والمحدِثُ للعالم هو الله تعالى.
قال الشارح: (والمحدث للعالم هو الله تعالى) أي: الذات الواجب الوجود الذي يكون وجوده من ذاته، ولا يحتاج إلى شيء أصلاً، إذ لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم، فلم يصلح محدثاً للعالم ومبدأ له، مع أن العالَم اسم لجميع ما يصلح علماً على وجود مبدءٍ له، وقريب من هذا ما يقال: إن مبدأ الممكنات بأسرها لا بد أن يكون واجباً، إذ لو كان ممكناً لكان من جملة الممكنات، فلم يكن مبدءاً لها.
قال الخيالي:
قوله: (إذ لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم) فإن قلت: الصفة وكذا مجموع الذات والصفة مما يجوز وجوده وليسا من جملة العالم، قلت: هذا لا يضرنا لما فيه من تسليم المدعى وكلامنا في الجائز المباين، لكن يرد عليه أن يقال: يجوز أن لا يكون من جملة العالم الذي ثبت وجوده وحدوثه فيصلح محدثا لذلك العالم ومبدأ له، وحمل المحدث على المحدث بالذات مما لا يساعده كلام الشارح.
قوله: (ما يصلح علما) أي: علامة ودليلا “على وجود مبدئ له” والشيء لا يدل على نفسه فلا يكون مبدئا ومدلولا؛ إذ لا يكون حينئذ من العالم فيلزم التناقض.
قوله: (و قريب من هذا ما يقال) الأول طريقة الحدوث، والثاني طريقة الإمكان ووجه القرب ظاهر.
قال السيالكوتي:
قوله: (إن قلت الصفة وكذا…إلخ) منع للملازمة وحاصله: أنا لا نسلم أنه لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم، وإنما يلزم ذلك لو كان مغايرًا للواجب، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الجائز الذي يستند إليه الحوادث صفة للواجب تعالى، أو مجموع ذات الواجب وصفته، فأن كلَا منهما جائز الوجود ضرورة احتياج الصفة إلى الذات، وإمكان الجزء يستلزم إمكان الكل، وليسا من جملة العالم لعدم كونهما سوى الله تعالى، أما الصفة فظاهرة، وأما المجموع فلأنه ليس إلا الذات والصفة، وكل منهما ليس غير الذات، فلا يكون المجموع أيضًا غيرها، ولأنه لا مغايرة بين الكل والجزء.
قوله: (قلت هذا لا يضرنا…إلخ) يعني: ثبوت الجائز الذي لا يكون مغايرًا للواجب لا يضرنا؛ لأن فيه تسليم المدعي؛ أعني: إثبات وجود
الواجب تعالى، وهو لازم سواء ينتهي سلسلة المحدثات إليه، أو إلى صفته، أو إلى مجموعها ضرورة أن تحقق الصفة، وكذا المجموع بدون الذات محال.
قوله: (وكلامنا في الجائز المباين…إلخ) أي: المقصود بالنفي في قولنا؛ إذ لو كان جائز الوجود الجائز المباين والمغاير للواجب، ولا شك في صحة الملازمة حينئذ، فقوله: “هذا لا يضرنا” دفع مادة النقض، وقوله: “وكلامنا…إلخ” تحرير وإثبات للملازمة الممنوعة، فهذا من تتمة الجواب. فمن قال: إنه جواب، ثان لم يأت بشيء لعدم استقلاله في الجوابو أجاب بعض الأفاضل بأنا لا نسلم كونهما مما يجوز وجوده؛ لأنهم لم يقولوا بإمكان الصفات لما أن كل ممكن محدث عندهم. انتهى. أقول: هذا الجواب لا يدفع مادة الشبة؛ لأنها إذا لم تكن ممكنة فلا تخلو إما أن تكون واجبة لذاتها وهو محال، أو واجبة لا لذاتها، ولا لغيرها على ما سيجيء من أن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها. وحينئذ لا يرد أنا لا نسلم أنه إذا لم يكن محدث العالم واجب الوجود لذاته، لكان ممكن الوجود حتى يكون من جملة العالم، لم لا يجوز أن يكون الواجب الوجود لا لذاته ولا لغيره، فلا بد من الالجاء إلى ما ذكره المحشي على أن هذا في الحقيقة قول بإمكان الصفات كما لا يخفى. وبما ذكرنا ظهر أيضًا ركاكة ما قيل في دفع الاعتراض المذكور من أن المراد بقوله: “إذ لو كان جائز الوجود” أنه لو كان الذات جائز الوجود لكان من جملة العالم؛ إذ كل ذات جائز الوجود بصدق عليه أنها ما سوى الله تعالى مما يعلم به الصانع بخلاف صفاته تعالى؛ لأنه حينئذ يرد المنع المذكور بأنا لا نسلم أنه لو لم يكن الذات الواجب الوجود لكان الذات جائز الوجود، حتى يكون من جملة العالم، لم لا يجوز أن يكون صفة من صفاته تعالى، على أنه يوهم أن المقصود نفي كون الذات الجائز الوجود محدثًا للعالم، دون الصفة الجائز الوجود وليس كذلك.
قوله: (لكن يرد عليه…إلخ) يعني: إن أريد بالعالم في قوله: “لكان من جملة العالم” ما ثبت وجوده وحدوثه منعنا الصغرى القائلة بأنه لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم، مستندًا بأنه يجوز أن لا يكون منه، وإن أريد به مطلق العالم منعنا الكبرى المدلول عليها بالفاء في قوله: “فلم يصلح محدثًا للعالم” أي: إذا كان من جملة العالم لم يصلح محدثًا له؛ إذ المفروض محدثيته لما ثبت حدوثه لا لجميعه، كما صرح به الشارح بقوله: “ومعلوم أن المحدث لا بد له من محدث” فيجوز أن يكون من جملة مطلق العالم، ويكون محدثًا لما ثبت حدوثه، ولا يكون منه فلا يلزم عليه الشيء لنفسه. وأشار المحشي إلى المنع الأول بقوله: يجوز أن لا يكون مما ثبت حدوثه وإلى الثاني بقوله: يصلح كونه محدثًا لذلك والقصر على أنه منع للشرطية الأولى أو الثانية تقصير فلا تكن من القاصرين. والجواب بأن هذا الدليل مبني على نفي المجردات ليس بتام لعدم تمامية نفي المجردات كما مر، وكذا الجواب بأن هذا المنع لا يضرنا؛ لأنه إذا كان جائز الوجود يجب انتهاؤه إلى الواجب لإمكانه فثبت الواجب؛ لأن مقصود المحشي أن الاستدلال بطريق الحدوث غير تام؛ إذ لا يلزم من كونه جائز الوجود كونه مما ثبت حدوثه حتى لا يصلح لذلك، وما ذكره المجيب استدلال بطريق الإمكان، ولا كلام في سلامته وعدم ورود المنع عليه. وأجاب بعض الفضلاء بأن كون ذلك الجائز مما ثبت وجوده وحدوثه لازم، أما وجوده فلأن علة الوجود لا يكون معدومًا بالاتفاق، وأما حدوثه فلأن كل ممكن حادث. انتهى كلامه. ولا يخفى أن هذا إنما يتم إذا ثبت أن كل ممكن حادث، ودونه خرط القتاد.
قوله: (وحمل المحدث…إلخ) يعني: أن الجواب عن المنع المذكور باختيار الشق الثاني، وحمل المحدث في قوله: والمحدث للعالم هو الله تعالى على المحدث بالذات؛ ليصير حاصل الاستدلال المحدث بالذات؛ أي: ما يكون مخرجًا من العدم إلى الوجود بذاته ولا يحتاج إلى غيره أصلًا للعالم هو الذات الواجب الوجود؛ إذ لو كان جائز الوجود لكان من جملة مطلق العالم، فلا يصلح محدثًا بالذات لشيء منه لاحيتاجه إلى العلة، مما لا يساعده كلام الشارح؛ لأن قوله: ضرورة امتناع ترجيح إلخ صريح في أن المراد هو أنه لا بد من استناد المحدثات إلى محدث مطلقًا، سواء كان بالذات أو بالغير؛ لأنه الضروري، وأما أنه لا بد من استنادها إلى محدث مستغن عن الغير فلا، لأنه مبني على بطلان التسلسل، ولأنه لو كان المراد ما ذكر لكفى أن يقال: لوكان جائز الوجود لم يصلح محدثًا للعالم ولا حاجة إلى قوله: لكان من جملة العالم ولأنه حينئذ يكون الاستدلال عائدًا إلى طريقة الإمكان فلا يصح قوله: وهذا قريب إلخ. هذا تقرير كلام المحشي على ما سمعته من الأستاذين، ويرد عليه أن حمل المحدث على المحدث بالذات بالمعنى المذكور يجعل الحكم عليه بقوله: هو الله تعالى بديهًا؛ إذ يصير المعنى أن الموجد المستغني عن الغير هو الذات الواجب الوجود، فلا يكون من المسائل المطلوبة بالذات، ولا يحتاج إلى الاستدلال، وقال الفاضل الجلبي: يعني: حمل المحدث في قوله: والعالم بجميع أجزائه محدث على المحدث بالذات، فيصير محصول الاستدلال أنه لو لم يكن صانع العالم واجب الوجود لكان جائز الوجود محتاجًا إلى الغير، فيكون من جملة العالم الذي ثبت حدوثه الذاتي، فلا يصلح محدثًا لذلك العالم، ويندفع الاعتراض المذكور؛ لأن الجائز المباين للواجب يجب أن يكون من العالم الحادث بالذات، سواء كان حادثًا زمانيًا أو قديمًا مما لا يساعده كلام الشارح، وإن جاز نظرًا إلى ظاهر عبارة المصنف حيث صرح هناك بأن المراد بالمحدث المخرج من العدم إلى الوجود؛ بمعنى أنه كان معدومًا فوجد فلا يتم الدليل. انتهى كلامه. وفيه: أن المتكلمين لم يقولوا بالحدوث الذاتي على ما صرح به الشارح في بحث التكوين، بقوله: إن هذا معنى القديم والحادث بالذات على ما يقول به الفلاسفة وأما عند المتكلمين فالحادث ما لوجوده بداية؛ أي: يكون مسبوقًا بالعدم، والقديم بخلافه، فالتوجيه المذكور ليس بصحيح لا أنه مما لا يساعده كلام الشارح.
قوله: (و الشيء لا يدل على نفسه…إلخ) يعني: لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم. ولوكان من جملته يصلح دليلًا على وجود المبدأ؛ لأن العالم اسم لما يصلح كل جزء منه دليلًا على وجود المبدأ له لكنه لا يصلح دليلًا على وجود المبدأ؛ إذ الشيء لا يكون دليلًا على نفسه، فلا يكون مبدأ ومدلولًا للعالم؛ إذ لا يكون حينئذ؛ أي: حين عدم دلالته على نفسه من العالم، وإذا لم يكن من العالم لم يكن مبدأ له على ما تقتضيه الملازمة التي في قولنا: لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم فيلزم حين كونه مبدأ، أن لا يكون مبدأ وأن يكون من العالم، وأن لا يكون منه وأنه تناقض. ويحتمل أن يكون معنى قوله: إذ لا يكون حينئذ من العالم أنه لا يكون حين كونه مبدأ ومدلولًا من العالم الذي هو علامة ودليل، وإذا لم يكن من العالم لا يكون مبدأ، وقد كان حين كونه مبدأ ومدلولًا من العالم الذي هو علامة ودليل، فيلزم حين كونه مبدأ أن لا يكون مبدأ وأن يكون من العالم وأن لا يكون منه، وأنه تناقض فلا يكون مبدأ ومدلولًا وللعالم، عندي: أن الأول أظهر وأقرب إلى الفهم. وقد وقع في بعض النسخ بدل كلمة إذ في قوله: إذ لا يكون أو الفاصلة والمعنى أنه إذا لم يدل على نفسه يلزم أن لا يكون مبدأ له، أو أن لا يكون من العالم، وعلى كلا التقديرين يلزم التناقض لفرض كونه مبدأ ومن العالم، ولا يخفى أنه تصحيف؛ إذ لا معنى للترديد لتحقق لزوم كلا الأمرين، فلا فائدة في إيراد كلمة أو حينئذ في اللازم الثاني وتركه في الأول.
قوله: (الأول طريقة حدوث…إلخ) حاصل الأول أن مبدأ العالم لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم الذي هو محدث، فلا يصلح مبدأ له، وإلا لكان الشيء علة لنفسه لكونه محدثًا، ومحصل الثاني أن مبدأ الممكنات لو كان جائزًا لكان من جملة الممكنات، فلم يصح مبدأ لها.
قوله: (ووجه القرب الظاهر) إذ لا فرق بينهما إلا بحسب الحدوث والإمكان، لكن الثاني أقوى على ما بين في موضعه.
قال الباجوري:
قوله: (والمحدث للعالم هو الله تعالى) أي: الموجد للعالم هو الذات الواجب الوجود لا غيرها، فالجملة تفيد الحصر: أي: حصر المبتدأ في الخبر، وأتى بالعالم اسما ظاهرا مع أن المقام للضمير؛ لتقدم ذكره سابقا لطول الفصل أو لئلا يتوهم عود الضمير على العرض، ولفظ الجلالة علم على الذات المعينة فهو علم شخصي مدلوله جزئي لا كلي، وإلا لم تفد لا إله إلا الله التوحيد. وبذلك تعلم أن قولهم في تفسيره الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، ليس جزءا من الموضوع، بل تعيين للموضوع وإلا كان كليا وإن انحصر في جزيء.
قوله: (أي الذات الواجب الوجود) أي: الذات المتصف بوجوب الوجود، ومعنى وجوب الوجود: أنه لازم لا يتخلف، فلا يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، وقد استعمل الذات استعمال الشيء فذكر وصفها، حيث قال: الواجب الوجود، ولم يقل الواجبة الوجود.
وقوله: (الذي يكون وجوده من ذاته) ليس المقصود أن ذاته أثرت في وجوده؛ لأن هذا كفر، بل المراد أن وجوده اقتضته ذاته، أي: استلزمته فوجب؛ لأن ما بالذات لا يتخلف فلا يقبل الانفكاك بوجه، ومقتضى قوله “يكون وجوده من ذاته” أن الوجود ليس عين الذات، وبعد ذلك فيحتمل أنه حال كما قال به بعضهم، وأنه أمر اعتباري وهو التحقيق. وقول الأشعري: بأن الوجود عين الموجود مؤول عند المحققين، وإن أبقاها بعضهم على ظاهرها بأن المراد: أن الوجود ليس أمرا زائدا على الموجود، بحيث يرى في الخارج فلا ينافي أنه أمر اعتباري.
وقوله: (ولا يحتاج لشيء أصلا) من عطف أحد المتلازمين على الآخر وجعله بعضهم من عطف التفسير، فيكون المراد من قوله “يكون وجوده من ذاته” أنه “لا يحتاج إلى شيء أصلا”، وليس المراد منه أن ذاته علة في وجوده، كما هو ظاهر العبارة، وهل الضمير في “يحتاج” عائد للوجود أو للذات؟ احتمالان، كما يؤخذ من كلام العصام.
قوله: (إذ لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم) أي: إذا كان المحدث للعالم جائز الوجود لكان من جملة العالم؛ لأن العلم اسم لكل ما كان جائز الوجود. فإن قيل: لا نسلم أنه لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم؛ لأن صفة الواجب تعالى، وكذا مجموع ذات الواجب وصفته مما يجوز وجوده على طريقة العضد ومن تبعه. أما الصفة: فلأنه يقول بأنها ممكنة في ذاتها واجبة لغيرها، وأما المجموع: فلأن إمكان الجزء يستلزم إمكان الكل، فتكون الصفة وكذا المجموع عنده مما يجوز وجوده، ومع ذلك فليست من جملة العالم. أجيب بدفع مادة النقض وإثبات الملازمة الممنوعة. أما الأول: فلأن كون صفة الواجب تعالى، وكذا مجموع ذات الواجب وصفته مما يجوز وجوده على تلك الطريقة لا يضرنا؛ لما فيه من تسليم المدعى الذي هو إثبات واجب الوجود، وأما الثاني: فلأن كلامنا في الجائز المباين للواجب تعالى، ولا شك في صحة الملازمة حينئذ؛ لأنه لا يرد كل من الصفة ومجموع الذات والصفة، فإنه وإن كان جائزا لكن ليس مباينا للواجب تعالى، مع أن المقصود في قولنا: إذ لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم الجائز المباين للواجب تعالى كما علمت، ونوقش في كون ذلك فيه تسليم المدعي بأن المدعى ليس إثبات واجب الوجود كما زعمت، وإنما هو حصر المحدث للعالم في الذات الواجب الوجود، كما استفيد من عبارة المصنف. هذا ويرد على الشرطية المذكورة أن يقال الكلام في العالم الذي ثبت وجوده وحدوثه، وحينئذ يجوز أن يكون المحدث للعالم جائز الوجود، ولا يكون من جملة العالم الذي ثبت وجوده وحدوثه بأن يكون من المجردات كالعقول، وحينئذ فيصلح كونه محدثا لذلك العالم ومبدأ له، والجواب بحمل المحدث في قول المصنف “والمحدث للعالم هو الله تعالى” على المحدث بالذات وهو الذي لا يحتاج إلى غيره، وحينئذ فلا يجوز أن يكون المحدث للعالم جائز الوجود أصلا؛ لأنه لو كان جائز الوجود سواء كان من جملة العالم الذي ثبت وجوده وحدوثه أو من مطلق العالم، لم يصلح أن يكون محدثا بالذات للعالم؛ لاحتياجه إلى العلة وهو خلاف الفرض؛ لأن الفرض أنه محدث بالذات مما لا يساعده كلام الشارح؛ لأن قوله فيما سبق “ضرورة امتناع ترجح أحد طرفي الممكن من غير مرجح” صريح في أن المراد: أنه لا بد من استناد العالم إلى محدث مطلقا، سواء كان محدثا بالذات أو بالغير؛ لأنه هو الضروري. والجواب بأن هذا الدليل مبني على نفي المجردات ليس بناصر؛ لعدم تمام نفي المجردات كما تقدم.
