والعالمُ بجميعِ أجزائِهِ
قال الشارح: (والعَالَم) أي: ما سوى الله تعالى من الموجودات مما يعلم به الصانع، يقال: عالم الأجسام وعالم الأعراض وعالم النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك، فيخرج صفات الله تعالى، لأنها ليست غير الذات كما أنها ليست عينها. (بجميعِ أجْزَائِهِ) من السموات وما فيها والأرض وما عليها.
قال الخيالي:
قوله: (مما يعلم به الصانع) إشارة إلى وجه التسمية، وليس من التعريف كما هو المشهور وإلا يلزم الاستدراك.
قوله: (يقال: عالم الأجسام…إلخ) إشارة إلى أن المراد ما سوى الله تعالى من الأجناس، فزيد ليس بعالم بل من العالم، وإلى أن العالم اسم للقدر المشترك بينها فيطلق على كل منها وعلى كلها، لا أنه اسم للكل وإلا لما صح جمعه.
قال السيالكوتي:
قوله: (إشارة إلى وجه التسمية) أي: إنما ذكر هذا القيد في التعريف إشارة إلى وجه التسمية والمناسبة، فإن العالم مشتق من العلم؛ بمعنى: العلامة غلب فيما يعلم به كالخاتم لما يختم به، ثم سمي به ما سوى الله تعالى من الموجودات؛ لأنه مما يعلم به الصانع.
قوله: (وليس من التعريف) أي: ليس جزءًا من التعريف حقيقة عند الشارح، وإلا يلزم الاستدراك؛ لأنه حمل الغير على المعنى المصطلح فخرج الصفات، وصار التعريف جامعًا ومانعًا بدونه، والمشهورأنه جزء منه بناء على حمل الغيرية على المعنى اللغوي وإخراج الصفات به؛ إذ لا يعلم بها الصانع، وظني أن المشهور أولى؛ لأن حمل الغير على المصطلح بعيد عن الفهم، وعلى تقدير التسليم يلزم استدراك قوله: “من الموجودات” لأن الغير المصطلح لا يطلق عندهم إلا على الموجود.
قوله: (يقال: عالم الأجسام إشارة إلى أن المراد…إلخ) يعني: لما كان تعريف العالم بما ذكر موهمًا بخلاف المقصود من وجهين: الأول: جواز إطلاق العالم على الجزئيات فإنها موجودة بالذات. والثاني: اختصاص إطلاقه على المجموع حيث أورد صيغة الجمع، وقال: من الموجودات بيانًا للموصول أزاله بقوله: “يقال عالم الأجسام… إلخ” فإن في إتيان الأمثلة من الأجناس إشارة إلى عدم جواز إطلاقه على الجزئيات، فحينئذ معنى قوله: من الموجودات من أجناس الموجودات، وفي إطلاق العالم على كل واحد من الأجناس إشارة إلى أنه اسم موضوع للقدر المشترك بينها؛ أي: بين جميع الأجناس؛ أعني: كونه ما سوى الله تعالى، فإن القول بتعدد الوضع بحسب كل جنس كلفظ العين قول بلا دليل، وكذا جعل الوضع عامًا والموضوع له خاصًا، فإنه مخصوص بمواضع عديدة، وإذا كان موضوعًا لمعنى واحد مشترك بين جميع الأجناس يجوز إطلاق العالم على كل واحد من الأجناس، وعلى كلها إطلاق الكلي على جزئياته كإطلاق الإنسان على كل واحد من زيد وعمرو وبكر وعلى كلها.
قوله: (لأنه اسم للكل…إلخ) عطف على قوله: اسم للقدر المشترك؛ أي: فيه إشارة لي أنه ليس اسمًا للمجموع، وإلا لما صح جمعه كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱈ ﱉ ﱠ والقول بالاشتراك بين الكل، وكل واحد خلاف الأصل لا يصار إليه بلاضرورة داعية إليه. قال الشارح في “شرح الكشاف “: وهو اسم لكل جنس وليس اسمًا للمجموع، بحيث لا يكون له أفراد بل أجزاء فيمتنع جمعه. انتهى كلامه. فإن قيل: عبارة المصنف صريحة في أن العالم اسم للمجموع حيث قال: بجميع أجزائه حادث دون جزئياته، ففي تفسير كلام المصنف بما ذكر نوع حزازة. قلنا: لانسلم ذلك، فإن قوله: العالم بجميع أجزائه حادث قضية كلية معناه كل جنس يصدق عليه مفهوم اسم العالم بجميع أجزائه حادث، ففيه إشارة إلى أن كل جنس من الأجناس حادث مع حدوث الأجزاء التي يتركب منها في الخارج ومعنى تركبه منها في الخارج، تركب جميع جزئياته منها كما يقال: جنس البيت مركب من الجدران والسقف فهو أبلغ في الرد على الفلاسفة هذا، وللفضلاء في توجيه عبارة المتن وجوه تركناها مخافة الإطناب، وماذكرته فيه أقرب إلى الفهم والصواب.
قال الباجوري:
قوله: (والعالم…إلخ) هذا أول المقصود، وما تقدم من إثبات الحقائق ومباحث العلم فهو من المبادئ، وإن عدها المتأخرون من الفن. ولما كان المقصود الأعظم من هذا العلم معرفة وجود الباري، وكان العالم دليلا عليه دلالة الأثر على المؤثر، وكانت الدلالة تتوقف على حدوثه شرع في بيانه، ومن هذا يظهر لك أن حدوث العالم أصل لمعرفة الله بل لجميع العلوم الإسلامية؛ لأنه لو كان قديما لزم نفي ما جاءت به الشرائع من فناء العالم، ويلزم تكذيب الرسل، وذلك من أقبح الكفر.
قوله: (ما سوى الله) المراد بكلمة “ما” شيء ما والمراد بلفظة “سوى” غير والمراد بـ”الغير” المفسر به السوى المعنى الاصطلاحي: وهو المنفك، فتخرج به صفات الله؛ لأنها ليست غيرا بالمعنى الاصطلاحي، كما سيذكره الشارح على ظاهر قوله “فيخرج صفات الله تعالى…إلخ”، وعليه درج العلامة الخيالي كما سيأتي. وقال عبد الحكيم: حمل “الغير” على المعنى الاصطلاحي بعيد؛ لأنه خلاف المتبادر ويلزم عليه استدراك قوله “من الموجودات”؛ لأن الغير المصطلح عليه لا يطلق عنده إلا على الموجود.أ.ه. وقرر الشيخ العدوي خلافه حيث قال: إنه يصدق بالمعدومات والاعتباريات والأحوال على القول بثبوتها، كما يصدق بالموجودات، وحينئذ فلا يلزم على إرادة المعنى الاصطلاحي من “الغير” استدراك قوله “من الموجودات” كما قاله عبد الحكيم؛ لأنه يخرج به المعدومات والاعتباريات دون الأحوال على القول بها؛ لأنها من العالم على القول بها، فيحتاج لزيادتها في التعريف على ذلك القول، بأن يقال: “من الموجودات والأحوال” وقد يقال: إن الأحوال، وإن كانت من العالم على القول بها، إلا أن المراد بالعالم هنا خصوص الموجودات؛ ليصح الإخبار عنه بأنه محدث، أي: مخرج من العدم إلى الوجود، والأحوال على القول بها ليست موجودة.
قوله: (من الموجودات) أي: من أجناسها وأنواعها وأصنافها وجملتها دون أفرادها، فالعالم اسم للقدر المشترك بين الأجناس والأنواع والأصناف والجملة دون الأفراد، كما يشير إليه قوله “يقال عالم الأجسام…إلخ” والقول بتعدد الوضع لكل جنس ولكل نوع ولكل صنف وللجملة قول بلا دليل؛ لأن الأصل عدم تعدد الوضع.
قوله: (مما يعلم به الصانع) إنما ذكر ذلك؛ إشارة إلى وجه التسمية بالعالم، وهو أنه يعلم به الصانع، فالعالم اسم لما يعلم به كالخاتم لما يختم به، وليس جزءا من التعريف، كما هو المشهور، وإلا يلزم الاستدراك؛ لأن الشارح حمل “الغير” على المعنى الاصطلاحي، فخرج الصفات به، وصار التعريف جامعا مانعا بدون قوله “مما يعلم به الصانع” فيكون مستدركا لو كان جزءا من التعريف، والمشهور أنه جزء منه ولا يلزم عليه الاستدراك؛ لأن غير الشارح حمل الغير على المعنى اللغوي، فلم تخرج به الصفات، وإنما خرجت بقوله “مما يعلم به الصانع” وتقدم أن عبد الحكيم قال: حمل “الغير” على المعنى الاصطلاحي بعيد؛ لأنه خلاف المتبادر ويلزم عليه استدراك.
قوله: (يقال عالم الأجسام…إلخ) أتي بذلك إشارة إلى أن المراد ما سوى الله من الأجناس، لا من الأفراد فزيد ليس بعالم بل من العالم، فما يوهمه قوله “أي ما سوى الله” من جواز إطلاق العالم على الجزئيات، فإنها الموجودة بالذات ليس مرادا، أو إشارة إلى أن العالم اسم للقدر المشترك بين الأجناس وجملتها فيطلق على كل منها وعلى كلها إطلاق الكلي على جزئياته: كإطلاق الإنسان على زيد وعمرو وبكر وعلي كلها وليس اسما للمجموع فقط، بحيث لا يكون له أفراد بل أجزاء، وإلا لما صح جمعه كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱈ ﱉ ﱠ والقول بالاشتراك بين الكل وكل واحد خلاف الأصل، لا يصار إليه بلا ضرورة، فما يوهمه قوله: ” أي: ما سوى الله من الموجودات” من اختصاص إطلاقه على المجموع ليس مرادا، فإن قيل: عبارة المصنف صريحة في أن العالم اسم للمجموع حيث قال: بجميع أجزائه دون جزئياته. أجيب بأنا لا نسلم ذلك؛ لأن قوله “العالم بجميع أجزائه محدث” معناه” كل جنس يطلق عليه عالم بجميع أجزائه محدث، أي: كل جنس من الأجناس محدث بجميع أجزاء جميع جزئياته، وهو أبلغ في الرد على الفلاسفة. قال العلامة عبد الحكيم: وللفضلاء في توجيه عبارة المتن وجوه تركناها؛ مخافة الإطناب، وما ذكرته فيه أقرب إلى الصواب.
قوله: (إلى غير ذلك) أي: وانته إلى غير ذلك من أجناس الموجودات وأنواعها وأصنافها كأن يقال: عالم الإنسان وعالم الأرواح.
قوله: (فتخرج صفات الله تعالى) أي: بالغير المفسر به السوى؛ بناء على أن المراد به المعنى الاصطلاحي كما هو المتبادر من كلام الشارح أو بقوله “مما يعلم به الصانع”؛ لأنها لا يعلم بها الصانع بناء على أن المراد بالغير المذكور المعنى اللغوي، لكن تعليل الشارح بقوله “لأنها ليست غير الذات” قد يعين أن مراده الأول، وتأويله بأن المراد: لأنها ليست غير الذات يعلم به الصانع ليناسب الثاني، بعيد تأباه عبارة الشارح.
قوله: (لأنها ليست غير الذات) أي: غيرا منفكا، فالمراد بالغير هنا المعنى الاصطلاحي: وهو المنفك، فلا ينافي أنها غير الذات بالمعنى اللغوي: وهو المغاير في المعنى.
وقوله: (كما أنها ليست عينها) أي: بحيث تكون متحدة مع الذات في المعنى، بل هي غيرها فيه، لكنها لا تنفك عنها كما علمت. وبما تقرر اندفع ما قد يقال أن في كلامه تناقضا؛ لأن قوله: “ليست غير الذات” يقتضي أنها عينها وقوله: “ليست عينها” يقتضي أنها غيرها.
قوله: (بجميع أجزائه) أتى به لدفع توهم إرادة المجموع، ولا يلزم من الحكم على المجموع بشيء، الحكم على جميع أجزائه بذلك الشيء، ففيه التصريح بالرد على الفلاسفة.
قوله: (من السماوات) أي: بالمعنى الشامل للعرش والكرسي.
وقوله: (وما فيها) أي: من الملائكة والكواكب وغيرها مما لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقوله: (الأرض) أي: ولو حكما كالمعادن والكنوز؛ فلذا لم يحتج إلى أن يقول “وما فيها”.
وقوله: (وما عليها) أي: من الحيوان والنبات وغيرهما.
مُحدَثٌ.
قال الشارح: (مُحْدَثٌ) أي: مخرج من العدم إلى الوجود، بمعنى أنه كان معدوماً فوجد، خلافاً للفلاسفة حيث ذهبوا إلى قدم السموات بموادها وصورها وأشكالها، وقدم العناصر بموادها وصورها، لكن بالنوع، بمعنى أنها لم تخل عن صورة قط. نعم أطلقوا القول بحدوث ما سوى الله تعالى، لكن بمعنى الاحتياج إلى الغير، لا بمعنى سبق العدم عليه.
قال الخيالي:
قوله: (لكن بالنوع) المشهور أن الصور النوعية العنصرية قديمة بالجنس حتى جوزوا حدوث نوع النار مثلا، لكنه يشكل ببقاء صور الاسطقسات الأربعة في أمزجة المواليد القديمة بالنوع، فكأن الشارح مال إلى هذا أو أراد النوع الإضافي.
قال السيالكوتي:
قوله: (والمشهور أن الصورة النوعية…إلخ) المقصود من هذا دفع مايتجه من أنه كان على الشارح أن يقول: وصورها لكن بالنوع والجنس، فإن الفلاسفة قالوا: إن الصورة الجسمية للعناصر قديمة بنوعها؛ بمعنى أن الصورة الجسمية طبيعة نوعية لاتتعدد إلا بأمور خارجة عنها، من كونها فلكية أو عنصرية نارية أو هوائية غير قديمة بحسب توارد أفرادها الشخصية فيجوز خلو العناصر عن أفرادها الشخصية، لا عن طبيعتها النوعية، وأن الصورة النوعية قديمة بجنسها؛ بمعنى أن الصورة النوعية طبيعة جنسية متحققة في ضمن العناصر أنواعها المقتضية للآثار المختلفة، غير قديمة بحسب توارد تلك الأنواع عليها، فيجوز خلوها عن أنواعها بطريق الكون والفساد بأن يخلع الهواء صورته النوعية ويلبس الصورة النارية وبالعكس، حتى جوزوا أن يكون نوع النار حادثًا بسبب الحركات الفلكية عن نوع الهواء، ولا يجوز خلوها عن طبيعتها الجنسية. وحاصل الدفع أن المشهور وإن كان الصورة النوعية قديمة بالجنس لكنه يشكل عليه بقاء صور الإسطقسات، أي: العناصر الأربعة، فإنها باعتبار تركب الجسم منها تسمى: إسطقسات وباعتبار تحليله إليها عناصر في أمزجة المواليد الثلاثة؛ أعني: المعادن والنباتات والحيوانات القديمة بالنوع، فإنهم صرحوا بأن صور العناصر باقية على حالها في أمزجة المواليد، ولذا يتصل كل واحد منها بعد الافتراق بمركزها، وهي قديمة بالنوع عندهم بحسب توارد أفرادها الشخصية من العدم إلى الوجود كالحركة، فيلزم قدم الصور النوعية المختصة بكل عنصر بالنوع بحسب توارد أفرادها، وإلا لم تكن لمواليد قديمة بالنوع، فلا معنى لكون الصورة النوعية قديمة بالجنس، وتجويز حدوث نوع النار. نعم إنه يجوز الانقلاب بحسب السكون والفساد في الأفراد الشخصية من كل نوع، فكان الشارح ترك ذكر الجنس، وقال: أن الصورة مطلقًا قديمة بالنوع ميلًا إلى هذا التحقيق المفهوم من الأشكال، أو أراد بالنوع النوع الإضافي؛ أعني: المندرج تحت الآخر، فيصدق على الصور النوعية، ويكون موافقًا للمشهور.
قال الباجوري:
قوله: (محدث) اسم مفعول من الإحداث: وهو الإخراج من العدم إلى الوجود؛ ولذا فسره بقوله “أي مخرج من العدم إلى الوجود”. ولما لم يكن العدم ظرفا له، وأخرج منه إلى الوجود كما يشعر به قوله “فخرج من العدم إلى الوجود”، أشار إلى أن معنى كونه مخرجا من العدم إلى الوجود: أنه كان معدوما ثم وجد، حيث قال: “بمعنى أنه كان…إلخ” أي: لا بمعنى أنه كان كامنا في العدم ثم أخرج منه إلى الوجود، كما تزعمه الفلاسفة فإنهم يقولون إنه كان مستورا بالعدم كالثياب في الصندوق ثم أخرج منه إلى الوجود؛ وبذلك تعلم أن قوله “أي مخرج من العدم إلى الوجود” لا يغني عن قوله “بمعنى أنه كان…إلخ” كما قد يتوهم.
قوله: (خلافا للفلاسفة) أي: لطائفة منهم: وهم أرسططاليس ومن تبعه. وقد قال بمذهب الفلاسفة أبو نصر الفارابي والشيخ أبو علي بن سينا، ومن ثمّ صرح الغزالي وغيره بكفرهما.
قوله: (حيث ذهبوا إلى قدم السماوات…إلخ) أي: قدما زمانيا بمعنى عدم المسبوقية بالعدم، لا قدما ذاتيا بمعنى عدم الاحتياج في الوجود إلى الغير، فلا ينافي أنهما يطلقون القول بحدوث ما سوى الله تعالى حدوثا ذاتيا بمعنى الاحتياج في الوجود إلى الغير، لا حدوثا زمانيا بمعنى سبق العدم على الوجود كما سيشير إليه الشارح بقوله “نعم أطلقوا القول…إلخ”. والحاصل: أن القدم إما ذاتي وإما زماني وكذلك الحدوث، فالقدم الذاتي يقابله الحدوث الذاتي، والقدم الزماني يقابله الحدوث الزماني. واعلم أنه يلزم من ثبوت القدم الذاتي ثبوت القدم الزماني دون العكس؛ لأنهم يقولون بقدم السماوات والعناصر قدما زمانيا مع قولهم بحدوثها حدوثا ذاتيا، ويلزم من ثبوت الحدوث الزماني ثبوت الحدوث الذاتي دون العكس؛ لأنهم يقولون بحدوث السماوات والعناصر حدوثا ذاتيا، مع قولهم بقدمها قدما زمانيا، وعلم من ذلك أن القدم الزماني لا ينافي عندهم الحدوث الذاتي.
قوله: (بموادها) أي: بأجزائها المادية التي هي هيولى لها.
وقوله: (وصورها) أي: صورها الجسمية: وهي ما يتحقق به كونها جسما، وصورها النوعية: وهي ما يتحقق به كونها نوعا من مطلق الجسم، وهو كونها فلكا لا غيره من بقية الأنواع. فالصور قسمان: صور جسمية وصور نوعية، والفرق بينهما أن الصورة الجسمية: هي الجوهر القابل للأبعاد من الطول والعرض والعمق، والصورة النوعية: هي الصورة التي بها يصير النوع نوعا كالإنسانية للإنسان مثلا: الشمعة لها مادة: وهو أجزاؤها المادية التي هي هيولى لها، وصورة جسمية: وهي ما يتحقق به كونها جسما من الجوهر القابل للأبعاد، وصورة نوعية: وهي ما يتحقق بها كونها نوعا من مطلق الجسم وهو كونها شمعا لا غيره من بقية الأنواع. واعلم أن المادة والصورة من أقسام الجوهر، فإن الحكماء قسموا مطلق الجوهر إلى خمسة أقسام: هيولى وصورة وجسم ونفس وعقل؛ لأن الجوهر إما محل: وهو الهيولى، وإما حال: وهو الصورة، وإما مركب منهما: وهو الجسم، وإما لا حال ولا محل: بأن كان مجردا وهو قسمان؛ لأنه إن تعلق بالبدن تعلق التدبير فهو النفس، وإن تعلق بالبدن على أنه سبب للإدراك فهو العقل؛ لأنه بالنسبة لنفوسنا كالشمس بالنسبة لأبصارنا. وعلم من ذلك أن كل جسم مركب من المادة والصورة بقسميها؛ أعني: الصورة الجسمية والنوعية، فهو مركب من ثلاثة جواهر: أحدها محل وهو المادة، والآخران حالان وهما الصورة الجسمية والصورة النوعية.
قوله: (وأشكالها) أي: هيئاتها الحاصلة بسبب إحاطة الحد، وكونها مستديرة على الوجه المرئي، وظهر من هذا أن الشكل غير الصورة وليس عينها كما قد يتوهم.
قوله: (وقدم العناصر) أي: الأجسام العنصرية: وهي الماء والتراب والهواء والريح، وتسميتها عناصر باعتبار تحليل الجسم كالحيوان إليها، وأما باعتبار تركبه منها فتسمى اسطقسات.
وقوله: (بموادها) أي: أجزائها المادية التي هي هيولى لها.
وقوله: (وصورها) أي: الجسمية والنوعية، فهي قسمان كما تقدم.
قوله: (لكن بالنوع) أي: لكن قدم صورها بنوعها لا بشخصها، واعترض بأن ذلك إنما يظهر في الصور الجسمية؛ لأنها حادثة باعتبار شخصها قديمة باعتبار نوعها، وهو مطلق الصورة الجسمية؛ إذ لا تخلو هيولى العناصر عن تلك الصورة، وهيولى العناصر القديمة، فتكون الصورة المذكورة قديمة مستمرة الوجود بحسب توارد أفرادها الشخصية عليها أزلا وأبدا، فكل فرد يعقبه فرد وهكذا، فتكون الأفراد حادثة ويكون نوعها قديما، فهي قديمة بنوعها لا بشخصها، وأما الصورالنوعية العنصرية: وهي كون الجسم ماء أو ترابا مخصوصا أو هواء مخصوصا أو نارا مخصوصة، فالمشهور أنها قديمة باعتبار جنسها وهو مطلق عنصر، فإنه قديم مستمر الوجود بحسب توارد أنواعه عليه أزلا وأبدا، وليست قديمة باعتبار أنواعها حتى جوزوا حدوث قلب النار مثلا هواء، فيخلع نوع النار مثلا صورته النوعية ويلبس صورة الهواء النوعية، وبالعكس فيجوز انقلاب الأنواع بعضها إلى بعض بطريق الكون والفساد، فيكون النوع حادثا ويكون الجنس وهو مطلق العنصر قديما، فتكون الصور النوعية قديمة بجنسها لا بنوعها؛ فكان على الشارح أن يقول: لكن بالنوع والجنس، ويكون قوله “بالنوع” بالنظر للصور الجسمية، وقوله “والجنس” بالنظر للصور النوعية. وأجيب: بأن تجويز حدوث نوع النار مثلا يشكل ببقاء صور الأسطقسات الأربعة، التي هي العناصر الأربعة في أمزجة المواليد الثلاثة، التي هي الحيوانات والنباتات والمعادن. فإنهم صرحوا بأن صور العناصر باقية على حالها في أمزجة المواليد القديمة بالنوع بحسب توارد أفرادها، وحيئذ فيلزم قدم الصور النوعية بالنوع. فكأن الشارح مال إلى هذا التحقيق المفهوم من الإشكال؛ فلذلك قال إن الصور مطلقا قديمة بالنوع، وعلى تسليم أن الصور النوعية قديمة بالجنس لا بالنوع كما قالوا، يكون الشارح أراد بالنوع في كلامه النوع الإضافي: وهو المندرج تحت شيء آخر، فيصدق بالنوع الحقيقي في الصور الجسمية، وبالجنس في الصور النوعية، ويكون موافقا للمشهور لا مخالفا له.
قوله: (بمعنى أنها لم تخل قط عن صورة) أي: بمعنى أن العناصر لم تخل قط عن صورة من الصور. فما من صورة إلا وقبلها صورة وهكذا، كما قالوا في حركات الفلك.
قوله: (نعم أطلقوا القول…إلخ) استدراك على قوله “خلافا للفلاسفة حيث ذهبوا إلى قدم السماوات…إلخ”؛ لأنه يوهم أنهم لم يطلقوا الحدوث على ذلك، فدفع التوهم المذكور بهذا الاستدراك.
قوله: (لكن بمعنى الاحتياج إلى الغير) استدراك على قوله “نعم أطلقوا القول بحدوث ما سوى الله تعالى”؛ لأنهم يوهم أنهم يوافقون المسلمين على كلامهم، فدفع التوهم المذكور بهذا الاستدراك.
قوله: (لا بمعنى سبق العدم عليه) أي: الذي هو محل النزاع بيننا وبينهم، فالحدوث الزماني هو محل النزاع لا الحدوث الذاتي الذي أطلقوه.
إذ هو أعيانٌ وأعراضٌ. فالأعيانُ ما له قيامٌ بذاتِهِ.
قال الشارح: ثم أشار إلى دليل حدوث العالم بقوله: (إذ هو) أي: العالم (أعيان وأعراض) لأنه إن قام بذاته فعينٌ، وإلا فعَرَضٌ، وكل منهما حادث لما سنبين، ولم يتعرض له المصنف رحمه الله تعالى، لأن الكلام فيه طويل لا يليق بهذا المختصر، كيف وهو مقصور على المسائل دون الدلائل. (فالأعيان ما) أي: ممكن يكون (له قيام بذاته) بقرينة جعله من أقسام العالم، ومعنى قيامه بذاته عند المتكلمين أن يتحيز بنفسه غير تابع تحيزه لتحيز شيء آخر، بخلاف العرض فإن تحيزه تابع لتحيز الجوهر الذي هو موضوعه، أي: محله الذي يقومه.
قال الخيالي:
قوله: (ومعنى قيامه…إلخ) أي قيام العين أوالممكن قيده بالإضافة احترازا عن قيامه تعالى بذاته، ثم لا يخفى أن هذا التعريف يصدق على المركب من عين وعرض قائم به كالسرير، والمشهور أنه ليس بعين.
قال السيالكوتي:
قوله: (قيده بالإضافة…إلخ) أي: قيد القيام بإضافته إلى العين أو الممكن احترازًا عن قيام الواجب بذاته، فإن معناه: استغناؤه عن المحل لا أن يكون تحيزه بنفسه، إذ لاتحيز للواجب.
قوله: (لايخفى…إلخ) يعني: أن تعريف قيام العين بالذات يصدق على المركب من عين وعرض قائم بذلك العين كالسرير المركب من الخشب والهيئة العارضة لها بسبب التأليف، فإنه يصدق عليه أنه متحيز بنفسه غير تابع تحيزه لتحيز شيء آخر مع عدم صدق المعرف؛ أعني: قيام العين عليه، إذ المشهور أنه ليس بعين، فكيف يصدق عليه القيام بالذات المختص به. وبما حررنا لك اندفع ما قيل في دفع هذا النقض من أن الوحدة النوعية معتبرة في تقسيم العالم إلى العين والعرض، والصورة المفروضة إنما هي من اجتماع القسمين؛ لأن هذا الجواب إنما يتم أن لو قرر عبارة المحشي بأنه يتحقق في الصورة المفروضة معنى القيام بالذات، فيكون عينًا مع أنه ليس بعين، ويكون المقصود إبطال انحصار التقسيم وليس كذلك، بل مقصوده أنه يصدق عليه تعريف قيام العين بالذات، ولا يصدق المعرف؛ لأنه يختص بالعين وهو ليس بعين، وحينئذ لافائدة في اعتبار الوحدة النوعية في المقسم كما لا يخفى. وإنما قال: “المشهور” لأن بعضهم ذهبوا إلى أنه عين، فإنه عبارة عن الأجزاء المخصوصة التي اعتبرها العقل على وضع هيئة مخصوصة من غير أن تكون الهيئة مقومة، فإنها أمر اعتباري غير موجود، فكيف يكون جزءًا للموجود. وأجيب عن الأشكال المذكورة بأن معنى التحيز بنفسه أن لا يكون عروض التحيز له بواسطة في العروض، والتحيز لذلك المجموع إنما عرض بواسطة جزئه الذي هو العين، ولاينقض تعريف قيام العرض؛ إذ لا يصدق على ذلك المركب أنه متحيز بواسطة موضوعه بل بواسطة جزئه.
قال الباجوري:
قوله: (ثم أشار إلى دليل حدوث العالم بقوله…إلخ) أي: حيث ذكر الصغرى دون الكبرى، ونظمه هكذا: العالم أعيان وأعراض، وكل منهما حادث، فذكر المصنف الصغرى، وضم الشارح إليه الكبرى.
قوله: (إذ هو…إلخ) هذه هي الصغرى، وسيذكر الشارح الكبرى.
قوله: (أعيان وأعراض) أي: منحصر فيهما.
وقوله: (لأنه…إلخ) دليل للانحصار فيهما، وهو دائر بين الإثبات والنفي والضمير عائد على العالم بمعنى جزئه لا بمعنى كله؛ لعدم استقامة المعنى على ذلك.
قوله: (وكل منهما حادث) هذه هي الكبرى وقد تقدمت الصغرى.
قوله: (لما سنبين) أي: للدليل الذي سنبينه بقولنا فيما يأتي: “وإذا تقرر أن العالم أعيان وأعراض. والأعيان أجسام وجواهر فنقول الكل حادث. أما الأعراض…إلخ”
قوله: (ولم يتعرض له المصنف) أي: ولم يتعرض المصنف لما سنبينه من دليل الكبرى.
وقوله: (لأن الكلام فيه طويل) أي: لأن الكلام في بيانه طويل.
وقوله: (لا يليق…إلخ) أي: لأن التطويل ينافي الاختصار.
