشارح العلامة كبرى القياس بأنا لا نسلم أنه إذا كان غالطًا في بعض المواد يلزم جواز غلطه في جميعها، فإن الغلط في البعض إنما هو لأسباب جزئية، وهو لا ينافي الجزم في بعض آخر بسبب انتفاء جميع الأسباب الموجبة له، عاد المستدل. وقال: إن قولنا متى كان الغلط في بعض المواد ثابتًا يجوز أن يغلط في جميع المواد لجواز أن يكون للغلط العام سبب عام متحقق في جميع المواد، والجزم بانتفاء مطلق سبب الغلط متعذر، فلا يختص الجزم ببعض المواد وهو المطلوب، وبما حررنا لك ظهر أن جواز وجود السبب العام كاف في إثبات المقدمة الممنوعة، وأن قوله: “فمن أين نجزم” مقدمة لها مدخل في إثبات المقدمة الممنوعة لا أنه رد على الشارح، فما قاله الفاضل الجلبي من أن قول الشارح: “قلنا غلط الحس…إلخ” في قوة المناقضة، فلا وجه لقول المحشي: “إن قلت لعل…إلخ”. أما أولًا: فلأنه أورد كلامه بلعل المفيد للتجويز والاحتمال دون الجزم واليقين، فلا يتم به إثبات المقدمة الممنوعة، وأما ثانيًا: فلأن الشارح لم يدّع الجزم بانتفاء مطلق أسباب الغلط حتى يتوجه عليه قوله: فمن أين تجزم بانتفاء مطلق أسباب الغلط ليس بشيء.
قوله: (قلت…إلخ) حاصله منع للمقدمة القائلة بأنه يجوز أن يكون سبب عام للغلط العام بأنا لا نسلم ذلك، فإن بديهة العقل جازمة في انتفائه في بعض المواد كما في مثل إدراك حلاوة العسل جزمًا عاديًا لا يتطرق إليه شائبة وهم الغلط، وإمكان تحققه في نفسه لا ينافي الجزم العادي المذكور كما في العلوم العادية، فإنا نجزم أن جبل أحد لم ينقلب ذهبًا جزمًا يقينيًّا مع إمكانية الانقلاب إليه في نفسه، وقد يقال: لا حاجة لنا إلى الجزم بذلك بل الواجب انتفاؤه في نفس الأمر، ومصداقه أن حصول الجزم بالمحسوس من بداهة العقل، وفيه بحث؛ لأن مشاهدة الحس لمّا صار متهمًا بالغلط لا يكفي في حصول العلم عدم غلطه في نفس الأمر، بل لا بد من العلم بكونه صحيحًا غير غالط.
قال الباجوري:
قوله: (قلنا…إلخ) أي: قلنا ذلك في رد شبههم التي قدحوا بها في دليلنا.
فقوله: (غلط الحس في البعض…إلخ) رد لشبهة القدح في الحسيات.
وقوله: (والاختلاف في البديهي…إلخ) رد لشبهة القدح في البديهيات.
وقوله: (وكثرة الاختلافات…إلخ) رد لشبهة القدح في النظريات ولم يتتعرض لقوله “تعرض شبه يفتقر حلها إلى أنظار دقيقة” وحاصله: أن عروض الشبه التي يفتقر في حلها إلى أنظار دقيقة لا يقدح في الجزم بثبوت البديهيات في نفس الأمر، فإن العقل يجزم بها بالبداهة لا بالنظر، حتى يقدح عروض الشبه المذكورة في جزمه بذلك، فإذا عرضت له لا يلتفت إليها؛ لجزمه ببطلانها إجمالا بسبب كونها مصادمة للضرورة، ولو تصدى بحلها الذي يفتقر فيه إلى أنظار دقيقة لم يكن لتحصيل الجزم بها، بل دفعا لما يقع في ذهن القاصرين من تلك الشبه.
قوله: (غلط الحس…إلخ) حاصل هذا الرد منع كبرى قياس مشار إليه بقوله فيما تقدم: “والحس قد يغلط…إلخ” ونظمه هكذا: الحس قد يغلط في بعض الأفراد، ومتى غلط في البعض جاز أن يغلط في الكل، وتقرير المنع أن يقال: لا نسلم أن الحس إذا غلط في البعض جاز أن يغلط في الكل، فإن الغلط في البعض إنما هو لأسباب جزئية موجودة في ذلك البعض، وهو لا ينافي الجزم في البعض الآخر؛ بسبب انتفاء أسباب الغلط.