قوله: (فلم يصلح محدثا للعالم ومبدأ له) أي: وإذا كان من جملة العالم فلم يصلح محدثا للعالم على مذهب المسلمين: من أن جميع المحدثات مستندة إلى الله تعالى بدون واسطة، ولم يصلح مبدأ له على مذهب الفلاسفة: من أن الممكنات بعضها مستند إلى بعض حتى تنتهي سلسلة الموجودات إلى الله تعالى، فيكون بعضها ناشئا عنه تعالى بلا واسطة وهو العقل الأول، وبعضها ناشئا عنه بواسطة وهو ما عدا العقل الأول، فأشار بقوله “محدثا للعالم” إلى مذهب المسلمين وبقوله “ومبدأ له” إلى مذهب الفلاسفة، وإنما لم يصلح محدثا للعالم على مذهب المسلمين؛ لأنه يلزم عليه كونه محدثا لنفسه فإنه إذا كان من جملة العالم مع كونه محدثا لجميع العالم، لزم أن يكون محدثا لنفسه كما هو محدث لغيره، وإنما لم يصلح مبدأ له على مذهب الفلاسفة؛ لأنه يلزم عليه كونه علة لنفسه، فإذا كان من جملة العالم مع كونه مبدأ له أي: علة فيه، لزم أن يكون علة لنفسه كما هو علة لغيره.
قوله: (مع أن العالم…إلخ) أي: على أن العالم…إلخ فهو في معنى العلاوة،
وقوله: (اسم لجميع ما يصلح علما على وجود مبدأ له) أي: اسم لجميع ما يصلح علامة ودليلا على وجود مبدأ له، فلو كان من جملة العالم لصلح علما على وجود مبدأ له، والشيء لا يدل على نفسه فلا يكون مبدأ للعالم ومدلولالته؛ إذ لا يكون حينئذ من العالم فيلزم التناقض لأنه في هذه الحالة يكون مبدأ للعالم ولا يكون مبدأ للعالم، ويكون من العالم ولا يكون من العالم.
قوله: (وقريب من هذا) أي: وقريب مما تقدم من قولنا “المحدث للعالم هو الذات الواجب الوجود” مع قولنا “إذ لو كان جائز الوجود…إلخ” فالمشار إليه المذكور من الدعوى ودليلها وإن قصره بعضهم على الدليل.
وقوله: (ما يقال…إلخ) كان الأنسب “ما قيل :…إلخ”؛ لأن هذا الدليل صادر من الحكماء، والدليل السابق صادر من المتكلمين، والحكماء سابقون في الوجود على المتكلمين.
وقوله: (إن مبدأ الممكنات بأسرها لابد أن يكون واجبا) أي: من أن مبدأ الممكنات بجميعها لا بد أن يكون واجبا لذاته، وهذه الدعوى قريبة من الدعوى السابقة.
وقوله: (إذ لو كان ممكنا لكان…إلخ) إذ لو كان مبدأ الممكنات ممكنا لكان…إلخ، وهذا الدليل قريب من الدليل السابق، والأول طريقة الحدوث والثاني طريقة الإمكان، ووجه القرب ظاهر؛ إذ لا فرق بينهما إلا بحسب الحدوث والإمكان. فإن قيل كيف يكون الأول طريقة الحدوث مع أنه عبره فيه بجواز الوجود وهو معنى الإمكان؟ أجيب بأن المنظور له فيه قوله “لكان من جملة العالم” وإذا كان من جملة العالم كان حادثا؛ لما مر من أن العالم حادث بجميع اجزائه.
وقوله: (فلم يكن مبدأ لها) لأنه يلزم عليه كون الشيء علة لنفسه، فإنه إذا كان من جملة الممكنات مع كونه مبدأ لها أي: علة فيها، لزم أن يكون علة لنفسه كما هو علة لغيره
قال الشارح: وقد يتوهم أن هذا دليل على وجود الصانع من غير افتقار إلى إبطال التسلسل، وليس كذلك، بل هو إشارة إلى أحد أدلة بطلان التسلسل، وهو أنه لو ترتبت سلسلة الممكنات لا إلى نهايةٍ لاحتاجت إلى علة، وهي لا يجوز أن تكون نفسها ولا بعضها، لاستحالة كون الشيء علة لنفسه ولعلله، بل خارجاً عنها، فتكون واجباً فتنقطع السلسلة.
قال الخيالي:
قوله: (من غير افتقار إلى إبطال التسلسل) إبطال التسلسل: إقامة الدليل على وجه ينتج بطلانه، فالتمسك بأحد أدلة بطلانه افتقار إلى إبطاله، فلا يرد أن الافتقار غير الاستلزام، وفي قوله: “إبطال التسلسل” دون بطلانه إشارة إلى ما قلناه.
قوله: (و ليس كذلك) لا يخفي عليك أن ثبوت الواجب يتم بمجرد خروج العلة عن السلسلة، وأما الأنقطاع فبضم مقدمات أخرى، وهي أن يقال: ذلك الخارج لا بد وأن يكون علة للبعض وذلك البعض طرف للسلسلة وإلا يلزم كون الواجب معلولا ودخول ما فرض خارجا فظهر أن أمر الافتقار بالعكس، واعلم أنه يمكن أن يستدل بهذا الدليل على بطلان الدور أيضا بأن يقال: مجموع المتوقفين ممكن فعلته، إما نفسه أو جزؤه، وهما باطلان أو خارج، وهو علة البعض، فينقطع التوقف عنده فلا دور.
قال السيالكوتي:
قوله: (إبطال التسلسل…إلخ) يعني: معنى إبطال التسلسل إقامة دليل ينتج بطلانه سواء أقيم على بطلانه أولا، وإذا كان معنى الإبطال ما ذكر؛ أعني: إقامة دليل ينتج إلخ فالتمسك في إثبات الواجب بأحد أدلة بطلان التسلسل افتقار إلى إقامة دليل ينتج بطلانه، فيكون افتقارًا إلى إبطاله؛ إذ لا معنى له إلا إقامة دليل ينتج البطلان وهو متحقق، فيكون محصول قول الشارح: وقد يتوهم أن هذا دليل إلخ أنه قد يتوهم أن هذا دليل على إثبات الواجب من غير افتقار إلى إقامة دليل ينتج بطلان التسلسل، وليس كذلك بل هذا الدليل من جملة أدلة بطلان التسلسل، فالافتقار في إثبات الواجب إلى إقامته افتقار إلى إقامة دليل ينتج بطلان التسلسل، فلا يكون دليلًا من غير افتقار إلى إبطال التسلسل، فلا يرد عليه ما قيل: إن الاقتقار غير الاستلزام. وما ذكره الشارح بقوله: بل هو إشارة إلى أحد أدلة إبطال التسلسل إنما يفيد أن هذا الدليل مستلزم، وينتج إبطال التسلسل لا الاحتياج في إثبات الواجب بهذا الدليل إلى إبطاله، والمدعي هذا؛ لأن هذا الدليل إذا كان إشارة إلى أحد أدلة إقامتها ينتج بطلان التسلسل يكون الافتقار إليه افتقارًا إلى إبطاله.
قوله: (و في إبطال التسلسل…إلخ) يعني: في اختيار الشارح لفظ الإبطال في قوله: بل هو إشارة إلى أحد أدلة إبطال التسلسل دون أن يقول: بطلانه، إشارة إلى أن معنى الإبطال إقامة دليل ينتج البطلان مطلقًا؛ إذ لو كان معناه إقامة الدليل على بطلان التسلسل لا تصح العبارة المذكورة؛ إذ يصير المعنى بل هذا الدليل إشارة إلى أحد أدلة أقيمت على بطلان التسلسل، ولا يخفى فساده؛ لأن هذا الدليل لم يقم على بطلانه بل على إثبات الواجب. نعم، إنها واحد من أدلة إقامتها بنتج بطلانه لا يقال: إنما يلزم الفساد المذكور لو كان عبارة الشارح بل هو من أحد أدلة إبطال التسلسل، وليس كذلك فإن عبارته صريحة في أنه إشارة إلى أحد أدلة إبطال التسلسل. ولا خفاء في أن كون هذا الدليل مقامًا على إثبات الواجب لا ينافي كونه إشارة إلى دليل أقيم على بطلان التسلسل، بل إنما ينافيه كونه نفس ذلك الدليل على ما اعترف به؛ لأنا نقول: ليس مراد الشارح من إيراد لفظ الإشارة أنه ليس من أدلة بطلان التسلسل وأنه إشارة إليه؛ إذ لا يكون هذا الدليل حينىذ مستلزمًا لبطلان التسلسل فضلًا عن الافتقار إذ كون هذا الدليل إشارة وإيماء إلى دليل لا يستلزم كونه مستلزمًا لنتيجة ذلك الدليل، بل مقصوده أنه واحد من أدلة إبطال التسلسل، إلا أنه أورد لفظ الإشارة؛ لأنه ليس صريحًا في إبطال التسلسل، إذ لم يقل عليه بل على إثبات الواجب فيكون إشارة إليه. ولا يخفى أنه حينئذ يلزم الفساد على تقدير حمل الإبطال على إقامة الدليل على البطلان هذا، والحق أن معنى الإبطال إقامة الدليل على البطلان كما تشهد به الفطرة السليمة. وقول الشارح: بل هو إشارة إلى أحد أدلة إبطاله محمول على المسامحة، ولهذا غيره في بعض النسخ إلى البطلان، فالإيراد المذكور في غاية القوة هذا غاية تنقيح الكلام، والله الموفق لنيل المرام.
قوله: (يتم بمجرد خروج العلة…إلخ) يعني: إذا ثبت أن الممكنات لا يجوز أن تكون علتها نفسها، ولا بعضها بل يجب أن تكون خارجًا عنها ثبت الواجب؛ لأن الموجود الخارج عن الممكنات ليس إلا الواجب، إذ لا موجود سوى الواجب والممكن.
قوله: (وأما انقطاعها…إلخ) أي: وأما انقطاع تلك السلسة وعدم كونها غير متناهية، فيحصل بضم مقدمات أخرى إلى الدليل المذكور، وهي أن يقال: ذلك الأمر الخارج عن السلسة يكون علة لبعض الممكنات ضرورة كونه علة للسلسلة، وذلك البعض المستند إلى الواجب طرف ونهاية للسلسلة؛ إذ لو كان في أثنائها، فلا يخلو إما ان يكون الممكن الذي فوقه علة للوجب أو علة لذلك البعض، وعلى الأول يلزم أن يكون الواجب معلولًا ودخول ما فرض خارجًا عن السلسلة، وعلى الثاني يلزم توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد والكل باطل، فتعين أن يكون ذلك البعض نهاية سلسة الممكنات فينقطع السلسة عنده، وبما ذكرنا ظهر أن في تقرير المحشي نقصانًا كما لا يخفى.
قوله: (فظهر…إلخ) أي: فظهر بما ذكرنا أن إبطال التسلسل مفتقر إلى إثبات الواجب، ضرورة كون دليله مقدمة من مقدمات دليله، فيكون أمر الافتقار بالعكس لا كما زعمه الشارح من أن دليل إثبات الواجب مفتقر إلى إبطال التسلسل.
قوله: (واعلم أنه يمكن…إلخ) إنما ترك الشارح ذكره؛ إما لأن التسلسل لازم للدور، وبطلان اللازم يستلزم بطلان الملزوم، وإما لأنهما يذكران معًا فذكر أحدهما مشعر بذكر الآخر.
قوله: (وهما باطلان) لأنه يستلزم كون الشيء علة لنفسه ولعلته، فإنه إذا كان المجموع علة للمجموع، يكون علة لكل واحد من الجزأين اللذين هما علة المجموع فيكون علة لنفسه ولعلته، وكذلك إذا كان كل واحد منهما علة للمجموع؛ لأنه يكون علة لنفسه، وللأمر الثاني الذي هو علة له، فإنه علة المحموع علة لكل واحد من أجزائه، وفي هذا المقام أبحاث كثيرة لا يليق بالمقام إيرادها.
قوله: (فينقطع التوقف…إلخ) لعدم توقف ذلك الخارج على واحد منهما.
قال الباجوري:
قوله: (وقد يتوهم…إلخ) وجه توهم ذلك: أن المتبادر من قوله: “فلم يصلح محدثا ومبدأ للعالم” في الأول، وقوله: “فلم يكن مبدأ لها” في الثاني، أنه لو لم يكن في الموجودات واجب، لزم أن يكون وجود الممكنات لذواته، وهو محال فتأمل.
قوله: (إن هذا الدليل…إلخ) اسم الإشارة عائد إلى الدليل الأول؛ لأنه المقصود بالكلام، وأما الثاني فإنما ذكر لأجل الإخبار عنه بأنه قريب مما استدل به لأجل الاستدلال به، هذا هو المتبادر، وإن جعله بعضهم عائد إلى الثاني أو لكل منهما.
وقوله: (على وجود الصانع) أي: على وجوب وجوده.
قوله: (من غير افتقار إلى إبطال التسلسل) أي: من غير احتياج إلى إبطال التسلسل، وهذا هو محل التوهم كما لا يخفى. فإن قيل : مقتضى ذلك: أن هذا الدليل مفتقر إلى إبطال التسلسل، وما ذكره الشارح بقوله “بل هو إشارة إلى أحد أدلة إبطال التسلسل” إنما يفيد أن هذا الدليل مستلزم لإبطال التسلسل، وهو خلاف المدعى الذي هو افتقار هذا الدليل إلى إبطال التسلسل؛ لأن الافتقار غير الاستلزام، أجيب بأن إبطال التسلسل إثبات بطلانه بإقامة الدليل الذي ينتج البطلان، وإذا كان معنى الإبطال ما ذكر، فالتمسك بأحد أدلة بطلان التسلسل المشار إليه بهذا الدليل، افتقار إلى إبطاله؛ إذ لا معنى له إلا إقامة دليل ينتج البطلان، وحينئذ فلا يرد السؤال المذكور. وفي قوله “إبطال التسلسل” دون أن يقول “بطلانه” إشارة إلى ما قلناه: من أن معنى إبطال التسلسل إثبات بطلانه بإقامة دليل ينتج البطلان، لكن أشار عبد الحكيم في آخر كلامه إلى أن تعبير الشارح بالإبطال محمول على المسامحة، ولهذا غيّره في بعض النسخ إلى البطلان، ثم قال فالإيراد المذكور في غاية القوة، هذا غاية تنقيح الكلام.أ.ه. واعترض على الشارح بأنه لا وجه لتخصيص نفي الافتقار إلى إبطال التسلسل بالذكر؛ لأنه كما يتوهم عدم افتقاره إلى إبطال التسلسل، يتوهم عدم افتقاره إلى إبطال الدور، وأجيب: بأنه اكتفى بتذكير التسلسل للدور؛ لأن العادة جرت بذكرهما معا، فحيث ذكر التسلسل تذكر الواقف عليه الدور. ومن هذا تعلم أن فيه إشارة إلى أحد أدلة إبطال الدور، كما فيه الإشارة إلى أحد أدلة إبطال التسلسل، وأحد أدلة المشار إليه فيهما هو ما سيذكره الشارح بقوله “وهو أنه لو ترتبت…إلخ” وسيأتي تقريره في الاستدلال به على بطلان الدور.