وقوله: (كيف وهو مقصور على المسائل دون الدلائل) أي: مجردة عنها ولا ينافيه قول المصنف “إذ هو…إلخ” فإنه دليل على حدوث العالم وقد ذكره في هذا المختصر فلا يكون مقصورا على المسائل دون الدلائل؛ لأن المراد أنه مقصور على المسائل دون الدلائل التفصيلية، بخلاف الإجمالية فالقصر إضافي أي: بالنسبة إلى الدلائل التفصيلية دون الإجمالية، أو لأن القصر ادعائي لإلحاق النادر بالمعدوم، فلما كان ذكر المصنف للدلائل نادر أنزل منزلة المعدوم، فكأن المصنف قصر هذا المختصر على المسائل دون الدلائل.
قوله: (فالأعيان…إلخ) أي: إذا أردت بيان كل من الأعيان والأعراض، فالأعيان…إلخ. وكان الأولى أن يعبر بالمفرد كما عبر به في العرض حيث قال فيما يأتي “والعرض…إلخ”؛ وذلك لأن التعريف للماهية واللفظ الدال عليها هو المفرد لا للأفراد كما يقتضيه التعبير بالجمع، إلا أن يقال إنه على حذف مضاف، والتقدير: “فمفرد الأعيان…إلخ”.
قوله: (ما أي: ممكن) إنما فسر الشارح بالممكن احترازا عن ذات الباري، ولما كان هذا التفسير خلاف الظاهر من كلمة “ما” لأنها عامة تشمل الواجب كما تشمل الممكن، نبه الشارح على أن هذا التفسير بقرينة حالية، وهي جعله من أقسام العالم وهو ما سوى الله تعالى، فإن قيل: لا حاجة في إخراج الواجب إلى هذا التفسير؛ لأن القيام بالذات بالمعنى الذي ذكره الشارح عند المتكلمين يخرج الواجب لاستحالة التحيز عليه، أجيب بأن القيام بالذات إنما يكون بهذا المعنى بعد إسناده للمكن. وأما قبل إسناده له فهو بمعنى مناسب للواجب كالاستغناء عن المحل.
قوله: (بقرينة…إلخ) راجع لتفسير “ما” بممكن، وإنما احتاج لهذه القرينة؛ لأن هذا التفسير خلاف الظاهر من “ما” كما تقدم. فإن قيل: جعله من أقسام العالم لا يصلح أن يكون قرينة لذلك على طريقة الشارح في صفات الله تعالى، حيث قال: إنها ممكنة لذاتها واجبة لغيرها؛ لأن الممكن على هذا أعم من العالم لشموله لصفات الباري دون العالم، والأخص لا يكون قرينة على الأعم لانفراده عنه ووجوده في غيره. أجيب: بأن جعله من أقسام العالم يصلح أن يكون قرينة لذلك من خصوص الممكن، لا من حيث عمومه، والممتنع إنما هو جعل الأخص قرينة على الأعم من عمومه، على أن العموم غير مراد هنا؛ بدليل تفسير قيامه بذاته عند المتكلمين بما سيذكره الشارح؛ إذ الصفات القديمة يستحيل فيها ذلك المعنى.
قوله: (جعله من أقسام العالم) الضمير للأعيان، وذكره باعتبار كونها قسما، والمراد بالجمع ما فوق الواحد فيشمل الاثنين؛ لأنه قسم العالم إلى قسمين أعيان وأعراض.
قوله: (ومعنى قيامه بذاته عند المتكلمين…إلخ) أي: ومعنى قيام العين الذي هو مفرد الأعيان، أو الممكن المفسر به ما بذاته عند المتكلمين…إلخ، وقيده بالإضافة إلى ضمير العين أو الممكن؛ احترازا عن قيامه تعالى بذاته، فإن معناه استغناؤه عن المحل لا أن يكون تحيزه بنفسه؛ إذ لا تحيز للواجب، واعترض على هذا التعريف بأنه غير مانع؛ لأنه يصدق على المركب من عين وعرض قائم به، كالسرير فإنه مركب من عين وهي الخشب، وعرض وهو الهيئة العارضة له بسبب التأليف، ويصدق عليه أنه متحيز بنفسه غير تابع تحيزه لتحيز شيء آخر. والمشهور أنه ليس بعين وإن ذهب بعضهم إلى أنه عين؛ معللا بأنه عبارة عن الأجزاء المخصوصة التي اعتبرها العقل على وضع وهيئة مخصوصة من غير أن تكون الهيئة جزءا منه؛ لأنها أمر اعتباري فكيف تكون جزءا للموجود؟ وأجيب بأن معنى التحيز بنفسه: أن لا يكون في عروض التحيز له واسطة، والتحيز لذلك المجموع إنما عرض له بواسطة جزئه الذي هو العين، وحينئذ فلا يصدق التعريف على المركب، على أن ذلك المركب غير موجود؛ لأنه مركب من موجود وهو العين، وغير موجود وهو الهيئة، والمركب من الموجود وغيره غير موجود، وحيئنذ فلا يكون متحيزا فضلا عن أن يكون التحيز بنفسه، وإنما المتحيز جزؤه وهو العين.
قوله: (أن يتحيز بنفسه) أي: أن يحل في الحيز بسبب نفسه لا بسبب غيره، كما في تحيز العرض فقوله “غير تابع تحيزه لتحيز شيء آخر” تفسير لقوله “بنفسه”.
قوله: (بخلاف العرض) أي: وما ذكر من العين ملتبس بمخالفة العرض، فالباء للملابسة.
وقوله: (فإن تحيزه…إلخ) تعليل لقوله “بخلاف العرض”.
وقوله: (تابع لتحيز الجوهر) أي: وهو المعبر عنه بالعين.
وقوله: (الذي هو موضوعه) صفة للجوهر. ولما كان الموضوع يطلق على معنيين، أحدهما: المحكوم عليه كما هو الشائع في العلوم العقلية، وثانيهما: محل العرض وهذا هو المراد هنا فسره الشارح بقوله “أي محله”.
وقوله: (الذي يقومه) أي: الذي يكون به قوامه أي: وجوده، واحترز بذلك عن المحل الذي لا يقومه وهو المكان، فإنه محل لا يقوم الحالّ فيه.
قال الشارح: ومعنى وجود العرض في الموضوع: هو أن وجوده في نفسه هو وجوده في الموضوع، ولهذا يمتنع الانتقال عنه بخلاف وجود الجسم في الحيز، لأن وجوده في نفسه أمر ووجوده في الحيز أمر آخر، ولهذا ينتقل عنه.وعند الفلاسفة معنى قيام الشيء بذاته استغناؤه عن محل يقومه، ومعنى قيامه بشيء آخر اختصاصه به، بحيث يصير الأول نعتاً والثاني منعوتاً، سواء كان متحيزاً كما في سواد الجسم، أو لا كما في صفات الله تعالى والمجردات.
قال الخيالي:
قوله: (هو وجوده في الموضوع) أي: ليس أمرا آخر، بل عين وجوده في الموضوع وقيامه به، وليس بشيء؛ إذ يصح أن يقال: وجد في نفسه
فقام بالجسم، وإمكان ثبوت شيء لغيره فكيف يتحد الثبوتان؟ كذا في “شرح المواقف”.
قال السيالكوتي:
قوله: (ليس أمرًا آخر بل عين وجوده…إلخ) اعلم أنه قد اشتهر فيما بينهم أن معنى وجود العرض في الموضوع أن يكون وجوده في نفسه هو وجوده في الموضوع، وفسره السيد السند في “شرح المواقف” بعدم تمايزهما في الإشارة الحسية، والشارح فسره بأن يكون وجود العرض في نفسه هو وجوده في موضوعه وقيامه به؛ بمعنى: أنه ليس وجوده أمرًا آخر غير وجوده فيه وقيامه به على مايدل عليه قوله: بخلاف وجود الجسم في الحيز، فإن وجوده في نفسه أمر ووجوده في الحيز أمر آخر؛ ولذا علل امتناع الانتقال به. ورده السيد السند بأنه ليس بشيء؛ إذ يقال: وجد السواد في نفسه فقام بالجسم وتخلل الفاء بينهما يصحح المغايرة بحسب الذات، وأيضًا إمكان ثبوت الشيء في نفسه مغاير لإمكان ثبوته لغيره، لأنه كثيرًا مايتحقق الأول دون الثاني فإن البياض يمكن ثبوته في نفسه مع أنه لا يمكن ثبوته للسواد، وإذا كان الإمكانان متغايرين فكيف يتحد الممكنان؛ أعني: الثبوتين ويمكن الجواب بأن عبارة الشارح محمولة على التسامح كالمشهور، والمقصود اتحادهما في الإشارة الحسية، فتأمل.
قال الباجوري:
قوله: (ومعنى وجود العرض في الموضوع) أي: الذي فهم من كون الموضوع محلا.
وقوله: (هو أن وجوده في نفسه هو وجوده في الموضوع) أي: أن وجوده في حد ذاته ليس أمرا آخر، بل عين وجوده في الموضوع وقيامه به. هذا ما يقتضيه كلام الشارح على ما يدل عليه قوله “بخلاف وجود الجسم في الحيز فإن وجوده في نفسه أمر، ووجوده في الحيز أمر آخر”، ورده السيد في “شرح المواقف” بأنه ليس بشيء؛ إذ يصح أن يقال: وجد السواد في نفسه فقام بالجسم، فصحة تخلل الفاء بينهما تشهد بالمغايرة؛ لأنها تقتضي أن وجوده في نفسه سبب في وجوده في الجسم، وأيضا إمكان ثبوت الشيء في نفسه غير إمكان ثبوته لغيره، وإذا تغير الإمكانان فكيف يتحد الثبوتان؟ قال عبد الحكيم: ويمكن الجواب بأن عبارة الشارح محمولة على التسامح، والمراد منها اتحادهما في الإشارة الحسية، فالمعنى أن وجود العرض في نفسه ليس متميزا عن وجوده في الموضوع في الإشارة الحسية، فليست الإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى الآخر.
قوله: (ولهذا يمتنع الانتقال عنه) قضيته أن العلة في امتناع الانتقال عن المحل اتحاد الوجودين اتحادا حقيقيا، وقد علمت ما فيه، وحينئذ فالعلة في ذلك أن المحل علة لوجود العرض. فلو انتقل العرض عن المحل لزم بقاء المعلول بدون علته. فإن قيل كيف يمتنع انتقال العرض عن المحل مع أن حرارة النار إلى ما يجاوره كما يشهد به الحس؟ أجيب بأن حرارة النار لا تنتقل منها إلى ما يجاورها ورائحة المسك مثلا لا تنتقل منه إلى ما يجاوره، بل حصولها في المحل المجاور للنار أو المسك مثلا بطريق إحداث الله تعالى لا بطريق الانتقال.
قوله: (بخلاف وجود الجسم في الحيز) أي: وما ذكر من وجود العرض في الموضوع ملتبس بمخالفة وجود الجسم في الحيز، فليس وجوده في نفسه هو وجوده في الحيز.
وقوله: (فإن وجوده في نفسه أمر ووجوده في الحيز أمر آخر) أي: فإن وجوده في نفسه أمر مستقل أصلي، ووجوده في الحيز أمر مغاير لوجوده في نفسه، فللجسم وجودان متغايران. واعلم أن الحيز والمكان عند جمهور الحكماء متردافان على معنى واحد: وهو السطح الباطن من الحاوي المماس للمحوي، وعند بعضهم متغايران: فالحيز هو الفراغ المشغول بالمتحيز كداخل الكوز المشغول بالماء، والمكان هو ما يعتمد عليه المتمكن كالأرض للسرير.
قوله: (ولهذا ينتقل عنه) قضيته أن العلة في جواز الانتقال مغايرة الوجودين وليس كذلك؛ إذ مغايرة الوجودين ثابتة في العرض على التحقيق كما علمت، ومع ذلك يمتنع انتقاله عن الموضوع، وحينئذ فالعلة في ذلك أن الحيز ليس من علل الجسم فيتم وجوده بدونه.
قوله: (وعند الفلاسفة…إلخ) ليس معطوفا على قوله “عند المتكلمين” حتى يكون قوله “معنى قيامه بذاته” مسلطا عليه فيستغني بذلك عن قوله “معنى قيام الشيء بذاته”، وإنما لم يعطفه عليه؛ لأن المعنى الذي قاله الفلاسفة أعم من المعنى الذي قاله المتكلمون؛ لأن المعنى الذي قاله الفلاسفة شامل لقيام الممكن وقيام الواجب، والمعنى الذي قاله المتكلمون قاصر على قيام الممكن، ولذا أضاف الشارح القيام المعرف عند المتكلمين إلى ضمير العين أو الممكن، والقيام المعرف عند الفلاسفة إلى الشيء الصادق بالممكن والواجب.
قوله: (معنى قيام الشيء بذاته استغناؤه عن محل يقومه) أي: معنى قيام الشيء بذاته واجبا كان أو ممكنا استغناؤه عن محل يكون به قوامه أي: وجوده، ودخل في ذلك المجردات التي تثبتها الفلاسفة من العقول والنفوس، وقد وافقهم طائفة من المسلمين على النفوس الحيوانية، ومنهم الغزالي والحليمي والراغب والجمهور من أهل الإسلام على نفي المجردات عقولا كانت أو نفوسا، وأما النفوس الفلكية فلم يوافقهم على إثباتها علماء الإسلام.
قوله: (ومعنى قيامه) أي: الشيء لا بالمعنى الأول الذي هو الشيء القائم بنفسه؛ بدليل قوله “بشيء آخر” وحينئذ فالمراد بالضمير الشيء القائم بغيره.
وقوله: (اختصاصه به) أي: قصره عليه، والضمير الأول عائد على ما عاد إليه ضمير قيامه، والضمير الثاني عائد على الشيء الآخر، والباء داخلة على المقصور عليه.
وقوله: (بحيث يصير الأول نعتا والثاني منعوتا) أي: بحيث يصير الشيء الأول نعتا للثاني، ويصير الشيء الثاني منعوتا بالشيء الأول. وإنما أتى بهذه الحيثية احترازا عن قيام فص الخاتم بالخاتم وقيام الماء بالعود الأخضر؛ إذ كل منهما مختص به مع أنه ليس بعرض فالحيثية المذكورة للتقييد.
قوله: (سواء كان…إلخ) تعميم في الشيء الأول الذي هو البعث.
وقوله: (متحيزا) أي: تبعا لتحيز الجسم.
وقوله: (كما في سواد الجسم) أي: كالتحيز الذي في سواد الجسم، فإنه متحيز تبعا لتحيز الجسم.
وقوله: (أو لا) أي: أو لم يكن متحيزا للعدم تحيز منعوته.
وقوله: (كما في صفات الباري) أي: كعدم التحيز الذي في صفات الباري.
وقوله: (والمجردات) أي: وصفات المجردات كالنفوس الحيوانية والعقول والنفوس الفلكية التي أثبتها الفلاسفة، حيث قالوا إن المولى واحد من كل وجه، والواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا واحد، فيصدر عنه تعالى عما يقولون معلول واحد وهو العقل الأول، وهذا العقل له اعتبارات ثلاثة وقيل أربعة: وجوده، ووجوبه بالغير، وإمكانه لذاته. وعلى القول الثاني: يزاد على الثلاثة المذكورة علمه بالغير، فيصدر عنه بالاعتبار الأول: عقل فلك، وبالاعتبار الثاني: نفس فلك، وبالاعتبار الثالث: مادة فلك، وبالاعتبار الرابع: صورة فلك. وهذا الفلك هو الفلك الأطلس المسمى بالعرش، ثم يصدر عن العقل الثاني عقل فلك ونفس فلك ومادة فلك وصورة فلك بالاعتبارات المذكورة، وهذا الفلك هو فلك الثوابت المسمى بالكرسي، ثم يصدر عن العقل الثالث عقل فلك ونفس فلك ومادة فلك وصورة فلك بالاعتبارات المذكورة، وهذا الفلك هو فلك زحل المسمى بالسماء السابعة وهكذا إلى أن يوصل إلى فلك القمر المسمى بسماء الدنيا وعقل هذا الفلك يسمى بالعقل الفياض؛ لأنه يفيض عندهم الصور الحادثة على الهيولى كالإبريقية ونحوها. واعلم أنهم يعنون بالأقوال المذكورة ملائكة مخصوصة كالعقل الفياض يعنون به جبريل، وكذلك يعنون بالنفوس ملائكة مخصوصة كالعقل الفياض يعنون به جبريل، وكذلك يعنون بالنفوس ملائكة مخصوصة وهذا كلام عوامهم كما قاله شيخنا، وإلا فالمحققون منهم على أن العالم هدف والأرض مركز والمصائب سهام والله هو الرامي، ومبنى كلامهم على أنه تعالى ليس فاعلا بالاختيار وهو باطل، بل هو تعالى فاعل بالاختيار كما نطق به الكتاب والسنة والأدلة العقلية.
وهو إما مركبٌ وهو الجسمُ.
قال الشارح: (وهو) أي: ما له قيام بذاته من العالم (إما مركب) من جزأين فصاعداً عندنا، (وهو الجسم)، وعند البعض لا بد من ثلاثة أجزاء لتتحقق الأبعاد الثلاثة؛ أعني: الطول والعرض والعمق. وعند البعض من ثمانية أجزاء ليتحقق تقاطع الأبعاد على زوايا قائمة. وليس هذا نزاعاً لفظياً راجعاً إلى الاصطلاح حتى يدفع بأن لكل أحد أن يصطلح على ما شاء، بل هو نزاع في أن المعنى الذي وضع لفظ الجسم بإزائه هل يكفي فيه التركيب من جزأين أم لا ؟
قال الخيالي:
قوله: (أعني: الطول والعرض والعمق) بمعنى: البعد المفروض أولا وثانيا وثالثا.
قوله: (ليتحقق تقاطع الأبعاد) ورد بأن التقاطع يتحقق بأربعة؛ بأن يتألف اثنان ويوضع بجنب أحدهما ثالث يقوم عليه رابع.
قوله: (راجعا إلى الاصطلاح) وإن كان لفظيا راجعا إلى اللفظ واللغة كما وقع في “المواقف”.
قال السيالكوتي:
قوله: (بمعنى البعد المفروض…إلخ) يعني: ليس المراد بالطول والعرض والعمق ماهو المتعارف؛ أعني: الأبعاد الثلاثة المتقاطعة على زوايا قائمة، بل المعنى الأعم وهو البعد المفروض أولًا وثانيًا وثالثًا؛ لأن تأليف الجسم من ثلاثة أجزاء إنما يوجب حصول الأبعاد بهذا المعنى، بأن يتألف اثنان ويقع الثالث على ملتقاهما، فيحصل مثلث جوهري من ثلاثة خطوط جوهرية، فالامتداد المفروض أولًا طول، وثانيًا عرض، وثالثًا عمق.
قوله: (ليتحقق تقاطع الأبعاد…إلخ) أي: يمكن وجود الأبعاد المتقاطعة فيه؛ إذ لا يجب الأبعاد الثلاثة فضلًا عن كونها متقاطعة كما في الكرة والاسطوانة والمخروط المستديرين، وكذا في قوله: “ليتحقق الأبعاد الثلاثة”.
قوله: (رد بأن التقاطع…إلخ) يعني: أن اشتراط التقاطع لا يوجب اشتراط الثمانية، لحصوله بأربعة بأن يتألف اثنان في الطول، ويقوم الجزء الثالث بجنب أحدهما فيحصل العرض، ويقوم الجزء الرابع على الجزء الذي قام بجنبه الثالث فيحصل العمق؛ بأن يتألف مثلًا جزءا “أ ب” فيحصل الطول، وقام بجنب “ب” مثلًا “ج” فيحصل العرض، وقام “د” على “ب” فيحصل العمق، فههنا ثلاثة أبعاد: أحدهما: من “أ ب” والثاني: من “ب ج” والثالث: من “ب د” متقاطعة عل نقطة “ب” وهي الجزء المشترك بينها. وبما ذكرنا ظهر لك الاختلال في عبارة المحشي، فإن قوله: “يقوم عليه رابع” صفة لقوله: “ثالث” ولا شك أن قيام الرابع على الثالث لا يحصل به التقاطع، وإن حصل به الزوايا القائمة على هذه الصورة، فالأوجه فوقه رابع؛ أي: فوق أحدهما رابع كما في “المواقف”. اللهم إلا أن يقال: إنه صفة لأحدهما بحذف الموصول؛ أي: الذي يقوم عليه رابع، أو يقال: إن أحدهما لعدم تعينه ففي حكم النكرة، فيجوز وقوع الجملة الخبرية صفة له على نحو ما قال الفضل الجلبي في حاشية “المطول”: إن “جملة كثرت” أياديه في قولنا: “فلان كثرت أياديه” صفة لفلان إما بتقدير الموصول، أو بأن علم الجنس في حكم النكرة. ثم إن تقاطع الأبعاد على القوائم في الخطوط الجوهرية حاصل إذا فرضت متجاوزة، وذلك كاف ههنا، فلا يرد ما قيل: إنه إذا كان أحد الجواهر ملتقى لم يكن ضلع الزاوية خطأ، ومن الواجب أن يكون كذلك. كذا أفاده بعض الأفاضل.
قوله: (وإن كان لفظيًا راجعًا…إلخ) المقصود من هذا بيان فائدة قوله: “راجعًا إلى الاصطلاح” وعدم مخالفتة لما في “المواقف” ودفع ما قيل من أن حاصل ما ذكره الشارح بقوله: بل هو نزاع في أن المعنى الذي وضع لفظ الجسم… إلخ، أن لفظ الجسم يطلق على كذا وكذا، ولا شك أنه نزاع لفظي؛ يعني أنه ليس نزاعًا لفظيًا؛ بمعنى كونه راجعًا إلى الاصطلاح بأن يكون لفظ الجسم في اصطلاح موضوعًا للمركب من جزأين، وفي اصطلاح للمركب من ثلاثة، وفي اصطلاح للمركب من ثمانية؛ إذ لامشاحة في الاصطلاح، وإن كان نزاعًا لفظيًا؛ بمعنى أنه نزاع في معنى لفظ الجسم، بأنه هل يتحقق بمطلق التركيب أو بالتركيب من ثلاثة أو من ثمانية، فالشارح نفى النزاع اللفظي؛ بمعنى الراجع إلى الاصطلاح وصاحب “المواقف” أثبته؛ بمعنى أنه نزاع في إطلاق اللفظ بحسب العرف واللغة فلا منافاة بين كلاميهما.
قال الباجوري:
قوله: (وهو أي: ماله قيام بذاته…إلخ) هذا تقسيم للقسم الأول كما هو ظاهر.
وقوله: (من العالم) قيد به احترازا من الواجب تعالى، فيكون في هذا التقييد إشارة إلى أن “ما” وإن كانت عامة في ذاتها، المراد بها شيء خاص، وفيه أنه لا حاجة إلى ذلك مع ما سبق من تفسير ما بالممكن، إلا أن يقال هذا بقطع النظر عن التفسير السابق.
قوله: (إما مركب من جزئين) أي: إما مركب من جوهرين فردين.
وقوله: (فصاعدا) أي: فذهب المركب حال كونه صاعدا عن الجزئين إلى ما فوقهما من الجواهر الفردة، وهذا القول هو ما ذهب إليه جمهور أهل السنة في الجسم، حيث عرفوه بأنه الجوهر القابل للانقسام، ولو في جهة واحدة. وعلى هذا القول فلا واسطة بين الجسم والجوهر الفرد؛ لأن ما له قيام بذاته من العالم إن تركب من جزئين فصاعدا فجسم، وإن لم يتركب فجوهر فرد، بخلافه على غيره من الأقوال. وهذا كله مبني على القول بثبوت الجوهر الفرد، وأما على ما قاله الفلاسفة من انتفائه، فالجسم ما تركب من ثلاثة جواهر: الهيولى والصورة الجسمية والصورة النوعية، فالجبل مثلا مركب من هيولى: وهي الحجر وإن كان كبيرا جدا، ومن صورة جسمية: وهي الجوهر القابل للأبعاد من الطول والعرض والعمق، ومن صورة نوعية: وهي ما يتحقق به كونه نوعا من مطلق الجسم وهو كونه حجرا لا غيره من بقية الأنواع، ويقال لهذه الثلاثة جسم طبيعي، وأما الجسم التعليمي فاسم للامتدادات الثلاثة القائمة بالجسم الطبيعي: وهي الطول والعرض والعمق، ونهاية الجسم التعليمي سطح: وهو ما تركب من الطول والعرض، ونهاية السطح خط وهو ما تركب من نقطتين، ونهاية الخط نقطة. فعندهم الجسم التعليمي والسطح والخط والنقطة أعراض لا جواهر، وعلى ما ذهبوا إليه فهناك واسطة بين الجسم التعليمي والنقطة، وتلك الواسطة هي السطح والخط.
قوله: (وهو الجسم) اعترض بأنه كان المناسب أن يقول كالجسم، كما قال في غير المركب كالجوهر؛ لأن المركب يحتمل أن يكون مركبا من مجردين فلا ينحصر في الجسم كما أن غير المركب يحتمل المجرد فلا ينحصر في الجوهر. وأجيب بأن المركب من مجردين لم يعترف به أحد، وإنما هو احتمال صرف فلم يلتفت إليه؛ فلذا قال وهو الجسم ولم يقل كالجسم، وأما المجرد غير المركب فقد اعترف به كثيرون فالتفت إليه؛ فلذا قال كالجوهر ولم يقل وهو الجوهر.
قوله: (وعند البعض لابد من ثلاثة أجزاء) أي: وعند بعض المعتزلة لابد من تحقق الجسم من ثلاثة جواهر فردة يتركب منها، فهذا القول لبعض المعتزلة لا للفلاسفة كما صرح به ابن قاسم وغلّط من نسبه إلى الفلاسفة؛ لأنهم يقولون بالجوهر الفرد وما وقع في بعض الحواشي، نقلا عن صاحب المواقف، من أن القائل بأنه يكفي في تحقق الجسم ثلاثة لم يعثر عليه لا ينفي وجوده؛ لأنه لا يلزم من عدم وجدانه عدم وجوده، وبهذا سقط ما قاله بعضهم معترضا على الشارح من أنه خلط النقل عن المعتزلة بالنقل عن الحكماء.
قوله: (لتحقق الأبعاد الثلاثة) أي: لتتحقق بتلك الأجزاء الأبعاد الثلاثة المأخوذة في تعريف الجسم، فإنهم عرفوه بأنه الطويل العريض العميق.
وقوله: (أعني الطول والعرض والعمق) أي:؛ أعني: بالأبعاد الثلاثة: الطول بمعنى البعد المفروض أولا، والعرض بمعنى البعد المفروض ثانيا، والعمق بمعنى البعد المفروض ثالثا، لا بالمعنى المتعارف للطول والعرض والعمق: وهو الأبعاد المتقاطعة على زوايا قائمة؛ لأن تأليف الجسم من ثلاثة أجزاء إنما يوجب حصول الأبعاد بالمعنى المذكور؛ إذ يحصل من الثلاثة أجزاء مثلث جوهري؛ لأن كل جزئين منضمين لهما امتداد وهو الطول، فإذا وضع عند ملتقاهما جزء ثالث متصل بهما صار مجموع الثلاثة على هيئة سطح مثلث هكذا: فيحصل باتصال الجزء الثالث مع أحد الجزئين عرض ومع الآخر عمق، وحينئذ فلا يشترط عند هذا البعض أن تكون الأبعاد متقاطعة على زوايا قائمة، والعمق على هذا القول بمعنى الامتداد المفروض ثالثا لا بمعنى الامتداد النازل من أعلى إلى أسفل، والمراد بتحقق الأبعاد إمكان وجودها؛ لأنهم لم يشترطوا وجودها بالفعل بل اشترطوا إمكان وجودها، وإن لم توجد بالفعل كما في الكرة المصمتة.
قوله: (وعند البعض من ثمانية أجزاء) أي: وعند بعض المعتزلة وهو الجبائي، لابد في تحقق الجسم من ثمانية جواهر فردة: بأن يوضع جزآن فيحصل الطول هكذا ويوضع بجانبهما جزآن فيحصل العرض هكذا ويوضع فوق هذه الأربعة أربعة أخرى، فيحصل العمق فالعرض مقاطع للطول، والعمق مقاطع لهما، فقد تقاطعت الأبعاد على زوايا قائمة.
وقوله: (ليتحقق تقاطع الأبعاد) أي: ليمكن وجود الأبعاد المتقاطعة وإن لم تتقاطع بالفعل، بل وإن لم توجد كما في الكرة المصمتة، ورد هذا القول بأن التقاطع يتحقق بأربعة بأن يتألف اثنان فيحصل الطول هكذا ويوضع بجنب أحدهما ثالث فيحصل العرض المقاطع للطول هكذا ويقوم الرابع على الذي قام بجنبه الثالث فيحصل العمق المقاطع لكل من الطول والعرض، فالجزء الثالث مشترك بين الطول والعرض والعمق. وظاهر عبارة الخيالي أن الرابع يقوم على الثالث. واعترض عبد الحكيم بأنه لا شك أن قيام الرابع على الثالث لا يحصل به التقاطع وإن حصل به الزوايا القائمة قال فالأوجه وفوقه رابع كما في المواقف.