قوله: (في البعض) أي بعض الأفراد كالأحول والصفراوي، وكراكب السفينة، فإنه يتحرك شعاع بصره على الشط فيراه سائرا.
وقوله: (لأسباب جزئية) أي كالحول وخلط الصفراء وتحرك شعاع بصر راكب السفينة على الشط.
قوله: (لا ينافي الجزم بالبعض) أي لا ينافي الجزم بثبوت الحقائق الحسية، كحلاوة العسل في البعض الآخر من الأفراد، فالباء بمعنى “في” وإن كان قد يتوهم أنها على بابها، وتكون صلة للجزم.
قوله: (بانتفاء أسباب الغلط) فإن قيل: لعل هناك سببا عاما لغلط عام لجميع الأفراد، فمن أين يجزم بانتفاء مطلق أسباب الغلط، حتى يقال إن غلط الحس في البعض لأسباب جزئية لا ينافي الجزم في البعض الآخر بانتفاء أسباب الغلط؟ أجيب: بأنا لا نسلم أن يكون هناك سبب عام لغلط عام لجميع الأفراد؛ لأن العقل جازم بانتفائه في بعض المواد، كما في مثل حلاوة العسل جزما عاديا، لا يتطرق إليه شائبة وهم الغلط، وإمكان تحققه في نفسه، وإن لم يعلم لجميع الأفراد لا ينافي الجزم العادي. فإنا نجزم أن جبل أحد لم ينقلب ذهبا جزما عاديا، مع إمكان الانقلاب في نفسه، على أن الكلام على سبيل التحقيق لمدعانا، لا الإلزام للسوفسطائية، وحينئذ فلا يقدح عدم تسليم السوفسطائية انتفاء جميع أسباب الغلط.
قوله: (والاختلاف في البديهي…إلخ) حاصل هذا الرد: منع كبرى قياس مشار إليه بقوله فيما تقدم: “وقد يقع فيها اختلافات” ونظمه هكذا: البديهيات قد يقع فيها اختلافات، وكلما كان كذلك فلا جزم بثبوته. وتقرير المنع أن يقال: لا نسلم أن الاختلافات في البديهيات تنافي البداهة التي هي سبب في الجزم بثبوتها؛ لأن الاختلافات لعدم الإلف، أي لكونها غير مألوفة أو لخفاء في التصور، إما لقصور الذهن وإما لعدم استحضارها وإما لغير ذلك.
قوله: (لعدم الإلف) أي كما في إمكان انقلاب الرصاص، فإن ذلك غير مألوف.
وقوله: (أو لخفاء في التصور) أي كما في كون الواحد عشر عشر المائة.
قوله: (لا ينافي البداهة) أي التي هي سبب في الجزم بثبوتها الذي هو المطلوب، فلو قال لا ينافي الجزم بثبوتها لكان أولى؛ لأن النزاع فيه بين السوفسطائية وأهل الحق.
قوله: (وكثرة الاختلافات…إلخ) حاصل هذا الرد منع كبرى قياس مشار إليه بقوله قيما تقدم “ولهذا كثر فيها اختلاف العقلاء” ونظمه هكذا: النظريات كثر فيها اختلاف العقلاء، وكلما كان كذلك، فلا جزم بثبوته. وتقرير المنع أن يقال: لا نسلم أن كثرة الاختلافات في النظريات تنافي الجزم بثبوتها؛ لأن كثرة الاختلافات لفساد الأنظار، لا تنافي أن بعض النظريات حق.
قوله: (لفساد الأنظار) أي الأدلة كما لو قيل العالم ليس بمتغير، وكل ما كان كذلك لا صانع له.
وقوله: (لا تنافي حقية بعض النظريات) أي لا تنافي كون بعض النظريات، ككون العالم له صانع، حقا أي ثابتا في نفس الأمر.