قوله: (وليس كذلك) أي: وليس الأمر مثل ذلك المتوهم، فيكون الدليل المذكور مفتقر إلى إبطال التسلسل؛ لأن ما يتوهم من أنه يلزم من كونه ليس مبدأ للمكنات أن يكون وجود الممكنات لذواتها الذي هو محال، محله ما لم يكن كل ممكن مستند إلى ممكن آخر لا إلى نهاية وهو معنى التسلسل، فحينئذ يفتقر هذا الدليل إلى إبطال التسلسل. واعترض ذلك بأنه لا يخفى عليك أن ثبوت الواجب يتم بمجرد خروج العلة عن السلسلة، بدون توقف على إبطال التسلسل فلا يكون هذا الدليل متوقفا على إبطال التسلسل؛ لأنه متى ثبت أن الممكنات ليست علة لنفسها ولا لبعضها، كانت العلة خارجة عنها وهي الواجب. وأما انقطاع تلك السلسلة فيحصل بضم مقدمات أخرى إلى الدليل المذكور، وتلك المقدمات هي أن يقال: ذلك الأمر الخارج عن السلسلة لابد وأن يكون علة لبعض الممكنات؛ ضرورة كونه علة للسلسلة، وإلا لما كان علة لها، وذلك البعض المستند إلى الخارج عن السلسلة لابد وأن يكون طرفا للسلسلة، وإلا بأن كان في أثنائها لزم كون الواجب معلولا، وكون ما فرض خارجا عن السلسلة داخلا فيها، إن كان الممكن الذي قبل البعض الذي أثر فيه الواجب علة لذلك الواجب. ولا يخفى أن ذلك محال، فإن الممكن المذكور علة للبعض الذي أثر فيه الواجب لزم توارد علتين وهما الواجب والممكن المذكور على معلول واحد وهو هذا البعض وهو محال أيضا، وحينئذ تعين أن يكون ذلك البعض طرفا للسلسلة فتكون سلسلة الممكنات منقطعة عنده، فظهر من هذا التقرير أن أمر الافتقار بعكس ما ذكره الشارح؛ لما تبين من أن إبطال التسلسل يفتقر إلى هذا الدليل ضرورة كونه مقدمة من مقدمات دليله، لا كما زعمه الشارح من أن هذا الدليل مفتقر إلى إبطال التسلسل.
قوله: (بل هو إشارة إلى أحد أدلة إبطال التسلسل) أي: بل الدليل المذكور ذو إشارة أي: فيه إشارة إلى أحد أدلة إبطال التسلسل، ووجه كونه فيه إشارة إلى ذلك أنه يتضمن بعض الدليل الآتي وهو قوله في ذلك الدليل “ولا بعضها”؛ لأن قوله “إذ لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم فلم يصلح…إلخ” يتضمن أن بعض الممكنات لا يصح أن يكون علة لها، وهذا هو بعض الدليل الآتي. وكان مقتضى الظن أن يقول في الإضراب: بل هو مفتقر إلى إبطال التسلسل، لكن قد علمت مما تقدم أن الإشارة إلى أحد أدلة إبطال التسلسل تمسك بذلك الدليل، والتمسك به افتقار إلى إقامته التي هي إبطال التسلسل، فما قاله الشارح في الإضراب مناسب أيضا.
قوله: (وهو أنه لو ترتبت سلسلة الممكنات…إلخ) أي: وأحد الأدلة المشار إليه هو أنه لو ترتبت سلسلة الممكنات..إلخ، بأن يكون كل منها معلولا لما قبله فقط، واعلم أنه يمكن أن يستدل بهذا الدليل على بطلان الدور، كما يستدل به على بطلان التسلسل، بأن يقال مجموع المتوقفين اللذين توقف كل منهما على الآخر، بأن يكون كل منهما أوجد الآخر ممكن فلا بد له من علة، وهي لا تخلو فإما أن تكون نفسه أو جزؤه وهما باطلان، أو خارجا عنه وذلك الخارج لابد أن يكون علة لبعضه فينقطع التوقف عنده فلا دور؛ لعدم توقف ذلك البعض على الآخر حينئذ.
قوله: (لا إلى نهاية) أي: بأن يكون كل ممكن معلولا لممكن قبله من غير وقوف على حد في جانب الماضي.
قوله: (لاحتاجت إلى علة) أي: لاحتاجت تلك السلسلة التي هي مجموع الممكنات إلى علة مستقلة بالتأثير فيها، وإنما احتاجت تلك السلسلة إلى علة؛ لأنها ممكن موجود، وكل ممكن موجود له علة؛ ضرورة امتناع ترجح أحد طرفي الممكن من غير مرجح، فإن قيل : لا وجود لذلك المجموع؛ لأن الممكنات المتعاقبة لا وجود لمجموعها في شيء من الأزمنة. أجيب بأن تلك الممكنات علل مؤثرة والعلل المؤثرة يجب اجتماعها فيكون مجموعها موجودا.
قوله: (وهي لا يجوز أن تكون نفسها ولا بعضها) أي: وتلك العلة لا يجوز أن تكون نفس سلسلة الممكنات، ولا بعض تلك السلسلة قليلا كان أو كثيرا.
قوله: (لاستحالة كون الشيء علة لنفسه) راجع لقوله “لا يجوز أن تكون نفسها” ولقوله “ولا بعضها” وقوله “ولعلله” راجع لخصوص قوله “ولا بعضها” ووجه استحالة كون الشيء علة لنفسه: أنه يلزم تقدم الشيء على نفسه؛ لأن العلة مقدمة على معلولها، وتقدم الشيء على نفسه ظاهر الاستحالة. ووجه استحالة كون الشيء علة لعلله: أنه يلزمه تقدم الشيء على علله التي يتوقف عليها وجوده، فيكون الشيء سابقا على علله ومسبوقا بها، وهذا جمع بين النقيضين، وهو محال بداهة، ورجوع قوله “لاستحالة كون الشيء علة لنفسه” لقوله “لا يجوز أن تكون نفسها” ظاهر، وأما رجوعه لقوله “ولا بعضها” فلأنه يلزم من كون العلة في سلسلة الممكنات بعضها كون هذا البعض أثرا في كل جزء من تلك السلسلة حتى نفسه، فقد لزم من ذلك علة في نفسه، ورجوع قوله “ولعلله” لخصوص قوله” ولا بعضها” لأنه يلزم من كون العلة في سلسلة الممكنات بعضها الذي أثر فيه ما قبله من الآخر كون هذا البعض علة لعلله فقد لزم من ذلك كون الشيء علة لعلله.
قوله: (بل خارجا عنها) أي: بل تكون العلة خارجا عن سلسلة الممكنات.
وقوله: (فيكون واجبا) أي: وإذا كانت العلة خارجا عن سلسلة الممكنات، انتفى عن كونه ممكنا، وإذا انتفى عن كونه ممكنا ثبت أنه واجب؛ لأنه لا ثالث لهما من الموجودات، وظهر من هذا أن ثبوت الواجب يتم بمجرد خروج العلة عند السلسلة، بدون توقف على إبطال التسلسل كما بيناه فيما سبق.
قوله: (فتنقطع السلسلة) أي: فتنقطع بذلك الخارج الذي هو واجب سلسلة الممكنات، فيكون ثبوت انقطاع السلسلة متوقفا على كون العلة خارجا عن السلسلة، لكن لابد من ضم مقدمات أخرى كما تقدم.
قال الشارح: ومن مشهور الأدلة برهان التطبيق، وهو أن تفرض من المعلول الأخير إلى غير نهاية جملة ومما قبله بواحد مثلاً إلى غير النهاية جملة أخرى، ثم تطبق الجملتين بأن تجعل الأول من الجملة الأولى بإزاء الأول من الجملة الثانية، والثاني بالثاني وهلم جرَّا، فإن كان بإزاء كل واحد من الأولى واحد من الثانية كان الناقص كالزائد وهو محال، وإن لم يكن فقد وجد في الأول ما لا يوجد بإزائه شيء من الثانية فتنقطع الثانية وتتناهي ويلزم منه تناهي الأولى لأنها لا تزيد على الثانية إلا بقدر متناه، والزائد على المتناهي بقدر متناه يكون متناهياً بالضرورة.
قال الخيالي:
قوله: (ومن مشهور الأدلة برهان التطبيق) البرهان السابق يبطل التسلسل في جانب العلل فقط، وهى لا تكون إلا مجتمعة وهذا البرهان يعم جانبي العلل والمعلولات المجتمعة والمتعاقبة وبه يبطل عدم تناهي النفوس الناطقة المفارقة؛ أيضا لأنها مرتبة بحسب إضاقتها إلى أزمنة حدوثها، وما ذكره بعض الأفاضل من أنها قد تحدث منها جملة منها في زمان وأخرى أقل أو أكثر في آخر، وقد يحدث آحاد منها في أزمنة مترتبة فلا تنطبق بمجرد ترتيب أجزاء الزمان فجوابه أن هذا إنما يدفع تطبيق الفرد بالفرد وهو غير لازم بل يكفي انطباق الأجزاء المترتبة ولو متفاوتة إذ كل جملة توجد في زمان واحد متناهية بتناهي الأبدان الحادثة فيه التي هي شرط حدوث النفس.
قال السيالكوتي:
قوله: (البرهان السابق…إلخ) إذ حاصله أن سلسة المعلولات لا بدلها من علة خارجة فتنتهي السلسلة عندها وأما بطلان عدم تناهي المعلولات فلا يدل عليه.
قوله: (وهي لا تكون…إلخ) يعني أن العلل لا تكون إلا مجتمعة لأن الكلام في العلل الموجدة وهي ما يجب اجتماعها مع المعلول فحينئذ يكون الدليل المذكور مختصًا بالأمور المجتمعة أيضًا.
قوله: (وهذا البرهان…إلخ) أي: برهان التطبيق يعم إبطال التسلسل في جانبي العلل والمعلولات المجتمعة في الوجود إما مرتبة طبعًا كما في سلسلة العلل والمعلولات أو وضعًا كما في الأبعاد أو غير مرتبة كما في النفوس أو المتعاقبة كالحركات الفلكية وإليه ذهب المتكلمون والحكماء اشترطوا الاجتماع والترتيب فلا يجري عندهم فيما ليس فيه الترتيب والاجتماع.
قوله: (و به يبطل عدم تناهي النفوس الناطقة…إلخ) أي: ببرهان التطبيق يبطل عدم تناهي النفوس الناطقة المفارقة الذي ذهب إليه أرسطو ومن تبعه وحيث قال أن النفس الناطقة قديمة بالنوع وأفرادها المتعاقبة أزلًا وأبدًا حادثة بحدوث الأبدان التي هي شروط فيضانها من المبدأ القديم والمفارقة عن لأبدان غير متناهية بل لا تناهي للأبدان التي أفاضت عليها لاستنادها إلى اقتضاء الأدوار الفلكية التي هي لا تتناهى ولا استحالة في عدم تناهيهما أما الأبدان فلأنها متعاقبة على حسب تعاقب الحركات وأما النفوس فلأنها إذا كانت باقية بعد المفارقة عن الأبدان فيلزم اجتماع الأمور الغير المتناهية في الوجود لكن ليس بينها ترتيب طبيعي ولا وضعي وإنما قيد بالمفارقة عن الأبدان لأن المتعلقة بالأبدان متناهية عنده أيضًا لتناهي الأبدان ضرورة تناهي الأبعاد.
قوله: (لأنها مرتبة…إلخ) دليل لقوله وبه يبطل يعني ببرهان التطبيق يبطل عدم تناهي النفوس الناطقة المفارقة على تقدير اشتراط الترتيب في جريانه أيضًا كما ذهب إليه الحكماء لأنها وإن لم تكن مرتبة بحسب الذات ولكنها مرتبة بحسب إضافتها إلى الأزمنة التي حدثت فيها لترتيب تلك الأزمنة فنقول لو كانت النفوس الناطقة غير متناهية فلنفرض جملة مبتدأة مما حدثت في اليوم متسلسلة إلى غير النهاية وجملة مبتدأة مما حدثت في الأمس كذلك ثم نطبق بينهما على حسب تطبيق الأزمنة فإن وقع بإزاء كل جزء من التامة جزء من الناقصة لزم كون الناقص كالزائد وإلا فيلزم تناهيهما.
قوله: (وما ذكره بعض الأفاضل…إلخ) يعني ما ذكره بعض الأفاضل في في عدم جريانه في النفوس المفارقة بأن هذا إنما يتم إذا كانت النفوس الحادثة في الأزمنة المتعاقبة متساوية في العدد فبحسب تطبيق الأزمنة المترتبة يحصل التطبيق بينهما لكنها ليست كذلك إذ قد تحدث جملة من النفوس في زمان وجملة أخرى أقل من الأولى أو أكثر في زمان آخر بحسب تفاوت الأبدان الحادثة في العدد وقد تحدث آحاد النفوس في الأزمنة مترتبة لتحقق آحاد الأبدان فيها فحينئذ لا يحصل الانطباق في أفراد النفوس بانطباق أجزاء الزمان فجوابه أن هذا إنما يدل على امتناع تطبيق فرد بفرد وهو غير لازم في التطبيق بل يكفي فيه تطبيق المتناهي بالمتناهي قل أو كثر فيكفي في انطباق النفوس انطباق أجزاء الزمان المرتبة وإن كانت الأجزاء متفاوتة بحسب قلة الأفراد وكثرتها لأن كل جملة من النفوس توجد في زمان واحد متناهية لأن الأبدان التي هي شروط حدوثها عند القائل بعدم تناهيها متناهية لتناهي الأبعاد التي يشغلها الأبدان ففي انطباق أجزاء الزمان يحصل انطباق المتناهي من النفوس بالمتناهي وهو كاف في جريان البرهان المذكور كما لا يخفى وبما ذكرنا اندفع ما قيل : إن هذا الاشتراط لا يتم على قول من ذهب إلى أنها حادثة قبل حدوث الأبدان لقوله عليه السلام: “خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام” لأن القائل بحدوث النفس قبل البدن بعض المليين وهم لا يقولون بعدم تناهيها قيل: ذهب بعض الحكماء إلى قدمها بالشخص مع عدم تناهيها وبرهان التطبيق على الوجه الذي قرره المحشي لا يبطل عدم تناهيها على هذا المذهب. انتهى. أقول: القائل بقدمها بالشخص أفلاطون ومن تبعه ولا يقول بعدم تناهيها والقائل بقدمها بالنوع مع عدم تناهيها بأفرادها المتعاقبة بتعاقب الأبدان هو أرسطو ومن تبعه فيتم عليه كما مر والقول بقدمها بالشخص مع عدم تناهيها لم ينقل عن أحد من الحكماء في الكتب المشهورة اللهم إلا أن يكون مذهبًا مرجوح لا يعبأ به.
قال الباجوري:
قوله: (ومن مشهور الأدلة برهان التطبيق) أي: ومن مشهور أدلة إبطال التسلسل برهان التطبيق، الذي فيه تطبيق جملة على جملة أخرى، بأن يجعل آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد أخرى، واعلم أن البرهان السابق المذكور بقوله “وهو أنه لو ترتبت سلسلة الممكنات…إلخ”يبطل التسلسل في جانب العلل فقط؛ لأنه مفروض في الممكنات التي أثر كل منها فيما بعده، والعلل لا تكون إلا مجتمعة؛ لأنه يجب اجتماعها مع معلولاتها، فيكون البرهان السابق خاصا بالأمور المجتمعة، كما هو خاص بالعلل، وهذا البرهان وهو برهان التطبيق يشمل جانب العلل، كالممكنات باعتبار كون كل منها علة فيما بعده، وجانب المعلولات المجتمعة كالممكنات باعتبار كون كل منها معلولا لما قبله، أو المعلولات المتعاقبة كالحركات الفلكية فإن كل حركة منها تنعدم بما بعدها من الحركات. وبهذا البرهان وهو برهان التطبيق يبطل عدم تنافي النفوس الناطقة المفارقة للأبدان الذي ذهب إليه أرسطو ومن تبعه، حيث قال إن النفوس المفارقة للأبدان غير متناهية لاستنادها إلى اقتضاء الأرقام الفلكية التي لا تتناهى. وإنما قيد بالمفارقة للأبدان أن المتعقلة بالأبدان متناهية عنده أيضا لتناهي الأبدان المتعلقة بها، وإنما بطل عدم تناهي النفوس الناطقة المفارقة للأبدان لبرهان التطبيق؛ لأنها مرتبة بحسب إضافتها إلى أزمنة حدوثها، وإن كانت موجودة الآن معا فلا يرد ما يقال كيف يجري فيها برهان التطبيق مع أنها لا ترتيب فيها؟ وبرهان التطبيق لا يجري عند الحكماء إلا فيما فيه ترتيب. فإن قيل: التطبيق في النفوس بحسب أزمنة حدوثها إنما يتم كما ذكره بعض الأفاضل إذا كانت لا تحدث آحادها إلا في أزمنة مرتبة وليس كذلك، بل قد يحدث منها جملة في زمان كخمسة، وجملة أخرى أقل من الأولى أو أكثر منها في زمان آخر كأربعة أو عشرة، فالجملتان متفاوتتان بحسب تفاوت الأبدان، وقد تحدث منها آحاد في أزمنة مرتبة لترتب آحاد الأبدان في تلك الأزمنة، وحينئذ فلا يحصل الانطباق في النفوس المذكورة بمجرد ترتب أجزاء الزمان. أجيب بأن: ما ذكر من أنه قد يحدث منها جملة في زمان، وجملة أخرى أقل من الأولى أو أكثر منها في زمان آخر، إنما يدفع تطبيق الفرد بالفرد وهو غير لازم في التطبيق، بل يكفي فيه تطبيق المتناهي بالمتناهي، قل أو كثر فيصح انطباق الأجزاء المرتبة ولو متفاوتة؛ لأن كل جملة من النفوس توجد في زمان واحد متناهية بتناهي الأبدان الحادثة فيه، التي هي شرط حدوث النفوس عند القائل بعدم تناهيها، وأما عند القائل بتناهيها فليست شرط حدوث النفوس؛ لأن النفوس موجودة قبل الأبدان عند المسلمين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام “خلق الله الأرواح قبل الأجسام بألف مائة عام”.