قوله: (على زوايا قائمة) أي: على زوايا مستوية، وتوضيح ذلك: أنه إذا قام خط مستقيم على مثلثه، فإن لم يكن له ميل إلى حد الجانبين أصلا حصل زاويتان تسمى كل منهما قائمة هكذا فإذا قاطع خط مستقيم خطا مثله حصل أربع زوايا قائمة هكذا فإذا فرضنا خطين مثلهما موضوعين على سمتهما عمقا كانت الأجزاء ثمانية وحصل التقاطع المذكور، وإن كان له ميل إلى أحد الجانبين كانت إحدى الزاويتين صغرى وتسمى حادة، وكانت الأخرى كبرى وتسمى منفرجة هكذا
قوله: (وليس هذا نزاعا لفظيا راجع إلى الاصطلاح) أي: وليس هذا الخلاف نزاعا متعلقا باللفظ راجعا إلى اصطلاح أصحاب الأقوال المذكورة، بأن يكون لفظ الجسم في اصطلاح موضوعا للمركب من جزئين فصاعدا، وفي اصطلاح للمركب من ثلاثة، وفي اصطلاح للمركب من ثمانية، وإن كان نزاعا لفظيا راجعا إلى اللغة، كما وقع في المواقف بمعنى أنه نزاع في معنى لفظ الجسم الذي وضعه أهل اللغة بإزائه، هل يكفي فيه التركيب من جزئين أو لابد من ثلاثة أجزاء، ولابد من ثمانية أجزاء كما أشار إليه الشارح بقوله “بل هو نزاع في أن المعنى… إلخ” وبهذا اندفع ما قيل من أن حاصل ما ذكره الشارح بقوله “بل هو نزاع في أن المعنى…إلخ” أنه نزاع في أن لفظ الجسم يطلق على كذا وكذا، ولا شك أنه نزاع لفظي. ووجه الدفع أن الشارح لم ينف كونه نزاعا لفظيا مطلقا، وإنما نفي كونه نزاعا لفظيا راجعا إلى الاصطلاح، وهذا لا ينافي كونه نزاعا لفظيا راجعا للغة.
قوله: (حتى يدفع بأن لكل أحد أن يصطلح على ما شاء) مفرع على المنفي، يعني أنه لو كان نزاعا لفظيا راجعا للاصطلاح لدفع بأن لكل أحد من المختلفين أن يصطلح على ما شاء، فلا نزاع في المعنى؛ لأن كلا منهم لا ينازع غيره فيما قال، لكنه ليس نزاعا لفظيا راجع إلى الاصطلاح، فلا يدفع بأن لكل أحد أن يصطلح على ما شاء.
قوله: (بل هو نزاع) أي: بل الخلاف المذكور نزاع،
وقوله: (في أن المعنى…إلخ) أي: في جواب هذا الاستفهام،
وقوله: (الذي وضع لفظ الجسم بإزائه) أي: الذي وضعه أهل اللغة بمقابله، بحيث يكون مفهومه ومدلوله.
قوله: (هل يكفي فيه التركيب من الجزأين) أي: كما قال به جمهور أهل السنة،
وقوله: (أم لا) أي: أم لا يكفي فيه ذلك، بل لابد من ثلاثة أو ثمانية على الخلاف السابق.
قال الشارح: احتج الأولون: بأنه يقال لأحد الجسمين إذا زيد عليه جزء واحد إنه أجسم من الآخر، فلولا أن مجرد التركيب كاف الجسمية لما صار بمجرد زيادة الجزء أزيد في الجسمية، وفيه نظر، لأن أفعل من الجسامة بمعنى الضخامة وعظم المقدار، يقال: جسم الشيء أي: عظم فهو جسيم وجسام بالضم، والكلام في الجسم الذي هو اسم لا صفة.
قال الباجوري:
قوله: (احتج الأولون) أي: القائلون بأنه يكفي فيه التركيب من الجزئين.
وقوله: (بأنه يقال لأحد الجسمين…إلخ) أي: بأن الحال والشأن يقال في اللغة لبيان شأن أحد الجسمين…إلخ، فالضمير للحال والشأن، والجملة مفسرة له، واللام لام الشأن مثل اللام في قوله تعالى:ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﱠ إذ لو كانت لام البلاغ لقيل ما سبقتمونا إليه.
وقوله: (إذا زيد عليه جزء واحد) أي: وقت أن زيد على أحد الجسمين جزء واحد، فصارت أجزاؤه أكثر من أجزاء الآخر بذلك الجزء الزائد، كما لو فرض أن جسمين كل منهما ثلاثة أجزاء أو ثمانية وزيد على أحدهما جزء واحد.
وقوله: (إنه أجسم من الآخر) أي: أن أحد الجسمين الذي زيد عليه جزء واحد أكثر جسمية من الجسم الآخر، وهذا مقول ليقال فهو بكسر الهمزة.
قوله: (فلولا أن مجرد التركيب كاف في الجسمية لما صار بمجرد زيادة الجزء أزيد في الجسمية) أي: فلولا أن التركيب المجرد عن اشتراط الزيادة على الجزئين كاف في تحقق الجسمية؛ لما صار أحد الجسمين وهو الذي زيد عليه جزء واحد بمجرد زيادة ذلك الجزء أزيد في الجسمية من الجسم الآخر، وغرضه بذلك بيان وجه الاحتجاج بما ذكر وتوضيحه: أن لولا حرف امتناع لوجود، فتقتضي امتناع جوابها، وهو هنا عدم صيرورة أحد الجسمين أزيد من الآخر بمجرد زيادة الجزء، لوجود شرطها وهو هنا كفاية مجرد التركيب في الجسمية، فقد دلت على أنه يلزم من كفاية مجرد التركيب في الجسمية امتناع عدم الصيرورة المذكورة الذي هو عين ثبوتها؛ لأن نفي النفي إثبات، فثبوت صيرورة أحد الجسمين أزيد من الآخر بمجرد زيادة الجزء لازم؛ لوجود الكفاية في الجسمية بمجرد التركيب. ومن المعلوم أن ثبوت اللازم يستلزم ثبوت الملزوم، وبحث في ذلك بأن اللازم المذكور أعم من الملزوم المذكور؛ لأن ثبوت صيرورة أحد الجسمين أزيد من الآخر، بمجرد زيادة الجزء يتحقق مع القول بعدم كفاية مجرد التركيب كما يتحقق مع القول بكفايته، وحيث كان لازما أعم فثبوته لا يستلزم ثبوت الملزوم.
قوله: (وفيه نظر لأنه أفعل…إلخ) أي: وفي الاحتجاج المذكور نظر؛ لأن “أجسم” بوزن أفعل مشتق من الجسامة بفتح الجيم، التي هي مصدر لا من الجسم الذي الكلام فيه. وأجيب عن هذا النظر بأن “أجسم” وإن كان مشتقا من الجسامة لا من الجسم، لكنه ملاق له في المعنى؛ لأن الجسامة ملحوظة في مفهوم الجسم، فإنه ما سمي بلفظ الجسم إلا لجسامته، فتكون الجسامة مستلزمة للجسمية، فإذا زادت الجسامة بذلك الجزء تستلزم كفاية مجرد التركيب في الجسمية، وقد تقدم ما فيه من البحث.
قوله: (بمعنى الضخامة) أي: بمعنى هو الضخامة، فالإضافة للبيان.
وقوله: (وعظم المقدار) عطف تفسير للضخامة.
قوله: (يقال) أي: في اللغة وهذا استدلال على قوله “بمعنى الضخامة وعظم المقدار”
قوله: (جَسُم الشيء) بفتح الجيم وضم السين.
وقوله: (أي عظم) كان مقتضى ما تقدم أن يقول أي: ضخم وعظم مقداره، لكن قد علمت أن المعنى واحد.
وقوله: (فهو جسيم وجسام بالضم) أي: هذا الشيء جسيم بفتح الجيم وجسام بضم الجيم، فقوله “بالضم” راجع لجسام فقط، وكل من “جسيم” و”جسام” صفة مشبهة.
قوله: (والكلام في الجسم) أي: وكلامنا السابق في الجسم، فالدليل الذي احتج به الأولون بمعزل عما وقع فيه النزاع.
وقوله: (الذي هو اسم لا صفة) بيان للواقع؛ لأن الجسم لا يكون إلا كذلك، وفائدة ذكره تأكيد الرد على الاحتجاج السابق المبني على أن أجسم مشتق من الجسم، وقد علمت الجواب عن ذلك.
أو غيرُ مركبٍ كالجوهرِ وهو الجزءُ الذي لا يتجزأ.
قال الشارح: (أو غير مركب كالجوهر) يعني العين الذي لا يقبل الانقسام لا فعلاً ولا وهماً ولا فرضاً. (وهو الجزء الذي لا يتجزأ)
ولم يقل: وهو الجوهر، احترازاً عن ورود المنع، فإن ما لا يتركب لا ينحصر عقلاً في الجوهر بمعنى الجزء الذي لا يتجزأ، بل لا بد من إبطال الهيولى والصورة والعقول والنفوس المجردة ليتم ذلك. وعند الفلاسفة لا وجود للجوهر الفرد؛ أعني: الجوهر الذي لا يتجزأ، وتركب الجسم إنما هو من الهيولى والصورة.
قال الخيالي:
قوله: (و لا فرضا) أي: مطابقا للواقع وإلا فللعقل فرض كل شيء غير واقع.
قوله: (عن ورود المنع) وإن أمكن دفعه بأن المقصود حصر ما ثبت وجوده، لا يقال: احتمال جزء لا يدل الدليل على حدوثه ينافي غرض المصنف، وهو بيان حدوث العالم بجميع أجزائه، وأيضا وجود جوهر مركب من جوهرين مجردين محتمل، فلم لم يلتفت إليه وحصر المركب في الجسم؟ لأنا نقول: الغرض بيان حدوثه بجميع أجزاء المعلومة، وعدم بيان حدوث المحتمل لا ينافيه، واحتمال المركب في المجردات مما لا يذهب إليه أحد بخلاف نفس المجردات، فإن أكثر الناس قائل بهذا، فلهذا لم يلتفت إليه.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي: مطابقًا للواقع…إلخ) إذ معنى الانقسام الفرضي هو فرض شيء غير شيء بحسب التعقل كليًا، ومعنى الانقسام الوهمي فرض
شيء غير شيء بحسب التوهم جزئيًا، وفائدة إيراد الفرض أن الوهم ربما لا يقدر على استحضار مايقسمه لصغره، أو لأنه لا يقدر على إحاطة مالا يتناهى، والفرض العقلي لا يقف لتعلقه بالكليات المشتملة على الصغير والكبير والمتناهي وغير المتناهي. كذا في “شرح الإشارات” للمحقق الطوسي. وبعضهم لم يفرق بينهما لكن إعادة كلمة “لا” في عبارة الشارح صريح في الفرق، ووجه امتناع انقسام الوهمي أنه لصغره لا يدركه الحس ولايقدر على استحضاره، وأما وجه امتناع الانقسام العقلي، فهو أنه أمر غير منقسم في نفس الأمر، فتصوره بوجه الانقسام لا يكون تصورًا مطابقًا لما في نفس الأمر، كما إذا تصور الإنسان بوجه الحمارية، فإنه وإن كان ممكنًا؛ إذ للعقل أن يتصور المستحيلات والممتنعات لكنه غير مطابق لنفس الأمر، وهذا معنى قوله: “أي: مطابقًا للواقع” وإلا فللعقل فرض كل شيء؛ يعني: أن المراد بعدم انقسامه فرضًا عدم القسمة الفرضية المطابقة لما في نفس الأمر، لاعدم مطلق تصور العقل فيه شيئًا غير شيء؛ لأنه غير ممتنع في شيء من الأشياء، إذ للعقل فرض كل شيء وتصوره حتى عدم نفسه. وبما قررنا اندفع ما قال بعض الفضلاء: أنه لا خفاء في أن هذه الكلية في حيز المنع؛ إذ لا يمكن فرض اشتراك الجزئي الحقيقي في كثيرين، إذ الفرض فيه ممتنع كالمفروض كما بين في موضعه؛ لأن الفرض الممتنع في الجزئي الحقيقي؛ بمعنى التجويز العقلي لابمعنى التقدير المعتبر في تعريف المتصلة؛ أعني: ملاحظة العقل وتصوره، فإنه غير ممتنع في شيء من الأشياء على ماحققوه، ولو حمل الفرض في عبارة الشارح على معنى التجويز العقلي لم يكن حاجة إلى تقييده بالمطابقة، فإن تجويز انقسامه ممتنع كتجويز اشتراك الجزئي، وإن لم يكن تصورهما ممتنعين، ولعل المحشي تركه؛ لأن الأول أسبق إلى الفهم.
قوله: (وإن أمكن دفعه…إلخ) أي: وإن أمكن دفع منع حصر العين في الجسم والجوهر بالمجردات، ونحوها بأن المقصود بالتقسيم حصر العين الذي ثبت وجوده، والمجردات ونحوها لم يثبت عندنا فهي خارجة عن القسم.
قوله: (لا يقال: احتمال جزء لا يدل الدليل…إلخ) يعني: لا نسلم أن المقصود حصر ماثبت وجوده؛ إذ لو كان كذلك لبقي احتمال أن يكون جزءًا من أجزاء العالم؛ أعني: المجردات لا يدل الدليل على حدوثه، وهذا ينافي غرض المصنف؛ إذ مقصوده بيان حدوث العالم بجميع أجزائه الشاملة للموجودة والمحتملة الوجود. وإنما قلنا: إنه بقي احتمال جزء لا يدل الدليل على حدوثه؛ لأن الدليل المذكور على ما سيجيء إنما يدل على حدوث ماله كون في حيز، والمجردات لاحيز لها، فلا يدل على حدوثها. وما قال الفاضل المحشي من أن هذا الاعتراض على هذا التقرير مع الجواب بعينه الاعتراض الأول مع الجوابين اللذين ذكرهما الشارح فيما سيأتي في قوله: “وههنا أبحاث…إلخ” فليس بشيء؛ لأن الاعتراض الذي ذكره الشارح منع لصغرى الدليل؛ أعني: العالم أما أعراض أو أجسام أو جواهر، بأنا لانسلم الحصر المذكور لجواز كونه مجردًا، والجواب إثبات المقدمة الممنوعة بأن المقصود حصر ماثبت وجوده، فالمجردات خارجة عن المقسم. والعتراض الذي ذكره المحشي بقوله: “لا يقال…إلخ” اعتراض على هذا الجواب بأنا لانسلم أن المقصود حصر ماثبت وجوده؛ لأنه ينافي غرض المصنف فهذا الاعتراض، والجواب متأخر عنه بمرتبة كما تشهد به الفطرة السليمة. قال الفاضل الجلبي في تقرير هذا الاعتراض: لا يقال: نعم، إن وجود الجوهر المجرد غير ثابت، لكن وجود جزء لا يتجزأ مبرهن ثابت بالدلائل القطعية، فيحتمل أن يكون بعض منها قديمًا مستمرًا لا يدل الدليل على حدوثه، ولاخفاء في أنه ينافي غرض المصنف. انتهى. وفيه بحث؛ لأن احتمال وجود جزء كذلك ممتنع؛ لأن خلاصة الدليل على ماسيجيء أن كل ماله كون في الحيز، فهو محل الحركة والسكون، وكل ماكان كذلك فهو حادث، أو لا شك أن وجود الجزء بدون الكون في الحيز محال، فيكون حادثًا ألبتة، فلا معنى لعدم دلالة الدليل على حدوثه.
قوله: (وأيضًا وجود جوهر مركب…إلخ) اعتراض على قول الشارح: ولم يقل: “وهو الجوهر” احترازًا عن ورود المنع…إلخ بأن مثل هذا المنع وارد على قوله: وإما مركب من جزأين، وهو الجسم بأن يقال: إن حصر المصنف المركب في الجسم ممنوع؛ لجواز أن يكون المركب حاصلًا من جوهرين مجردين فلا يكون جسمًا، فلم لم يلتفت إلى هذا المنع، ولم يقل: كالجسم.
قوله: (لأنا نقول الغرض بيان…إلخ) هذا جواب عن الاعتراض الأول؛ يعني: ليس له غرض المصنف من قوله: “والعالم بجميع أجزائه” الأجزاء مطلقًا بل الأجزاء المعلومة الوجود؛ إذ المقصود منه إثبات الصانع وصفاته، وهو إنما يعلم من أجزائه المعلومة الوجود، فعدم بيان حدوث المحتمل؛ أعني: المجردات لا ينافي غرض المصنف.
قوله: (واحتمال المركب…إلخ) جواب عن الاعتراض الثاني، وحاصله أن التركيب من المجردات وإن كان محتملًا إلا أنه لم يذهب إليه أحد؛ فلذا لم يلتفت إليه المصنف، وأورده بعبارة تفيد حصر المركب في الجسم بخلاف المجردات، فإن كثيرًا من الناس قائل بها فالتفت إليه، وأدى بعبارة التمثيل.
قال الباجوري:
قوله: (أو غير مركب) قسيم لقوله “إما مركب” كما لا يخفى.
قوله: (كالجوهر) أي: الفرد، وإنما لم يقيده به جريا على طريقة المتقدمين من أن الجوهر اسم للجزء الذي لا يتجزأ كما يصرح بذلك قوله “وهو…إلخ”، لا على طريقة المتأخرين من أن الجوهر اسم لما له قيام بذاته ولو مركبا. فعلى الطريقة الأولى: متى أطلق الجوهر لا ينصرف إلا للجوهر الفرد، فيكون أخص من مطلق العين الشامل للمركب وغيره. وعلى الثانية: إذا أطلق فالمراد به ما له قيام بذاته ولو مركبا، فيكون مرادفا لمطلق العين، فإذا أرادوا به الجزء الذي لا يتجزأ قيدوه بالفرد.
قوله: (يعني العين الذي لا يقبل الانقسام…إلخ) إنما أتى الشارح بهذه العناية؛ لئلا يتوهم أن المراد به الجزء الذي لا يتجزأ، الذي هو قسم من مطلق العين، كما هو طريقة المتقدمين لكن يرد عليه أن ذلك لا يتوهم بعد قول المصنف “وهو…إلخ” إلا أن يجاب بأن ذلك يتوهم ابتداء قبل قوله “وهو…إلخ” كما قاله شيخنا.
قوله: (لا فعلا) أي: لا بالفعل، والانقسام بالفعل أثر القسمة الفعلية، وهي ما توجب الانفصال والانفكاك في الخارج: إما بالقطع كقسمة اللحم، أو بالكسر كقسمة إناء من فخار.
قوله: (ولا وهما) أي: ولا بالوهم، والانقسام بالوهم أثر القسمة الوهمية، وهي فرض الوهم الشيء المحسوس شيئين فأكثر فهي لا توجب الانفصال والانفكاك في الخارج وإنما لم يقبل الانقسام وهما لعجز الوهم عن التصرف فيه بقسمته؛ لأنه لا يدرك منه مقدارا يقبل الانفصال والانفكاك، وإنما أتى بقوله “ولا وهما” بعد قوله “لا فعلا”؛ لأنه لا يلزم من عدم الانقسام فعلا عدم الانقسام وهما بخلاف العكس.
قوله: (ولا فرضا) أي: ولا بالفرض، والانقسام بالفرض أثر القسمة الفرضية، وهي فرض العقل شيئا كليا شيئين فأكثر فهي أيضا لا توجب الانفصال والانفكاك في الخارج، وإنما لم يقبل الانقسام فرضا؛ لامتناع العقل من الحكم بانقسام ما لا يكون له حجم يمكن انقسامه، والمراد فرضا مطابقا للواقع لأجل أن يصح النفي، وإلا فللعقل فرض كل شيء حتى المحال. قال بعض الفضلاء: لا خفاء في أن هذه الكلية في حيز المنع؛ إذ لا يمكن فرض اشتراك الجزئي الحقيقي في كثيرين؛ إذ الفرض فيه ممتنع كالمفروض، كما بين في محله، ورده العلامة عبد الحكيم بأن الفرض الممتنع في الجزئي بمعنى التجويز العقلي، لا بمعنى ملاحظة العقل وتصوره؛ لأنه غير ممتنع في شيء من الأشياء على ما حققوه، ولو حمل الفرض في عبارة الشارح على معنى التجويز العقلي لم يحتج إلى تقييده بالمطابقة؛ لأن تجويز انقسامه ممتنع كتجويز اشتراك الجزئي، وإنما لم يحمل على ذلك؛ لأن الأول أسبق إلى الفهم وإنما أتى بقوله “ولا فرضا” بعد قوله “ولا وهما”؛ لأنه لا يلزم من عدم الانقسام وهما عدم الانقسام فرضا؛ لأن الوهم ربما لا يقدر على إحضار ما يقسمه لصغره، ولا على إحاطة ما لا يتناهي بخلاف العقل، فإنه يقدر على ذلك لتعلقه بالكليات المشتملة على الصغير والكبير والمتناهي وغير المتناهي.
قوله: (وهو الجزء الذي لا يتجزأ) أي: بوجه من الوجوه المذكورة.
قوله: (ولم يقل وهو الجوهر) أي: بدل قوله “كالجوهر”.
وقوله: (احترازا عن ورود المنع) أي: تباعدا عن ورود منع الحصر الذي يقتضيه قوله “وهو الجوهر” فإنه جملة معرفة الطرفين والجملة المذكورة تفيد الحصر، ولا يخفى أن ذلك علة للنفي، ولو قال المصنف “وهو الجوهر” لأمكن دفع ذلك الإيراد بأن المقصود حصر ما ثبت وجوده بالأدلة، وما أورد على الحصر لم يثبت بالأدلة؛ لأن أدلته ضعيفة مردودة. لا يقال: لا نسلم أن المقصود حصر ما ثبت وجوده بالأدلة؛ إذ لو كان المقصود ما ذكر لبقي احتمال ما ثبت وجوده بالأدلة؛ إذ لو كان المقصود ما ذكر لبقي احتمال وجود جزء من العالم كالمجردات لا يدل الدليل الآتي على حدوثه، واحتمال وجود جزء من العالم لا يدل الدليل الآتي على حدوثه ينافي غرض المصنف من بيان حدوث العالم بجميع أجزائه الشاملة للموجودة يقينا وللمحتملة للوجود؛ لأنا نقول لا نسلم أن غرض المصنف بيان حدوث العالم بجميع أجزائه مطلقا، بل غرضه بيان حدوثه بجميع أجزائه المعلومة فقط؛ لأن المراد منه إثبات الصانع وصفاته، وهو إنما يعلم من حدوثه بجميع أجزائه المعلوم دون غيرها، وحينئذ فعدم بيان حدوث الجزء المحتمل لا ينافي غرض المصنف. واعترض على كون العلة في عدم قوله “وهو الجوهر” الاحتراز عن ورود الحصر بأن مثل هذا المنع وارد على قوله فيما تقدم “وهو الجسم”؛ لأن وجود جوهر مركب من جوهرين مجردين محتمل، فلم لم يلتفت إليه وحصر المركب في الجسم. وأجيب بأن احتمال المركب في المجردات مما لم يذهب إليه أحد؛ فلذا لم يلتفت إليه المصنف وحصر المركب في الجسم حيث قال: “وهو الجسم” بخلاف المجردات، فإن كثيرا من الناس قائل بهذا فلذا التفت إليه المصنف حيث قال كالجوهر، وقد قدمنا هذه الاعتراض، وجوابه عند قول المصنف “وهو الجوهر”.
قوله: (فإن ما لا يتركب…إلخ) سند للمنع، فهو علة لورود المنع.
وقوله: (لا ينحصر عقلا في الجوهر…إلخ) أي: لأن أقسامه بحسب العقل خمسة، الأول: الجزء الذي لا يتجزأ وهو الجوهر، والثاني: الهيولى وهو المحل، والثالث: الصورة وهو الحال، والرابع: العقل وهو مجرد في ذاته وفعله، والخامس: النفس وهو مجرد في ذاته فقط، لكن الفلاسفة أبطلوا الجزء الذي لا يتجزأ، فصارت الأقسام عندهم أربعة، والمتكلمون لا يثبتون هذه الأقسام الأربعة، فانحصر غير المركب عنده في الجزء الذي لا يتجزأ.
قوله: (بمعنى الجزء الذي لا يتجزأ) إنما اتبع الجوهر بذلك؛ لأن الجوهر يشمل الهيولى والصورة كما قاله ابن الغرس.
قوله: (بل لا بد من إبطال…إلخ) أي: بل لابد في الانحصار من إبطال…إلخ؛ لأنه بدون إبطال ما ذكر لا يتم الانحصار.
قوله: (الهيولى) هي كما قاله ابن سينا: جوهر وجوده بالفعل إنما يحصل بقبوله الصورة الجسمية لقوة فيه قابلة للصورة، وقرر بعضهم أن أنواع الهيولى أربعة، هيولى الصناعة: وهي ما يعمل منه الصانع ما يصنعه كالخشب للنجار، وهيولى الطبيعة: وهي العناصر الأربعة للمواليد الثلاثة التي هي الحيوان والنبات والمعدن، وهيولى الكل: وهي الجسم المطلق الذي يحصل منه العالم الجسماني كالأفلاك والكواكب، والهيولى الأولي: وهي ذات قائمة بنفسها تحل فيه الجسمية على ما قيل.
قوله: (والصورة) هي كما قاله: ابن سينا الموجود في شيء آخر، لا كجزء منه، ولا يصح وجوده مفارقا له، ووجود ما هو بالفعل حاصل به، وقد تقدم توضيح ذلك في مثال الشمعة. ويندرج في قول الشارح والصورة النفوس المنطبعة: كالنفس المعدنية والحيوانية والنباتية، فإن المعدن له نفس يزيد بها، والحيوان له نفس يقبل الغذاء بها، والنبات له نفس يقبل النمو بها، ويعبر عن كل هذه النفوس بالصورة كما يعبر عنه بالنفس المنطبعة؛ فلذا صح إدراج النفوس المنطبعة في قول الشارح “والصورة” دون قوله “والنفوس” فإن المراد به النفوس المجردة.
قوله: (والعقول) يعنون بها ملائكة مخصوصة، كما قاله البخاري، فالعقل الفياض يعنون به جبريل، وقد صرح بذلك في المقاصد، وعرف الفلاسفة العقل بأنه جوهر مجرد عن المادة ذاتا وفعلا، فليس بجسم في حد ذاته ولا متعلقا بجسم.
قوله: (والنفوس) أي: المجردة كما تقدم، وعرف الفلاسفة النفس بأنها جوهر مجرد ذاتا لا فعلا، فهي جوهر مجرد عن الجسمية في ذاته، لكن تتعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف في الحركة والسكون وفي النوم واليقظة.
قوله: (المجردة) أي: عن الجسمية والعرضية وهو راجع لكل من العقول والنفوس.
قوله: (ليتم ذك) أي: ليتم ذلك الانحصار، وبحث في ذلك بأن الانحصار الصادر من المصنف لا يتوقف تمامه على إبطال ما ذكر؛ لأنه صدر منه على سبيل الحكاية له عن أهل السنة المعنون عنهم في صدر الكتاب بأهل الحق، والذي يحتاج في تمامه إلى إبطال ذلك الصادر على سبيل الإثبات لا على سبيل الحكاية.
قوله: (وعند الفلاسفة…إلخ) وعند المتكلمين له وجود، لكن هل يمكن وجوده عنده مستقلا أو لا يمكن وجوده إلا في ضمن غيره؟ قولان، والحق الأول. فقوله “لا وجود للجوهر الفرد” أي: مستقلا أو في ضمن غيره.
قوله: (أعني الجزء الذي لا يتجزأ) إنما أتى بذلك بعد قوله “الجوهر الفرد”؛ لئلا يسبق إلى الوهم أن الجوهر الفرد يشمل الهيولى والصورة. قوله: (وتركب الجسم إنما هو…إلخ) جواب عما قد يقال: وإذا لم يكن للجوهر الفرد وجود عند الفلاسفة، فتركب الجسم من أي شيء؟
وقوله: (من الهيولى) أي: التي هي المحل.
وقوله: (والصورة) أي: التي هي الحال بقسميها: الجسمية والنوعية، فكل جسم مركب عندهم من ثلاثة جواهر، كما تقدم الهيولى والصورة الجسمية والصورة النوعية.
قال الشارح: وأقوى أدلة إثبات الجزء أنه لو وضع كرة حقيقية على سطح حقيقي لم تماسه إلا بجزء غير منقسم، إذ لو ماسته بجزأين لكان فيهما خط بالفعل، فلم تكن كرة حقيقية على سطح حقيقي. وأشهرها عند المشايخ وجهان: الأول: أنه لو كان كل عين منقسماً لا إلى نهاية لم تكن الخردلة أصغر من الجبل، لأن كلاً منهما غير متناهي الأجزاء، والعظم والصغر إنما هو بكثرة الأجزاء وقلتها، وذلك إنما يتصور في المتناهي.
قال الخيالي:
قوله: (خط بالفعل) أي: مستقيم؛ لأن اللازم هذا وإن كان مطلق الخط بالفعل ينافي الكرة الحقيقية.
قوله: (و ذلك إنما يتصور في المتناهي) يرد عليه أن العقل جازم بأن جميع مراتب الأعداد أكثر مما بعد العشرة منها، وكذا تعلقات علمه تعالى أكثر من تعلقات قدرته.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي: مستقيم؛ لأن اللازم…إلخ) يعني: أن تفسير الخط بالمستقيم ليس للإصلاح بل هو بيان للواقع؛ إذ اللازم من وضع الكرة الحقيقية على السطح الحقيقي المستوي على تقدير تماسها بجزئين أو أكثر وجود الخط المستقيم، ضرورة أن ما به المماسة من الكرة يكون منطبقًا على السطح فيكون مستقيمًا لاستقامته، وإن كان وجود مطلق الخط بالفعل سواء كان مستقيمًا، أو غير مستقيم، منافيًا للكرة الحقيقية عندهم؛ لأن وجود الخط بالفعل فرع التناهي في الوضع، وهو كون المقدار بحيث يشار إلى طرفه إشارة حسية؛ لأنه طرف ونهاية عارضة له، والكرة الحقيقية غير متناهية في الوضع لعدم وجود نهايتها في الإشارة الحسية، وإن كان متناهيًا في المقدار؛ بمعنى أنه يمكن أن يفرض بقدر محدود. فما قيل: “إن وجود الخط المستدير بالفعل” لا ينافي الكرة الحقيقية ليس بشيء، وإنما قال: “بالفعل” لأن الخط المستدير بالقوة موجود فيها عندهم؛ بمعنى أنه لو قسم حصل الخطوط المستديرة، ولاينفي الكرة الحقيقية. وإنما قلنا: “عندهم” لأن بعض المتكلمين ذهبوا إلى أن السطوح مركبة من الخطوط الجوهرية، فيكون الخط المستدير موجودًا فيها بالفعل عند ذلك البعض، هذا تحقيق عبارة المحشي، ولايخفى أنه لافائدة حينئذ في تقييد الخط بالفعل في قول الشارح: “وإلا لكان فيها خط بالفعل…إلخ” فإن وجود الخط المستقيم مطلقًا ينافي الكرة الحقيقية، اللهم إلا أن يكون بيانًا للواقع. وأيضًا إنما يتم لو كان قيد الاستواء في قوله: “على سطح حقيقي” مرادًا محمولًا على غفلة الشارح، على ما قاله بعض الأفاضل: والظاهر من عبارته أن المراد به مايكون سطحًا حقيقيًا لاحسيًا مطلقًا، سواء كان مستويًا أو غير مستو. فحاصل الاستدلال: أنه لو وضع الكرة الحقيقية في نفس الأمر لا يحسب الحس على السطح الحقيقي لم تكن المماسة إلا بجزء غير منقسم؛ لأنها لو كانت بجزئين لكان في الكرة خط بالفعل، إما مستقيم إن وضع على السطح المستوي، أو غير مستقيم إن وضع على غير المستوي، فلم تكن الكرة حقيقية؛ لأن وجود الخط بالفعل ينافي الكرة الحقيقية عندهم على مازعموا، فتدبر واحفظ.