قوله: (والحق أنه لا طريق إلى المناظرة معهم) أي السوفسطائية بجميع فرقهم الثلاث بدليل قوله: “خصوصا اللاأدرية” و”المناظرة” مقابلة الحجة بالحجة بقصد إظهار الحق، وتقدم أنه لا منافاة بين هذا وما تقدم من إلزامهم، فلا تغفل.
قوله: (خصوصا اللاأدرية) أي: أخص اللاأدرية من بين السوفسطائية خصوصا؛ لأنهم يشكون في كل شيء حتى يشكون في أنهم شاكون، وهكذا.
قوله: (لأنهم لا يعترفون…إلخ) أي مع أن المناظرة لابد فيها من اتفاق الخصمين على معلوم ليثبت به مجهول؛ إذ المناظرة لا تكون إلا لإثبات مجهول بمعلوم، وهذا تعليل لقوله “والحق أنه لا طريق إلى المناظرة معهم” فالضمير في قوله “لأنهم…إلخ” للسوفسطائية مطلقا، خلافا لمن جعل التعليل لقوله “خصوصا اللاأدرية” وجعل الضمير للاأدرية فقط.
قوله: (بل الطريق في إفحاهم) وهذا ضرب انتقالي عن قوله: “والحق أنه لا طريق إلى المناظرة معهم”
وقوله: (تعذيبهم بالنار) أي وإن كان حراما، لخبر “إذا قتلتم فأحسنوا القتلة” فلا يلزم من ذلك جوازه حتى يقال تعذيبهم بالنار غير جائز. قوله: (ليعترفوا) أي بثبوت حقائق الأشياء وتحقق العلم بها؛ لإدراكهم حرارة النار.
وقوله: (أو يحترقوا) أي إن استمروا على الإنكار؛ إذ باستمرارهم على الإنكار يستمر تعذيبهم حتى يحترقوا، فإذا احترقوا ارتاح أهل الحق من منازعتهم.
قوله: (وسوفسطا) أي المنسوب إليه السوفسطائية.
وقوله: (اسم…إلخ) أي اسم مركب من سُوفَا وأُسْطَا، كما يؤخذ من كلام الشارح حذفت عند التركيب همزة اسطا للتخفيف، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، وهو لفظ يوناني.
قوله: ( للحكمة المموهة) الحكمة والعلم بمعنى، والمموه والمزخرف بمعنى.
فقوله: (والعلم المزخرف) من قبيل عطف التفسير ومعنى المموه والمزخرف: المزين الظاهر الفاسد الباطن.
قوله: (لأن سوفا…إلخ) تعليل لقوله: “اسم للحكمة…إلخ”.
قوله: (معناه الحكمة والعلم) العطف فيه للتفسير كما علمت.
وقوله: (معناه المزخرف) أي المزين الظاهر.
وقوله: (والغلط) أي الفاسد الباطن، ولو قال “والمموه” بدل قوله “والغلط” لكان أوفق بما قبله.
قوله: (ومنه اشتقت السفسطة) أي ومن سوفسطا أخذت السفسطة التي هي المغالطة والتلبيس، كأن يقال الحجر ميت، وكل ميت جماد، ومنها المغالطة الخارجية: وهي أن يغالط أحد الخصمين الآخر بكلام ليغيظه به وهي حرام، ما لم تدعو ضرورة إليها في دفع نحو كافر. ومن ذلك ما وقع للقاضي للباقلاني أنه أقبل على مجلس المناظرة وفين ابن المعَلَّم رئيس الروافض، فالتفت إلى أصحابه وقال: قد جاءكم الشيطان فسمع القاضي ذلك من بُعْدِ، فلما جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه، وقال لهم قال الله تعالى :ﱡﭐ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱠ وقد وقع له غير ذلك حتى تعجب الناس لفطنته.
قوله: (كما اشتقت الفلسفة) أي كما أخذت الفلسفة التي هي العلوم الحكمية.
وقوله: (من فيلاسوفا) أي من هذا المركب من “فَيْلَا” ومعناه المحب و”سوفا” ومعناه الحكمة والعلم كما تقدم قريبا وهو اسم يوناني.
قوله: (أي محب الحكمة) كناية عن عالم الحكمة؛ لأن من علم شيئا أحبه فإن المرء لايزال محبا لما علمه وعدوا لما جهله، فيكون بمعنى الحكيم.