قوله: (وهو أن تفرض…إلخ) أي: وبرهان التطبيق أن تفرض…إلخ،
وقوله: (من المعلول الأخير) مثله من المعلولات كما يستفاد من قول المواقف وشرحها، وهو أن تفرض من معلول ما سواء كان المعلول الأخير أو غيره…إلخ
وقوله: (إلى غير النهاية) أي: متصاعدا إلى غير النهاية في جانب الماضي.
وقوله: (جملة) مفعول لقوله “تفرض”.
وقوله: (ومما قبله) أي: وتفرض مما قبل المعلول الأخير إن ابتدأت في تلك الجملة بالمعلول الأخير، فإن ابتدأت بغيره فرضت مما قبل ذلك الغير.
وقوله: (بواحد مثلا) أي: أو بأكثر لكن بعدد معين متناه.
وقوله: (إلى غير نهاية) أي: متصاعدا إلى غير نهاية في جانب الماضي.
وقوله: (جملة أخرى) مقول لتفرض المقدر، وحينئذ فتصير الجملتان سلسلتين كل منهما ممكنات مترتبة غير متناهية فرضا في جانب الماضي، ولا يخفى أنهما في الحقيقة سلسلة واحدة فتحصيل الجملتين وجعلهما سلسلتين إنما هو بحسب فرض العقل دون الخارج، كما قاله الشارح في شرح المقاصد ويصرح به كلامه هنا.
قوله: (ثم تطبق الجملتين) أي: فتلاحظ جميع آحاد الجملتين، وتجعل الأول من إحدى الجملتين بالأول من الأخرى، والثاني بالثاني وهكذا، لكن على وجه الإجمال لا على التفصيل؛ لأن القوة البشرية قاصرة عنه فيما وصف بعدم التناهي لغاية كثرته، فلا يمكن الاستدلال بالتطبيق على هذا الوجه، فقول الشارح: (بأن تجعل الأول من الجملة الأولى بإزاء الأول من الجملة الثانية…إلخ) أي: إجمالا لا تفصيلا.
و(هلم جرا) أي: واستمر على ذلك استمرارا بأن تجعل الثالث بالثالث والرابع بالرابع والخامس بالخامس وهكذا.
قوله: (فإن كان بإزاء كل واحد من الأولى…إلخ) أي: فلا يخلو إن كان بإزاء كل واحد من الأولى…إلخ.
وقوله: (كان الناقص) أي: الذي هو الثانية.
وقوله: (كالزائد) أي: الذي هو الأولى.
وقوله: (وهو محال) أي: وكون الناقص كالزائد محال بالبداهة.
وقوله: (وإن لم يكن) أي: وإن لم يكن بإزاء كل واحد من الأولى واحد من الثانية.
وقوله: (فقد وجد في الأولى ما لا يوجد بإزائه شيء من الثانية) أي: فقد وجد في آحاد الأولى ما لا يوجد بإزائه شيء من آحاد الثانية، وقوله: (فتنقطع الثانية وتتناهى) أي: لأنه لم يوجد فيها شيء بإزاء ما وجد في الأولى، وحينئذ فقد انقطعت وتناهت.
وقوله: (ويلزم منه تناهي الأولى أيضا) أي: ويلزم من انقطاع الثانية وتناهيها، تناهي الأولى كما تناهت الثانية.
وقوله: (لأنها لا تزيد على الثانية إلا بقدر متناهي) أي: كالواحد على ما قاله.
وقوله: (والزائد على المتناهي بقدر متناه يكون متناهيا بالضرورة) أي: فتكون الأولى متناهية بالضرورة.
قال الشارح: وهذا التطبيق إنما يكون فيما دخل تحت الوجود، دون ما هو وهمي محض، فإنه ينقطع بانقطاع الوهم. ولا يرد النقض بمراتب العدد، بأن يطبق جملتان إحداهما من الواحد لا إلى نهاية، والثانية من الاثنين لا إلى نهاية، ولا بمعلومات الله ومقدوراته، فإن الأولى أكثر من الثانية مع لاتناهيهما، وذلك لأن معنى لا تناهي الإعداد والمعلومات والمقدورات أنها لا تنتهي إلى حدِّ واحدٍ لا يتصور فوقه آخر، لا بمعنى أن ما لا نهاية له يدخل تحت الوجود فإنه محال.
قال الخيالي:
قوله: (فيما دخل تحت الوجود) أي: في الجملة ولو متعاقبة فيه فيجرى في مثل الحركات الفلكية.
قوله: (فإنه ينقطع بانقطاع الوهم) فإن الذهن لا يقدر على ملاحظة غير المتناهي تفصيلا لا مجتمعا ولا متعاقبا فينقطع في حد ما ألبتة، ولو سلم عدم الانقطاع فلا يضر أيضا لأن كل ما دخل تحت الوجود الوهمي متعاقبا لا إلى حد يكون متناهيا دائما، ونظيره نعيم الجنان هذا، لكنه يشكل بالنسبة إلى علم الله الشامل، فإن مراتب الأعداد الغير المتناهية داخلة تحت علمه تعالى الشامل مفصلة ونسبة الانطباق بين الجملتين معلومة له تعالى كذلك، فتأمل.
قوله: (فإن الأولى أكثر من الثانية) لأن القدرة خاصة بالممكنات والعلم عام يتعلق بالممتنعات أيضا.
قوله: (و ذلك لأن معنى لاتناهي الأعداد…إلخ) توضيحه أن التناهي وعدمه فرع الوجود ولو ذهنا وليس الموجود من الأعداد والمعلومات والمقدورات إلا قدرا متناهيا، وما يقال أنها غير متناهية معناه عدم الانتهاء إلى حد لا مزيد عليه، وخلاصته أنه لو وجدت باسرها لكانت غير متناهية.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي في الجملة) سواء كانت مجتمعة مترتبة أو غير مترتبة أو متعاقبة هذا عند المتكلمين وأما عند الحكماء فلا يجري إلا في الموجودات المجتمعة المترتبة قالوا: إذا كانت الآحاد موجودة في نفس الأمر معًا وكان بينهما ترتب فإذا جعل الأول من إحدى الجملتين بإزاء الأول من الجملة الأخرى كان الثاني بإزاء الثاني وهكذا يتم التطبيق وإذا لم تكن موجودة معًا لم يتم لأن الأمور المتعاقبة معدومة لا يوجد منها في كل زمان إلا واحد ففي كل زمان يفرض التطابق لا يمكن إلا باعتبار فرض وجود الآحاد فلا تطابق فيها بحسب نفس الأمر فينقطع بانقطاع الاعتبار وكذا الأمور الموجودة المجتمعة الغير المرتبة إذ لا يلزم من كون الأول بإزاء الأول كون الثاني بإزاء الثاني وهكذا إلا إذا لوحظ كل واحد من الأولي واعتبر بإزاء كل واحد من الأخرى لكن استحضار النفس مالا نهاية له مفصلة محال فينقطع بانقطاع الاعتبار واستوضح ذلك بتوهم التطبيق بين الجبلين الممتدين على الاستواء وبين أعداد الحصى فإن في الأول إذا طبق أول أحدهما بأول الآخر كان كافيًا في وقوع أجزاء كل منهما بمقابلة أجزاء الأخرى بخلاف الحصى فإنه لا بد في تطبيقها من اعتبار التفصيل واعترض عليه المتكلمون بأنه لا يخلو إما أن يتوقف التطبيق على ملاحظة الآحاد مفصلة وجعل كل جزء من أحداهما بإزاء جزء آخر أو يكفي ملاحظة وقوع أجزاء أحدهما بإزاء أجزاء الأخرى على سبيل الإجمال فإن كان الأول يلزم أن لا يجري في الأمور المترتبة لأن الذهن لا يقدر على ملاحظة الأمور غير المتناهية مفصلًا سواء كانت مجتمعة أولا وأيضًا التطبيق بهذا الوجه يعم الموجود والمعدوم فلا وجه لتخصيصه بالموجودة وإن كان الثاني فهو متحقق في الأمور المتعاقبة أيضًا إذ يحكم العقل بعد ملاحظة الجملتين مجملًا حكمًا إجماليًا بأنه إما أن يقع بإزاء كل جزء من أحدهما جزء من الأخرى أو لا يقع فعلى الأول يلزم التساوي وعلى الثاني يلزم التناهي.
قوله: (فيجري في الحركات الفلكية) هذا على مذهب المتكلمين ظاهر فإنها أكوانات متعددة وجود كل مسبوق بعدم الآخر وأما على تحقيق مذهب الحكماء من الحركة القديمة عندهم؛ أعني: الحركة بمعنى التوسط بين المبدأ والمنتهى أمر واحد عارض للأفلاك مستمر من الأزل إلى الأبد لا تعدد فيه أصلًا فلا يجري فيها وكذا الحركة بمعنى القطع فإنه أمر موهوم لا وجود له عندهم أصلًا.
قوله: (فإنه ينقطع بانقطاع الوهم…إلخ) يعني أن التطبيق لا يجري في الأمور الاعتبارية؛ لأن في جريانه لا بد من تحقق آحاد السلسلة في نفس الأمر ليحصل العقل منها جملتين ويفرض وقوع الانطباق بينهما فيلزم تناهي مالا يتناهى في نفس الأمر أو تساوي ما كان ناقصًا فيه والأمور الاعتبارية لا تحقق لها لا في الخارج وهو ظاهر ولا في الذهن لأن آحاد السلسلة غير المتناهية لا يتحقق إلا بملاحظتها مفصلًا إذ بالملاحظة الإجمالية لا تكون الآحاد حاصلة فيها إلا بوجود واحد وهو العلم الإجمالي المتعلق بها والذهن لا يقدر على استحضار ما لا نهاية له مفصلًا فيه فينقطع ملاحظة الآحاد في حد فينقطع التطبيق ولا يلزم تناهي ما لا يتناهى في نفس الأمر لعدم تحققها فيه قال الشارح في شرح المقاصد: والحق أن تحصيل الجملتين من سلسلة واحدة ثم تقابل جزء من هذه بجزء من تلك إنما هو بحسب العقل دون الخارج فإن كفى في إتمام الدليل حكم العقل بأنه لا بد من أن يقع بإزاء جزء من هذه جزء من تلك فالدليل جار في الأمور الاعتبارية والموجودة لأن للعقل أن يفرض ذلك في ملاحظة الآحاد في حد فينقطع الكل على سبيل الإجمال وإن لم يكف ذلك بل اشترط ملاحظة أجزاء الجملتين على التفصيل لم يتم الدليل في الموجودات المترتبة المجتمعة إذ لاسبيل للعقل إلى ذلك. انتهى كلامه. قيل: إن تحصيل الجملتين والتطبيق وإن كان بحسب العقل لكن آحاد السلسلتين لا بد أن تكون موجودة لتكون الجملتان موجودتين ويكون وقوع آحاد كل منهما بإزاء الأخرى أمرًا ممكنًا فيظهر من فرض وقوعه الخلف، تأمل في هذا المقام فإنه من مزالق الأقدام.
قوله: (ولو سلم عدم الانقطاع…إلخ) أي: ولو سلم عدم انقطاع اعتبار العقل على سبيل التعاقب بأن تكون النفس قديمة ومتعلقة بالأبدان غير المتناهية على سبيل التناسخ فلا ضرر لأن كل مادخل تحت الوجود الوهمي بالملاحظة على سبيل التعاقب يكون متناهيًا دائمًا فالتطبيق لايستلزم تناهي مالا يتناهى.
قوله: (ونظيره نعيم الجنان) لأن معنى لا تناهيها على ما مر عدم الانتهاء في الوجود إلى حد لا يوجد فوقه آخر مع أن الموجود منه يكون متناهيًا دائمًا.
قوله: (لكن يشكل بالنسبة إلى علم الله تعالى…إلخ) حاصله أن مراتب الأعداد غير المتناهية ونسبة الانطباق بينهما معلومة لله تعالى على سبيل التفصيل لشمول علمه الممكن والممتنع فعلى تقدير التطبيق يلزم تناهي ماليس متناهيًا في الوجود العلمي له تعالى هذا خلف.
قوله: (فتأمل) نقل عنه وجه التأمل أن علمه الشامل إنما يشمل مالا يمتنع العلم به كما أن قدرته الشاملة إنما تشمل ما لايمتنع وجوده وإمكان تعلق العلم بالمراتب غير المتناهية مفصلة ممنوع. انتهى. فإن قيل: فيلزم الجهل على الله تعالى قلت: الجهل عدم العلم بما يصح تعلق العلم به كما أن العجز عدم تعلق القدرة بما يصح أن تتعلق به. فتأمل.
قوله: (وتوضيحه…إلخ) أي: توضيح عدم ورود النقض على برهان التطبيق بالأعداد والمقدورات والمعلومات المشار إليه بقوله وذلك إلخ أن التناهي واللا تناهي فرع الوجود سواء كان في الخروج أو في الذهن فالشيء بدون الوجود لايتصف بالتناهي وعدمه فالأعداد والمعلومات والمقدورات مع قطع النظر عن الوجود لا يكون متناهيًا ولا لامتناهيًا والمتصف منها بالوجود ليس إلا قدرًا متناهيًا أما في الذهن فلأنه لايقدر على استحضار مالا يتناهى وأما في الخارج فلأن كل ما هو موجود في الخارج متناه فعلى كل تقدير لايجري التطبيق ههنا لعدم كونها غير متناهية حتى تفرض الجملتان ويلزم تناهي مالا يتناهى قال بعض الفضلاء: كون التناهي واللاتناهي فرع الوجود محل تأمل بل الظاهر عدمه وأيضًا أن الأعداد من الموجودات الخارجية عند جمهور الحكماء. انتهى كلامه. أقول: الجواب عن الأول أن التناهي واللاتناهي ههنا ليس بمعنى الإيجاب والسلب بل بمعنى العدم والملكة اللذين لايتصف بشيء منهما لواجب والنقطة والوحدة وموضوع العدم والملكة يكون وجوديًا في الجملة وعن الثاني أن هذا الجواب إنما هو على طريقة المتكلمين والأعداد عندهم من الأمور الاعتبارية وأما عند الحكماء فعدم جريان برهان التطبيق فيها لعدم الترتيب بينها لالعدم الوجود بناء على ما قالوا من أنه لاشيء من المراتب جزء لما فوقه بل كل مرتبة مركبة من وحدات مبلغها تلك المرتبة يدل على ماقلنا كلام السيد السند في “شرح المواقف” على أن المحقق الدواني ذكر في حواشي التجريد بأن الأعداد من الأمور الاعتبارية عند المحققين من الحكماء وأن جعلها من أقسام الكم باعتبار فرض وجودها.
قوله: (وما يقال من أنها غير متناهية…إلخ) جواب سؤال مقدر كأنه قيل: إذا لم تكن الأعداد والمعلومات والمقدورات غير متناهية بشئ من التقديرين فما معنى عدم تناهيها وحاصل الدفع أن إطلاق التناهي واللاتناهي عليها مجاز باعتبار أنها لو وجدت بأسرها لكانت غير متناهية * قال بعض الفضلاء: عدم تناهي المعلومات ليس بمعنى عدم الانتهاء إلى حد كما في المقدورات بل عدم التناهي في صورة العلم والمعلومات بالفعل وإلا يلزم الجهل، أقول: إنما يلزم الجهل لو كان المراد أنها لا تنتهي بحسب تعلق العلم إلى حد وليس كذلك بل المراد أن العلم بما يمكن أن يتعلق العلم به فهو حاصل له تعالى بالفعل من غيرر أن يتوقف على أمر لكن تلك المعلومات لا تتصف بهذا الاعتبار بالتناهي واللاتناهي لكونهما فرع الوجود بل اتصافها بعدم التناهي إنما هو باعتبار أنها لا تنتهي في الوجود إلى حد معين وأنها لو وجدت بأسرها لكانت غير متناهية ولا شك أنه لا يستلزم الجهل كما لا يخفى نعم يرد أن يقال: إن علمه تعالى لما كان متعلقًا بمعلومات غير متناهية أمكن جريان التطبيق فيها باعتبار الوجود العلمي فيلزم تناهيها وقد مر الجواب عنه بأنه يجوز تعلق العلم بها على سبيل الإجمال ويكون التعلق بالفعل على سبيل التفصيل ممتنع الوقوع فتكون متناهية بالنسبة إلى علم الله تعالى وإن كانت غير متناهية بالنسبة إلى وجودها مفصلة *واعلم أن ما قاله المعترض من أن عدم تناهي المعلومات ليس بمعنى عدم الانتهاء إلى حد على الإطلاق غير صحيح ضرورة أنه عالم بالجزئيات المتجددة على وفق تجددها على ما هو رأي الأصحاب ولا شك أن الجزئيات المتجددة لا تنتهي إلى حد إذ نعيم الجنان لا انقطاع له فعدم التناهي في صورة العلم والمعلومات بكلا المعنيين أي: بالفعل وبمعنى عدم الانتهاء إلى حد متحقق ولذا قال الشرح في شرح المقاصد: إن علمه تعالى غير متناه بمعنى أنه لا ينتهي إلى حد لا يتصور فوقه حد ويحيط بما لا يتناهي كمراتب الأعداد ونعيم الجنان.