قوله: (يرد عليه أن العقل جازم بأن جميع مراتب الأعداد أكثر…إلخ) يعني: أن جميع مراتب الأعداد من الواحد إلى غير النهاية أكثر من المراتب التي يعد؛ أي: ينقص العشرة من تلك المراتب وهي ما يعد العشرة، فلفظ “يعد” بصيغة المضارع المجهول من العد؛ بمعنى: الإسقاط. وخلاصته: أن جميع مراتب الأعداد أكثر مما يعد العشرة؛ لشمولها مرتبة الآحاد أيضًا مع أن كلًا منها غير متناهية. وقيل في توجيهه: أن جميع مراتب الأعداد؛ أي: كل واحدة منها أكثر من مرتبة يعد العشرة من تلك المرتبة، مثلًا: مرتبة الآحاد أكثر من مرتبة العشرات التي يعد العشرة من الآحاد، ومرتبة العشرات أكثر من مرتبة المئات التي يعد العشرة من العشرات، ولايخفى أنه تكلف بعيد عن الفهم مع أن العبارة اللائقة بهذا المعنى أن جميع مراتب الأعداد أكثر من عشراتها. وفي بعض النسخ: “مما بعد” بلفظ الظرف المقابل للقبل، فالمعنى: أن جميع مراتب الأعداد أكثر من المرتبة التي بعد العشرة؛ أعني: أحد عشر إلى مالا يتناهى، وكذا تعلقات علمه تعالى أكثر من تعلقات قدرته، فإن علمه تعالى يتعلق بالواجب والممكن والممتنع بخلاف القدرة، فإنها مختصة بالممكن مع كون كل منهما غير متناهية عندكم، ولفظ التعلقات يجوز أن يكون على معناه، أو بمعنى المتعلقات. وأجيب عن هذا الاعتراض بأن المراد أن القلة والكثرة في الأمور الموجودة لا يتصور بدون التناهي، ومراتب الأعداد أمور وهمية والموجودة من المعلومات والمقدورات متناهية، وفيه بحث؛ لأن الأجزاء الموجودة في الجسم أيضًا متناهية، وأما الأجزاء الممكنة فهي لا تقف إلىحد كما لا تقف الأعداد، والمعلومات والمقدورات إليه.
قال الباجوري:
قوله: (وأقوى أدلة إثبات الجزء…إلخ) أي: التي استدل بها المتكلمون على إثبات الجزء الذي لا يتجزأ، ولا ينافي قوله هنا “وأقوى أدلة إثبات الجزء…إلخ” قوله فيما سيأتي: والكل ضعيف لأن قوة الدليل عند من استدل به وضعفه عند الشارح.
قوله: (أنه لو وضع…إلخ) أي: أن الحال والشأن لو وضع…إلخ فالضمير للحال والشأن، ونظم هذا الدليل هكذا: لو وضع كرة حقيقية على سطح حقيقي لم تماسه إلا بجزء غير منقسم، وكلما لم تماسه إلا بجزء غير منقسم كان هناك جزأ لا يتجزأ، فذكر الشارح الصغرى وحذف الكبرى.
قوله: (كرة حقيقية) هي الجسم المستدير استدارة تامة كالبيضة تقريبا، ولا يقدر على الاستدارة التامة إلا المولى عز وجل، والمراد بكونها حقيقية أن تكون كريتها بحسب نفس الأمر كالإحساس، واحترز بذلك عن الكرة غير الحقيقية بأن تكونه كريتها بحسب الإحساس لا بحسب نفس الأمر.
قوله: (على سطح حقيقي) أي: المسمى بالمستوي وهو ما ليس له علو ولا تسفل، بحيث يمكن أن يفرض فيه خطوط مستقيمة في جميع الجهات، وذلك كسطح صحيفة النحاس.
قوله: (لم تماسه إلا بجزء غير منقسم) فثبت الجزء الذي لا يتجزأ، لكن بضميمة الكبرى السابقة.
قوله: (إذ لو ماسته…إلخ) دليل للملازمة في الشرطية السابقة، وهذا الدليل يتوقف على قياسين نظمهما هكذا: لو ماسته بجزئين لكان فيهما خط بالفعل، لكن التالي باطل؛ لأنه لو كان فيها خط بالفعل لم تكن كرة حقيقية، لكن التالي باطل، وإذا بطل التالي فيهما بطل المقدم فيهما، فالشارح اقتصر على ترتيب اللوازم، ولم يأت بصورة القياسين المذكورين.
قوله: (بجزئين) إنما اقتصر الشارح على الجزئين ولم يذكر الأكثر؛ لأن المماسة بالجزئين فيما إذا وضع كرة حقيقية على سطح حقيقي ولم تماسه بجزء لازمة لا محالة بخلاف المماسة بالأكثر فليست بلازمة في ذلك.
قوله: (لكان فيها خط بالفعل) أي: لكان في سطحها خط بالفعل مستقيم؛ لأن اللازم من مماستها له بجزئين أن يكون فيها خط بالفعل مستقيم؛ ضرورة أن ما به من المماسة من الكرة يكون منطبقا على السطح الحقيقي، فيكون مستقيما وإن كان مطلق الخط بالفعل مستقيما أو غير مستقيم ينافي الكرة الحقيقية عندهم؛ لأنه فرع التناهي في الوضع بحيث يشار إلى طرفه إشارة حسية وهي غير متناهية في الوضع بحيث يشار إلى طرفها الإشارة المذكورة، وإنما قال بالفعل لأن الخط بالقوة موجود فيها عندهم؛ إذ لو قسمت لحصل فيها خطوط بالفعل. قوله: (فلم تكن كرة حقيقية) أي: مع أن الغرض أنها كرة حقيقية، فيلزم على ذلك سلب الشيء عن نفسه وهو باطل.
قوله: (وأشهرها عند المشايخ وجهان) أي: وأشهر أدلة إثبات الجزء الذي لا يتجزأ عند مشايخ ما وراء النهر وجهان؛ ولضعفهما لم يعرج عليهما مشايخ الأشعرية.
قوله: (الأول أنه لو كان كل عين…إلخ) تقريره أن نقول: لو كان كل عين منقسما لا إلى نهاية لم تكن الخردلة أصغر من الجبل، ولم يكن الجبل أعظم من الخردلة، لكن التالي باطل وإذا بطل الثاني بطل المقدم، وإذا بطل المقدم وهو كون كل عين منقسما لا إلى نهاية، ثبت نقيضه وهو كون كل عين منقسما إلى نهاية، ولا معنى لتلك النهاية إلا الجزء الذي لا يتجزأن فثبت المطلوب.
قوله: (منقسما لا إلى نهاية) أي: كما تقول به الفلاسفة.
قوله: (لم تكن الخردلة أصغر من الجبل) أي: ولم يكن الجبل أعظم من الخردلة، وإنما سكت الشارح عن ذلك؛ للزومه لما اقتصر عليه.
قوله: (لأن كل منهما غير متناهي الأجزاء) أي: لأن كلا من الخردلة والجبل غير متناهي الأجزاء؛ ضرورة أن الانقسام فيهما ذاهب إلى غير نهاية، فيثبت لكل منهما من الأجزاء ما يثبت للآخر، فلم يكن أحدهما أصغر ولا أعظم.
وقوله: (والعظم والصغر) إنما هو بكثرة الأجزاء في العظم، وقلتها في الصغر، ففيه نشر على ترتيب اللف.
وقوله: (وذلك إنما يتصور في المتناهي) أي: وما ذكر من كثرة الأجزاء وقِلّتها، إنما يتعقل ثبوته في الشيء المتناهي، ويرد على هذا الحصر أن العقل جازم بأن جميع مراتب الأعداد من واحد إلى ما لا نهاية له أكثر مما بعد العشرة من تلك المرات إلى ما لا نهاية له، فجميع مراتب الأعداد من واحد إلى ما لا نهاية أكثر من المراتب التي بعد العشرة؛ أعني: أحد عشر فما فوقها إلى ما لا نهاية، فقد تصور كل من الكثرة والقلة في غير المتناهي، وكذلك تعلقات علمه تعالى مع عدم تناهيهما أكثر من تعلقات قدرته مع عدم تناهيها، فإن علمه تعالى يتعلق بالواجب والممكن والممتنع، بخلاف قدرته فإنها خاصة بالممكن، ويجاب بأن الكلام في الأمور الموجودة، فالمراد أن ما ذكر من الكثرة والقلة في الأمور الموجودة، إنما يتصور في المتناهي دون غير المتناهي، ومراتب الأعداد أمور وهمية لا وجود لها في الخارج، وكذلك التعلقات أمور اعتبارية لا وجود لها في الخارج أيضا، فكل من مراتب الأعداد والتعلقات لا يرد على الحصر المذكور؛ لأنه مختص بالموجودات دون الأمور الاعتبارية.
قال الشارح: والثاني: إن اجتماع أجزاء الجسم ليس لذاته، وإلا لما قبل الافتراق، فالله تعالى قادر على أن يخلق فيه الافتراق إلى الجزء الذي لا يتجزأ، لأن الجزء الذي تتنازعه فيه إن أمكن افتراقه لزم قدرة الله تعالى عليه دفعاً للعجز وإن لم يمكن ثبت المدعى.
والكل ضعيف: أما الأول فلأنه إنما يدل على ثبوت النقطة، وهو لا يستلزم ثبوت الجزء، لأن حلولها في المحل ليس حلول السريان حتى يلزم من عدم انقسام المحل.
قال الخيالي:
قوله: (والثاني) حاصل هذا الوجه: أن كل ممكن مقدور لله تعالى، فله أن يوجد الافتراقات الممكنة ولو غير متناهية، فحينئذ كل مفترق واحد جزء لا يتجزأ؛ إذ لو أمكن افتراقه مرة أخرى لزم قدرته تعالى عليه، فدخل تحت الافتراقات الموجودة، فلم يكن ما فرضناه مفترقا واحدا وإن لم يمكن افتراقه ثبت المدعى، وعلى هذا التقرير لا يرد اعتراض الشارح.
قوله: (على ثبوت النقطة) إن قلت: النقطة نهاية الخط ولا خط بالفعل في الكرة فلا نقطة فيه. قلت: تلك القضية مهملة لا كلية، فإن نهاية أحد سطحي الجسم المخروطي نقطقة بلا خط، وكذا المركز.
قال السيالكوتي:
قوله: (حاصل هذا الوجه أن كل ممكن…إلخ) يعني: أن كل واحد من الافتراقات الغير المتناهية التي يقبلها الجسم ممكن، وكل ممكن مقدور لله تعالى، فله تعالى أن يوجد جميعها، فكل مفترق واحد حادث من آحاد تلك الافتراقات جزء لا يتجزأ؛ إذ لو أمكن افتراقه بوجه ما مرة أخرى لزم قدرته تعالى عليه ضرورة كونه ممكنًا، فيكون موجودًا داخلًا تحت الافتراقات المفروضة الوجود، فلم يكن مافرضناه مفترقًا واحدًا غير قابل للافتراق مرة أخرى بل مفترقين هذا خلف، وإن لم يمكن افتراقه مرة أخرى بوجه ثابت من الوجوه المدعى؛ أعني: وجود جزء غير منقسم.
قوله: (وعلى هذا التقرير لا يرد اعتراض الشارح) وهو ما سيجيء بقوله: والافتراق ممكن لا إلى نهاية، فلا يستلزم الجزء؛ لأنه إذا كان الافتراق ممكنًا إلى غير النهاية يكون جميع تلك الافتراقات مقدورًا لله تعالى، فله أن يوجد كلها فثبت الجزء. قال بعض الفضلاء: ليس معنى قولهم: “أن الافتراق ممكن إلى غير النهاية” أنه يمكن خروج الانقسامات الغير المتناهية من القوة إلى الفعل بأن يكون في الوجود أمور غير متناهية بالفعل، فإن ذلك باطل ببرهان التطبيق، بل المراد أنه من شأنه وقوته أن يقبل الانقسام دائما ولاينتهي إلى حد لايمكن فيه فرض شيء غير شيء، فلا يوجد جميع الانقسامات الغير المتناهية، فلا يكون كل مفترق واحد جزءًا لا يتجزأ، ولايلزم من إمكان افتراقه مرة أخرى خلاف المفروض. انتهى. والأولى أن يقال: بطلان خروج الانقسانات الغير المتناهية بالفعل بامتناع اشتمال الجسم المتناهي المقدار على الأمور الغير المتناهية في الخارج لاببرهان التطبيق؛ لأن الفلاسفة اشترطوا في جريانه الاجتماع والترتيب، حتى جوزوا وجود الحركات الغير المتناهية على التعاقب، والنفوس المفارقة عن الأبدان لعدم الترتيب، فإذا كان كل واحد من الانقسامات الغير المتناهية المتحققة في الجسم بالقوة ممكنًا يكون جميعها ممكنة مقدورة لله تعالى، فيجوز خروجها من القوة إلي الفعل مجتمعة أو متعاقبة على رأيهم، وحينئذ يكون كل مفترق واحد جزءًا لا يتجزأ، ويتم الدليل عليهم الزاميًا.
قوله: (إن قلت النقطة…إلخ) حاصله: أنهم صرحوا بأن النقطة نهاية عارضة للخط أولًا، وبالذات فلا يوجد بدونه؛ إذ الأعراض الأولية للشيء لا يوجد بدونه، ولا خط بالفعل في الكرة على ما مر فلا نقطة، فيكون ما به التماس جزءًا لا يتجزأ.
قوله: (تلك القضية مهملة…إلخ) يعني: أن قولهم: “النقطة نهاية الخط” قضية مهملة في قوة الجزئية لا كلية، فإن نهاية أحد سطحي المخروط المستدير؛ أعني: السطح المبتدأ من القاعدة المنتهى إلى النقطة في جانب الرأس في كلا امتداديه نقطة بلا خط، وكذا مركز الكرة والدائرة نقطة بلا خط، فيجوز أن يكون نهاية سطح الكرة نقطة بلا خط أيضًا. وماقيل من أنه لانقطة في الكرة كما لاخط، فالمراد أنه لانقطة فيها بالفعل، ويجوز أن يحصل فيها بعد التماس كما يحصل فيها بعد حركتها على نفسها، من غير أن يخرج عن مكانها نقطتان غير متحركتين هما قطبا الكرة، والمخروط شكل يحيط به سطحان: أحدهما قاعدته، والآخر مبتدأ منه، ويضيق عليه إلى أن ينتهي إلى نقطة هي رأسه، فإن كانا مستديرين يسمى: صنوبريًا ومستدير، وإلا فمضلعًا.
قال الباجوري:
قوله: (الثاني أن اجتماع أجزاء الجسم ليس لذاته) أي: الوجه الثاني من الوجهين المذكورين أن اجتماع أجزاء الجسم الطبيعي ليس لذات الجسم بل لغيره، وهو تعلق إرادته تعالى وقدرته به، وحينئذ فيكون اجتماعها ممكنا يمكن تخلفه بالافتراق.
وقوله: (وإلا لما قبل الافتراق) أي: وإلا يكن اجتماع أجزاء الجسم ليس لذاته، بأن كان لذاته لما قبل الجسم الافتراق بدل الاجتماع؛ لأن ما ثبت للذات لا يتخلف، لكن التالي وهو عدم قبول الجسم للافتراق باطل، فما أدى إليه وهو كون الاجتماع لذاته باطل. وإذا بطل كون الاجتماع لذاته ثبت نقيضه، وهو كون الاجتماع ليس لذاته.
وقوله: (فالله تعالى قادر على أن يخلق فيه الافتراق إلى الجزء الذي لا يتجزأ) تفريع على كون اجتماع أجزاء الجسم ليس لذاته؛ لأنه إذا كان اجتماع أجزاء الجسم ليس لذاته كان ممكنا، يمكن تخلفه بالافتراق، فيكون الافتراق ممكنا أيضا، وكل ممكن مقدور لله، فله أن يوجد الافتراقات الممكنة، ولو غير متناهية على فرض وجودها، وحينئذ يكون كل مفترق واحد جزء لا يتجزأ.
وقوله: (لأن الجزء…إلخ) علة لمحذوف والتقدير: فثبت الجزء الذي لا يتجزأ لأن الجزء…إلخ.
قوله: (الذي تنازعنا فيه) لو حذفه لكان أظهر؛ لأن التنازع بيننا وبين الفلاسفة إنما وقع في الجزء الذي لا يتجزأ من حيث هو، فقلنا بوجوده وقالوا بنفيه، والكلام هنا في الجزء الذي انتهى إليه الافتراق ولم يقع فيه التنازع بيننا وبين الفلاسفة بالوجود والنفي. نعم يمكن أن يكون وقع فيه التنازع بيننا وبين الفلاسفة، فقلنا لا يمكن انقسامه وقالوا يمكن انقسامه كما قرره بعض الأشياخ.
وقوله: (إن أمكن افتراقه لزم قدرة الله تعالى عليه دفعا للعجز) أي: إن فرض انقسامه لزم أن الله تعالى قادر عليه؛ لأنه لو لم يكن قادرا عليه لزم أن يكون عاجزا وهو محال، فيدخل افتراقه تحت الافتراقات الموجودة، فلم يكن ما فرضناه مفترقا واحدا من غير اجتماع أصلا مفترقا واحدا هذا خلف.
وقوله: (وإن لم يمكن ثبت المدعى) أي: وإن لم يمكن افتراقه ثبت المدعى وهو وجود الجزء الذي لا يتجزأ، وحاصل هذا الوجه أن كل ممكن مقدور لله تعالى، والافتراقات ولو غير متناهية ممكنة، فله تعالى أن يوجدها، وحينئذ فكل مفترق واحد حاصل من تلك الافتراقات جزء لا يتجزأ؛ لأن هذا الجزء إن أمكن افتراقه مرة أخرى لزم قدرته تعالى عليه ضرورة كونه ممكنا، فيدخل تحت الافتراقات الموجودة فلم يمكن ما فرضناه مفترقا واحدا من غير اجتماع أصلا مفترقا واحد، بل مفترقين أو أكثر هذا خلف، وإن لم يمكن افتراقه مرة أخرى ثبت المدعى، وهو وجود الجزء الذي لا يتجزأ. وعلى هذا التقدير، لا يرد اعتراض الشارح الآتي في قوله “وأما الثاني والثالث فلأن الفلاسفة لا يقولون بأن الجسم متألف من أجزاء” إلى أن قال “والافتراق ممكن لا إلى نهاية فلا يستلزم الجزء لأنه إذا كان الافتراق ممكنا ولو لم يكن متناهيا يكون ذلك الافتراق مقدور الله تعالى، فله تعالى أن يوجده فيثبت الجزء ويتم الدليل عليهم إلزاميا، كذا يؤخذ من كلام العلامة الخيالي، وبحث فيه أنه لا يلتئم مع مذهب الفلاسفة بأن كل جسم واحد في ذاته غير قابل للافتراق بالفعل، والافتراق المحسوس من أغلاط الحس؛ لأن الحاصل انعدام جسم واحد وحدوث جسمين آخرين، والمراد بالانقسام في قولهم” الجسم يقبل الانقسام لا إلى نهاية” الانقسام الوهمي لا الانقسام الفعلي.
فقوله: (كل ممكن مقدور لله تعالى والافتراقات ولو غير متناهية ممكنة فله تعالى أن يوجدها…إلخ) إن أراد بالممكن في ذلك الممكن الذي له ثبوت في الواقع فمسلم أن كل ممكن مقدور لله تعالى، لكن جعل الافتراقات ممكنة بهذا المعنى ممنوع؛ لأنهم لا يقولون بأن افتراقات الجسم لها ثبوت في الواقع، وإنما يقولون بأنها افتراقات وهمية، فلا تكون ممكنة بالمعنى المذكور، وحينئذ فلا يصح تفريع قوله “فله تعالى أن يوجدها…إلخ” عليه؛ لأنه إنما يصح إذا كان إمكان الافتراقات واقعيا، وإن أراد بالممكن في ذلك الممكن وإن لم يكن له ثبوت في الواقع فلا يسلم أن كل ممكن مقدور لله تعالى؛ لأن الممكن إمكانا وهميا ليس مقدورا لله تعالى؛ إذ الإمكان الوهمي لا يوجب الدخول تحت القدرة ولا يسلم أيضا التفريع المتقدم؛ لأنها افتراقات وهمية فلا يتعلق بها الإيجاد حتى يثبت الجزء.
قوله: (والكل ضعيف) أي: وكل الأدلة المذكورة من الأقوى والأشهر بوجهيه.
قوله: (أما الأول فلأنه…إلخ) أي: أما ضعف الأول فثابت؛ لأنه…إلخ،
وقوله: (إنما يدل على ثبوت النقطة) أي: إنما يدل بواسطة التماس على ثبوت النقطة؛ لأن المماسة إنما وقعت بها عند الحكماء النافين للجوهر الفرد. فإن قيل النقطة نهاية الخط، ولا خط بالفعل في الكرة فلا نقطة فيها؛ لأنها نهاية عارضة للخط أولا، والأعراض الأولية للشيء لا توجد بدونه. أجيب بأن قولهم النقطة نهاية الخط قضية مهملة في قوة الجزئية القائلة: قد تكون النقطة نهاية الخط لا كلية؛ لأن نهاية أحد سطحي الجسم المخروطي نقطة بلا خط، وكذا مركز الدائرة فإنه نقطة بلا خط، فيجوز أن يكون في سطح الكرة نقطة بلا خط أيضا. والجسم المخروطي شكل يحيط به سطحان، أحدهما: قاعدته والآخر: مبتدأ منه، ويُضَيَّقُ إلى أن يصل لنقطة هي رأسه وصورته هكذا والدائرة سطح مسَوّ يحيط به خط مستدير في وسطه نقطة تسمى مركزا، تكون الخطوط الخارجة من تلك النقطة المنتهية إلى ذلك الخط متساوية وصورتها هكذا
وقوله: (وهو لا يستلزم ثبوت الجزم) أي: ثبوت النقطة لا يستلزم ثبوت الجزء الذي لا يتجزأ، وهذا جواب عما يقال: إذا دل الدليل على ثبوت النقطة، فقد دل على ثبوت الجزء؛ لأن النقطة عندهم عرض قائم بمحل وهي لا تنقسم، ويلزم من عدم انقسامها عدم انقسام المحل، وحينئذ فثبتوتها يستلزم ثبوت الجزء.
وقوله: (لأن حلولها في المحل ليس حلول السريان) أي: بل حلولها فيه حلول الجواز؛ لأنها ليست من الأعراض المنبسطة السارية في محلها كالبياض والسواد، وإنما هي من الأعراض التي لا تنبسط ولا تسري في محلها بل تجاوره، فتحصل أن الحلول قسمان: حلول سريان وحلول جوار، فالأول: كحلول البياض والسواد في الجسم، والثاني: كحلول النقطة. وفي الأول يلزم من عدم انقسام الحال عدم انقسام المحل بخلافه في الثاني.
وقوله: (حتى يلزم من عدم انقسامها عدم انقسام المحل) مفرع على المنفي فهو منفي أيضا، وحاصل ما ضعف به الأول: أن اللازم له ثبوت النقطة لا يستلزم ثبوت الجزء الذي هو محل النزاع، وقد ارتضى الشارح هذا الدليل في شرح المقاصد حيث قال: والحق أن حديث الكرة والسطح قوي والتماس بجوهرهما ضروري.أ.ه. لكن اعترض بأن المماسة إنما حصلت بصفحة جزء من الكرة، وهذا عين ما قاله الحكماء من أن الملاقاة بالطرف، إلا أنهم لا يجعلون الطرف جزءا من ذي الطرف لدليل عندهم.
قال الشارح: وأما الثاني والثالث: فلأن الفلاسفة لا يقولون بأن الجسم متألف من أجزاء بالفعل وأنها غير متناهية، بل يقولون: إنه قابل لانقسامات غير متناهية وليس فيه اجتماع أجزاء أصلاً، وإنما العظم والصغر باعتبار المقدار القائم به والافتراق ممكن لا إلى نهاية، فلا يستلزم الجزء. وأما أدلة النفي أيضاً فلا تخلو عن ضعف، ولهذا مال الإمام الرازي في هذه المسألة إلى التوقف.
قال الباجوري:
قوله: (وأما الثاني والثالث فلأن الفلاسفة…إلخ) أي: وأما ضعف الثاني والثالث فثابت؛ لأن الفلاسفة…إلخ.
وقوله: (لا يقولون بأن الجسم…إلخ) أي: حتى يتم الاستدلال عليهم بالدليلين المذكورين، فيكون الاستدلال بالثاني والثالث مبنيا على ما لم يقولوا به.
وقوله: (متألف من أجزاء بالفعل) أي: متركب من أجزاء بالفعل كانت متفرقة فاجتمعت حتى صارت حقيقة واحدة. نعم هو متألف من أجزاء وهمية كما يشير إليه قوله “بالفعل”
وقوله: (وأنها غير متناهية) أي: ولا يقولون بأنها غير متناهية إلى حد.
وقوله: (بل يقولون إنه قابل لانقسامات غير متناهية) أي: بل يقولون إن الجسم ذو مقدار واحد متصل في نفس الأمر كما هو عند الحس قابل لانقسامات وهمية غير متناهية إلى حد؛ لأن الوهم لا يقف في القسمة إلى حد لا يكون بعده قسمة؛ إذ ما من جزء إلا ويقسمه الوهم، فليست الانقسامات الغير المتناهية كائنة فيه بالفعل، وإنما هي فيه بالوهم، وبهذا يندفع ما يقال إن انقسام مثل الخردلة إلى أقسام غير متناهية محال، فكيف يكون قابلا لانقسامات لا نهاية لها!
وقوله: (وليس فيه اجتماع الأجزاء أصلا) أي: وليس في الجسم اجتماع الأجزاء بالفعل أصلا، لا متناهية ولا غير متناهية، وحينئذ فلا يتم قوله في بيان الملازمة في أول الوجهين؛ لأن كلا منهما غير متناهي الأجزاء، والعظم والصغر إنما هو بكثرة الأجزاء وقلتها، ولا قوله في الوجه الثاني “إن اجتماع أجزاء الجسم ليس لذاته وإلا لما قبل الافتراق فالله تعالى قادر على أن يخلق فيه الافتراق إلى الجزء الذي لا يتجزأ” وبهذا التقرير تعلم أن قوله” وليس فيه اجتماع الأجزاء أصلا” يناسب كلا من الثاني والثالث، لا خصوص الثالث كما قد يتوهم.
وقوله: (وإنما العظم والصغر باعتبار المقدار القائم به) أي: وليس العظم والصغر إلا باعتبار المقدار العالم به من الطول والعرض والعمق، لا باعتبار كثرة الأجزاء وقلتها كما قالوا في أول الوجهين. ألا ترى أن الشيء إذا لم تكن أجزاؤه متكاثفة صفر مقداره من غير ازدياد في أجزائه، وإذا كانت أجزاؤه متكاثفة صغر مقداره من غير انتقاص من أجزائه، مثلا: القطعة من القطن مقدارها بعد نفشها أعظم من مقدارها قبله، مع أن أجزاؤها بعد النفش هي عين أجزائها قبله، وحينئذ فالعظم والصغر باعتبار المقدار القائم به، لا بكثرة الأجزاء وقلتها، وبهذا التقرير تعلم أن قوله: “وإنما العظم والصغر باعتبار المقدار القائم به يناسب أول الوجهين؛ لأنه مبني على أن العظم والصغر بكثرة الأجزاء وقلتها.
وقوله: (والافتراق ممكن لا إلى نهاية) أي: وافتراق الجسم افتراقا وهميا ممكن لا إلى حد يقف عليه بحيث لا يمكن بعده افتراق؛ لأنه ما من قسم من الأقسام إلا ويمكن عند الوهم افتراقه، وحينئذ فكون الاجتماع ممكنا، المقتضي كون الافتراق مقدورا لله لا يستلزم الجزء، وبهذا التقرير تعلم أن قوله: “والافتراق ممكن لا إلى نهاية” يناسب الوجه الثاني.