قال الباجوري:
قوله: (وهذا التطبيق إنما يكون…إلخ) غرضه بذلك الجواب عما قد يقال: برهان التطبيق يمكن جريانه في مراتب الأعداد ولا يثبت تناهيها، وكذلك يمكن جريانه في معلومات الله مع مقدوراته ولا يثبت تناهيها، وحينئذ فلا يكون مبطلا للتسلسل. وحاصل الجواب: عدم تسليم إمكان جريانه في مراتب الأعداد وفي معلومات الله مع مقدوراته؛ لأنه إنما يكون فيما يتصف بالوجود دون الأمر الوهمي.
قوله: (فيما دخل تحت الوجود) أي: فيما كان متصفا بالوجود في الجملة بأن انعدم بعد وجوده، فلا يشترط اجتماع جملته في الوجود، بل يجري في الموجودات ولو متعاقبة فيجري في مثل الحركات الفلكية، خلافا للحكماء حيث قالوا بأنه لا يجري إلا في الموجودات المجتمعة في الوجود؛ لأن الأمور المتعاقبة معدومة، لا يوجد منها في كل زمان إلا واحد، فلا يمكن التطابق فيها إلا باعتبار فرض وجود الآحاد، والتطابق بحسب الاعتبار ينقطع بانقطاع الاعتبار، ورده المتكلمون بأنه يكفي في التطبيق ملاحظة آحاد الجملتين على سبيل الإجمال، وهو متحقق في الأمور المتعاقبة كما هو متحقق في الأمور المجتمعة.
قوله: (دون ما هو وهمي محض) أي: دون الأمر الذي هو عقلي محض، بحيث لم يدخل تحت الوجود الخارجي، فلا يجري فيه برهان التطبيق، لكن صرح الشارح في شرح المقاصد بأن الحق أنه إن كفى في إتمام الدليل حكم العقل إجمالا، فالدليل جار في الأمور الاعتبارية والموجودة؛ لأن للعقل أن يفرض ذلك في الكل على سبيل الإجمال، وإن لم يكن ذلك فيه، بل اشترط ملاحظة آحاد الجملتين تفصيلا لم يتم الدليل في الموجودات؛ إذ لا سبيل للعقل إلى ذلك.
قوله: (فإنه ينقطع بانقطاع الوهم) أي: فإنما هو وهمي محض ينقطع بانقطاع الوهم؛ لأن الذهن لا يقدر على استحضار ما لا نهاية له تفصيلا، لا مجتمعا ولا متعاقبا، فينقطع في حد ما ألبتة، ولو سلم عدم انقطاع اعتبار العقل، فلا ضير أيضا؛ لأن كل ما دخل تحت الوجود بالملاحظة متعاقبا لا إلى حد، يكون متناهيا دائما، فجميع ما لاحظ الوهم وجوده متناه ونظيره نعيم الجنان، فإن جميع ما وجد منه يكون متناهيا، مع أنه لا يقف عند حد لا يوجد بعده آخر، لكن قد تقدم لك عن شرح المقاصد أنه اكتفى بالإجمال؛ لجري الدليل في الأمور الاعتبارية والموجودة. هذا وقد استشكل بأن انقطاع الأمور الاعتبارية بالنسبة للوهم ظاهر، بخلافه بالنسبة إلى علم الله تعالى الشامل لكل شيء، فإن مراتب الأعداد الغير المتناهية داخلة تحت علمه الشامل لكل شيء مفصلة، وكذا نسبة الانطباق بين الجملتين معلومة له تعالى مفصلة، وحينئذ فيمكن جريان برهان التطبيق في الأمور الاعتبارية التي لا تتناهى كالمعدودات بالنسبة لعلمه تعالى. وأجيب بأن علمه تعالى بناء على مذهب الفلاسفة لا يتعلق بها تفصيلا، وإنما يتعلق بها مجملة؛ لأن علمه تعالى عندهم إنما يتعلق بالكليات دون الجزئيات، لكنهم كفروا بذلك، والحق أنه يتعلق بالجزئيات والكليات تفصيلا فالإشكال باق والجواب باطل.
قوله: (فلا يرد النقض…إلخ) مفرع على قوله “وهذا التطبيق…إلخ”
وقوله: (بمراتب العدد) أي: كالواحد والاثنين والثلاثة إلى ما لا نهاية له، فالواحد مرتبة أولى والاثنان مرتبة ثانية والثلاثة مرتبة ثالثة وهكذا. قوله: (بأن تطبق جملتين…إلخ) تصوير لورود النقض بمراتب العدد فهو تصوير للمنفي لا للنفي.
وقوله: (إحداهما من الواحد لا إلى نهاية) أي: إحدى الجملتين مبتدأة من الواحد لا إلى نهاية.
وقوله: (والثانية من الاثنين لا إلى نهاية) أي: والجملة الثانية مبتدأة من الاثنين لا إلى نهاية، فإذا طبقت الجملتين ذهب التطبيق لا إلى نهاية، ولم يلزم انتهاء مراتب الأعداد، وقد علم الجواب عن ذلك مما سبق.
قوله: (ولا بمعلومات الله ولا بمقدوراته) أي: ولا يرد النقض أيضا بمعلومات الله مع مقدوراته، والمراد بمعلومات الله ما تعلق به علمه تعالى من الواجبات والممكنات والممتنعات، والمراد بمقدوراته ما تعلقت به قدرته تعالى من الممكنات تعلقا صلوحيا قديما لا تنجيزيا حادثا، وإن كان المقدور يطلق على ما تعلقت به قدرته تعالى بكل من التعلقين؛ لأن الأول غير متناه والثاني متناه، والكلام في غير المتناهي لا في المتناهي، وقد علم الجواب عن ذلك مما سبق.
قوله: (فإن الأولى أكثر من الثانية) أي: فإن معلومات الله أكثر من مقدوراته؛ لأن القدرة خاصة بالممكنات، والعلم عام بتعلق بالممتنعات أيضا، فكل مقدور معلوم ولا عكس.
قوله: (وذلك لأن معنى لا تتناهى الأعداد) أي: وعدم ورود النقض بما ذكر ثابت لأن معنى لا تتناهى الأعداد الجزئية، فاسم الإشارة عائد إلى “عدم ورود النقض بما ذكر”، وهو مبتدأ خبره محذوف،
وقوله: (أنها لا تنتهي إلى حد لا يتصور فوقه آخر) أي: أن المذكورات لا تنتهي إلى حد لا يتصور فوق ذلك الحد شيء آخر، بل ما من شيء منها إلا ويتصور بعده شيء آخر، فهذه المذكورة ليست متناهية بهذا المعنى.
وقوله: (لا بمعنى أن ما لا نهاية له يدخل في الوجود) أي: لا بمعنى أنها لا نهاية لها مع دخولها تحت الوجود.
وقوله: (فإنه محال) أي: فإن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال، لكن محل كونه محالا في الحوادث لا في القديم، فلا يرد صفات الله الكمالية، فإنها لا نهاية لها وقد دخلت تحت الوجود لكنها قديمة، فقوله فيما سبق، وهذا التطبيق إنما يكون فيما دخل تحت الوجود بقيد بكونه من الحوادث. وتوضيح كلام الشارح أن التناهي وعدمه فرع الوجود ولو ذهنا؛ لأن الذهن لا يقدر على استحضار ما لا يتناهى، وليس الموجود من الأعداد والمعلومات والمقدورات إلا قدرا متناهيا، وما يقال إنها غير متناهية: معناه عدم الانتهاء إلى حد لا مزيد عليه، وخلاصته: أنه لو وجدت بأسرها لكانت غير متناهية، فيكون وصفها بعدم التناهي باعتبار أنها لو وجدت بأسرها كانت غير متناهية، فالمقصود من العلة في كلام الشارح قوله “لا بمعنى أن ما لا نهاية له يدخل في الوجود فإنه محال” وإنما أتى بما قبله للإيضاح
الواحدُ
قال الشارح: (الواحد) يعني أن صانع العالم واحد، فلا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة. والمشهور في ذلك بين المتكلمين برهان التمانع المشار إليه بقوله تعالى: ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ. وتقريره: أنه لو أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخرسكونه، لأن كلاً منهما في نفسه أمرٌ ممكن، وكذا تعلق الإرادة بكل منهما إذ لا تضاد بين الإرادتين، بل بين المرادين، وحينئذ إما أن يحصلا لأمران فيجتمع الضدان أو لا فيلزم عجز أحدهما، وهو أمارة الحدوث والإمكان لما فيه من شائبة الاحتياج، فالتعدد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال، فيكون محالاً.
قال الخيالي:
قوله: (يعني أن صانع العالم…إلخ) فيه إشارة إلى دفع توهم الاستدراك بناء على أن الله علم للجزئي الحقيقي وهو لا يكون إلا واحدا، وحاصل الدفع أن المراد الوحدة في صفة وجوب الوجود لا في الذات، وهذا التوهم مع دفعه آت في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄﱠ، فتأمل.
قوله: (لو أمكن إلهان) أي: صانعان قادران على الكمال بالفعل أو بالقوة، فلا يرد احتمال أن يكون أحد الواجبين صانعا قادرا والآخر بخلافه، فقوله في تقرير المدعي: “ولا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة” محل تأمل، إلا أن يقال مراده: الوجوب على وجه الصنع والقدرة التامة أو يقال: التعطل وكذا الإيجاب نقصان، فلا يكون الموجب واجبا، لكن يرد على هذا أن الواجب موجب في صفاته، والفرق بين إيجاب الصفة وإيجاب غيرها مشكل، وههنا بحثان الأول: النقض بأنه لو فرض تعلق إرادته تعالى بإعدام ما أوجبه ذاته تعالى من صفاته، فإما أن يحصل كل من مقتضى الذات والإرادة وأنه محال أو لا يحصل أحدهما فيلزم العجز أو تخلف المعلول عن علته التامة، هذا خلف. الثاني: الحل وهو أن عدم القدرة بناء على الامتناع بالغير ليس بعجز فإنه تعالى لا يقدر على إعدام المعلول مع وجود علته التامة ولا شك أن إرادة أحد الإلهين وجود شيء مثلا تحيل عدمه، والجواب أنا نفرض التعلقين معا وهو لا يمكن في صورة النقض ولا يتم الحل أيضا إذ يكون كل من التعلقين بالممكن الصرف.
قوله: (إذ لا تضاد بين الإرادتين) أي: لا تدافع بين تعليقهما بل التدافع بين المرادين ولم يرد بالتضاد معناه الاصطلاحي؛ لأن الضدين يجوز أن يحصلا في محلين فلا حاجة إلى نفيه، وأيضا المانع من الاجتماع في محل لا ينحصر في التضاد فلا كفاية في نفيه.
قوله: (أمارة الحدوث والإمكان) أي: دليلهما إذ يلزمه الاحتياج وهو نقض يستحيل عليه تعالى بالإجماع القطعي، إن قلت عدم حصول المراد إن كان عجزا يلزم أن تقول المعتزلة بعجز الله تعالى؛ لقولهم بأن طاعة الفاسق مرادة ولا تحصل، قلت العجز بتخلف المراد عن المشيئة القطعية التي يسمونها مشية قسر وإلجاء وهم لا يقولون بالتخلف عنها، وأما المشية التفويضية فلا عجز في التخلف عنها مثل أن تقول لعبدك أريد منك كذا ولا أجبرك.
قال السيالكوتي:
قوله: (فيه إشارة …إلخ) يعني في عناية الوحدة في وجوب الوجود إشارة إلى دفع استدراك يتوهم من ظاهر عبارة المصنف وهو أن الله علم الجزئي الحقيقي فثبوت الوحدة له ضروري إذ الجزئي الحقيقي لا يكون إلا واحدًا فلا معنى لذكرها وجعلها من مسائل الفن فإنها لا تكون إلا نظرية وبما حررنا اندفع ما قاله الفاضل المحشي من أن توهم الاستدراك جار في الصفات الآتية له تعالى أيضًا من الحي العليم السميع القادر لأن هذه الصفات كانت مشهودة في ضمن هذا الاسم فلا حاجة إلى ذكرها لأن الصفات الآتية وإن كانت مشهودة في ضمن هذا الاسم لكنها ليست ضرورية الثبوت له فلا بد من ذكرها وجعلها من مسائل الفن بخلاف ما نحن فيه.
قوله: (و حاصل الدفع أن المراد…إلخ) يعني حاصل الدفع أن الضروري هو ثبوت الوحدة للجزئي الحقيقي في ذاته الشخصية دون صفته والمراد بالوحدة ههنا الوحدة في صفته؛ أعني: وجوب الوجود لا في ذاته الذي هو جزئي حقيقي هذا تقرير ظاهر عبارة المحشي وأنت خبير بأن دفع التوهم بالعناية المذكورة آنفًا إنما يتم إذا كان المراد بلفظة الله في قوله: والمحدث للعالم هو الله تعالى الجزئي الحقيقي وأما إذا كان المراد به واجب الوجود مطلقًا على ما بينه الشارح فحينئذ يكون وصفه بالواحد بمنزلة وصف الواجب به فالتوهم المذكور مندفع بتلك الإرادة لا بلإرادة الوحدة في صفة الواجب إذ يقال حينئذ ليس المرد بالله الجزئي الحقيقي حتى يكون ثبوت الوحدة له ضروريًا بل واجب الوجود مطلقًا وثبوت وحدانيته محتاج إلى الدليل فالأوجه أن يقال: فيه إشارة إلى أن التوحيد هو عدم التوحيد هو عدم اعتقاد الشركة في وجوب الوجود على ما قال في شرح المقاصد: من أن التوحيد عبارة عن عدم اعتقاد الشريك في الألوهية وخواصها وأراد بالألوهية وجوب الوجود وبخواصها الأمور المتفرعة عليه من كونه خالقًا للأجسام مدبرًا للعالم مستحقًا للعبادة.
قوله: (وهذا التوهم مع دفعه…إلخ) قيل : هذا على تقدير أن يكون هو للشأن والله مبتدأ واحد خبره حينئذ يرد أن الله علم للجزئي الحقيقي فثبوت الوحدة له ضروري فلا فائدة للحكم يدفع بأن المراد وحدته في صفة الوجوب وما يتفرع عليه من استحقاق العبادة وخلق العالم وتدبيره لا في ذاته ردًا على الكفار الذين اعتقدوا اشتراك معبوداتهم له تعالى في الأمور المذكورة وأما إذا كان ضمير هو مبتدأ راجعًا إلى الذي سألتموني والله خبره واحد بدلًا منه أو خبرًا بعد خبر على مافي الكشاف عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قالت قريش: يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه فنزلت يعني الذي سألتموني عن صفته هو الله أحد فلا يتأتى التوهم المذكور كما لا يخفي.
قوله: (فلا يرد احتمال أن كون…إلخ) يعني إذا كان المراد بالإلهين الصانعين القادرين على الكمال لا يرد منع الملازمة بأن معنى الإله واجب الوجود على ما مر ولا يلزم من إمكان الواجبين إمكان التمانع بينهما إنما يلزم لو كانا صانعين قادرين على الكمال لكن لم لا يجوز أن يكون أحدهما قادرًا كاملًا والآخر بخلافه بأن يكون معطلًا أو موجبًا أو ناقصًا وحينئذ لا يمكن التمانع بينهما أما على تقدير كون أحدهما معطلًا أو ناقصًا فظاهر وأما على تقدير كونه موجبًا فلأنه يجوز أن يكون الآثار الصادرة عنه بطريق الإيجاب هي الآثار الصادرة عن الآخر بتوسط القدرة فإن قيل : يجوز استناد النقيضين في الوقتين إلى القادر ولا يجوز إلى الموجب لأن مقتضى الذات لا يكون إلا أحدهما قلت يجوز بتوسط شروط حادثة فيجوز أن يكون اختيار الواجب المختار شرطًا لإيجاده بالاقتضاء فكل ما يختاره المختار يكون مقتضي الذات الموجب بالإيجاب.