وقوله: (فلا يستلزم الجزء) أي: فلا يستلزم ذلك الافتراق ثبوت الجزء الذي لا يتجزأ لعدم تناهيه، هذا هو المتبادر، ويحتمل أن المعنى فلا يستلزم كل من الثاني والثالث ثبوت الجزء الذي لا يتجزأ، فعلى الأول: يكون مفرعا على قوله: “والافتراق ممكن لا إلى نهاية”وعلى الثاني: يكون مفرعا على قوله: “بل يقولون…إلخ” وحاصل ما ضعف به الثاني والثالث: إنهما مبنيان على أن الفلاسفة يقولون: بأن الجسم متألف من أجزاء بالفعل غير متناهية، فيترتب على ذلك أن الخردلة لا تكون أصغر من الجبل، وأن اجتماع أجزائه ليس لذاته فيكون ممكنا ويكون الافتراق مقدورا لله تعالى، مع أنهم لا يقولون بذلك، بل يقولون بأن الجسم متألف من الهيولى والصورة، فيكون متصلا واحدا في نفسه، قابلا لانقسامات وهمية غير متناهية، لا لانقسامات فعلية، فتأمل في المقام تظفر بالمرام.
قوله: (وأما أدلة النفي…إلخ) مقابل لمحذوف والتقدير: أما أدلة الإثبات فقد علمت ضغفها وأما أدلة النفي…إلخ. ولنذكر بعض أدلة النفي: فمنها أن كل متحيز بالذات له جهات ست، وكل منها تغاير الأخرى قطعا، ويلزم من تغاير الجهات تغاير أطرافه المحاذية لها، ويلزم من تغاير أطرافه أن يكون منقسما ويلزم من انقسامه عدم الجزء المذكور. ومنها أنه لو ركبت صفيحة من أجزاء، بأن جعل كل جزء ملاصقا لجزء، ثم وضعت في مقابلة الشمس كان لها وجهان: وجه مضيء وهو المقابل للشمس، ووجه مظلم وهو غير المقابل لها، ويلزم من ذلك انقسام كل جزء من الأجزاء؛ لأن كل جزء له وجهان، ويلزم من انقسام كل جزء عدم الجزء المذكور. ومنها أنه لو فرض ثلاثة أجزاء خطا مستقيما، فلا بد أن يكون الوسط ملاقيا لكل من الآخرين، ويلزم من ذلك انقسامه؛ لأن ما لاقى به أحدهما غير ما لاقى به الآخر قطعا، وكذا يلزم انقسام كل من الآخرين؛ لأن ما يلاقى به كل منهما الوسط غير طرفه الآخر، ويلزم من ذلك عدم الجزء المذكور.
قوله: (أيضا) مقدمة من تأخير، والأصل: فلا تخلو عن ضعف أيضا، ولو أخرها لكان أولى.
وقوله: (فلا تخلو عن ضعف) لم يقل: فضعيفة، كما قال في أدلة الإثبات، ووجه كونها لا تخلو عن ضعف: أن الدليل الأول إنما يلزم من تعدد الأطراف وهي نهايات وأعراض قائمة بالمتحيز، فلا يلزم من تعددها أن يكون منقسما، وكذلك الدليل الثاني إنما يلزم منه تعدد الأطراف لكل جزء. فكل جزء من تلك الصفيحة له طرفان أي: نهايتان قائمتان به، وعرضان حالان فيه، فلا يلزم من ذلك انقسام كل جزء من الأجزاء، والدليل الثالث كذلك أيضا؛ لأن الملاقات إنما وقعت بالنهايات القائمة بالأجزاء، فلا يلزم من تعددها أن يكون الوسط منقسما، وكذا كل من الآخرين، فلم يلزم في هذه الأدلة عند الجزء المذكور.
قوله: (ولهذا مال الإمام الرازي في هذه المسألة إلى التوقف) أي: ولكون أدلة النفي لا تخلو عن ضعف، كما أن أدلة الإثبات ضعيفة، مال الإمام الرازي في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ إلى التوقف، فلم يقل بثبوته ولا بنفيه، حيث قال: لا أدري أن الجسم يتألف من الجزء الذي لا يتجزأ أو من الهيولى والصورة. أ. ه. لكن مع جزمه بأن الهيولى والصورة على تقدير ثبوتهما حادثان بخلق الفاعل المختار، لا كما تقول الفلاسفة من قدمها، فإن ذلك كفر والعياذ بالله تعالى.
والعَرَضُ ما لا يقومُ بذاتِهِ
قال الشارح: فإن قيل: هل لهذا الخلاف ثمرة ؟قلنا: نعم في إثبات الجوهر المفرد نجاةٌ عن كثيرٍ من ظلمات الفلاسفة مثل إثبات الهيولى والصورة المؤدِّي إلى قدم العالم ونفي حشر الأجسام وكثير من أصول الهندسة المبني عليها دوام حركة السموات وامتناع الخرق والالتئام عليها. (والعرض ما لا يقوم بذاته) بل بغيره، بأن يكون تابعاً له في التحيز أو مختصاً به اختصاص الناعت بالمنعوت على ما سبق، لا بمعنى أنه لا يمكن تعقله بدون المحل على ما وهم، فإن ذلك إنما هو في بعض الأعراض.
قال الخيالي:
قوله: (و نفي حشر الأجساد) لأنه في الآخرة، فينافيه استمرار الأولى.
قوله: (المبني عليها دوام حركة السموات) أدلة دوامها المذكورة في الكتب الحكمية المتداولة غير مبنية على أصل هندسى، ولعل الشارح اطلع على دليل ينبني عليه.
قال السيالكوتي:
قوله: (لأنه في الآخرة…إلخ) يعني: أن إثبات الهيولي والصورة يؤدي إلى نفي حشر الأجساد؛ لأن الحشر سواء كان بجميع الأجزاء الأصلية المتفرقة، أو بإعادتها بعد العدم إنما يكون في دار الآخرة، فينافيه استمرار الأولى وعدم زوالها، وهذا أولى مما قيل في بيانه: أن هلاك البدن لا يكون بتفرق أجزائه؛ لامتناع وجود كل من الهيولى والصورة الجسمية والنوعية بدون الأخرى، فلا يكون الحشر بجميعها بل بانتفاء الصورة والأعراض الشخصية، ومن البين أن المعدوم لا يعاد لأن هذا البيان إنما يتم على تقدير تمامية امتناع إعادة المعدوم، ودونه خرط القتاد.
قوله: (أدلة دوامها…إلخ) يعني: أن الظاهر المتبادر أن قوله: المبني عليها صفة لكثير من أصول الهندسة، فيكون المعنى: أن فيه نجاة عن كثير من أصول الهندسة التي ينبني عليها دوام حركة السماوات، لكن أدلة دوامها المتداولة في الكتب المتعارفة غير مبنية عليها. ويمكن أن يتكلف بأن قوله: “وكثير من أصول الهندسة” عطف على قوله: “قدم العالم”، وقوله: “المبني” صفة بعد صفة لقوله: “إثبات الهيولي” يعني: مثل إثبات الهيولي والصورة التي يؤدي إلى القدم ويبتنى عليها دوام الحركة، فإن دوام حركتها مبني على أن يكون قابلًا للحركة المستديرة، وذلك مبني على أن لا يكون المسافة مركبة من أجزاء لاتتجزأ بل متصلًا واحدًا في أنفسها على ما بين في محله.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل لهذا الخلاف ثمرة) إنما احتيج إلى السؤال عن ثمرة هذا الخلاف؛ لخفائها فإن العقائد الدينية لا تعلق لها بكون الجسم مركبا من الجزء الذي لا يتجزأ أو من الهيولى والصورة بحسب الظاهر.
وقوله: (قلنا نعم) أي: له ثمرة.
قوله: (في إثبات الجوهر الفرد نجاة عن كثير من ظلمات الفلاسفة) أي: في إثبات الجوهر الفرد، الذي هو الجزء الذي لا يتجزأ، نجاة عن كثير من مسائل الفلاسفة الشبيهة بالظلمات، من حيث بطلانها، وقد بين بذلك ثمرة الخلاف.
وفي قوله: (في إثبات الجوهر الفرد…إلخ) إشارة إلى أن الثمرة للمتكلمين لا الحكماء، وإنما كان في إثبات الجوهر الفرد نجاة مما ذكر؛ لأن الجوهر الفرد عند المتكلمين عبارة عن حادث متحيز بالذات لا ينقسم، مستند في وجوده إلى الفاعل المختار، بخلاف الهيولى والصورة على ما تقول به الفلاسفة من قدمهما، فإنهما غير مستندين في وجودهما إلى الفاعل المختار على كلامهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قوله: (مثل إثبات الهيولى والصورة) أي: القديمتين عندهم؛ لأن إثبات الهيولى والصورة لا يؤدي إلى قدم العالم، إلا إذا قيل بقدمهما كما تقول الفلاسفة، بخلاف ما إذا قيل بحدوثهما. ووجه قدمهما عندهم: أن كل حادث مسبوق بمادة؛ لأن إيجاده عن عدم من غير سبق مادة محال عندهم، وحينئذ فالهيولى لا يجوز حدوثها على زعمهم؛ لأنهم يقولون: لو لم تكن قديمة لاحتاجت إلى هيولى سابقة عليها، ولاحتاجت هذه الهيولى أيضا إلى هيولى أخرى وهكذا، فيلزم التسلسل، وإذا كانت الهيولى قديمة كانت الصورة قديمة أيضا؛ لأنها لا تخلو عنها فيمتنع عندهم خلوها عنها لما تقرر في موضعه.
قوله: (المؤدي إلى قدم العالم) أي: لأنه إذا ثبت كل من الهيولى والصورة، وكانتا قديمتين كما تقول الفلاسفة لزم قدم العالم لتركب أجزائه منهما، وقد سبق أن الفلاسفة يقولون بقدم السماوات بموادها وصورها وأشكالها، وقدم العناصر بموادها وصورها الجسمية باعتبار النوع وصورها النوعية باعتبار الجنس، بخلاف الأفراد الشخصية، فإنهم يقولون بحدوثها، وبهذا تعلم أن المراد بالعالم هنا ما عدا الأفراد الشخصية؛ لأنهم لا يقولون بقدمها.
قوله: (ونفي حشر الأجساد) أي: والمؤدي إلى نفي حشر الأجساد؛ لأن حشر الأجساد يجمع الأجزاء المتفرقة، أو بإعادتها بعد العدم إنما يكون في الدار الآخرة فينا فيه استمرار الدار الأولى عندهم؛ لأنه إذا ثبت الهيولى والصورة وكانتا قديمتين لزم استمرار الدار الأولى، لتركب الأجساد منهما فتكون قديمة، وإذا كانت قديمة استمرت؛ لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه. فإن قيل هذا ظاهر بالنسبة لغير الأفراد الشخصية؛ لأنها عندهم حادثة كما علمت، وحينئذ فيجوز أن تنعدم ثم تحشر. أجيب بأنهم يقولون بأن الأفراد الشخصية إذا فنيت يستحيل أن تعود ثانيا، هذا مذهبهم الباطل، وهذا أحسن ما قيل في وجه التأدية.
قوله: (وكثير من أصول الهندسة) جعله بعضهم معطوفا على “كثير من ظلمات الفلاسفة” وعليه فالتقدير: وفيه نجاة عن كثير من أصول الهندسة، وجعله الكسْتليَّ معطوفا على “إثبات الهيولى والصورة” وعليه فالتقدير: ومثل كثير من أصول الهندسة، وتكون تلك الأصول من ظلمات الفلاسفة، وجعله عبد الحكيم معطوفا على “قدم العالم”، وعليه فالتقدير: والمؤدي إلى كثير من أصول الهندسة، كقولهم لنا أن نعمل على أي خط مثلثا متساوي الأضلاع، وصورته هكذا ووجه التأدية إلى هذا الأصل: أنه لولا أن الثابت الهيولى والصورة، لما أمكن أن نعمل مثلثا من أجزاء ثلاثة؛ لأن وضع الجزء الثالث على ملتقى الجزئين لا يمكن، إلا إذا كان كل جزء من الأجزاء الثلاثة منقسما لملاقاة كل جزء منها لأحد الجزئين الآخرين، بغير ما لاقى به الآخر، فإثبات الهيولى والصورة يؤدي إلى هذا الأصل الهندسي، وكقولهم كل زاوية قائمة يمكن تنصيفها ووجه التأدية إلى هذا الأصل: أنه لولا إثبات الهيولى والصورة لما أمكن تنصيف الزاوية القائمة؛ لأنه لا يمكن إلا بقسمة الجزء الذي هو ملتقى خطي الزاوية، فيكون إثبات الهيولى والصورة مؤديا إلى هذا الأصل الهندسي، وكقولهم: كل خط يمكن تنصيفه، ووجه التأدية إلى هذا الأصل: أن الخط صادق بالمركب من ثلاثة أجزاء لزم من تنصيفه انقسام الجزء الوسط، فيكون إثبات الهيولى والصورة مؤديا أيضا إلى هذا الأصل الهندسي، وفي هذا القدر كفاية، وظهر من ذلك أن في إثبات الجوهر الفرد نجاة من كثير من أصول الهندسة، لكن يرد عليه أن أدلة دوام حركة السماوات المذكورة في الكتب الحكيمة المتداولة غير مبنية على أصل هندسي. ولعل الشارح اطلع على دليل يبني عليه، وجعل الكستلي قوله: “من أصول الهندسة” سهوا أو تخريفا وقع موقع قوله “من أصول الفلسفة” وعليه فالبناء ظاهر، وجعل عبد الحكيم قوله “المبني عليها…إلخ” صفة لإثبات الهيولى والصورة، فيكون صفة بعد صفة، وعليه يكون الضمير في “عليها” عائدا على إثبات الهيولى والصورة، وأنثه لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه، ويرد عليه أنه حيث كان قوله “المبني عليها…إلخ” صفة لإثبات الهيولى والصورة، لا وجه لذكر قوله “وكثير من أصول الهندسة”؛ لأنه لا محذور في إثبات ذلك الكثير، فإنه لا ينبني عليه محذور على هذا التقرير، إلا أن يقال: إن القول به يستلزم القول بإثبات الهيولى والصورة فهو مستلزم للقول بما فيه محذور.
قوله: (دوام حركة السماوات) أي: لما فيها من مبدأ الميل المستدير الذي طبقته عليه فلا تنقطع؛ لأنها لو انقطعت للزم انقطاع الزمان وهو محال عندهم لا يقولون بأن الزمان لا نهاية له، واعلم أن الحركة إما مستقيمة: كحركة السهم حين نرميه، وهي عندهم لا تدوم، وحركة مستديرة: كحركة الدولاب، وهي عندهم دائمة على الاستدارة؛ لأن فيها بزعمهم مبدأ ميل مستدير قد طبعت عليه وهو العلة في دوامها؛ لأن ما بالذات لا يتخلف.
قوله: (وامتناع الخرق والالتئام عليها) كما في المائع إذا دخلت فيه خشبة ثم أخرجت؛ لأنهم يقولون بأن الأفلاك قديمة مادة وصورة وشكلا، والتغير أمارة الحدوث الذي هو ضد القدم، والحق إمكان الخرق والالتئام عليها كما في الأجسام السفلية؛ لأنه يجوزعلى كل من الأجسام ما يجوز على الآخر.
قوله: (والعرض ما لا يقوم بذاته) أي: ممكن لا يقوم بذاته فـ”ما” واقعة على “ممكن” بقرينة جعله من أقسام العالم. وقوله: (بل بغيره) أي: بل يقوم بغيره، وهو بيان لقوله “لا يقوم بذاته” وتوضيح له.
قوله: (بأن يكون تابعا له في التحيز) أي: بأن يكون تابعا لذلك الغير في التحيز، فيكون العرض متحيزا بتحيز غيره لا بذاته.
وقوله: (أو مختصا به اختصاص الناعت بالمنعوت) أي: أو يكون مختصا بذلك الغير اختصاصا كاختصاص الناعت، الذي هو القائم بالغير، بالمنعوت الذي هو ذلك الغير، و “أوْ” في كلامه لحكاية الخلاف كما أشار إليه بقوله “على ما سبق”، فإن المعنى: على ما سبق من الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة في تفسير القيام بالغير، فالتفسير الأول للمتكلمين، والثاني للفلاسفة، لكن المتكلمون وإن اشتهر عنهم الأول لا يمتنعون من تفسيره باختصاص الناعت بالمنعوت، فيشمل حينئذ صفاته تعالى، كما يدل عليه كلامه في شرح المقاصد، حيث قال: والمتكلمون لا يقولون بكون الصفات إعراضا، ولا بكونها حالة في الذات، بل قائمة بها بمعنى اختصاص الناعت بالمنعوت.
قوله: (لا بمعنى أنه…إلخ) عطف على قوله “بأن يكون…إلخ” فكأنه قال: فيفسر القيام بالغير بهذا المعنى، لا بمعنى أنه…إلخ.
وقوله: (على ما وُهِمَ) أي: على ما وَهِمَ فيه بعضهم، حيث فسر القيام بالغير بذلك المعنى.
وقوله: (فإن ذلك إنما يكون في بعض الأعراض) أي: فإن القيام بالغير بهذا المعنى إنما يكون متحققا في بعض الأعراض، لا في كلها، فيكون التعريف غير جامع لخروج ماعدا هذا البعض عنه، والمراد بالبعض المذكور: الأعراض النسبية التي يتوقف تعقلها على تعقل غيرها: وهي الفعل والانفعال والإضافة والملك والوضع والأين والمتى، والمراد بما عدا هذا البعض الكيف والكم، فإن تعقلهما لا يتوقف على تعقل المحل، والحاصل أن العرض عند الحكماء: تسعة أقسام وهذه التسعة مع الجوهر هي جملة المقولات العشرة المشهورة، وقد نظمها بعضهم بقوله:
الجوهرُ الكمُّ كيفٌ والمضاف متى *** أين ووضع له أنْ يَنْفَعِلْ فُعِلا
وقد مثل لها بعضهم بقوله:
زيد الطويل الأزرق بن مالك *** في بيته بالأمس كان متكي
بيده غصن لوَاه فالتَوى *** فهذه عشر مقولات سَوَي
فزيد: إشارة لمقولة الجوهر، والطويل: إشارة لمقولة الكم وهو عرض يقبل القسمة في محله باعتبار ذاته ولا يتوقف تعقله على أمر خارج عنه، والأزرق: إشارة لمقولة الكيف وهو عرض لا يقبل القسمة واللاقسمة بحسب ذاته ولا يتوقف تعقله على أمر خارج عنه، وابن مالك: إشارة لمقولة الإضافة وهي نسبة تعرض للشيء بالقياس إلى نسبة أخرى كالأبوة والبنوة، وفي بيته: إشارة لمقولة الأين وهو حصول الشيء في المكان الذي يخصه وقد يقال لكونه في البلد أو في الدار مجازا وسمي ذلك بالأين؛ لأنه يقع في جواب أين هو، وبالأمس: إشارة لمقولة المتى وهو حصول الشيء في الزمان وسمي بالمتى؛ لأنه يقع في جواب متى، وكان متكي: إشارة لمقولة الوضع وهو هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبة بعض أجزائه إلى بعض واعتبار نسبة تلك الأجزاء إلى الأمور الخارجية كالمخدة والأرض ونحو ذلك، وبيده غصن: إشارة إلى مقولة الملك وهو هيئة تعرض للجسم باعتبار ما يحيط به أو ببعض أجزائه وينتقل بانتقاله، ولواه: إشارة إلى مقولة الفعل وهو تأثير الشيء في غيره مادام يؤثر، وفالتوى: إشارة إلى مقولة الانفعال وهو تأثر الشيء بالغير ما دام يتأثر فالأثر الباقي بعد الفعل والانفعال كالسخونة والبرودة عقب التسخين والتبريد ليسا من الفعل ولا من الانفعال، وإنما هو من الكيف، ولم تقم الحكماء على الحصر في هذه العشرة برهانا وإنما عمدتهم فيه الاستقراء.
ويَحدُثُ في الأجسامِ والجواهرِ كالألوانِ، والأكوانِ، والطُّعُومِ،
قال الشارح: (ويحدث في الأجسام والجواهر) قيل: هو من تمام التعريف، احترازاً عن صفات الله تعالى. (كالألوان) وأصولها، قيل: السواد والبياض، وقيل: الحمرة والخضرة والصفرة أيضاً، والبواقي بالتركيب. (والأكوان) وهي: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون. (والطعوم) وأنواعها تسعة، وهي المرارة والحرافة والملوحة والعفوصة والحموضة والقبض والحلاوة والدسومة والتفاهة، ثم يحصل بحسب التركيب أنواع لا تحصى.
قال الخيالي:
قوله: (قيل: هو من تمام التعريف) وقيل: لا، إما لخروجها بكلمة ما؛ إذ هي عبارة عن الممكن، وكل ممكن محدث، وإما لأنها أغراض فلا يصح إخراجها.
قال السيالكوتي:
قوله: (وقيل : لا إما لخروجها بكلمة ما…إلخ) يعني أن كلمة “ما” في تعريف العرض عبارة عن الممكن بقرينة أنه قسم من أقسامه، والصفات ليست بممكنة؛ لأن كل ممكن محدث والصفات قديمة، فتكون خارجة عن المقسم، فلا حاجة إلى إخراجها بقوله: “ويحدث في الأجسام” لكن يرد عليه أنه يلزم أن تكون الصفات واجبة؛ إذ لاواسطة بين الممكن والواجب لكنهم التزموا ذلك، وقالوا: إنها قديمة واجبة لكن لا لذاتها ولا لغيرها بل لما ليست عينها لا غيرها: والمحال تعدد الواجب لذاته ولايخفى أنه تستر محض.
قوله: (وإما لأنه عرض…إلخ) يعني: قيل: إن قوله: “ويحدث…إلخ” ليس من تمام التعريف، بل هو حكم من أحكام العرض غير شامل لجميع أفراده؛ لأن الصفات داخلة في تعريف العرض ضرورة أنها ممكنة لاحتياجها إلى ذات الواجب غير قائمة بذاتها، إما لأن معنى القيام بالذات هو التحيز بنفسه، ومعنى عدم القيام بالذات عدم التحيز بنفسه، فإما أن لا يكون متحيزًا كالصفات، أو متحيزًا بالتبعية كالأعراض، فعدم القيام بالذات أعم من القيام بالغير، وإما لأن عدم القيام بالذات وإن كان مساويًا للقيام بالغير إلا أنه مفسر بالاختصاص عند المحققين كما ذكره السيد السند في “شرح المواقف” فلا يصح إخراجها عنه ولانسلم أن كل ممكن حادث بل مايكون صدوره بطريق الاختيار والصفات صادرة عنه تعالى بطريق الإيجاب، وهذا مما ذهب إليه بعض المتأخرين ودخولها في العرض لايوجب جواز إطلاق العرض عليها؛ لإيهامه خلاف المقصود، إذ إطلاقه شائع في الحادث، فلا يرد أن إطلاق العرض على صفاته تعالى مما لم يرد به إذن الشارع، فكيف تندرج فيه؟! قال الفاضل الجلبي في توجيهه وإما لأن الصفات أعراض محدثة في ذاته تعالى كما ذهب إليه الكرامية فلا يجوز إخراجها. انتهى. وفيه أن هذا التعريف تعريف الأصحاب، فلا معنى لحمله على مذهب الكرامية.
قوله: (ذكر في شرح التجريد) قال بعض الأفاضل: المذكور في “شرح التجريد” أن الأعراض المحسوسة لاتحتاج إلى أكثر من جوهر؛ بمعنى أنه يمكن وجودها في جوهر واحد؛ إذ وجودها غير مشروط بالمزاج، والتركيب عندنا خلافًا للفلاسفة، وماذكره الشارح ههنا من أن ماعدا الأ كوان من الأعراض لا يوجد في غير الأجسام؛ بمعنى أنه لم تجر عادته تعالى بخلقه في غيرها، وإن كان ممكنًا فلا منافاة بينهما؛ لأن كلام “شرح التجريد” في الإمكان، وكلام الشارح في “الوقوع”.
قال الباجوري:
قوله: (ويحدث في الأجسام والجواهر) معطوف على قوله “لا يقوم بذاته” على القول بأنه من تمام التعريف، أو مستأنف على القول بأنه ليس من تمام التعريف، والمراد بالأجسام الجواهر المركبة، وبالجواهر البسائط التي هي الجواهر الفردة.
قوله: (قيل : هو من تمام التعريف) أي: وقيل : ليس من تمام التعريف، إما لخروج صفات الله التي احترز به عنها بكلمة “ما” في قوله “ما لا يقوم بذاته” لأنها عبارة عن الممكن بقرينة أن الكلام في أقسام العالم وكل ممكن حادث والصفات قديمة فتكون خارجة من أول الأمر، وإما لأنها عرض ضرورة أنها ممكنة في ذاتها واجبة لأجل الذات على طريقة الأعاجم، وليس كل ممكن حادثا على هذه الطريقة لكن لا يخفى ما في ذلك من البشاعة، وعليه فلا يصح إخراجها من التعريف.
قوله: (احترازا عن صفات الله تعالى) أي: لأنه لو لم يجعل من تمام التعريف لدخلت فيه، مع أنها ليست من العرض، فيكون التعريف غير مانع فلذلك احترز عنها بذلك، وصار التعريف مانعا.
قوله: (كالألوان…إلخ) قد مثل المصنف للعرض بأربعة أمثلة وقدم الألوان؛ اهتماما بها لإنكار القدماء وجودها.
قوله: (وأصولها…إلخ) المراد بأصولها الألوان البسيطة التي لم تتركب من لونين فأكثر، والمراد بالفروع الألوان المتولدة عن تلك الأصول لكونها متركبة منها.
وقوله: (قيل : البياض والسواد) أي: قيل : هي البياض الذي هو لون مفرق للبصر، والسواد الذي هو لون غير مفرق للبصر، وعلى هذا القيل فأصولها اثنان فقط: هما البياض والسواد.
وقوله: (وقيل : الحمرة والخضرة والصفرة أيضا) أي: وقيل : هي الحمرة والخضرة والصفرة كالبياض والسواد، وعلى هذا القيل، فأصولها خمسة: الحمرة والخضرة والصفرة والبياض والسواد.
وقوله: (والبواقي بالتركيب) أي: والبواقي منها يحصل بالتركيب من السواد والبياض على الأول، ومن الخمسة المذكورة على الثاني، لكن التركيب على وجوه مختلفة مثلا: إذا اجتمع البياض والسواد، فإن غلب البياض على السواد حصل الغُبَرة، وإن حصل السواد على البياض حصل العُودِيَّة، وإذا خالط الخضرة بياض حصل الزنجانية، وإذا خالط الخضرة سواء حصل الكُرَّاشية، وعلى هذا قياس سائر الألوان المختلفة، وعلى كل من هذين القولين، فالألوان أصول وفروع. وقيل : جميع الألوان أصول، فكل لون أصل ليس مركبا من لونين آخرين، وقال صاحب المواقف: الحق التوقف في كون بواقي الألوان بالتركيب لا غير؛ لاحتمال أن يكون من البواقي ألوان بسائط من غير تركيب.
قوله: (والأكوان اختلف فيها) فقيل : هي محسوسة بالضرورة ومن أنكرها فقد كابر حسه، وقيل : هي غير محسوسة؛ لأنا لا نشاهد الاجتماع والافتراق والحركة والسكون، وإنما نشاهد المجمتع والمفترق والمتحرك والساكن، وهذا هو الحق؛ ولهذا اختلف في كونها وجودية أو أمور اعتبارية، والحق الثاني .
قوله: (وهي…إلخ) هذه الأكوان الأربعة هي أقسام الأين، ووجه الحصر فيها: أن الكون هو حصول الجوهر في الحيز، إما أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أو لا، والأول: إن كان بحيث يمكن أن لا يتخلل بينه وبين ذلك الآخر جوهر ثالث فالاجتماع، وإن كان بحيث يمكن أن يتخلل بينه وبين ذلك الآخر جوهر ثالث فالافتراق، والثاني: إن كان مسبوقا بحصوله في حيز آخر فحركة، وإن كان مسبوقا بحصوله في ذلك الحيز فسكون، وأورد على حصر الثاني في الحركة والسكون الحصول في الحيز غير المسبوق بحصول أصلا، كالحصول في الحيز آن الحدوث، فإنه خارج عن الحركة والسكون؛ ولذلك جعل بعضهم الثاني ثلاثة أقسام: حركة وسكون ولا حركة ولا سكون، والتزم أن الأكوان خمسة، وبعضهم أدرج ذلك الحصول في السكون، حيث لم يعتبر فيه قيد المسبوقية تقليلا للأقسام.
قوله: (والطعوم) لا نزاع في أن الطعوم من المحسوسات بحاسة الذوق، وهي جمع طَعم -بفتح الطاء- وهي الكيفية المذوقة، وأما الطُعم بضمها فهو المطعوم كالطعام.
قوله: (وأنواعها) أي: الأصلية بقرينة قوله “ويتركب منها أنواع لا تحصى”.
وقوله: (تسعة) أي: بحكم الاستقراء، ووجه الحصر: أن الفلاسفة يقولون إن الطعوم كيفيات تحدث بتأثير الفاعل الحار أو البارد أو المعتدل بين الحرارة والبرودة في الجسم القابل لها الكثيف أو اللطيف أو المعتدل بين الكثافة واللطافة، فأقسام الفاعل ثلاثة؛ لأنه إما حار أو بارد أو معتدل، وأقسام القابل ثلاثة أيضا؛ لأنه إما كثيف أو لطيف أو معتدل، وإذا ضربت أقسام الفاعل في أقسام القابل حصل العدد المذكور. فإذا كان الفاعل حارا، فإن كان القابل كثيفا حدثت المرارة، وإن كان القابل لطيفا حدثت الحرافة، وإن كان القابل معتدلا حدثت الملوحة. وإذا كان الفاعل باردا، فإن كان القابل كثيفا حدثت العفوصة، وإن كان القابل لطيفا حدثت الحموضة، وإن كان القابل معتدلا حدث القبض، وإذا كان الفاعل معتدلا، فإن كان القابل كثيفا حدثت الحلاوة، وإن كان القابل معتدلا حدثت التفاهة، هذا والحق مذهب أهل السنة، وهو أن الموجد لتلك الكيفيات هو المولى عز وجل، والأمور المذكورة أسباب عادية، إذا وجدت أوجد الله عندها تلك الكيفيات، كما جرت بذلك عادته تعالى.
قوله: (وهي المرارة) هي كيفية غير ملائمة للطبع جدا، وذلك مثل كيفية الصبر والحنظل.
وقوله: (والحرافة) هي كيفية غير ملائمة للطبع، لكنها دون المرارة في عدم الملائمة، وذلك مثل كيفية حب الرشاد والسكنجبيل.
وقوله: (والملوحة) هي كيفية غير ملائمة للطبع، لكنها دون المرارة وفوق الحرافة في عدم الملائمة، وذلك مثل كيفية الملح والطعام المالح، وكان الأولى تأخير الحرافة عن الملوحة؛ لما علمت من أن الملوحة دون المرارة وفوق الحرافة.
وقوله: (والعفوصة) هي كيفية غير ملائمة للطبع، لكنها دون الحرافة في عدم الملائمة، وذلك مثل كيفية العفص وحبّ الحرمل.
وقوله: (والقبض) هو كيفية غير ملائمة للطبع، لكنها دون العفوصة في عدم الملائمة، وذلك مثل كيفية العنب المخلل وقشر الرمان.
وقوله: (والحموضة) هي كيفية غير ملائمة للطبع، لكنها دون القبض في عدم الملائمة، وذلك مثل كيفية الرمان الحامض.
وقوله: (والحلاوة) هي كيفية ملائمة للطبع غاية الملائمة، وذلك مثل كيفية السكر والعسل.
وقوله: (والدسومة) هي كيفية ملائمة للطبع، لكنها دون الحلاوة في الملائمة، وذلك مثل كيفية السَّمن واللحم الدسم.
وقوله: (والتفاهة) هي كيفية ملائمة للطبع، لكنها دون الحلاوة وفوق الدسومة في الملائمة، وذلك مثل كيفية الخبز واللحم غير الدسم، وكان الأولى تأخير الدسومة عن التفاهة؛ لما علمت من أن التفاهة دون الحلاوة وفوق الدسومة، فتحصل أن الكيفيات التسع بعضها غير ملائم للطبع، وبعضها ملائم له. فغير الملائم الستة الأول، وهي متفاوتة في عدم الملائمة فاعلاها المرارة ثم الملوحة ثم الحرافة ثم العفوصة ثم القبض ثم الحموضة، والملائم الثلاثة الأخيرة، وهي متفاوتة في الملائمة فأعلاها الحلاوة ثم التفاهة ثم الدسومة.
قوله: (ثم يحصل بالتركيب أنواع لا تحصى) أي: ثم يحصل بسبب التركيب من هذه التسعة التي هي بسايط، أنواع من الطعوم لا تحصى عدا، وقد يكون لتلك الأنواع المركبة أسماء كالبشاعة، فإنها اسم للطعم المركب من المرارة والقبض، وذلك كطعم نوع من الدواء يقال له الحض-بضم الضاد أو فتحها- وهو صمغ شجرة، وقد لا يكون لها أسماء كطعم الباذنجان فإنه مركب من المرارة والحرافة والقبض، وكطعم الهندبا فإنه مركب من المرارة والتفاهة وكطعم العسل المطبوخ فإنه مركب من الحرافة والحلاوة.
والروائحِ.
قال الشارح: (والروائح) وأنواعها كثيرة وليست لها أسماء مخصوصة، والأظهر أن ما عدا الأكوان لا يفرض إلا للأجسام.
فإذا تقرر أن العالم أعيان وأعراض، والأعيان أجسام وجواهر، فنقول: الكل حادث، أما الأعراض فبعضها بالمشاهدة كالحركة بعد السكون والضوء بعد الظلمة والسواد بعد البياض، وبعضها بالدليل وهو طريان العدم كما في أضداد ذلك، فإن القدم ينافي العدم، لأن القديم إن كان واجباً لذاته فظاهر، وإلا لزم استناده إليه بطريق الإيجاب، إذ الصادر عن الشيء بالقصد والاختيار يكون حادثاً بالضرورة، والمستند إلى الموجب القديم قديم. ضرورة امتناع تخلف المعلول عن العلة.
قال الخيالي:
قوله: (والأظهر أن ما عدا الأكوان…إلخ) ذكر في “شرح التجريد” أن الأعراض المحسوسة بإحدى الحواس الخمس لا تحتاج إلى أكثر من جوهر واحد عند المتكلمين، ولعل ما في الكتاب رأي الشارح أو مذهب بعض منهم.
قوله: (أما الأعراض فبعضها…إلخ) ولك أن تستدل بما سيجيء من عدم بقاء مطلق العرض، لكنه مسلك خاص للأشعري.
قوله: (يكون حادثا بالضرورة) إذ القصد إلى إيجاد الموجود ممتنع بديهة واعترض عليه بجواز أن يكون تقدم القصد الكامل على الإيجاد كتقدم الإيجاد على الوجود في أنه بحسب الذات لا بحسب الزمان، فيجوز مقارنته للوجود زمانا، والمحال هو القصد إلى إيجاد الموجود بوجوده قبله.
قوله: (والمستند إلى الموجب القديم قديم) أي: مستمر. فإن قلت يجوزأن يستند بشروط متعاقبة لا إلى نهاية فلا يلزم قدمه. قلت: يبطله برهان التطبيق كما سيجيء، نعم يرد أن يقال: يجوز أن يشترط القديم المستند إلى القديم بأمر عدمي كعدم حادث مثلا، وعند وجود ذلك الحادث زال المستند لزوال شرطه لا لزوال علته القديمة.
قال السيالكوتي:
قوله: (ولك أن تستدل…إلخ) يعني: لك أن تستدل على حدوث الأعراض بأن العرض لايبقى زمانين، وإلا لكان البقاء معنى قائمًا به، فيلزم قيام العرض بالعرض وهو باطل، لكن تركه الشارح ههنا؛ لأنه مسلك خاص للشيخ الأشعري غير تام عند غيره، وبين حدوثها بوجه مقبول مع أنه قد أشار إليه في بيان حدوث الحركة والسكون بقوله: وأما حدوثهما فلأنهما من الأعراض وهي غير باقية.
قوله: (إذ القصد إلى إيجاد الموجود محال…إلخ) يعني: أن أثر المختار يجب أن يكون حادثًا؛ إذ لو كان قديمًا لكان القصد إلى إيجاده حال وجوده، والقصد إلى إيجاد الوجود محال بالضرورة؛ لأنه تحصيل الحاصل، فلا بد أن يكون القصد مقارنًا لعدم الأثر، فيكون أثر المختار حادثًا قطعًا.
قوله: (واعترض…إلخ) حاصله أن أثر المختار إنما يلزم أن يكون حادثًا إذا كان تقدم القصد على الوجود بحسب الزمان، فيكون مقارنًا لعدم الأثر وهو ممنوع، لم لا يجوز أن يكون تقدم القصد الكامل على الوجود بحسب الذات، كما أن تقدم الإيجاد عليه كذلك، فيجوز مقارنة القصد للوجود بحسب الزمان؛ إذ لا منافاة بين التقدم الذاتي والمقارنة الزمانية، كما يجوز مقارنة الإيجاد له بحسب الزمان، وحينئذ لا يلزم حدوثه لعدم سبق القصد عليه بالزمان، ولا القصد إلى إيجاد الموجود لعدم كونه موجودًا بوجود قبل هذا الإيجاد كما لا يلزم شيء من ذلك من تقدم الإيجاد عليه. وإنما قيد القصد بالكامل؛ أعني: ما يكون مستلزمًا للمقصود وهو قصد الواجب تعالى وتقدس احترازًا عن القصد الناقص؛ أعني: قصد واحد منا فإنه متقدم على الإيجاد والوجود بالزمان ضرورة أنه يحتاج في حصوله المقصود بعده إلى مباشرة الأسباب واستعمال الآلآت. وبالجملة أن القصد إذا كان كافيًا في حصول المقصود يكون معه بحسب الزمان، فلا يلزم حدوث أثره، وإذا لم يكن كافيًا فيتقدم عليه زمان أيضًا، فيكون أثره حادثًا قطعًا.
قوله: (أي: مستمر الوجود) لا يطرأ عليه العدم، وإنما فسر القديم به؛ لأن القدم بمعنى عدم المسبوقية بالعدم ليس مقصودًا بالإثبات؛ لأنه مفروض بل المقصود بيان أن القدم ينافي العدم، فالحاصل أن ما يطرأ عليه العدم لا يكون قديمًا؛ لأنه لو كان قديمًا، فإما أن يكون واجبًا لذاته وحينئذ يمتنع عدمه، أو مستندًا إلى الواجب لذاته بطريق الإيجاب، والمستند إلى الواجب القديم لا يطرأ عليه العدم، وإلا لزم تخلف المعلول عن العلة التامة.
قوله: (إن قلت يجوز أن يستند…إلخ) يعني: أن طريان العدم على القديم إنما يستلزم تخلف المعلول عن العلة التامة، لو كان ذلك القديم مستندًا إلى الموجب بلا واسطة أو بواسطة شرط قديم، لكن لم لا يجوز أن يكون أستناده إليه بتوسط شروط حادثة على سبيل التعاقب، بأن يكون وجود كل منها شرطًا لوجود ذلك المستند، ومعدًا لوجود الآخر. قيل: غير متناهية في جانب الماضي ومتناهية في جانب المستقبل، فحينئذ يكون ذلك المستند قديمًا لعدم مسبوقية العدم عليه، ضرورة تحققه في الأزمنة الماضية الغير المتناهية لتحقق علته التامة؛ أعني: الموجب القديم مع واحد من تلك الشروط، ولا يكون مستمرًا لجواز أن يطرأ عليه العدم بأن ينتفي شرط وجوده الذي ينتهي إليه جميع شروطه بتعاقب شرط آخر لا يكون شرطًا لوجوده، فلا يلزم تخلف المعلول عن علته التامة بل عن الناقصة، وهو جائز فقوله: “فلا يلزم قدمه” بمعنى: لا يلزم استمراره ولنمثل لك مثالًا بأن يكون سكون زيد صادرًا عن الموجب القديم بتوسط الحركات الجزئية الحادثة المتعاقبة، المفروضة من مبدأ معين إلى غير النهاية في جانب الماضي، بأن يكون كل واحد من تلك الحركات الجزئية شرطًا لحصول سكون زيد في الزمان الماضي، فيكون سكون زيد غير مسبوق بالعدم لتحققه في جميع الأزمنة الماضية الغير المتناهية، ضرورة تحقق علته؛ أعنى: الموجب القديم مع واحدة من تلك الحركات المتعاقبة الغير المتناهية، ولا يكون مستمرًا لطريان العدم عليه بواسطة انتفاء شرطه؛ أعني: الحركة الجزئية التي ينتهي إليها جميع الحركات التي هي شروط وجوده بتعاقب حركة أخرى ليست من شروط وجوده. والفاضل الجلبي حرر هنا الاعتراض بما حاصله أنه يجوز أن يكون ذلك الحادث الزماني مستندًا إلى القديم بتوسط استعدادات وشروط غير متناهية، فلا يكون المستند إلى الموجب القديم قديمًا غير مسبوق بالعدم، ولا يخفى أن منع القديم بهذا المعنى لا يفيد شيئًا؛ إذ القديم بهذا المعنى مفروض، والكلام في أنه ينافي العدم؛ ولذا فسره المحشي بالمستمر بل فيه تسليم مدعي المعلل؛ إذ مقصوده إثبات الحدوث الزماني وقد اعترفتم به.
قوله: (قلت: يبطله برهان…إلخ) يعني: أن لا يتناهى الأمور المتحققة الوجود سواء كانت متعاقبة أو مجتمعة يبطله برهان التطبيق على ما سيجيء إن شاء الله تعالى، فلا بد أن تكون تلك الشروط منتهية إلى شرط يكون استناده إلى الموجب بلا واسطة، فيكون قديمًا مستمرًا، وحينئذ يكون كل ما هو مستند إليه بتوسطه أيضًا قديمًا مستمرًا غير ممكن الزوال ضرورة امتناع تخلف المعلول عن علته التامة، فثبت أن كل ما هو مستند إلى الموجب القديم مستمر.
قوله: (نعم، يرد أن يقال…إلخ) يعني: يجوز أن يكون القديم مستندًا إلى الموجب القديم بتوسط أمر عدمي ثابت في الأزل كعدم حادث مثلًا، وحينئذ يكون ذلك المستند غير مسبوق بالعدم، ويجوز أن يطرأ عليه العدم بزوال شرطه؛ أعني: ذلك العدم بأن يوجد ذلك الحادث فيما لا يزال بسبب تحقق جميع ما يتوقف عليه وجوده، فيكون انتفاؤه بسبب انتفاء شرطه لا لانتفاء علته حتى يلزم عدم الموجب القديم. أجاب عنه بعض الفضلاء بأن ذلك الأمر العدمي لا يخلو إما أن يستند إلى الموجب القديم بالذات بلا واسطة، أو بواسطة شرائطه العدمية لا إلى نهاية أو إلى الممتنع بالذات، وأيًا ما كان يمتنع زوال عدم الحادث، أما على الأول والثالث فظاهر، وأما على الثاني فلأن زواله لا يتصور إلا بزوال تلك الوسائط الغير المتناهية، وزوالها يستلزم وجود أمور غير متناهية، وهو باطل ببرهان التطبيق. انتهى كلامه. وفيه بحث؛ لأنا لا نسلم أن الأمر العدمي يحتاج إلى علة، فإن الإعدام غير محتاجة إلى سبب؛ إذ علة الاحتياج على ما ذهب إليه المتكلمون الحدوث، وهو غير متحقق في حال العدم، نعم لو كان علة الاحتياج الإمكان كما ذهب إليه الحكماء لتم الجواب المذكور، لكن بحث المحشي على ما ذهب إليه المتلكمون المستدلون بالدليل المذكور، ولو سلم فيجوز أن يكون تلك الشروط العدمية إعدامًا للإضافات الاعتبارية، فبزوالها لا يلزم وجود الأمور الغير المتناهية.
قال الباجوري:
قوله: (والروائح) لا يخفى أن منها ما هو ملائم للطبع كرائحة الورد، ومنها ما هو غير ملائم للطبع كرائحة الجيفة.
قوله: (وأنواعها كثيرة) أي: لا تحصى.
وقوله: (وليس لها أسماء مخصوصة) أي: لأنهم اكتفوا بإضافتها إلى محلها كرائحة المسك، وبوصفها كرائحة طيبة ونحو ذلك؛ فلهذا لم يضعوا لها أسماء مخصوصة.
قوله: (والأظهر أن ما عدا الأكوان) أي: من الألوان والطعوم والروائح.
وقوله: (لا يعرض إلا للأجسام) أي: دون الجواهر الفردة، وغرضه بذلك الاعتراض على المصنف، حيث أفاد كلامه أن ما عدا الأكوان يعرض لكل من الأجسام والجواهر، ورد هذا الاعتراض بما ذكره في “شرح التجريد” من أن الأعراض المحسوسة بإحدى الحواس لا تحتاج في وجودها إلى أكثر من جوهر واحد عند المتكلمين؛ إذ وجودها عندهم غير مشروط بالمزاج والتركيب، بخلافه عند الفلاسفة، وحينئذ فما أفاده كلام المصنف من أن ماعدا الأكوان يعرض لكل من الأجسام والجواهر صحيح لا اعتراض عليه. ولعل ما قاله الشارح في هذا الكتاب رأيٌ له أو مذهب لبعضهم، وجمع بينهما بعض الأفاضل: بأن المذكور في “شرح التجريد” محمول على الإمكان؛ إذ يمكن وجود الأعراض المحسوسة في الجواهر الفردة وإن لم يقع، وما قاله الشارح محمول على الوقوع؛ إذ لم تجر عادته تعالى بخلق الأعراض المحسوسة في الجواهر الفردة، وإن كان يمكن وجودها فيها فلا منافاة بينهما.
قوله: (وإذا تقرر أن العالم أعيان وأعراض) أي: كما تقدم في قول المصنف: إذ “هو” أي: العالم “أعيان وأعراض”.
وقوله: (والأعيان أجسام وجواهر) أي: كما تقدم في قوله: “وهو” أي: العين “إما مركب وهو الجسم، أو غير مركب كالجوهر”.
وقوله: (فنقول الكل حادث) أي: فنقول في إتمام دليل حدوث العالم الذي ادعاه المصنف: كل من الأعراض والأعيان بقسيمها حادث، وهذا إشارة إلى كبرى الدليل، وتقدمت الإشارة إلى الصغرى في قول المصنف “إذ هو” أي: العالم “أعيان وأعراض” وإنما ذكرها الشارح هنا؛ ليترتب عليها الكبرى. ولما كانت تلك الكبرى نظرية أثبتها بالدليل حيث قال “أما الأعراض…إلخ” وهذا هو الذي وعد به في قوله سابقا “لما سنبين” كما مر التنبيه عليه.
قوله: (أما الأعراض فبعضها…إلخ) أي: أما الأعراض فحدوث بعضها…إلخ، ولك أن تستدل على حدوث الأعراض: بأن العرض لا يبقى زمانين، لكنه مسلك خاص بالأشعري غير تام عند غيره، فلذلك تركه الشارح ههنا، وقد أشار إليه في بيان حدوث الحركة والسكون بقوله “وأما حدوثهما” فلأنهما من الأعراض وهي غير باقية.
وقوله: (بالمشاهدة) لو قال بالإحساس لكان أولى لشموله حينئذ الإحساس بغير البصر من الحواس، وإذا كان حدوث بعضها بالمشاهدة كان ضروريا فلا يحتاج إلى دليل.
قوله: (كالحركة بعد السكون) أي: كالحركة الكائنة بعد السكون.
وقوله: (والضوء بعد الظلمة) أي: والضوء الكائن بعد الظلمة.
وقوله: (والسواد بعد البياض) أي: والسواد الكائن بعد البياض، فكل من الحركة والضوء والسواد حدوثه بالمشاهدة.
قوله: (وبعضها بالدليل) أي: وحدوث بعضها بالدليل العقلي.
وقوله: (وهو طريان العدم) أي: والدليل الذي ثبت به حدوث ذلك البعض طريان العدم عليه، ونظم الدليل هكذا: هذا البعض طرأ عليه العدم، وكلما طرأ عليه العدم فهو حادث. ولما كان طريان العدم هو الحد الوسط الذي هو جهة الدلالة جعله هو الدليل، والمراد طريان العدم بالفعل، لا جوازه كما يدل عليه كلامه في البحث الثاني.
قوله: (كما في أضداد ذلك) أي: لطريان العدم الكائن في أضداد ذلك المذكور من الحركة بعد السكون، والضوء بعد الظلمة، والسواد بعد البياض. فبوجود الحركة بعد السكون طرأ العدم على السكون، وبوجود الضوء بعد الظلمة طرأ العدم على الظلمة، وبوجود السواد بعد البياض طرأ العدم على البياض.
قوله: (فإن القدم ينافي العدم) علة لكون طريان العدم يدل على الحدوث، وهو في الحقيقة علة للكبرى القائلة” وكلما طرأ عليه العدم فهو حادث”.
وقوله: (لأن القدم…إلخ) علة لكون القدم ينافي العدم.
وقوله: (إن كان واجبا لذاته فظاهر) أي: إن كان وجوب وجوده لذاته لا لغيره، فظاهر أن قدمه ينافي عدمه؛ لأن قدمه لذاته، وما ثبت للذات لا يزول، والمولى واجب لذاته اتفاقا، وأما صفاته الذاتية فهي واجبة لذاتها عند الإمام السنوسي ومن تبعه وهو المذهب الحق، وواجبة لغيرها ممكنة لذاتها عند الفخر والشارح تابع له.
قوله: (وإلا لزم استناده إليه بطريق الإيجاب) أي: وإلا يكن القديم واجبا لذاته بأن كان واجبا لغيره لزم استناده إلى الواجب لذاته بطريق التعليل، وفي ذلك إشارة إلى صغرى قياس من الشكل الأول وسيذكر كبراه بقوله “والمستند إلى الموجب القديم قديم” ونظم القياس هكذا: الواجب لغيره مستند إلى الموجب القديم، وكل مستند إلى الموجب القديم قديم، وقد علل الشارح الصغرى بقوله “إذ الصادر عن الشيء…إلخ” والكبرى بقوله “ضرورة امتناع…إلخ”.
قوله: (إذ الصادر عن الشيء بالقصد والاختيار يكون حادثا بالضرورة) علة لقوله “لزم استناده إليه بطريق الإيجاب” فكأنه قال: وإنما لزم استناده إليه بطريق الإيجاب لا بالقصد والاختيار؛ لأن الصادر عن الشيء بالقصد والاختيار يكون حادثا بالضرورة؛ إذ لو لم يكن حادثا للزم القصد إلى إيجاد الموجود، والقصد إلى إيجاد الموجود ممتنع بديهة؛ لما يلزم عليه من تحصيل الحاصل، واعترض بأنه يجوز أن يكون تقدم القصد الكامل، وهو الذي لا يتوقف على مباشرة أسباب وتناول آلات، ولا يكون إلا للواجب تعالى على الإيجاد بحسب الذات في التعقل لا بحسب الزمان كتقدم الإيجاد على الوجود، فإنه بحسب الذات في التعقل لا بحسب الزمان، وحينئذ فتجوز مقارنته للوجود زمانا، وإن كان فيه القصد إلى إيجاد الموجد بهذا الإيجاد؛ لأن ذلك غير محال، والمحال هو القصد إلى إيجاد الموجد بوجود قبل هذا الإيجاد؛ لما يلزم عليه من تحصيل الحاصل، كما تقدم بخلاف القصد الناقص، وهو الذي يتوقف على مباشرة أسباب وتناول آلات، ولا يكون إلا لغيره تعالى، فإن تقدمه على الإيجاد بحسب الذات والزمان، ضرورة أنه يحتاج في حصول المقصود إلى مباشرة الأسباب واستعمال الآلات، وبالجملة فالقصد إن كان كافيا في حصول المقصود، يكون تقدمه على إيجاده بحسب الذات لا الزمان، فلا يلزم أن يكون ما صدر عنه حادثا، وإن لم يكن كافيا في حصول المقصود يكون تقدمه على إيجاده بحسب الذات والزمان، فيلزم أن يكون ما صدر عنه حادثا.
قوله: (والمستند إلى الموجب القديم قديم) أي: والمستند إلى المؤثر بطريق الإيجاب القديم، وهو الواجب لذاته مستمر لا يطرأ عليه عدم، فالمراد بالقديم هنا مستمر الوجود الذي لا يطرأ عليه العدم، وليس المراد به الذي لم يسبقه العدم؛ لأن الكلام في طريان العدم، فإنه هو الدليل على حدوث البعض الآخر من الأعراض. فإن قيل: المستند إلى الموجب القديم يجوز أن يستند إليه بتوسط شروط حادثة على سبيل التعاقب لا إلى نهاية في جانب الماضي مع النهاية في جانب المستقبل، وحينئذ فلا يلزم قدمه أي: استمراره؛ لجواز أن يطرأ عليه العدم بأن ينتهي جميع شروطه ويعقبها شيء آخر لا يكون شرطا لوجوده، مثلا: إذا فرضنا أن سكون زيد صادر عن الموجب القديم لتوسط حركات الفلك الحادثة المتعاقبة إلى غير نهاية في جانب الماضي، مع النهاية في جانب المستقبل بأن كان لها حد معين كزمن الطوفان مثلا، وحينئذ فلا يلزم قدمه، أي: استمراره؛ لجواز أن يطرأ عليه العدم بأن ينتهي جميع الحركات التي هي شروط لوجوده ويعقبها حركة أخرى ليست من شروط وجوده. أجيب بأن عدم تناهي الأمور الموجودة يبطله برهان التطبيق على ما سيجيء إن شاء الله تعالى. نعم يرد أن يقال: يجوز أن يكون القديم المستند إلى الموجب القديم مستندا إليه بتوسط اشتراط أمر عدمي، كعدم شيء حادث مثلا، وعند وجود ذلك الشيء الحادث يزول المستند لزوال شرطه، لا لزوال علته القديمة، مثلا: إذا فرضنا أن سكون زيد صادر عن الموجب القديم بتوسط اشتراط عدم عمرو، فعند وجود عمرو يزول المستند؛ لزوال شرطه وهو عدم عمرو، لا لزوال علته القديمة. وأجاب بعض الفضلاء عن هذا الإيراد: بأن ذلك الأمر العدمي لا يخلو إما أن يستند إلى الموجب القديم بلا واسطة، أو بواسطة أمور عدمية لا إلى نهاية، وأيَّما كان يمتنع زوال الحادث. أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن زواله لا يتصور إلا بزوال تلك الأمور العدمية التي لا نهاية لها، وزوالها يستلزم وجود أمور لا نهاية لها وهو باطل ببرهان التطبيق، وبحث فيه العلامة عبد الحكيم بأن تلك الأمور العدمية يجوز أن تكون إعداما للإضافات الاعتبارية، فزوالها لا يستلزم وجود أمور لا نهاية لها.
قوله: (ضرورة امتناع تخلف المعلول عن العلة) أي: لضرورة امتناع تخلف المعلول الذي هو المستند إلى الموجب القديم عن العلة التامة التي هي الموجب القديم، فما دامت العلة التامة موجودة فالمعلول موجود؛ لأن تخلف المعلول عن علته التامة ممتنع بالضرورة، بخلاف تخلف المعلول عن علته الناقصة فإنه جائز.
قال الشارح: وأما الأعيان فلأنها لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. أما المقدمة الأولى فلأنها لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان. وأما عدم الخلو عنهما، فلأن الجسم أو الجوهر لا يخلو عن الكون في حيز، فإن كان مسبوقاً بكون آخر في ذلك الحيز فهو ساكن، وإن لم يكن مسبوقاً بكون آخر في ذلك الحيز بل في حيز آخر فمتحرك، وهذا معنى قولهم: الحركة كونان في آنين في مكانين، والسكون كونان في آنين في مكان واحد.
قال الخيالي:
قوله: (فإن كان مسبوقا…إلخ) لو قيل: فإن كان مسبوقا بكون آخر في حيز آخر فحركة، وإلا فسكون لم يرد سؤال آن الحدوث.
قوله: (الحركة كونان…إلخ) يرد عليه أن ما حدث في مكان وانتقل إلى آخر في الآن الثالث لزم أن يكون كونه في الآن الثاني جزء من الحركة والسكون معا، فلا يمتازان بالذات، والحق أن الحركة كون أول في مكان ثان، والسكون كون ثان في مكان أول، وهذا ظاهر عند تجدد الأكوان بحسب الآنات، وأما على القول ببقائها ففيه أيضا إشكال.
قال السيالكوتي:
قوله: (لو قيل :…إلخ) يعني: لو قيل بدل قوله: “فإن كان مسبوقًا بكون آخر في ذلك الحيز فهو ساكن”: فإن كان مسبوقًا بكون آخر في حيز آخر فحركة وإلا فسكون، لم يرد سؤال أن الحدوث بأنه خارج عن الحركة والسكون إلا في قوله: “فإن قيل…إلخ” لأنه حينئذ يكون داخلًا في السكون؛ لأن معنى قوله: “وإلا” أي: وإن لم يكن مسبوقًا بكون آخر في حيز آخر، فيجوز أن لا يكون مسبوقًا أصلًا بكون آخر، كما أنه في آن الحدوث أو لا يكون في حيز آخر بل في ذلك الحيز هذا، لكن يرد عليه أنه يلزم حينئذ عدم اعتبار اللبث في السكون، وهو خلاف العرف واللغة؛ فلذا أخرجه الشارح عنهما.
قوله: (يرد عليه أن ما حدث…إلخ) يعني: يرد على ظاهر هذين التعريفين على ما ذهب إليه البعض من أن الحركة والسكون عبارة عن مجموع الكونين، أن ما حدث في مكان واستقر فيه آنين، وانتقل منه في الآن الثالث إلى مكان آخر لزم أن يكون كون ذلك الحادث في الآن الثاني جزءًا من الحركة والسكون، فإن هذا السكون مع كون الأول يكون سكونًا، ومع الكون الثالث يكون حركة، فلا تمتاز الحركة عن السكون بالذات؛ بمعنى أن يكون الساكن بالذات في آن سكونه؛ أعني: الآن الثاني شارعًا في الحركة، وذلك مما لا يقول به أحد. وبمــا حررنا لك اندفع ما قيل: إن المقصود من قول الشارح: وهذا معنى قولهم: “الحركة كونان…إلخ” أن الكلام ليس على ظاهره بل محمول على المسامحة، والمراد ما ذكره فلا يرد ما أورده المحشي بقوله: “ويرد عليه…إلخ” لأن مقصود المحشي بيان سبب حمل هذين التعريفين على خلاف الظاهر، بأنه يرد على ظاهرهما الاعتراض، والحق ما ذكره الشارح؛ فلذا حملهما عليه لا أنه يرد على تقدير حملهما على ذلك. واندفع أيضًا ما قيل: إن اشتراك الشيئين في جزء لا يستلزم عدم تمايزهما بالذات عن الآخر، وإن أراد بالامتياز الذاتي الامتياز بنفس الذات لا بالجزء، فذلك غير واجب في الحركة والسكون، ولا تصريح منهم به؛ إذ ليس المراد بعدم تمايزهما بالذات أنه ليس بينهما تمايز بحسب الحقيقة، بل أنهما لا يتمايزان بحسب الوجود الخارجي بأن يكون تحقق كل منهما في الخارج ممتازًا عن الآخر، فإنه يلزم حينئذ أن يكون الشيء في الآن الثاني متصفًا بالحركة والسكون معًا، وذلك مما لا يقول به أحد.
قوله: (والحق أن الحركة كون الأول…إلخ) هذا بعينه ما ذكره الشارح بقوله: “فإن كان مسبوقًا بكون آخر…إلخ”.