قوله: (فقوله في تقرير المدعي…إلخ) أي: إذا كان المراد بالإلهين بالدليل الصانعين القادرين على الكمال فقوله لايمكن إلخ محل تأمل لأنه يدل على أن المدعي نفى تعدد الواجب مطلقًا والدليل المذكور إنما يدل على نفي تعدد الصانع القادر على الكمال الذي هو أخص من الواجب مطلقًا.
قوله: (إلا أن يقال…إلخ) أي: إلا أن يخص المدعي أيضًا ويقال: إن المراد بقوله: ولا يمكن أن يصدق إلخ الوجوب على وجه الصنع والقدرة الكاملة فحينئذ يكون الدليل مطابقًا للمدعى.
قوله: (أو يقال…إلخ) أي: أو لا يخصص المدعي بل يترك على حاله ويبين استلزام الدليل بأن التعطل والإيجاب ونقصان القدرة نقصان يجب تنزيه الواجب عنها فلا يكون الموجب والمعطل وناقص القدرة واجبًا فالواجب لا يكون إلا صانعًا قادرًا على الكمال فلو أمكن واجبان لأمكن صانعان قادران على الكمال فأمكن التمانع بينهما.
قوله: (لكن يرد هذا…إلخ) أي: لكن يرد على هذا البيان أنه لوكان الإيجاب نقصًا فلم قلتم بأن صفاته تعالى قديمة صادرة عنه تعالى بطريق الإيجاب قيل : ذاته تعالى ليست فاعلة لصفاته تعالى حتى يلزم أن يكون تعالى موجبًا بالنسبة إليها أو مختارًا إذ علة الافتقار عندهم هو الحدوث وصفاته تعالى ليست بحادثة فلا يكون لها فاعلًا ولايخفى أنه ليس بشيء لأنه إذا لم يكن مستندًا إلى ذاته تعالى يلزم تعدد الواجب لذاته إذ كل موجود لايخلو من أن يكون وجوده من ذاته أو من غيره فإذا انتفى الثاني تعين الأول ويلزم الوجوب ولذا قال في شرح المقاصد استناد الصفات عند من يثبنها ليس إلا بطريق الإيجاب وقولهم علة الاحتياج هو الحدوث ينبغي أن يخصص بما عدا الصفات وسيجيء في مباحث الصفات كلام لايليق بهذا المقام.
قوله: (والفرق بين…إلخ) يعني أن بيان الفرق بين إيجاب الصفات وبين إيجاب ماعداها بأن الأول كمال والثاني نقص مشكل قيل : الفرق واضح لأن صفات الواجب كمالات له لأن الخلو عنها نقص بخلاف غيرها ولا شك في أن إيجاب الكمالات لا يكون نقصًا بخلاف إيجاب غير الكمالات أقول إفاضة الوجود على الممكنات خير وكمال فيلزم أن يكون بطريق الإيجاب والقول بأن كمال السلطة يقتضي أن يكون الواجب قبل كل شيء وبعده مما لايعتد به في المقامات اليقينية على أن كون الخلو عن الصفات نقصًا في ذاته تعالى ممنوع لا بد له من دليل.
قوله: (ههنا بحثان الأول النقض…إلخ) أي: في هذا الدليل بحثان الأول النقض الإجمالي بأن يقال دليلكم بجميع مقدماته غير صحيح لأنه جار في هذه المادة مع تخلف المدلول عنه أو لأنه يستلزم المحمول؛ أعني: عدم وجود الواجب المختار بأن يقال:لو أمكن الواجب المختار لأمكن تعلق إرادته بإعدام ما صدر عن ذاته بطريق الإيجاب؛ أعني: صفاته تعالى لكونه أمرًا ممكنًا في نفسه وكل ممكن مقدور لله تعالى فلا يخلو إما أن يحصل كل من مقتضي الذات؛ أعني: وجود تلك الصفة ومقتضى الإرادة؛ أعني: عدمها فيلزم اجتماع النقيضين وأنه محمول أو لايحصل أحدهما فلا يخلو إما أن لايحصل مقتضى الإرادة فيلزم عجز الواجب المنافي للألوهية أو لايحصل مقتضى الذات فيلزم تخلف المعلول عن علته التامة وهو باطل أجاب بعض الفضلاء بأنا نختار أنه لايحصل مقتضى الإرادة فقولكم يلزم العجز قلنا لا نسلم لزوم العجز المنافي للألوهية لأن ذلك العجز والانسداد جاء من قبل ذاته والعجز الذي من قبل الذات لا ينافي الألوهية بل المنافي لها العجز الذي يكون لسد الغير طريق القدرة عليه.
قوله: (والثاني الحل) أي: البحث الثاني النقض التفصيلي؛ أعني: منع مقدمة معينة وهو لزوم العجز يعني لانسلم أنه لو حصل مراد أحدهما دون الآخر يلزم عجز الآخر لما أن عدم القدرة على الممتنع بالغير ليس بعجز لأنه ليس محلًا للقدرة إذ هي تتعلق بالممكنات الصرفة ألا يرى أنه تعالى لايقدر على إعدام المعلول معوجود علته التامة ولا شك أن المراد أحد الإلهين وجود الحركة مثلًا تحيل عدمه وتجعله ممتنعًا فعدم قدرة الآخر عليه لا يكون عجزًا أجاب عنه بعض الفضلاء بأن عدم القدرة على الممكن الذاتي بناء على سد الغير طريق القدرة عليه عجز مناف للألهية ولا شك أن عدم القدرة على إعدام المعلول الممكن الذاتي بواسطة وجود العلة التامة هو ليس إلا العجز لتعجيز الغير إياه. انتهى كلامه. وفيه أنه يلزم على هذا أن يكون الواجب قادرًا على إعدام المعلول مع وجود علته التامة دفعًا للعجز وهذا يستلزم جواز تخلف المعلول عن علته التامة وهو خلاف مقرر القوم. تأمل.
قوله: (والجواب…إلخ) هذا جواب بتلخيص الدليل بحيث لا يجري في مادة النقض فلا يرد عليه المنع يعني أنا نفرض تعلق إرادة الإلهين معًا، ونقول: أن المراد أنه لو أمكن الإلهان لأمكن التمانع يري أحدهما حركة زيد في زمان إرادة الآخر سكونه ولا شك أنه لايجري في صورة النقض لأن ما تقتضيه الذات مقدم على ماتقتضيه بتوسط الإرادة.
قوله: (ولايتم الحل المذكور أيضًا) لأن كل واحد من تعلق الإرادتين حينئذ يكون بالممكن الصرف لعدم تقدم أحدهما على الآخر.
قوله: (أي لاتدافع…إلخ) يعني أن المراد بالتضاد المعنى اللغوي وهو المنافات مطلقًا دون المعنى الاصطلاحي لما سيجيء وأن الكلام على حذف المضاف؛ أعني: لفظ التعلق لأن الكلام فيه حيث قال، وكذا تعلق الإرادة بكل منها أمر ممكن في نفسه.
قوله: (ولم يرد بالتضاد…إلخ) يعني لم يرد بالتضاد كون الأمرين الموجودين بحيث لا يجتمعان في محل واحد من جهة واحدة ولايتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر؛ لأن حصول الضدين في محلين جائز فعلى تقدير تحقق التضاد بين تعليقهما لاخلل في صحة الدليل لتغير متعلقيهما ضرورة كون متعلق أحدهما السكون ومتعلق الآخر الحركة فيجوز حصول ذينك التعلقين ويتم الدليل بلا حاجة إلى نفي التضاد بينهما.
قوله: (وأيضًا المانع…إلخ) أي: وأيضًا يرد على تقدير إرادة المعنى الاصطلاحي أن المانع من الاجتماع في محل واحد لاينحصر في التضاد فإن كل واحد من التضايف والعدم والملكة والإيجاب والسلب أيضًا مانع من الاجتماع تنفي التضاد بين تعلقي الإرادتين لايكفي في جواز اجتماعهما قال بعض الأفاضل: خص التضاد بالنفي لأن التعلقين وجوديان فلو ثبت بينهما تناف لكانا متضادين وفه أنه لو كان المنفى بين التعلقين التضاد لكان المثبت بين المرادين؛ أعني: الحركة والسكون إياه أيضًا وليس كذلك كما لايخفى.
قوله: (أي دليلهما…إلخ) يعني ليس المراد بالأمارة الدليل الظني حتى يرد بأن الظني لايفيد في المطالب اليقينية خصوصًا في إثبات التوحيد.
قوله: ( إذ يلزم…إلخ) أي: يلزم العجز الاحتياج إلى الغير في تنفيذ القدرة وعدم سد الغير طريقة والاحتياج إلى الغير مطلقًا سواء كان في الوجود أو في الإيجاد أو في شيء آخر نقص يستحيل على ذات الواجب فإن الإجماع منعقد على أن وجوب الوجود معدن كل كمال ومبعد كل نقصان وإذا كان الاحتياج مستحيلًا على ذات واجب الوجود لايكون العاجز واجبًا فيكون حادثًا وممكنًا وبما قرره المحشي اندفع ما قيل: من أن اللازم الاحتياج في الإيجاد وهو لايستلزم الحدوث والإمكان بل المستلزم له الاحتياج في الوجود وهو غير لازم لكن يرد عليه أن هذا إنما يتم على من يقول بحجية الإجماع وإنا لانسلم أن الاحتياج مطلقًا نقص فإن الواجب يحتاج في إيجاده إلى إمكان المعلول. تأمل. ولايخفى عليك أن قول الشارح وهو من أمارة الحدوث يدل على أن المدعى إثبات عدم تعدد الواجب مطلقًا وإلا فلا حاجة إلى هذه المقدمات؛ لأنه إذا لزم العجز ثبت امتناع وجود الصانعين القادرين على الكمال فتفسير قوله: لو أمكن إلهان بقوله: أي: صانعان قادران على الكمال ليس بشيء.
قوله: (إن قلت…إلخ) حاصله أنا لانسلم أن عدم حصول مراد أحدهما يستلزم عجزه وإلا لزم أن يقول المعتزلة بعجزه تعالى لأنهم قائلون بأن الله تعالى أراد طاعة الفاسق وإيمان الكافر ومع ذلك لايحصل.
قوله: (قلت العجز تخلف…إلخ) حاصله أن المعتزلة لم يقولوا بعجزه تعالى لأن الإرادة عندهم قسمان إرادة قسر لايجوز التخلف عنها وإرادة التفويض يجوز التخلف عنها والمتعلق بطاعة الفاسق وإيمان الكافر هي التفويضية دون القسرية فلا إشكال.
قال الباجوري:
قوله: (الواحد) هذا إشارة إلى مبحث الوحدانية، ثم إن كان المراد خصوص وحدة وجوب الوجود كان فيه رد على الثنوية، فإنهم هم الذين يخالفون أهل السنة في وحدة وجوب الموجود، ويزعمون أن هناك إلهين أحدهما: يخلق الخير وهو النور ويعنون به الله تعالى، والآخر: يخلق الشر وهو الظلمة ويعنون به إبليس، وقيل : يعنون بالنور والظلمة حقيقتهما ويقولون بقدمهما. وإن كان المراد وحدة وجوب الوجود وخواصها من كونه خالقا للعالم بجميع جواهره وأعراضه ومدبرا لجميعه ومستحقا للعبادة ونحو ذلك، كان فيه رد على جميع الفرق الضالة من الثنوية وغيرهم، كالمعتزلة: القائلين بأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية وبأن مدبر الشرور والقبائح الشيطان، والفلاسفة: القائلين بخلق العقل العاشر وهو العقل الفياض لعالم الكون والفساد على ما سبق في بيان مذهبهم، والوثنية: القائلين بأن مع الله من يستحق العبادة كالأصنام.
قوله: (يعني أن صانع العالم واحد) أفاد الشارح بذلك أن الواحد خبر ثان عن المحدث للعالم وليس صفة لله كما قد يتوهم من قول المصنف، والمحدث للعالم هو الله الواحد، لكن كان الأولى للشارح أن يقول “يعني أن محدث العالم واحد”؛ لأنه الأنسب بعبارة المصنف، والخطب يسير.
وقوله: (ولا يمكن أن يصدق مفهوم واجب بالوجود إلا على ذات واحدة) أي: لا يمكن بل يمتنع أن يصدق مفهوم واجب الوجود أي: الذي وجوده واجب، بحيث لا يقبل الانتفاء إلا على ذات واحدة هي ذاته تعالى العلية، وكان الأنسب أن يقول واحد بالتذكير؛ لأن الأدب في حق ذاته تعالى عدم التأنيث، وإن كان جائزا باعتبار اللفظ. وفي هذه العناية إشارة إلى دفع توهم استدراك قول المصنف الواحد بعد ذكر كلمة الله، بناء على أن الله تعالى علم للجزئي الحقيقي، وهو لا يكون إلا واحدا وهو الذات العلية، فالوحدة مستفادة من كلمة الله، وحينئذ يكون ذكر الواحد بعده مستدركا. وحاصل الدفع أن الوحدة المستفادة من لفظ الجلالة وحدة الذات، والمراد بالوحدة ههنا الوحدة في صفة وجوب الوجود لا في الذات، وهذا التوهم؛ أعني: توهم استدراك ذكر الوحدة بعد ذكر لفظ الجلالة مع دفعه بما أشار إليه الشارح آت في قوله تعالى:ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄﱠ فيتوهم أن قوله تعالى: ﱡﭐ ﱄ ﱠ مستدرك بعد كلمةﱡ ﱡﭐ ﱃﱠ بناء على أن الله علم للجزئي الحقيقي، وهو لا يكون إلا واحدا، ويدفع بأن المراد بالأوحد وحدته في وجوب الوجود لا في الذات فتأمل.
قوله: (والمشهور في ذلك بين المتكلمين برهان التمانع) أي: والمشهور من الأدلة في إثبات كونه صانع العالم واحدا وأنه لا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة بين المتكلمين من أهل السنة وغيرهم: البرهان المبني على فرض التمانع، ويؤخذ من ذلك أن هناك أدلة أخرى غير برهان التمانع وهو كذلك، واحترز بقوله بين المتكلمين عن الحكماء، فإن لهم براهين أخر بحسب أصولهم.
وقوله: (المشار إليه بقوله تعالى…إلخ) نعت لبرهان التمانع، ووجه الإشارة: أن لزوم الفساد للتعدد إنما هو باعتبار أن التعدد يستلزم إمكان التمانع، كما سيذكره الشارح في تقرير الدليل.
قوله: ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ أي: لو كان فيهما جنس الآلهة الصادق بالواحد غير الله لخرجتا عن هذا النظام المشاهد، كأن تسقط السماوات على الأرض؛ لما يكون بين الآلهة من التمانع والتخالف، كما جرت به العادة أو لم يتكونا ويوجدا على ما سيأتي من الخلاف، وعلم من ذلك أن “إلا” بمعنى “غير” صفة لآلهة، وإنما لم تجعل للاستثناء؛ لأن المعنى عليه: لو كان فيهما آلهة مستثنى منهم الله لفسدتا، فيفيد لو كان فيهما آلهة لم يستثن منهم الله لم تفسدا، ولا شك في بطلان ذلك.