قوله: (وهذا ظاهر) أي: كون هذين التعريفين صحيحًا ظاهر عند تجدد الأكوان بحسب الآنات على ما هو مذهب الشيخ الأشعري من عدم بقاء الأعراض؛ إذ حينئذ يتحقق السكون الأول والثاني. وأما على القول ببقاء الأ كوان ففيه إشكال أيضًا؛ إذ لا معنى حينئذ لكون الكون أولًا وثانيًا لعدم تعدده، اللهم إلا أن يفرض تعددها بحسب تتالي الآنات، ولأنه يلزم أنه إذا حدث في مكان واستقر فيه آنين أن لا يكون كونه في الآن الثاني حركة لعدم كونه في مكان ثان، ولا سكونًا لعدم كونه كونًا ثانيًا، وأنه إذا انتقل إلى مكان واستقر فيه آنين يلزم أن يكون كونه في الآن الثالث حركة لكونه كونًا أول في المكان الثاني. ولا يخفى عليك أن ما يرد على هذا التعريف على تقدير بقاء الأكوان يرد على قولهم المذكور أيضًا، وعلى تقدير عدم بقائها يلزم أن لا يكون الحركة والسكون موجودين لعدم اجتماع الكونين في الوجود، اللهم إلا أن يقال: يكفي في وجود الكل وجود أجزائه ولو على سبيل التعاقب.
قال الباجوري:
قوله: (وأما الأعيان) أي: بقسميها؛ أعني: الأجسام والجواهر.
وقوله: (فلأنها لا تخلو…إلخ) أي: فحدوثها ثابت لأنها لا تخلو…إلخ، وأشار بذلك إلى قياس من الشكل الأول، نظمه هكذا: الأعيان لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. ولما كان كل من المقدمة الصغرى والكبرى نظريا، أثبته بالدليل حيث قال: “أما المقدمة الأولى فلأنها…إلخ، وأما المقدمة الثانية فلأن…إلخ.”
قوله: (عن الحوادث) أي: التي هي الأعراض القائمة بها.
قوله: (وكل ما يخلو عن الحوادث فهو حادث) ونتيجة ذلك القياس محذوفة ،وهي أن الأعيان حادثة.
قوله: (أما المقدمة الأولى) أي: القائلة الأعيان لا تخلو عن الحوادث.
وقوله: (فلأنها لا تخلو…إلخ) أي: فثابتة لأنها لا تخلو…إلخ، وأشار بذلك إلى قياس من الشكل الأول منتج للمقدمة الأولى، نظمه هكذا: الأعيان لا تخلو عن الحركة والسكون الحادثين، وكل ما لا يخلو عنهما لا يخلو عن الحوادث، ونتيجته أن الأعيان لا تخلو عن الحوادث، وهذه النتيجة عين المقدمة الأولى، فذكر الشارح الصغرى وحذف الكبرى. ولما كانت صغرى هذا القياس مشتملة على أمرين: الأول عدم الخلو عنهما، الثاني: حدوثهما، وكان كل من الأمرين يحتاج إلى البيان، بين الشارح الأمر الأول بقوله “أما عدم الخلو عنهما فلأن الجسم…إلخ” والأمر الثاني بقوله “وأما حدوثهما فلأنهما…إلخ” لكن فيه أن الأمر الثاني قد تقدم بيانه عند بيان حدوث الأعراض، إلا أن يقال: إن ما تقدم لم يثبت حدوث حركة وسكون لم نشاهدهما؛ فلذا لم يكتف به وأثبت حدوثهما بما يأتي.
قوله: (عن الحركة والسكون) أي: على سبيل البدل؛ إذ لا يتأتى اجتماعهما.
وقوله: (وهما حادثان) أي: والحال أنهما حادثان فالجملة حالية.
قوله: (أما عدم الخلو عنهما) أي: أما عدم خلو الأعيان عن الحركة والسكون.
وقوله: (فلأن الجسم والجوهر لا يخلو…إلخ) أي: فثابت؛ لأن الجسم والجوهر الفرد الذين تنقسم إليهما الأعيان لا يخلو كل منهما…إلخ
وقوله: (عن الكون في حيز) أي: عن الحصول والاستقرار في حيز، أي: قدر من الفراغ، وهذا الكون في الحيز إما حركة وإما سكون، كما أشار إليه بقوله “فإن كان مسبوقا…إلخ” فهو تفصيل له.
قوله: (فإن كان مسبوقا بكون آخر في ذلك الحيز بعينه) أي: فإن كان ذلك الكون المتحقق في حيز مسبوقا بكون آخر متحقق في ذلك الحيز بعينه، الذي تحقق فيه الكون الثاني.
وقوله: (فهو ساكن) أي: فكل من الجسم والجوهر ساكن، وكان الأولى أن يقول: “فهو سكون” أي: فالكون المذكور سكون؛ لأنه بصدد بيان السكون،
وقوله: (وإن لم يكن مسبوقا بكون آخر في ذلك الحيز بل في حيز آخر) أي: وإن لم يكن ذلك الكون المتحقق في حيز مسبوقا بكون آخر متحقق في ذلك الحيز بعينه الذي تحقق فيه الكون الثاني، بل كان مسبوقا بكون آخر متحقق في حيز آخر، غير الذي تحقق فيه الكون الثاني.
وقوله: (فمتحرك) أي: فكل من الجسم والجوهر متحرك، وكان الأولى أن يقول: “فحركة” أي: فالكون المذكور حركة؛ لأنه بصدد بيان الحركة، ولو قيل : فإن كان مسبوقا بكون آخر في حيز آخر فحركة وإلا فسكون لم يرد سؤال آن الحدوث الآتي في قوله: (فإن قيل : يجوز أن لا يكون مسبوقا…إلخ) لأنه حينئذ يكون داخلا في السكون فإن معنى قوله “وإلا فسكون” وإن لا يكن مسبوقا بكون آخر في حيز آخر، بأن كان غير مسبوق أصلا كما في آن الحدوث أو كان مسبوقا بكون آخر في ذلك الحيز بعينه فسكون في الصورتين، هذا ولكن يرد عليه أنه يلزم حينئذ عدم اعتبار اللبث في السكون، وهو خلاف العرف واللغة فلذا أخرجه الشارح عنهما.
قوله: (وهذا معنى قولهم…إلخ) أي: هذا الذي يفهم مما تقدم من أن الحركة: هي الكون في حيز بشرط أن يسبقه كون آخر، والسكون: هو الكون في حيز بشرط أن يسبقه كون آخر في ذلك الحيز بعينه هو معنى قولهم…إلخ، فليس المراد منه ما هو ظاهره من أن كلا من الحركة والسكون مركب من الكونين، حتى يكون الكون السابق جزءا من الحركة أو من السكون، بل المراد منه أن كلا منهما بسيط فأرادوا بقولهم: الحركة كونان في آنين في مكانين، أنهما الكون في حيز بشرط أن يسبقه كون آخر في حيز آخر، وأرادوا بقولهم: السكون كونان في آنين في مكان واحد، أنه الكون في حيز بشرط أن يسبقه كون آخر في ذلك الحيز بعينه، فتسامحوا حيث جعلوا الكون السابق شطرا من كل من الحركة والسكون مع أنه شرط فيهما.
قوله: (الحركة كونان في آنين في مكانين والسكون كونان في آنين في مكان واحد) قد عرفت أن ظاهره أن كلا من الحركة والسكون مركب من الكونين، ويرد على ظاهره المذكور: أن ما حدث في مكان واستقر فيه آنين، وانتقل إلى مكان آخر في الآن الثالث، لزم أن يكون كونه في الآن الثاني جزءا من الحركة والسكون معا، فإن هذا الكون مع الكون الأول يكون سكونا؛ لأنه يصدق عليهما أنهما كونان في آنين في مكان واحد، ومع الكون الثالث يكون حركة؛ لأنه يصدق عليهما أنهما كونان في آنين في مكانين فلا يمتاز كل منهما عن الآخر في الذات بحسب الوجود الخارجي؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون الشيء في الآن متصفا بالحركة والسكون معا، وهذا مما لا يقول به أحد. والحق أن الحركة كون أول في مكان ثاني، والمراد بالمكان الثاني ما عدا المكان الأول فيشمل الثالث وما فوقه، والسكون كون ثانٍ في مكان أول والمراد بالكون الثاني في المكان الأول ما عدا الكون الأول الذي يكون في غير المكان الأول؛ فلذلك حمل الشارح قولهم المذكور على خلاف ظاهره. وما ذكره من أن الحركة كون أول في مكان ثاني والسكون كون ثان في مكان أول، ظاهر عند تجدد الأكوان بحسب الآنات على ما هو مذهب الشيخ الأشعري من عدم بقاء الأعراض؛ إذ حينئذ يتحقق الكون الأول والثاني. وأما على القول ببقائها ففيه إشكال؛ لأنه لا معنى للأولية والثانوية على تقدير بقاء الأكوان، كما أن في قولهم “الحركة كونان…إلخ” إشكالا على القول ببقائها؛ لعدم اجتماع الكونين في الوجود؛ إذ الموجود كون واحد مستمر، اللهم إلا أن يفرض تعدد الكون بتعدد الأزمنة المتتابعة. والتحقيق على القول المذكور: إن الحركة كون في آنين في مكان واحد.
قال الشارح: فإن قيل: يجوز أن لا يكون مسبوقاً بكون آخر أصلاً، كما في آن الحدوث، فلا يكون متحركاً كما لا يكون ساكناً. قلنا: هذا المنع لا يضرنا، لما فيه من تسليم المدعى. على أن الكلام في الأجسام التي تعددت فيها الأكوان وتجددت فيها الأعصار والأزمان . وأما حدوثهما فلأنهما من الأعراض وهي غير باقية. ولأن ماهية الحركة لما فيها من الانتقال من حال إلى حال تقتضي المسبوقية بالغير والأزلية تنافيها. ولأن كل حركة فهي على المقتضى وعدم الاستقرار، وكل سكون فهو جائز الزوال، لأن كل جسم فهو قابل للحركة بالضرورة. وقد عرفت أن ما يجوز عدمه يمتنع قدمه.
قال الخيالي:
قوله: (فهو جائز الزوال) فإن قلت: جوازه لا يستلزم وقوعه، فيجوز أن يوجد سكون مستمر. قلت: جوازه يستلزم سبق العدم؛ لأن القدم ينافي العدم مطلقا وبه يتم المقصود.
قال السيالكوتي:
قوله: (إن قلت جوازه…إلخ) يعني: أن ما ثبت. قيل: إن القدم ينافي طريان العدم، وجواز الزوال لا يستلزم وقوع الزوال لجواز أن لا يخرج
من القوة إلى الفعل، فحينئذ يجوز أن يوجد سكون قديم مستمر إلى الأبد مع كونه جائز الزوال في نفسه، فلا يلزم حدوثه.
قوله: (قلت جوازه…إلخ) يعني: أن جواز الزوال وإن لم يستلزم طريان العدم عليه لكنه يستلزم سبق العدم عليه؛ لأن القدم ينافي طريان العدم مطلقًا؛ أي: بالفعل، وبالإمكان؛ لأن القديم إن كان واجبًا لذاته فظاهر أنه يمتنع عدمه مطلقًا، وإن كان غيره المستند إليه بطريق الإيجاب بواسطة، أو بلا واسطة فلأن إمكان عدمه يستلزم إمكان عدم الواجب، أو إمكان تخلف المعلول عن علته التامة، فجواز زوال السكون يكون منافيًا لقدمه، فيكون مسبوقًا بالعدم فيكون حادثًا، وبه أي: باستلزام جواز الزوال سبق العدم ثبت المقصود؛ أعني: إثبات حدوث السكون وإن لم يستلزم طريان العدم. ولايخفى عليك أن هذا إنما يتم فيما يكون منافاه القدم للعدم ذاتيًا كما في الواجب لذاته، فيمتنع زواله امتناعًا ذاتيًا، فلا يمكن زواله أصلًا أما إذا كان المنافاة بالغير كما في القديم المستند إلى الموجب القديم فلا؛ إذ يجوز أن يكون عدمه ممتنعًا بالغير وممكنًا بحسب الذات، نعم لو ثبت أن ما ثبت قدمه يمتنع عدمه بالذات بإثبات أن كل ما هو قديم، فهو واجب لذاته على ما ذهب إليه بعض المتأخرين ليتم لكنه لم يثبت.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل : يجوز أن لا يكون…إلخ) وارد على ما أفاده الترديد السابق من حصر الجسم والجوهر في الساكن والمتحرك، وحاصله أنكم قد اعتبرتم في الكون في حيز الذي لا يخلو عنه الجسم، والجوهر أن يكون مسبوقا بكون آخر، إما في ذلك الحيز وإما في حيز آخر، مع أنه يجوز أن لا يكون ذلك الكون مسبوقا بكون آخر أصلا، كما في آن الحدوث فلا يكون متحركا كما لا يكون ساكنا، وحينئذ تكون المقدمة القائلة: “الأعيان لا تخلو عن الحركة والسكون” غير تامة وإذا لم تتم هذه المقدمة لم يتم الدليل المنتج للمقدمة الأولى من دليل حدوث الأعيان.
قوله: (بكون آخر أصلا) أي: لا في ذلك الحيز بعينه ولا في حيز آخر.
قوله: (كما في آن الحدوث) أي: كالكون الكائن في وقت حدوث الجسم والجوهر، فإنه ليس مسبوقا بكون آخر أصلا بل مسبوقا بالعدم. قوله: (فلا يكون متحركا) أي: فلا يكون كل من الجسم والجوهر متحركا؛ لعدم المسبوقية لكون آخر في حيز آخر كما هو شرط الحركة. وقوله: (كما لا يكون ساكنا) أي: كما لا يكون كل من الجسم والجوهر ساكنا لعدم المسبوقية بكون آخر في ذلك الحيز، كما هو شرط السكون، وإنما جعل انتفاء كونه ساكنا أظهر من انتفاء كونه متحركا؛ إذ الكون الذي في آن الحدوث كون أول، فلا يتوهم كون كل من الجسم والجوهر المتصف به ساكنا كقولهم كونه متحركا؛ لأن السكون كون ثان والحركة كون أول، فليس هذا الكون من السكون في شيء.
قوله: (قلنا) أي: في الجواب عن هذا السؤال.
وقوله: (هذا المنع لا يضرنا) هذا جواب بتسليم المنع،
وقوله: (على أن الكلام…إلخ) جواب بمنع المنع، فكان الأولى أن يقدم الجواب الثاني على الجواب الأول؛ لأن الجواب بالمنع يقدم على الجواب بالتسليم. وحاصل الجواب الأول: أن منع حصر كل من الجسم والجوهر في المتحرك والساكن لا يضرنا في مدعانا الذي نحن بصدد الاستدلال عليه، وهو حدوث الأعيان؛ لما فيه من تسليم المدعى الذي هو الحدوث حيث قال المعترض: كما في آن الحدوث، فإن فيه اعترافا بالحدوث. وحاصل الجواب الثاني: أن كلامنا في هذا المقام في الأجسام التي تعددت فيها الأكوان، وتجددت عليها الأعصار والأزمان، لا في الأجسام التي لم تتعدد فيها الأكوان، ولم تتجدد عليها الأعصار والأزمان؛ لأن حدوثها مشاهد فلا يحتاج إلى دليل، وحينئذ فلا يرد السؤال من أصله.
قوله: (لما فيه من تسليم المدعي) أي: لما في هذا المنع من تسليم مدعانا وهو حدوث الأعيان، وإنما كان فيه تسليم المدعى للاعتراف فيه بالحدوث، حيث قال فيه “كما في آن الحدوث”.
قوله: (على أن الكلام) أي: ولنجر على أن الكلام.
وقوله: (في الأجسام) أي: والجواهر كما يعلم من سياق الكلام، وكان الأولى أن يزيدها.
وقوله: (التي تعددت فيها الأكوان وتجددت عليها الأعصار والأزمان) أي: لأن حدوثها هو الذي يحتاج لدليل بخلاف التي لم تتعدد فيها الأكوان ولم تتجدد عليها الأعصار والأزمان، فإن حدوثها مشاهد فلا يحتاج إلى دليل، وعطف الأزمان على الأعصار عطف تفسير.
قوله: (وأما حدوثهما) أي: وأما حدوث الحركة والسكون.
وقوله: (فلأنهما…إلخ) أي: فثابت لأنهما…إلخ
وقوله: (من الأعراض) أي: لأنهما من الأكوان وهي من الأعراض على أحد القولين كما تقدم
وقوله: (وهي غير باقية) أي: بناء على ما ذهب إليه الشيخ الأشعري من أنها لا تبقى زمانين؛ لأن البقاء معنى وجودي، فلو كانت باقية للزم عليه قيام المعنى بالمعنى، وهذا مبني كما ترى على أن البقاء صفة وجودية، والحق أنه صفة سلبية والصفة السلبية تقوم بالمعنى، فتكون الأعراض باقية، ولو قال الشارح بدل قوله “وهي غير باقية” “وقد ثبت فيما سبق حدوثهما” لكان كافيا، وهذا الدليل عام في كل من الحركة والسكون، وقد ذكر بعده دليلين خاصين بالحركة ودليلا خاصا بالسكون.
قوله: (ولأن ماهية الحركة لما فيها من الانتقال من حال إلى حال تقتضي المسبوقية بالغير) أي: ولأن ماهية الحركة، التي هي الكون في حيز بشرط أن يسبقه كون آخر في حيز آخر، لما في تلك الماهية من الانتقال بطريق اللزوم من حال، وهو الكون السابق، إلى حال، وهو الكون المسبوق، تقتضي هذه الماهية مسبوقية الحركة بالغير، الذي هو الكون السابق سبقا زمانيا، بحيث لا يجامع فيه المتأخر المتقدم. وقوله: (والأزلية تنافيها) أي: والأزلية تنافي المسبوقية بالغير؛ لأن الأزلية عدم الأولية، وعدم الأولية يستلزم عدم المسبوقية بالغير، وإذا كانت الأزلية تنافي المسبوقية بالغير فلا تكون الحركة أزلية؛ لأن المسبوقية بالغير لازمة لها، وإذا انتفى كونها أزلية ثبت حدوثها وهو المطلوب.
قوله: (ولأن كل حركة فهي على التقضي وعدم الاستقرار) أي: ولأن كل حركة فهي كائنة على التقضي بالانعدام وعلى عدم الاستقرار؛ لزوالها بالسكون الذي يعقبها أزلي الكون في غير المكان الأول، ويعقبه الكون الثاني وهو سكون، وإذا كانت على التقضي بالانعدام وعلى عدم الاستقرار لزوالها بالسكون الذي يعقبها كانت حادثة؛ لأن التقضي بالانعدام وعدم الاستقرار ينافي القدم.
قوله: (وكل سكون هو جائز الزوال) أي: وكل سكون فهو جائز العدم، وهذه صغرى الدليل، وأشار إلى كبراه بقوله “وقد عرفت أن ما يجوز عدمه يمتنع قدمه” ونظمه هكذا: كل سكون فهو جائز العدم، وكلما كان كذلك يمتنع قدمه، ينتج أن السكون يمتنع قدمه، فيكون حادثا. فإن قيل: جواز العدم لا يستلزم وقوعه؛ لجواز أن لا يخرج من القوة إلى الفعل، فيجوز أن يوجد سكون مستمر إلى الأبد، مع كونه جائز الزوال في نفسه. أجيب بأن جواز العدم وإن لم يستلزم وقوعه لكنه يستلزم سبق العدم؛ لأن القدم ينافي العدم مطلقا أي: جائزا أو واقعا، وبه يتم المقصود الذي هو حدوث السكون.
قوله: (لأن كل جسم فهو قابل للحركة بالضرورة) دليل للصغرى القائلة كل سكون فهو جائز الزوال.
قوله: (وقد عرفت أن ما يجوز عدمه يمتنع قدمه) فيه أن الذي عرف مما سبق أن ما ينعدم بالفعل يمتنع قدمه، لا أن ما يجوز عدمه يمتنع قدمه؛ لأن ما سبق في طريان العدم بالفعل لا بالقوة، إلا أن يقال إن ذلك عرف مما سبق بطريق اللزوم؛ لأنه يلزم من كون القدم ينافي وقوع العدم كونه ينافي جوازه، فإنه لا جواز للشيء مع ثبوت ما ينافيه.
قال الشارح: وأما المقدمة الثانية فلأن ما لا يخلو عن الحوادث لو ثبت في الأزل لزم ثبوت الحادث في الأزل، وهو محال.
وها هنا أبحاث: الأول: أنه لا دليل على انحصار الأعيان في الجواهر والأجسام، وأنه يمتنع وجود ممكن يقوم بذاته ولا يكون متحيزاً أصلاً، كالعقول والنفوس المجردة التي تقول بها الفلاسفة. والجواب: أن المدعى حدوث ما ثبت وجودُه بالدليل من الممكنات، وهو الأعيان المتحيزة والأعراض، لأنَّ أدلة وجود المجردات غير تامة على ما بين في المطولات.
قال الخيالي:
قوله: (لا دليل على انحصار الأعيان…إلخ) والاستدلال بأن المجرد يشارك الباري تعالى في التجرد فيمتاز عنه بقيد آخر، فيلزم التركيب ليس بشيء؛ إذ الاشتراك في العوارض سيما السلبية لا يستلزم التركيب، على أنه يجوز أن يمتاز بتعين عدمي كما هو مذهب المتكلمين فلا يلزم التركيب.
قوله: (لأن أدلة وجود المجردات غير تامة) كما أن أدلة نفيها كذلك منها ما سبق آنفا، ومنها ما يقال ما لا دليل عليه يجب نفيه وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها فإنه سفسطة، ويجاب بأن الدليل ملزوم للمدلول، وانتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء اللازم، على أن عدم الدليل في نفس الأمر ممنوع، وعدمه عندك لا يفيد، وعدم حضور الجبال الشاهقة معلوم بالبداهة لا بأنه لا دليل عليه.
قال السيالكوتي:
قوله: (والاستدلال بأن المجرد…إلخ) تقريره أن وجود المجرد ممتنع؛ إذ لو وجد لشاركه الباري في التجرد لكن التالي باطل فالمقدم مثله، أما الملازمة فظاهر، وأما بطلان التالي فإنه لو شاركه لامتاز عنه بقيد آخر، فيلزم التركيب في ذاته تعالى المستلزم للإمكان، وهو محال. وتقرير الجواب: أنا لا نسلم أن هذه المشاركة تستلزم التركيب؛ لأنه مشاركة في العوارض السلبية؛ إذ معنى التجرد عدم التحيز والشركة في العوارض خصوصًا في السلبية لا تستلزم التركيب، فإنه يجوز أن يكون حقيقة بسيطة ممتازة عما عداه بالذات مع شركته في العوارض، وعلى تقدير تسليم أنه شركة في أمر ذاتي، فلا نسلم أن ما به الامتياز أيضًا ذاتي حتى يلزم التركيب، لم لا يجوز أن يكون بتعين عدمي خارج عن حقيقته على ما ذهب إليه المتكلمون من أن تعين الواجب أمر عدمي كما بين في محله.
قوله: (ومنها ما يقال ما لا دليل…إلخ) تقريره: أن المجردات لا دليل على وجودها، وكل ما لا دليل على وجوده يجب نفيه، فالمجردات يجب نفيها، أما الصغرى فبإبطال الدلائل الدالة على وجودها، وأما الكبرى فلأنه لو لم يجب نفيه لجاز أن يكون بحضرة جبال شاهقة لا نراها وأنه سفسطة. وتقرير الجواب: أنا لا نسلم الكبرى، فإن الدليل ملزوم والمدلول لازم، وانتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء اللازم لجواز كونه أعم، فيجوز أن يكون الشيء متحققًا مع عدم الدليل عليه كالصانع مع عدم العالم.
قوله: (على أن عدم الدليل…إلخ) حاصله: إن أريد بقوله: “لا دليل على وجود المجردات” أنه لادليل في نفس الأمر منعناه؛ لأن عدم العلم لا يستلزم عدمه في نفس الأمر، وإن أريد أنه لا دليل عندنا فمسلم، ولكنه لا يفيد وجوب نفيه لجواز أن يكون موجودًا في نفس الأمر، فلايكون المجردات مما لا دليل عليه فيجب نفيه.
قوله: (و عدم حضور الجبال الشاهقة…إلخ) جواب سؤال مقدر كأنه قيل: لولم يستلزم انتفاء الدليل انتفاء المدلول لما علم عدم حضور الجبال الشاهقة، فأجاب عنه بأنه معلوم بالبداهة لا بانتفاء دليل الحضور، وإلا لكان العلم بها استدلاليا.
قال الباجوري:
قوله: (وأما المقدمة الثانية) أي: القائلة: وكلما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث،
وقوله: (فلأن ما لا يخلو…إلخ) أي: فثابت لأن ما لا يخلو…إلخ.
وقوله: (عن الحوادث) أي: التي هي الأعراض.
وقوله: (لو ثبت في الأزل لزم ثبوت الحادث في الأزل) هذه شرطية.
وقوله: (وهو محال) في قوة الاستثنائية، ونظم القياس هكذا: لو ثبت ما لا يخلو عن الحوادث في الأزل لزم ثبوت الحادث في الأزل، لكن التالي محال فما أدى إليه، وهو ثبوت ما لا يخلو عن الحوادث في الأزل، محال، وإذا كان ثبوته في الأزل محالا كان حادثا.
قوله: (وههنا أبحاث) أي: وفي هذا المقام الذي هو مقام إثبات حدوث الأعيان أبحاث أربعة، كما يعلم من كلامه بعد.
قوله: (الأول) أي: البحث الأول: وهو وارد على انحصار العين في الجسم والجوهر، وحاصله منع الانحصار المذكور، وحينئذ فحدوث الأجسام والجواهر لا يستلزم حدوث غيرهما، مع أن المدعى حدوث العالم بجميع أجزائه.
قوله: (لا دليل على انحصار الأعيان…إلخ) أي: لا دليل تاما على انحصار الأعيان…إلخ، فالمنفي الدليل التام لا مطلق الدليل، وإلا فهناك أدلة على ذلك، منها أنه لو كان هناك مجرد لشارك الباري تعالى في التجرد عن المادة، وحينئذ فلابد أن يمتاز سبحانه وتعالى عنه بقيد آخر غير التجرد، فيلزم التركيب في ذاته تعالى مما به الاشتراك، وما به الامتياز والتركيب مستلزم للحدوث، وهو محال على الله تعالى، فجميع ما أدى إليه محال. وهذا الدليل ليس بشيء؛ لأن الاشتراك في العوارض التي هي الأمور العارضة للذات، خصوصا السلبية كالتجرد فإنه أمر عارض للذات سلبي؛ إذ المراد منه عدم التحيز، لا يستلزم التركيب، فإنه يجوز أن تشترك حقيقة بسيطة مع غيرها في العوارض، على أنه لو سلم أن التجرد ذاتي فلا نسلم أن ما به الامتياز ذاتي أيضا، لم لا يجوز أن يمتاز بتعين الذات العلية الذي هو أمر عدمي كما هو مذهب المتكلمين فإنه عندهم أمر اعتباري، وحينئذ فلا يلزم التركيب في ذاته تعالى، ومنها ما قيل : من أن المجرد لا دليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيه وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها وإنه سفسطة، ووجد عدم تمام هذا الدليل أن كبراه القائلة: “وما لا دليل عليه يجب نفيه” غير مسلمة؛ لأن الدليل ملزوم للمدلول، وانتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء اللازم؛ لجواز أن يكون اللازم أعم من الملزوم، ولذلك انتفى الدليل الذي هو العالم في الأزل، ولم ينتف المدلول الذي هو الباري تعالى. وعلى تسليم كبراه فصغراه القائلة: “المجرد لا دليل عليه” ممنوعة؛ لأنه إن أريد عدم الدليل في نفس الأمر فممنوع؛ إذ لا اطلاع لنا على ما في نفس الأمر، وإن أريد عدم الدليل عندك فمسلم، لكنه لا يفيد؛ لجواز أن يكون هناك دليل في نفس الأمر. وقولهم في الدليل “وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها وإنه سفسطة” مردود بأن عدم حصول الجبال الشاهقة معلوم بالبداهة، لا لأنه لا دليل عليه، وإلا لكان العلم به استدلاليا مع كونه ضروريا.
قوله: (وأنه يمتنع…إلخ) أي: وعلى أنه يمتنع…إلخ، فهو عطف على “انحصار” من قبيل عطف اللازم على الملزوم.
وقوله: (وجود ممكن) أي: من الأعيان أخذا من قوله “يقوم بذاته” فهو احتراز عن الأعراض ولا يكون ذلك الممكن جسما ولا جوهرا فردا، أخذا من قوله “ولا يكون متحيزا أصلا” فهو احتراز عن الأجسام والجواهر.
وقوله: (كالعقول والنفوس) مثال للممكن المذكور،
وقوله: (المجردة) أي: عن المادة وعلائقها بالنسبة للعقول، وعن المادة دون علائقها بالنسبة للنفوس؛ إذ العقول ليست متعلقة بالجسم تعلق تدبير، بل تعلق تأثير فقط بخلاف النفوس، فإنها تتعلق به تعلق تدبير وتصور.
قوله: (والجواب أن المدعى…إلخ) والجواب عن هذا البحث أن المدعى…إلخ، وحاصله: أن منع الانحصار المذكور لا يضر؛ لأن مدعانا حدوث ما ثبت وجوده، دون ما لم يثبت وجوده، فطابق الدليل المدعى، ومقتضى هذا الجواب: أن العالم على قسمين قسم ثبت وجوده، وهذا القسم هو المدعى حدوثه، وقسم لم يثبت وجوده، وهذا القسم لم ندع حدوثه، ويرد على هذا أنه لا قطع حينئذ بانتفاء ذات قديمة غير ذاته تعالى، مع أن القطع بذلك واجب، لكن لا يخفى أن القطع المنفي إنما هو القطع المستند للدليل العقلي؛ لعدم وجدان الدليل المذكور، لا القطع المستند للشرع؛ لأن هذا القطع مستفاد من الشرع، فإن الشرع المنقول تواترا دال على حدوث ما سوى الله تعالى، ﭧﭨﱡﭐ ﲻ ﲼ ﲽ ﱠ وقال أيضا: ﱡﭐﱿ ﲀ ﲁ ﲂﱠ إلى غير ذلك.