قوله: (وتقريره أنه لو أمكن إلهان…إلخ) أي: وتقرير برهان التمانع المشار إليه بالآية، أن الحال والشأن لو أمكن إلهان…إلخ، والمراد إلهان صانعان قادران على الكمال والاختيار، فلا يرد منع الملازمة التي أفادتها الشرطية بأن معنى الإلهين الواجبان، ولا يلزم من إمكان الواجبين إمكان التمانع بينهما؛ لاحتمال أن يكون إحدى الواجبين صانعا قادرا والآخر بخلافه، بأن يكون معطلا أو موجبا، وحينئذ لا يمكن التمانع بينهما. أما على تقدير كونه معطلا فظاهر، وأما على تقدير كونه موجبا؛ فلأنه حيث كانت الآثار صادرة عن أحدهما بطريق الإيجاب، كانت واجبة فلا تتعلق إرادة الآخر بها؛ لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالممكنات فقول الشارح في تقرير المدعى، ولا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة محل تأمل؛ لأنه يقتضي أن المدعى نفي تعدد الواجب مطلقا، وهذا الدليل إنما يدل على نفي الصانعين القادرين على الكمال والاختيار، فيكون الدليل أخص من المدعى، وقد أجيب عن ذلك بجوابين، أحدهما: أن يخص المدعى بأن يقال مراده فيه الوجوب على وجه الصنع والقدرة التامة، كما يدل عليه قوله يعني أن صانع العالم واحد، فإنه يقتضي أن الكلام في وحدة الصانع لا في وحدة الواجب مطلقا، وحينئذ يكون الدليل مطابقا للمدعى، أو يقال لا حاجة إلى هذا التخصيص؛ لأن الواجب لا يكون إلا صانعا قادرا تام القدرة، فإن التعطل وهو عدم الصنع وكذا الإيجاب نقصان، فلا يكون المعطل وكذا الموجب واجبا، وعلى هذا فلا يكون الدليل أخص من المدعى؛ لأن الإلهين بمعنى الواجبين، وهما لا يكونان إلا صانعين قادرين على الكمال، لكن يرد على الجواب المقتضي لكون الإيجاب نقصا أن طريقة الفخر ومن تبعه، أن الواجب وهو الله تعالى موجب في صفاته؛ ولذا قال في شرح المقاصد: استناد الصفات عند من يثبتها ليس إلا بطريق الإيجاب.أ.ه. فإن أجيب بالفرق بين إيجاب الصفات وإيجاب غيرها، بأن الأول كمال والثاني نقص، رد بأن هذا الفرق مشكل، وقيل : ليس مشكلا؛ لأن صفات الواجب كمالات، ولاشك أن إيجاب الكامل للكمالات لا يكون نقصا، بخلاف إيجاب غير الكمالات. وبحث فيه بأن إفاضة الوجود على الممكنات خير وكمال، فيلزم أن يكون بطريق الإيجاب، وفي هذا الدليل، وهو برهان التمانع بحثان، البحث الأول: النقض الإجمالي وهو المنع المتعلق بجملة الدليل بأن يقال دليلكم بجميع مقدماته باطل؛ لأنه يجري في مادة مع تخلف المدلول عنه، بناء على طريقة العضد كالشارح من أنه تعالى موجب لصفاته وهي ممكنة في نفسها، فلو فرض تعلق إرادته بإعدام ما أوجبه ذاته من صفاته تعالى لكونه ممكنا في نفسه، وكل ممكن مقدور لله تعالى، وحينئذ فلا يخلو: فإما أن يحصل مقتضى الذات وهو وجود الصفات ومقتضى الإرادة وهو انعدام الصفات وإنه محال؛ لما يلزمه من اجتماع النقيضين وهما وجود الصفات ولا وجودها، ولا يحصل أحدهما فإن لم يحصل مقتضى الإرادة يلزم العجز في الواجب المنافي للألوهية، أو لم يحصل مقتضى الذات يلزم تخلف المعلول وهو الصفات عن علته التامة وهي الذات وهذا خلف. البحث الثاني: الحل المسمى عندهم بالنقض التفصيلي، وهو المنع المتعلق بمقدمة معينة من مقدمات الدليل، وتلك المقدمة في هذا الدليل هي مقدمة لزوم عجز أحدهما، بأن يقال لا نسلم أنه لو حصل مراد أحدهما دون الآخر يلزم عجز الآخر؛ لأن عدم القدرة على الممتنع بالغير ليس بعجز؛ لأنه ليس من متعلقات القدرة، فإنها إنما تتعلق بالممكنات الصرفة. ألا ترى أنه تعالى لا يقدر على إعدام المعلول مع وجود علته التامة، فلا تتعلق قدرته تعالى بإعدام حركة الخاتم مع وجود حركة الأصبع؛ لأنه يلزم عليه تخلف المعلول عن علته التامة، ولا شك أن إرادة أحد الإلهين وجود شيء مثلا كحركة زيد تحيل عدمه، وحينئذ فعدم قدرة الآخر عليه لا يكون عجزا. والجواب عن البحثين المذكورين: أنا نفرض التعلقين معا، ونقول المراد من الدليل: لو أمكن إلهان لأمكن التمانع بينهما، بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه معا، وهذا لا يمكن جريانه في صورة النقض الإجمالي؛ لأن اقتضاء الذات بطريق الإيجاب سابق لكونه أزليا، وحينئذ فلا تتعلق به الإرادة بعد ذلك فلا تمانع، ولا يتم الحل المذكور أيضا؛ لأنه حيث فرضنا التعلقين معا يكون كل من التعلقين بالممكن الصرف، لعدم تقدم أحدهما على الآخر، واعترض هذا الجواب بالنسبة للنقض الإجمالي بأن يجوز أن يكون تعلق الإرادة أزليا، وحينئذ فيجوز أن يفرض اقتضاء الذات وتعلق الإرادة معا، فيجري في صورة النقض المذكورة.
قوله: (بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه) تصوير للتمانع فالمراد بالتمانع إرادة كل من الإلهين مقدورا معينا مضادا لما يريده الآخر في وقت معين؛ إذ لا تمانع في وقتين.
وقوله: (لأن كلا منهما في نفسه أمر ممكن) تعليل للملازمة التي أفادتها الشرطية بعد تصويرها بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه فكأنه يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه؛ لأن كلامنهما بالنظر لذاته، مع قطع النظر عن اجتماعه مع الآخر، أمر ممكن.
وقوله: (وكذا تعلق الإرادة لكل منهما) من تتمة التعليل للملازمة المذكورة؛ أي: ومثل كل من الحركة والسكون في الإمكان بالنظر لذاته تعلق الإرادة بكل منهما، فتعلق إرادة أحد الإلهين بحركة زيد، وتعلق إرادة الآخر بسكونه، بالنظر لذاته وقطع النظر عن اجتماعه مع الآخر، أمر ممكن، فإذا كان كل من الحركة والسكون، بالنظر لذاته ممكنا، وكان تعلق الإرادة بكل منهما كذلك، لزم من إمكان إلهين إمكان التمانع بينهما.
قوله: (إذ لا تضاد بين الإرادتين) تعليل لقوله “وكذا تعلق الإرادة بكل منهما” ومراده بالتضاد هنا المعنى اللغوي، وهو التدافع والتنافي، والكلام على حذف مضاف؛ أي: لا تدافع بين تعلق الإرادتين.
وقوله: (بل بين المرادين) أي: بل التضاد بمعنى التدافع بين المرادين، وهما حركة زيد وسكونه؛ لاتحاد محلهما، ولا يلزم من وجود التضاد بين المرادين، وجود التضاد بين الإرادتين أي: بين تعلقيهما؛ لأن كلا من الإرادتين إنما تعلق بأمر ممكن في نفسه، وليس المراد بالتضاد هنا خصوص المعنى الاصطلاحي؛ لأن الضدين يجوز أن يحصلا في محلين، فعلى تقدير تحقق التضاد بين الإرادتين، لا خلل في صحة الدليل؛ لتعدد محلهما، وحينئذ فلا حاجة إلى نفي التضاد بينهما؛ لما علمت من أن الضدين يجوز أن يحصلا في محلين، فيكون نفي التضاد بينهما عبثا محضا، وأيضا المانع من الاجتماع في محل واحد لا ينحصر في التضاد بالمعنى الاصطلاحي، بل يكون أيضا في التضايف وتقابل العدم والملكة، وحينئذ فلا كفاية في نفي التضاد الاصطلاحي. وقال بعض الأفاضل: خص التضاد بالنفي؛ لأن التعلقين ثبوتيان، فلو ثبت بينهما تناف لكانا متضادين.
قوله: (وحينئذ…إلخ) هذا بيان للازم الشرطية المذكورة، والمعنى: وحينئذ حصل بينهما تمانع بالفعل، ويحتمل أن المعنى وحينئذ أمكن بينهما تمانع، والأول أولى؛ لأن قوله “إما أن يحصل الأمران…إلخ” بحسب ظاهره وهو الحصول بالفعل لازم التمانع بالفعل لا لإمكانه،
وقوله: (إما أن يحصل الأمران) أي: إما أن يوجد المرادان وهما حركة زيد وسكونه.
وقوله: (يجتمع الضدان) أي: واجتماع الضدين محال؛ لأنه يستلزم اجتماع النقيضين، وهما الحركة ولا حركة، أو السكون ولا سكون، فإن السكون يتضمن لا حركة والحركة تتضمن لا سكون،
وقوله: (أو لا) أي: لا يحصل الأمران: بأن لم يحصل شيء منهما وحصل أحدهما دون الآخر فهو صادق بصورتين.
وقوله: (فيلزم عجز أحدهما) أي: في الصورتين السابقتين، وتزيد الصورة الأولى بعجز الآخر، فاللازم فيها عجزها وإنما اقتصر الشارح على التفريع على لزوم عجز أحدهما؛ طلبا للإيجاز.
قوله: (وهو أمارة الحدوث والإمكان) أي: والعجز دليلهما القطع، فليس المراد بالأمارة الدليل الظني، حتى يُردَّ بأن الظن لا يفيد في المطالب اليقينية، خصوصا في إثبات التوحيد، بل المراد بها الدليل القطعي؛ لأن العجز يلزمه الاحتياج وهو نقص يستحيل عليه تعالى بالإجماع القطعي. فإن قيل: عدم حصول المراد إن كان عجزا يلزم أن تقول المعتزلة بعجز الله تعالى؛ لأنهم يقولون بأن الله تعالى أراد طاعة الفاسق ولا تحصل، مع أنهم لا يقولون بعجزه تعالى؛ لأن الإرادة عندهم قسمان، إرادة قطعية: ويسمونها مشيئة قسر وإلجاء، وهم لا يقولون بالتخلف عنها، وإرادة تفويضية: مثل أن تقول لعبدك: أريد منك كذا ولا أجبرك عليه، وهم يقولون بجواز التخلف عنها، والعجز إنما هو تخلف المراد عن المشيئة القطعية، وأما المشيئة التفويضية فلا عجز في التخلف عنها، وحينئذ لا يلزم أن تقول المعتزلة بعجزه تعالى. واعلم أن عطف الإمكان على الحدوث من عطف العام على الخاص؛ إذ يلزم من الحدوث الإمكان دون العكس، فإن المعدوم يتصف بالإمكان ولا يتصف بالحدوث؛ لأنه الوجود بعد عدم.
قوله: (لما فيه من شائبة الاحتياج) تعليل لكون العجز أمارة الحدوث، وإنما قال من شائبة الاحتياج ولم يقل من الاحتياج المشعر بالاحتياج المحض؛ لأن وجوب وجود ذلك الأحد لكونه إلها يقتضي عدم الاحتياج، فعجزه فيه شائبة الاحتياج فقط لا الاحتياج المحض.
قوله: (فالتعدد…إلخ) مفرع على ما تقرر من الملازمة في الشرطية وإبطال اللازم.
وقوله: (مستلزم لإمكان التمانع) كما تفيده الملازمة في الشرطية.
وقوله: (المستلزم للمحال) أي: كما يفيده بطلان اللازم، والأصوب أن قوله “المستلزم للمحال” صفة للتمانع لا للإمكان؛ لأن التمانع بالفعل هو الذي يستلزم المحال الذي هو اجتماع الضدين، أو عجز أحد الإلهين.
وقوله: (فيكون محالا) أي: فيكون التعدد محالا، وهذا هو نتيجة القياس الذي ذُكرت شرطيته في قوله “لو أمكن إلهان…إلخ” وأشير لاستثنائيته بقوله “وحينئذ فإما أن يحصل…إلخ”.
قال الشارح: وهذا تفصيل ما يقال: إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة الآخر لزم عجزه، وإن قدر لزم عجز الآخر. وبما ذكرنا يندفع ما يقال: إنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع أو أن تكون الممانعة والمخالفة غير ممكن لاستلزامها المحال، أو أن يمتنع اجتماع الإرادتين كإرادة الواحد حركة زيد وسكونه معاً.
قال الباجوري:
قوله: (وهذا تفصيل ما يقال…إلخ) أي: ما ذكر في بيان بطلان لازم الشرطية تفصيل ما يقوله بعض المتكلمين…إلخ.
وقوله: (إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة الآخر لزم عجزه) أي: أن أحد الإلهين إن لم يقدر على مخالفة الإله الآخر في مراده لزم عجزه؛ لأن الأول سد عليه طريق إيجاد مراده بإيجاد ضده، وهذا هو الشق الثاني في التفصيل السابق المذكور بقوله “أولا لزم عجز أحدهما”.
وقوله: (وإن قدر لزم عجز الآخر) أي: وإن قدر على مخالفة الآخر في مراده لزم عجز الآخر؛ لأن إيجاد ضد ما أراده الآخر يستلزم انتفاء مراده، وهذا أيضا هو الشق الثاني في التفصيل الذي قد علمته، وحينئذ فلا يظهر جعل ما تقدم تفصيلا لهذا؛ لأن هذا بعض ما تقدم. قوله: (وبما ذكرنا) أي: من جَعْل اللازم في الشرطية إمكان التمانع لا التمانع بالفعل، كما صنعه بعض المتكلمين، ومن جَعْلِ التمانع ممكنا في نفسه، وإنما جاءت الاستحالة من غيره، وهو كون المرادين ضدين في محل واحد ووقت وواحد، ومن جعل تعلق الإرادة بكل من الحركة والسكون في نفسه أمرا ممكنا أيضا؛ لعدم التضاد بين الإرادتين.
وقوله: (يندفع ما يقال…إلخ) أي: يندفع عن برهان التمانع ما يقال في الاعتراض على غير الوجه الذي ذكره الشارح، وحاصله: منع الملازمة في الشرطية؛ لأحد أمور ثلاثة، الأول: جواز اتفاقهما من غير تمانع، والثاني: جواز أن تكون الممانعة والمخالفة مستحيلة؛ لاستلزامها المحال، والثالث: جواز أن يمتنع اجتماع الإرادتين كما يمتنع إرادة الواحد حركة زيد وسكونه معا.
قوله: (أنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع) أي: أن الحال والشأن يجوز أن يتفق الإلهان من غير حصول تمانع بينهما، وهذا مدفوع بجعل اللازم في الشرطية إمكان التمانع لا التمانع بالفعل، وحاصل الدفع: أن إمكان التمانع كاف في إثبات المطلوب؛ لاستلزامه المحال.
وقوله: (أو أن تكون الممانعة والمخالفة غير ممكنة) أي: ويجوز أن تكون الممانعة والمخالفة غير ممكنة، بأن تكون مستحيلة، وعطف المخالفة على الممانعة عطف تفسير.
وقوله: (لاستلزامها المحال) أي: لاستلزام الممانعة والمخالفة المحال السابق، الذي هو اجتماع الضدين أو عجز أحد الإلهين، وهذا مدفوع بجعل التمانع ممكنا في نفسه، وإنما جاءت الاستحالة من غيره وهو كون المرادين ضدين في محل واحد ووقت واحد، وحاصل الدفع أن الممانعة والمخالفة في نفسها ممكنة، والاستحالة إنما جاءت من الغير.
وقوله: (أو أن يمتنع اجتماع الإرادتين) أي: أو يجوز أن يمتنع اجتماع تعلقي الإرادتين بحركة زيد وسكونه في وقت واحد، فهو على حذف مضاف.
وقوله: (كإرادة الواحد حركة زيد وسكونه معا) أي: كما يمتنع إرادة الواحد بحركة زيد وسكونه معا؛ لأن اجتماعهما مستحيل والإرادة لا تتعلق بالمستحيل، وهذا مدفوع بجعل تعلق الإرادة بكل من الحركة والسكون في نفسه أمرا ممكنا؛ لعدم التضاد بين الإراتين أي: بين تعلقيهما، وهذا بخلاف تعلق إرادة الواحد بحركة زيد وسكونه معا؛ لاتحاد محل الإرادة. فقياس تعلق الإرادتين على تعلق الإرادة الواحدة، قياس مع الفارق، وحاصل الدفع: أن إرادة كل منهما أمر ممكن في نفسه لعدم التضاد بين الإرادتين، وقد وقع هنا في بعض الحواشي والشروح ما يخالف ذلك فتأمله.
قال الشارح: واعلم أن قول الله تعالى:ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ حجة إقناعية، والملازمة عادية، على ما هو اللائق بالخطابيات، فإن العادة جارية بوجود التمانع والتغالب عند تعدد الحاكم، على ما أشير إليه بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱠ وإلا فإن أريد به الفساد بالفعل، أيخروجهما عن هذا النظام المشاهد فمجرد التعدد لا يستلزمه، لجواز الاتفاق على هذا النظام المشاهد، وإن أريد إمكان الفساد فلا دليل على انتفائه، بل النصوص شاهدة بطي السماوات ورفع هذا النظام، فيكون ممكناً لا محالة.