قوله: (وهو) أي: ما ثبت وجوده من الممكنات،
وقوله: (الأعيان المتحيزة والأعراض) أي: بخلاف الأعيان غير المتحيزة، وحينئذ فحصر الأعيان في الجسم والجوهر صحيح بالنسبة إلى الأعيان التي ثبت وجودها.
قوله: (لأن أدلة وجود المجردات غير تامة) أي: كما أن أدلة نفيها كذلك، وقد تقدم بيانها. وأما أدلة وجودها فمنها قولهم في الاستدلال على وجود العقول: إن الله واحد من جميع الوجوه فلا يصدر عنه إلا واحد بسيط وهو العقل الأول، ويصدر عن هذا العقل بقية العقول العشرة على الوجه الذي ذكرناه فيما سبق، ووجه عدم تمام الدليل: أن انحصار الصادر عنه تعالى في واحد مبني على أنه تعالى فاعل بطريق الإيجاب، والحق أنه تعالى فاعل بالاختيار، فلا مانع من تعدد آثاره وأفعاله. ومنها ما قالوه في الاستدلال على وجود النفس الإنسانية: من أن النفس محل للعلم، وإذا كانت محلا للعلم فلا جائز أن تكون عرضا؛ لما يلزمه من قيام العرض بالعرض، فتعين أن تكون جوهرا متحيزا؛ إذ لو كانت كذلك لكانت متجزئة، وحينئذ فإن قام العلم بشيء بكل جزء من أجزائه لزم انقسام العلم بانقسام محله، وإن قام العلم بشيء بجزء، والجهل بهذا الشيء بجزء آخر، لزم أن يكون الإنسان عالما بالشيء جاهلا به، وإذا لم يجز أن تكون جوهرا متحيزا كانت جوهرا مجردا. ووجه عدم تمام هذا الدليل: أنه لا يلزم من انقسام المحل انقسام الحال فيه؛ لجواز أن يكون حلوله فيه ليس حلول السريان. ومنها قولهم في الاستدلال على وجود النفوس الفلكية أن حركة الفلك ليست طبعية ولا قسرية؛ لأن الطبعية هي المطلوبة بالطبع، والقسرية هي التي على خلاف الطبع، ومثلوها بحركة النملة التي تمشى على العجلة في غير الجهة التي تمشي إليها العجلة، وإذا لم تكن طبعية ولا قسرية، تعين أن تكون إرادية، فيكون لها نفوس مجردة؛ لأن إرادتها ليست ناشئة عن تخيل محض، وإلا لامتنع دوامها على نظام واحد، ووجه عدم تمام هذا الدليل: أننا نمنع كون التخيل لا ينتظم؛ لجواز أن يكون تخيل الفلك على خلاف تخيلنا.
قوله: (على ما بين المطولات) قد علمت منه ما يكفي في هذا المقام.
قال الشارح: الثاني: أن ما ذكر لا يدل على حدوث جميع الأعراض، إذ منها ما لا يدرك بالمشاهدة حدوثه ولا حدوث أضداده، كالأعراض القائمة بالسمواتمن الأشكال والامتدادات والأضواء. والجواب: أن هذا غير مخل بالغرض، لأن حدوث الأعيان يستدعي حدوث الأعراض، ضرورة أنها لا تقوم إلا بها.
قال الخيالي:
قوله: (حدوث الأعراض) أي: حدوث سائر الأعراض، فحدوث البعض دليل وحدوث الآخر مدلول.
قال السيالكوتي:
قوله: (حدوث سائر الأعراض) يعني: قوله: “حدوث الأعراض” على حذف المضاف، والمراد حدوث سائر الأعراض؛ بمعنى باقي الأعراض، وهو ما لا يكون حدوثه معلومًا بالمشاهدة ولا بالدليل؛ إذ لو كان على ظاهره، ويكون المعنى حدوث جميع الأعراض يلزم المصادرة؛ لأن حدوث بعض الأعراض دليل حدوث الأعيان، وحدوثها دليل حدوث جميع الأعراض، فيكون حدوث بعض الأعراض دليل حدوث نفسه ضرورة دخوله في الجميع.
قوله: (فحدوث…إلخ) أي: إذا كان المراد حدوث باقي الأعراض يكون حدوث بعض الأعراض كالحركة والسكون مثلًا دليلًا، وحدوث البعض الآخر مما لا يعلم حدوثه بالمشاهدة، والدليل كالأعراض القائمة بالأفلاك مثلًا مدلولًا فلا مصادرة، وعندي أنه لا حاجة إلى تقدير المضاف؛ لأن اللازم أن يكون حدوث بعض الأعراض المعلوم بوجه المشاهدة، أو الدليل دليلًا على حدوثه المعلوم بوجه كونه قائمًا بالحدث، مثلًا حدوث الحركة والسكون المعلوم بالمشاهدة، أو الدليل يكون دليلًا على حدوث الأعيان، وحدوثها دليلًا على حدوث جميع الأعراض من حيث كونها قائمة بالحادث، فاللازم أن يكون حدوث الحركة والسكون المعلوم بالمشاهدة، أو الدليل دليلًا على حدوثهما المعلوم من حيث كونهما قائمين بالحادث.
قال الباجوري:
قوله: (الثاني) أي: البحث الثاني وهو وارد على قوله “في دليل حدوث الأعراض”. أما الأعراض فبعضها للمشاهدة وبعضها بالدليل، وحاصله: أن الدليل أخص من المدعى؛ لأن المدعى حدوث جميع الأعراض، وما ذكره من الدليل لا يدل على حدوث جميعها.
قوله: (إن ما ذكر) أي: في دليل حدوث الأعراض.
وقوله: (لا يدل على حدوث جميع الأعراض) أي: وإنما يدل على حدوث بعضها، مع أن المدعى حدوث جميعها، فالدليل أخص من المدعى. قوله: (إذ منها ما لم يدرك بالمشاهدة حدوثه) أي: إذ منها أعراض لم يدرك بالمشاهدة حدوثها، فليست كالحركة بعد السكون والضوء بعد الظلمة والسواد بعد البياض، فإن هذه الأعراض أدرك بالمشاهدة حدوثها،
وقوله: (ولا حدوث أضداده) أي: ولم يدرك بالمشاهدة حدوث أضداد تلك الأعراض، فليست كالسكون الذي وجدت الحركة بعده والظلمة التي وجد الضوء بعدها والبياض الذي وجد بعده السواد، فإن هذه الأعراض أدرك بالمشاهدة حدوث أضدادها.
قوله: (كالأعراض القائمة بالسماء) مثال لما لم يدرك بالمشاهدة حدوثه ولا حدوث أضداده.
وقوله: (من الأشكال) أي: الهيئات.
وقوله: (والامتدادات) أي: التي هي الطول والعرض والعمق.
وقوله: (والأضواء) أي: كضوء الشمس وضوء القمر وضوء سائر الكواكب، وهذا كله بيان للأعراض القائمة بالسماوات.
قوله: (والجواب أن هذا…إلخ) أي: والجواب عن هذا البحث أن هذا…إلخ، وحاصله: أن كون الدليل أخص من المدعى؛ لكونه لا يدل على حدوث جميع الأعراض، غير مخل بغرضنا الذي هو بيان حدوث جميع الأعراض؛ لأن حدوث الأعيان الثابت بحدوث بعض الأعراض يستدعي حدوث سائر الأعراض.
قوله: (غير مخل بالغرض) أي: غير مضر في المقصود الذي هو بيان حدوث جميع الأعراض كما علمت.
قوله: (لأن حدوث الأعيان يستدعي حدوث الأعراض) أي: لأن حدوث الأعيان الثابت بحدوث بعض الأعراض كالحركة والسكون اللازمين لجميع الأعيان يقتضي حدوث سائر الأعراض، فحدوث بعض الأعراض كالحركة والسكون دليل على حدوث الأعيان، وحدوث البعض الآخر مدلول لحدوث الأعيان. ومن هذا التقرير ظهر لك أن كلام الشارح على تقدير مضاف، وليس على ظاهره من أن حدوث الأعيان يستدعي حدوث جميع الأعراض؛ لأنه يلزم منه المصادرة فإن حدوث بعض الأعراض كالحركة والسكون دليل على حدوث الأعيان، وحدوث الأعيان دليل على حدوث جميع الأعراض، ومن جملتها البعض الأول فيكون حدوث ذلك البعض دليلا على نفسه. قال العلامة عبد الحكيم: وعندي أنه لا حاجة إلى تقدير ذلك المضاف؛ لأن اللازم أن يكون حدوث ذلك البعض المعلوم بالمشاهدة أو بالدليل دليلا على حدوثه المعلوم بوجه كونه قائما بالأعيان الحادثة، وحينئذ فلا مصادرة، وعلم من ذلك كله إن الشارح لو بَيَّنَ أولا حدوث الحركة والسكون اللازمين لجميع الأعيان حتى الأفلاك والكواكب، ثم بين حدوث الأعيان بحدوث ما لا ينفك عنها من الأعراض كالحركة والسكون، ثم بين حدوث سائر الأعراض بحدوث الأعيان لسقط البحث الثاني، وجوابه
قوله: (ضرورة أنها لا تقوم إلا بها) أي: ضرورة أن الأعراض لا تقوم إلا بالأعيان، فلو كانت قديمة لكانت سابقة عليها، مع أنه لا وجود للعرض بدون محله.
قال الشارح: الثالث: أن الأزل ليس عبارة عن حالة مخصوصة حتى يلزم من وجود الجسم فيها وجود الحوادث فيها، بل هو عبارة عن عدم الأولية أو عن استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي.ومعنى أزلية الحركات الحادثة أنه ما من حركة إلا وقبلها حركة أخرى لا إلى بداية، وهذا هو مذهب الفلاسفة، وهم يسلمون أنه لا شيء من جزئيات الحركة بقديم، وإنما الكلام في الحركة المطلقة. والجواب: أنه لا وجود للمطلق إلاّ في ضمن جزئي، فلا يتصور قدم المطلق مع حدوث كل جزء من الجزئيات.
قال الخيالي:
قوله: (فلا يتصور قدم المطلق) يرد عليه أن المطلق كما يوجد في ضمن كل جزئي له بداية فيأخذ من تلك الحيثية حكمه، كذلك يوجد في ضمن جميع الجزئيات التي لا بداية لها فيأخذ أيضا حكمها، ولا استحالة في اتصاف المطلق بالمتقابلات بحسب الحيثيات، وأيضا لو صح ما ذكره لزم أن لا يوصف نعيم الجنان بعدم التناهي، والأصوب أن يجاب بتناهي الجزئيات بناء على برهان التطبيق.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أن المطلق…إلخ) حاصله أن حدوث كل من الجزئيات إنما يستلزم حدوث المطلق إذا كانت متناهية في جانب الماضي، فيلزم من تحقق البداية لها تحقق البداية للمطلق، ضرورة أنه لا وجود للمطلق في الخارج إلا في ضمن الجزئيات، أما إذا كانت الجزئيات غير متناهية في جانب الماضي فلا؛ لأن المطلق كما يوجد في ضمن كل جزئي له بداية، فيأخذ من تلك الحيثية؛ أي: من حيث تحققه في ضمنه حكم ذلك الجزئي؛ أعني: البداية كذلك يوجد في ضمن جميع تلك الجزئيات التي لا بداية لها، فيجب أن يأخذ بهذا الاعتبار حكمها أيضًا؛ أعني: عدم البداية، وحينئذ لا يلزم حدوثه لبقائه في الأزمنة الماضية في ضمن تلك الجزئيات الغير المتناهية كما لا يخفى.
قوله: (ولا استحالة في اتصاف…إلخ) جواب سؤال مقدر كأنه قيل: إنه يلزم حينئذ اتصاف الواحد بالمتقابلين؛ أعني: البداية واللابداية، وهو باطل. وحاصل الدفع: أن اتصاف المطلق بالمتقابلات جائز بحسب اختلاف الحيثيات والاعتبارات، فإن الحيوان متصف بالضحك واللاضحك باعتبار الحيثيات المختلفة، من كونه ناطقًا ولا ناطقًا.
قوله: (وأيضا لو صح…إلخ) نقض إجمالي. وحاصله: أنه لو استلزم بداية كل واحد من الجزئيات بداية المطلق لاستلزام نهاية كل واحد من الجزئيات نهاية المطلق، وليس كذلك وإلا لزم أن يوصف نعيم الجنان بالتناهي ضرورة أن كل جزئي يوجد منها متناه، فيلزم أن يكون مطلق نعيم الجنان متناهيًا مع أنكم لا تقولون به، وبما حررنا ظهر أن ما قيل: أن قياس نعيم الجنان على الحركات الجزئية قياس مع الفارق؛ لأن الموجود بالفعل في كل مرتبة منها متناه، ومعنى عدم تناهيها أنه لا ينتهي إلى حد لا يوجد بعده مثلها بخلاف الحركات، فإن الموجود منها بالفعل ولو متعاقبة غير متناه ليس بشيء؛ لأن هذا الفرق لا يفيد في دفع النقض المذكور كما لا يخفى.
قوله: (والأصوب أن يجاب…إلخ) أي: أن يجاب عن السؤال الثالث بأن الجزئيات الموجودة من الحركة متناهية بناءً على برهان التطبيق، فإنه جار في الأمور الموجودة مطلقًا سواء كانت متعاقبة، أو مجتمعة مرتبة أو غير مرتبة كما سيجيء إن شاء الله تعالى، وإذا كان جميع الجزئيات متناهية ذا بداية يكون المطلق كذلك، فيلزم حدوثه قطعًا.
قال الباجوري:
قوله: (الثالث) أي: البحث الثالث وهو وارد على قوله في بيان المقدمة الثانية، “فلأن ما لا يخلو عن الحوادث لو ثبت في الأزل لزم ثبوت الحادث في الأزل”، وحاصله منع الشرطية، قوله: لأن الأزل ليس عبارة عن وقت معين حتى يقال إن ما لا يخلو عن الحوادث لو ثبت في الأزل لزم ثبوت الحادث في الأزل بل هو عبارة عن عدم الأولية أو عن استمرار الوجود…إلخ، فإن قيل : إذا كان الأزل عبارة عما ذكر، فكيف توصف الحركات الحادثة بالأزلية عند الفلاسفة، مع أن كل حركة لها أول وليست مستمرة الوجود، بل على التقضي وعدم الاستقرار؟ أجاب الشارح عن ذلك بقوله “ومعنى أزلية الحركات…إلخ” وأشار بذلك إلى أن وصفها بالأزلية باعتبار نوعها لا باعتبار شخصها، فما من حركة إلا وقبلها حركة أخرى وهكذا، وهذا الذي ذكرناه في معنى أزلية الحركات هو مذهب الفلاسفة، وهم يسلمون حدوث الحركات بالشخص، وإنما الكلام في الحركة المطلقة، فيسلمون أنه يلزم من أزلية الأعيان أزلية الحادث، لكن يمنعون قولنا فيما تقدم، وهو محال بسند قدم الحادث بالنوع، فلا يسلمون أن أزلية الحادث محال لقدمه بالنوع.
قوله: (أن الأزل ليس عبارة عن حالة مخصوصة) أي: أن لفظ الأزل ليس معبرا به عن وقت مخصوص أي: معين
وقوله: (حتى يلزم…إلخ) مفرع على المنفي فهو منفي أيضا.
وقوله: (من وجود الجسم) أي: أو الجوهر ولو عبر بالعين لشمل كلا من الجسم والجوهر
وقوله: (وجود الحوادث) أي: التي لا يخلو الجسم عنها
وقوله: (فيها) أي: في تلك الحالة المخصوصة.
قوله: (بل هو عبارة عن عدم الأولية أو عن استمرار الوجود) أي: بل لفظ الأزل معبر به عن عدم الأولية للشيء وجوديا كان أو عدميا، أو عن استمرار الوجود للشيء الوجودي فقط، وعلى هذا التعريف يكون مفهوم الأزل وجوديا في كلامه لتفريع الخلاف في تعريف الأزل فهما تعريفان.
قوله: (في أزمنة مقدرة) أي: في أزمنة مفروضة وإنما قيد بذلك؛ لأن الأزل لا زمان فيه عند المسلمين، وأما عند الفلاسفة فالزمن قديم؛ لأنه حركة الفلك، وهي عندهم قديمة بالنوع، فتكون الأزمنة عندهم محققة لا مقدرة، فلا يظهر كونها مقدرة إلا عند المسلمين القائلين بحدوث حركة الفلك حتى بالنوع.
وقوله: (غير متناهية في جانب الماضي) احترز بهذا القيد عن الأبدية؛ فإنها استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل.
قوله: (ومعنى أزلية الحركات الحادثة…إلخ) قد علمت مما تقدم أنه جواب عما يقال: إذا كان الأزل عبارة عما ذكر، فكيف توصف الحركات الحادثة بالأزلية عند الفلاسفة، مع أن كل حركة لها أول وليست مستمرة الوجود، بل على التقضي وعدم الاستقرار؟ وحاصل الجواب: أن وصفها بالأزلية باعتبار نوعها لا باعتبار شخصها، فما من حركة إلا وقبلها حركة أخرى وهكذا.
قوله: (أنه ما من حركة…إلخ) أي: أن الحال والشأن ما من حركة…إلخ،
وقوله: (لا إلى بداية ) أي: ويستمر ذلك في جانب الماضي لا إلى أول.
قوله: (وهذا هو مذهب الفلاسفة) أي: وهذا الذي ذكرناه في معنى أزلية الحركات هو مذهب الفلاسفة، فإنهم يقولون بأنها قديمة بنوعها حادثة بشخصها،
وقوله: (وهم يسلمون أنه لا شيء من جزئيات الحركة بقديم) أي: لأنهم يقولون بحدوثها كما عملت، وكان الأولى أن يأتي بفاء التفريع؛ لأن هذا يتفرع على ما قبله.
وقوله: (وإنما الكلام في الحركة المطلقة) أي: حيث قالت الفلاسفة بقدمها، بمعنى أنه لا يجوز خلو الفلك عنها، وقالت المسلمون بحدوثها؛ لبطلان حوادث لا أول لها، ومن هذا تعلم أن الفلاسفة يسلمون أنه يلزم من أزلية الأعيان أزلية الحادث، لكن يمنعون أن أزلية الحادث محال؛ لقدم الحادث عندهم بالنوع.
قوله: (والجواب أنه لا وجود…إلخ) والجواب عن هذا البحث أن الحال والشأن لا وجود…إلخ وهذا الجواب كما ترى إنما يتعلق بآخر البحث المذكور؛ لأنه رد لقولهم بقدم الحركة المطلقة، مع تسليمهم أنه لا شيء من جزئيات الحركة بقديم، وإنما ترك الشارح صدر البحث بلا جواب؛ لأنه مناقشة لفظية يسهل جوابها. ومحصله: أن الظرفية مجازية؛ لأن المراد من كون الشيء ثابتا في الأزل اتصافه بالأزلية، وحينئذ يكون المراد من الشرطية المذكورة فيما تقدم: أن ما لا يخلو عن الحوادث لو كان أزليا لكان الحادث أزليا، وقد تقدم أن الفلاسفة يسلمون ذلك، لكن يمنعون قولنا وهو محال لقدمه بالنوع عندهم، وقد أجاب الشارح عن ذلك فتدبر.
قوله: (إلا في ضمن الجزئي) أي: على طريقة الشارح من أن الكلي له وجود في ضمن جزئياته، والتحقيق ما قاله السيد: من أنه لا وجود له أصلا لا بذاته ولا في ضمن جزئه؛ لأن الوجود الخارجي يقتضي التشخص والتعين، بخلاف الوجود الذهني.
قوله: (فلا يتصور قدم المطلق مع حدوث كل من الجزئيات) أي: لأنه يلزم من حدوث كل من الجزئيات حدوث المطلق، ويرد على ذلك: أن حدوث كل من الجزئيات، إنما يستلزم حدوث المطلق، إذا كانت الجزئيات متناهية. أما إذا كانت غير متناهية، فلا يستلزم حدوث كل من الجزئيات حدوث المطلق؛ لأن المطلق كما يوجد في ضمن كل جزيء له بداية، فيأخذ من حيثية تحققه في ضمنه حكم ذلك الجزيء وهو البداية، كذلك يوجد في ضمن جميع الجزئيات التي لا بداية لها، فيأخذ أيضا من حيثية تحققه في ضمنها حكم تلك الجزئيات، لكن يلزم على ذلك اتصاف المطلق بالمتقابلات؛ لأنه متصف بالبداية واللابداية، إلا أن اتصافه بالبداية من حيث تحققه في ضمن كل جزيء، واتصافه باللابداية من حيث تحققه في ضمن جميع الجزئيات، ولا استحالة في اتصاف المطلق بالمتقابلات بحسب الحيثيات، فإن الحيوان متصف بالضحك واللاضاحك بحسب الحيثيات، فمن حيث كونه ناطقا يتصف بأنه ضاحك، ومن حيث كونه لا ناطق يتصف بأنه لا ضاحك، وأيضا لو استلزمت بداية كل واحد من الجزئيات بداية المطلق، وصح ما ذكره الشارح من أنه لا يتصور قدم المطلق مع حدوث كل من الجزئيات لاستلزمت نهاية كل واحد من الجزئيات نهاية المطلق، فيلزم أن لا يوصف نعيم الجنان بعدم التناهي؛ ضرورة أن كلامن الجزئيات متناهٍ، فيلزم أن يكون المطلق متناهيا، مع أنكم لا تقولون به. والأصوب أن يجاب عن هذا البحث بإبطال عدم تناهي الجزئيات ببرهان التطبيق، وحينئذ يثبت تناهي الجزئيات بناء على برهان التطبيق، وإذا كانت متناهية لها بداية كان المطلق كذلك، فيلزم حدوثه قطعا.
قال الشارح: الرابع: أنه لو كان كل جسم في حيز لزم عدم تناهي الأجسام، لأن الحيز هو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي. والجواب: أن الحيز عند المتكلمين هو الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم وينفذ فيه أبعاده. ولما ثبت أن العالم محدث، ومعلوم أن المحدث لا بد له من محدث، ضرورة امتناع ترجح أحد طرفي الممكن من غير مرجح، ثبت أن له محدثاً.
قال الخيالي:
قوله: (يشغله الجسم) خصه بالذكر؛ لأن الكلام في الأجسام وإلا فهو ما يشغله الجسم أو الجوهر.
قال السيالكوتي:
قوله: (خصه بالذكر) يعني: خص الجسم بالذكر؛ لأن كلام المعترض فيه، والمقصود دفع كلامه لا بيان ماهية الخبر وإلا فماهية الحيز، ما يشغله الجسم أو الجوهر، بخلاف المكان فإنه ما يشغله الجسم فقط.
قال الباجوري:
قوله: (الرابع) أي: البحث الرابع وهو وراد على قوله في بيان المقدمة الأولى: “أما عدم الخلو عنهما؛ فلأن الجسم والجوهر لا يخلو عن الكون في حيز”، وحاصله: أن قولكم “فلأن الجسم والجوهر لا يخلو عن الكون في حيز” لا يصح؛ لأنه يؤخذ منه قضية كلية قائلة “كل جسم في حيز” وهي باطلة؛ لأنه لو كان كل جسم في حيز، لزم تناهي الأجسام وهو باطل ببرهان التطبيق، وكان الأولى أن يقدم البحث الرابع على البحث الثالث، مترجما عما جعله رابعا بالثالث، وعما جعله ثالثا بالرابع؛ لكون ما جعله رابعا متعلقا ببيان المقدمة الأولى، وما جعله ثالثا متعلقا بالمقدمة الثانية، كما علم مما تقدم.
قوله: (أنه لو كان كل جسم في حيز لزم عدم تناهي الأجسام) أي: أن الحال والشأن لو كان كل جسم في حيز لزم عدم تناهي الأجسام، وهو باطل ببرهان التطبيق كما علمت، وإنما اقتصر على الجسم؛ لأن هذا البحث مبني على أن الحيز هو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي، والقائل بأن الحيز هو السطح المذكور منكر للجوهر الفرد.
قوله: (لأن الحيز هو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي) أي: كالسطح الباطن من الكوز المماس للسطح الظاهر من الماء مثلا، فلو كان كل جسم في حيز فلابد أن يكون ذلك الحاوي محويا، وهكذا فيلزم عدم تناهي الأجسام وهو باطل ببرهان التطبيق كما تقدم.
قوله: (والجواب أن الحيز…إلخ) أي: والجواب عن هذا البحث أن الحيز…إلخ، وحاصله: أن لزوم عدم تناهي الأجسام مبني على تفسير الحيز بما سبق، وهو مذهب طائفة من الفلاسفة. وأما على ما فسره به المتكلمون من الفراغ المذكور الموهوم، فلا يلزم عدم تناهي الأجسام؛ لأن الفراغ المذكور لا يستلزم الجسم بخلاف السطح المتقدم.
قوله: (هو الفراغ المتوهم) أي: هو الخلاء الموهوم الذي لا وجود له، وإنما يتوهم أنه موجود، وليس كذلك بل هو أمر اعتباري.
وقوله: (الذي يشغله الجسم وتنفذ فيه أبعاده) أي: الذي يحل فيه الجسم، وتنفذ فيه أبعاده القائمة به، التي هي الطول والعرض والعمق، والمراد بالأبعاد الجنس، وإلا فقد يكون للجسم بعد واحد، بأن يكون مركبا من جزئين فقط، وإنما خص الجسم بالذكر؛ لأن الكلام في الأجسام، فإن كلام المعترض في الجسم، والمقصود دفع كلامه، وإلا فالحيز هو ما يشغله الجسم أو الجوهر، بخلاف المكان فإنه ما يشغله الجسم فقط.
قوله: (ولما ثبت أن العالم محدث) أي: بالدليل المذكور فيما سبق ومعلوم أن المحدث لابد له من محدث أي: من الخارج لا مما تقدم.
وقوله: (ضرورة امتناع…إلخ) علة لقوله “ومعلوم أن المحدث…إلخ”
وقوله: (ثبت أن له محدثا) جواب لما، والحاصل أن في المقام ثلاث مسائل، المسألة الأولى: أن العالم محدث وقد ذكرها المصنف فيما تقدم وقد سبق دليلها. المسألة الثانية: أن العالم له محدث وقد أشار الشارح إليها مع دليلها بقوله “ولما ثبت…إلخ” فأشار إلى الصغرى بقوله “إن العالم محدث” وإلى الكبرى بقوله “ومعلوم أن المحدث…إلخ” وإلى المسألة المذكورة بقوله “ثبت أن له محدثا”. المسألة الثالثة: إن المحدث للعالم هو الله تعالى وسيذكر المصنف هذه المسألة ودليلها السمع، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆﱠ وغير ذلك من الآيات والأحاديث ولا مجال للعقل في ذلك، وأشار الشارح بقوله “العالم محدث ومعلوم أن كل محدث…إلخ” دون أن يقول “العالم ممكن ومعلوم أن كل ممكن…إلخ” إلى ما رجحه بعض المتأخرين من أن علة احتياج العالم إلى الصانع الحدوث، وهو أحد أقوال أربعة ثانيها: أنها الإمكان. ثالثها: أنها الإمكان بشرط الحدوث. رابعها: أنها الإمكان والحدوث. وجمهور المتكلمين على الأول، وقال به الإمام الأشعري واعترض بأن هذا القول يستلزم أن يكون المعلول سابقا على علته؛ لأن احتياج العالم إلى إيجاد الصانع سابق على حدوثه، ويستلزم أيضا أن يكون العبد مستغنيا عن موجده بعد حدوثه. وأجيب عن الأول: بأن الحدوث علة غائية للاحتياج فيكون سابقا قصدا وإرادة، متأخرا خارجا كالجلوس على السرير، وعن الثاني: بأن العين لا تنفك عن عرض قطعا، وهو لا يبقي زمانين عند الأشعري وقد قال ذلك فرارا مما ترتب على هذا القول، وحينئذ فتفتقر العين إلى الصانع افتقارا لازما.
قوله: (ضرورة امتناع…إلخ) صريح في أن ذلك الامتناع ضروري وليس كذلك، بل يتوقف على إقامة الدليل؛ ولذلك يستدلون عليه بأنه لو ترجح أحد طرفي الممكن من غير مرجح، لزم أن يكون أحد الأمرين المتساويين مساويا لصاحبه راجحا عليه بلا سبب وهو محال.
وقوله: (ترجح أحد طرفي الممكن من غير مرجح) أي: ترجح أحد طرفي الممكن اللذين هما الوجود والعدم على الآخر من غير مرجح يرجحه، مع كون الطرفين مستويين بالنسبة للممكن؛ لأنه لا معنى لكونه ممكنا، إلا استواء الطرفين بالنسبة إليه، وعبر بالترجح دون الترجيح؛ إشارة إلى أن الحق أن الترجيح بلا مرجح جائز في الفاعل المختار، كما في الهارب من سبع يختار في هروبه أحد الطرفين المتساويين في إمكان النجاة بكل منهما، وكان الأنسب بما أشار إليه أولا من أن علة احتياج العالم إلى الصانع الحدوث، أي: يعبر بالمحدث بدل الممكن، ولعله أشار به إلى صحة كون العلة هي الإمكان أيضا.
قوله: (ثبت أنه له محدثا) أي: بهذا الدليل الذي أشار إليه بقوله “ولما ثبت أن العالم محدث…إلخ”.