قال الباجوري:
قوله: (واعلم أن قوله تعالى: ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ حجة إقناعية) أي: تفيد إقناعا للمسترشدين، وإن لم تفد إفحاما للجاحدين، وعلى هذا فدلالة الآية على عدم التعدد ظنية، وهذا مبني على أن المراد بالفساد في الآية: الخروج عن هذا النظام المشاهد بأن تسقط السماء على الأرض، والراجح أن الآية حجة قطعية أي: يقينية، وهذا مبني على أن المراد بالفساد في الآية عدم التكون أي: عدم الوجود، وقد جرى على ذلك الشارح في شرح المقاصد، حيث قال: إن أريد بالفساد في الآية عدم التكون، فتقريره أن يقال: لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض أي: بالفعل كما هو الظاهر المتبادر؛ لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين، بحيث صارت القدرتان كالقدرة الواحدة، أو بكل منهما بحيث تكون كل واحدة مستقلة، أو بإحداهما دون الأخرى، والكل باطل. أما بطلان الأول؛ فلأن من شأن الإلة كمال القدرة، وتكونهما بمجموع القدرتين مناف لكمال القدرة؛ لأنه يقتضي نقص القدرة، وأما بطلان الثاني؛ فلامتناع توارد علتين مستقلتين على معلول واحد، وتكونهما بكل من القدرتين يقتضي توارد علتين مستقلتين على معلول واحد؛ لأنه يستلزم دخول المقدور الواحد تحت قدرتين مستقلتين، وأما بطلان الثالث فلأنه ترجيح بلا مرجح؛ لأن نسبة الممكنات إلى الإلهين على السوية، وحينئذ تكونهما بإحدى القدرتين دون الأخرى ترجيح بلا مرجح. أ. ه. كلامه مع ما زدناه عليه لبيانه، ويرد عليه أن الترديد بين الأمور الثلاثة لا يخلو، فإما على تقدير التمانع الفرضي بين الإلهين، وإما على الإطلاق؛ أي: عدم التقييد بتقدير التمانع على ما هو الظاهر القريب إلى الفهم، فإن كان على تقدير التمانع الفرضي بين الإلهين، فحينئذ يرد منع الملازمة بأن يقال: لا نسلم أنه يلزم من تعدد الإله عدم تكون السماء والأرض المبني على تقدير التمانع الفرضي؛ لأن وجود الإلهين لا يستلزم وقوع ذلك التقدير عقلا؛ لجواز اتفاقهما وإن كان على الإطلاق، فحينئذ يمكن اختيار الأول: وهو أن تكونهما بمجموع القدرتين، ونمنع أن ذلك ينافي كمال القدرة؛ لأن كمال القدرة في نفسها لا ينافيه تعلقها بحسب الإرادة على وجه يكون للقدرة الأخرى مدخل فيه؛ لأنه على وفق الإرادة فيجوز أن تكون السماء والأرض بمجموع القدرتين، بحسب الإرادة على هذا الوجه، كما في أفعال العباد عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني على ما نسب إليه من أنه ذهب إلى أن أفعال العباد بمجموع قدرة الله وقدرة العبد، وإن كانت قدرة الله كاملة في نفسها، إلا أن إرادته تعالى تعلقت بها على وجه يكون لقدرة العبد مدخل فيها، وكذا يمكن اختيار الثالث: وهو أن تكونهما بإحدى القدرتين دون الأخرى ونمنع أن ذلك ترجيح بلا مرجح؛ لجواز أن يريد أحدهما الوجود بقدرة الآخر، أو يفوض بإرادته تكوين الأمور إلى الآخر ولا استحالة فيه؛ لأنه حينئذ ترجيح بمرجح. هذا والتحقيق في هذا المقام أنه: إن حملت الآية الكريمة على نفي تعدد الصانع مطلقا أي: سواء كان مؤثرا في السماء والأرض أم لا فهي حجة إقناعية؛ لأن الملازمة عادية لا عقلية على ما بينه الشارح، لكن الظاهر من الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض، حيث قال تعالى:ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ؛ إذ ليس المراد بالظرفية في السماء والأرض التمكن فيهما، وإن كان هو المعنى الحقيقي لاستحالة ذلك على الإله، وإنما المراد بها التأثير فيهما، والمعنى: لو كان المؤثر فيهما آلهة إلا الله لفسدتا أي: لم تتكونا، فالحق حينئذ أن الملازمة عقلية والآية حجة قطعية؛ إذ لا جائز أن يؤثرا فيهما بكل من القدرتين على أن كلا منهما علة مستقلة؛ لأن توارد علتين مستقلتين على معلول واحد باطل، وحينئذ فتأثيرهما إما على سبيل الاجتماع، بحيث يكون مجموع القدرتين علة واحدة، وإما على سبيل التوزيع بأن يكون المؤثر في بعض منهما إلها وفي البعض الآخر إلها، وحينئذ فيلزم انعدام كل من السماء والأرض إن كان التأثير على سبيل الاجتماع أو انعدام بعضهما، إن كان على سبيل التوزيع؛ لإمكان التمانع بينهما في الحالتين، فلا يكون أحدهما مانعا مع كونه جزء علة في الحالة الأولى، أو علة تامة في الحالة الثانية فيفسد؛ أي: لا يوجد هذا العالم المحسوس، كلا في الأولى أو بعضا في الثانية، وعدم وجود العالم كلا أو بعضا؛ لثبوت وجوده بالحس والمشاهدة، ويمكن أن توجه الملازمة بحيث تكون قطعية على الإطلاق؛ أي: سواء كان الصانع مؤثرا في السماء والأرض أم لا، بأن يقال لو تعدد الواجب لزم أن لا يكون العالم ممكنا، فضلا عن كونه موجودا وإلا بأن كان العالم ممكنا لأمكن التمانع المستلزم للمحال الذي هو اجتماع الضدين أو عجز أحد الإلهين؛ لأن إمكان التمانع لازم لمجموع الأمرين الذين هما التعدد وإمكان شيء من الأشياء. فإذا فرض التعدد يلزم أن لا يوجد شيء من الأشياء؛ لئلا يمكن التمانع المستلزم للمحال المذكور. واعترض هذا التوجيه بأ ن انتفاء إمكان العالم لا يستلزم الفساد؛ لجواز أن يكون واجبا، وأجيب بأن كونه واجبا علم بطلانه مما سبق، وحينئذ يكون انتفاء إمكانه مستلزما للفساد .
قوله: (والملازمة عادية) بيان لكون الآية حجة إقناعية، فالواو للتعليل، أي: وإنما كانت الآية حجة إقناعية؛ لأن الملازمة بين تعدد الإله والفساد المفسر بالخروج عن هذا النظام المشاهد عادية لا عقلية. واعترض بأن كون الملازمة عادية لا يستلزم كون الآية حجة إقناعية؛ لأن العادة موجبة للجزم الذي لا يحتمل النقيض، كعلمنا بأن جبل أحد حجر، وأما احتمال انقلابه ذهبا فمجرد فرض العقل، وذلك لا يوجب عدم الجزم الذي لا يحتمل النقيض. وأجيب بأن العادة موجبة للجزم المذكور في الشاهد لا في الغالب، على أن العادة إذا كانت أغلبية كما هنا لا تفيد الجزم، وقد صرح الآمدي بأن تلك الملازمة ليست خارجة عن مسالك الظن.
وقوله: (على ما هو اللائق بالخطابيات) أي: جريا على ما هو اللائق بالخطابيات التي تناسب أفهام العامة، والخطابيات بفتح الخاء المعجمة نسبة إلى الخطابة، وهي عند أهل المنطق: قياس مؤلف من مقدمات مقبولة أو مظنونة.
قوله: (فإن العادة جارية بوجود التمانع والتغالب عند تعدد الحكم) تعليل لقوله “والملازمة عادية” وعطف التغالب على التمانع من عطف التفسير.
وقوله: (على ما أشير إليه بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱠ) أي: جريا على ما أشير إليه بهذه الآية من لزوم وجود التمانع والتغالب لتعدد الحاكم، وإنما كان ذلك مشارا إليه بالآية وليس معنى لها؛ لأنها في تعدد الإله لا تعدد الحاكم؛ بدليل صدر الآية ونصها ﱡﭐ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱠ فيكون تعدد الحاكم مقيسا على تعدد الإله.
قوله: (وإلا أي) وإلا تكن حجة إقناعية، والملازمة عادية فلا يخلو.
وقوله: (فإن أريد الفساد بالفعل) أي: فإن أريد بالفساد في قوله تعالى: ﱡﭐﲴﱠ الفساد بالفعل.
وقوله: (أي خروجهما عن هذا النظام المشاهد) أي: خروج السماء والأرض عن النظام القائم بهما ككون السماء مرتفعة من غير عمد وكون الأرض منبسطة، وإنما فسر الفساد بالخروج عن هذا النظام المشاهد لا بعدم الوجود؛ لأن التمانع في العادة لا يفضي إلى الانعدام بالكلية، بل يفضي إلى الاختلال.
وقوله: (فمجرد التعدد لا يستلزمه) أي: فمجرد تعدد الإله لا يستلزم الفساد بالفعل، وهذا سند لمنع الملازمة على التقدير المذكور.
وقوله: (وإن أريد إمكان الفساد) أي: وإن أريد بالفساد في قوله تعالى: ﱡﭐﲴﱠ إمكان الفساد، ويكون معنى قوله تعالى: ﱡﭐﲴﱠ لأمكن فسادهما.
وقوله: (فلا دليل على انتفائه) أي: فلا دليل على انتفاء إمكان الفساد، وهذا منع للاستثنائية القائلة: لكن إمكان الفساد باطل أي: منتف. والحاصل أن هذا الدليل المصرح بشرطيته في قوله تعالى:ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ إما أن يراد بالفساد فيه: الفساد بالفعل أو إمكان الفساد، فإن أريد الفساد بالفعل منعت الملازمة، وإن أريد إمكان الفساد منع بطلان اللازم أي: انتفاؤه.
قوله: (بل النصوص شاهدة بطي السماوات ورفع هذا النظام) أي: بل النصوص القرآنية والسنية شاهدة بطي السماوات ورفع هذا النظام المشاهد، فمن النصوص الشاهدة بطي السماوات قوله تعالى:ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱠ، ومن النصوص الشاهدة برفع هذا النظام قوله تعالى: ﱡﭐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖﱠ وقوله: (فيكون ممكنا لا محالة) أي: لأن وقوع الرفع بالفعل يستلزم إمكانه؛ إذ لا يقع في الوجود إلا الممكن، فالوقوع أدل دليل على الإمكان، والغرض من قوله “بل النصوص شاهدة…إلخ” الترقي في المنع والمبالغة فيه، حيث انتقل من نفي الدليل على انتفاء إمكان الفساد إلى كون النصوص شاهدة بثبوت الإمكان.
قال الشارح: لا يقال: الملازمة قطعية والمراد بفسادها عدم تكونهما، بمعنى أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع في الأفعال، فلم يكن أحدهما صانعاً، فلم يوجد مصنوع. لأنا نقول: إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع، وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع، على أنه يرد منع الملازمة إن أريد عدم التكون بالفعل، ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان.
قال الخيالي:
قوله: (وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع) لجواز أن يوجد بأحدهما ابتداء وهذا الجواب مبني على أن الظاهر المتبادر عدم التكون بالفعل، فمعنى قوله “على أنه إلخ” أنه يمكن أن لا يبنى على الظاهر بل يفصل وتمنع الملازمة على تقدير وانتفاء اللازم على تقدير آخر فتدبر، قال الشارح في شرح المقاصد إن أريد بالفساد عدم التكون فتقريره أن يقال: لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض؛ لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما والكل باطل. أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة، وأما الثاني فلامتناع توارد العلتين المستقلتين، وأما الثالث فلأنه ترجيح بلا مرجح، ويرد عليه أن الترديد: إما على تقدير التمانع الفرضي، فحينئذ يرد منع الملازمة لأن وجودهما لا يستلزم وقوع ذلك التقدير عقلا، وإما على الإطلاق فحينئذ يمكن اختيار الأول وكمال القدرة في نفسها لا ينافي تعلقها بحسب الإرادة على وجه يكون للقدرة الأخرى مدخل كما في أفعال العباد عند الأستاذ، وكذا يمكن اختيار الثالث بأن يريد أحدهما الوجود بقدرة الآخر أو يفوض بإرادته تكوين الأمور إلى الآخر ولا استحالة فيه، والتحقيق في هذا المقام أنه إن حمل الآية الكريمة على نفي تعدد الصانع مطلقا فهي حجة اقناعية لكن الظاهر من الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض؛ حيث قال الله تعالى:ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ إذ ليس المراد التمكن فيهما، فالحق حينئذ أن الملازمة قطعية؛ إذ التوارد باطل فتأثيرهما: إما على سبيل الاجتماع أو التوزيع فيلزم انعدام الكل أو البعض عند عدم كون أحدهما صانعا؛ لأنه جزء علة أو علة تامة فيفسد العالم أي: لا يوجد هذا المحسوس كلا أو بعضا، ويمكن أن توجه الملازمة بحيث تكون قطعية على الإطلاق، وهو أن يقال: لو تعدد الواجب لم يكن العالم ممكنا فضلا عن الوجود، وإلا لأمكن التمانع المستلزم للمحال؛ لأن إمكان التمانع لازم لمجموع أمرين من التعدد وإمكان شيء من الأشياء فإذا فرض التعدد يلزم أن لا يمكن شيء من الأشياء حتى لا يمكن التمانع المستلزم للمحال.
قوله: (ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان) لو أريد باللازم عدم التكون بالإمكان مع وجود علته التامة لتم الأمر، لكنه بعيد.
قال السيالكوتي:
قوله: (وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع…إلخ) يعني أن إمكان التمانع لكونه محالًا إنما يستلزم أن يكون التعدد المستلزم له محالًا لا أن لا يوجد
مصنوع بالفعل لجواز أن يوجد بإرادة أحدهما ابتداءً من غير وقوع التمانع فإن الإمكان لايستلزم الوقوع فعلى هذا التقدير ضمير قوله وهو لايستلزم إلخ راجع إلى إمكان التمانع ويحتمل أن يكون راجعًا إلى عدم تعدد الصانع فالمعنى أن التمانع إنما يستلزم عدم تعدد الصانع وهذا لايستلزم انتفاء المصنوع بل المستلزم له هو أن لا يكون واحد منهما صانعًا بمعنى السلب الكلي الذي يستلزمه وقوع التمانع ومآل الجواب على كلا التقديرين واحد وهو منع الملازمة كما لايخفى. تأمل فإنه دقيق.
قوله: (وهذا الجواب مبني على…إلخ) يعني أن الظاهر المتبادر من قوله: عدم تكونهما عدم التكون بالفعل إذ حاصل الجواب على ماعرفت أنا لانسلم أن إمكان التمانع يستلزم عدم تكونهما بالفعل فإن إمكان التمانع لايستلزم وقوعه فيجوز أن يوجد بإرادة أحدهما قبل وقوعه.
قوله: (فمعنى قوله…إلخ) أي: إذا عرفت أن هذا الجواب مبني على الظاهر فاعلم أن معنى العلاوة أنه يمكن أن لايبنى على الظاهر المتبادر بل يفصل ويقال إن أردتم بلزوم عدم التكون بالفعل فيمنع الملازمة فإن المستلزم له الوقوع لا الإمكان فيجوز أن يوجد بإرادة أحدهما قبل وقوعه وإن أردتم به عدم التكون بالإمكان فالملازمة مسلمة فإن إمكان التمانع يستلزم إمكان عدم التكون لكن لانسلم بطلان اللازم بل لا بد له من دليل.
قوله: (فتدبر) أي: تدبر فيما قلنا من تحرير العلاوة حتى يظهر لك أنه يستلزم دفع ما قيل: إن ماسبق على العلاوة منع الملازمة فلا معنى لإيراده بعينه في العلاوة.
قوله: (لو تعدد الإله لم يتكون السماء والأرض) أي: لم يتكونا بالفعل كما هو الظاهر المتبادر.
قوله: (وأما الثالث…إلخ) لأن مقتضى القادرية ذات الإله ومصحح المقدورية إمكان الممكن فنسية الممكنات إلى الإلهين المفروضين على السوية فاندفع ما قيل : إنه يجوز أن يكون لبعض الممكنات خصوصية بالنسبة إلى أحدهما فلا يلزم الترجيح بلا مرجح.
قوله: (و يرد عليه أن الترديد…إلخ) يعني أن الترديد المذكور بقوله لأن تكونهما إما بمجموع إلخ إما على تقدير التمانع المفروض بأن يكون تحرير الدليل هكذا لو أمكن إلهان لم يتكمون السماء والأرض؛ لأنه يمكن التمانع بينهما في إيجادهما بأن يريد كل واحد من الإلهين إيجادهما على سبيل الاستقلال فعلى تقدير التمانع تكونهما إما بمجموع القدرتين فيلزم نقص قدرتيهما لأن إرادتيهما قد تعلقت بإيجادهما على سبيل الاستقلال والقدرة لم تف به أو بكل منهما فيلزم التوارد أو بأحدهما فيلزم الترجيح بلا مرجح فحينئذ يرد عليه منع الملازمة بأنا لانسلم أنه لو تعدد الإله لم يتكون السماء والأرض؛ لأن وجود الإلهين لايستلوم وقوع التمانع في الإيجاد عقلًا حتى يلزم المحال بل إمكانه وهو لايستلزم الوقوع فيجوز أن يتكونا قبل وقوع التمانع بإرادة واحد منهما أو بتفويض أحدهما إلى الآخر وإنما قال عقلًا لأن تعدد الحاكمين المستقلين يستلزم وقوع التمانع في الحكم عادة على مافي الشرح.
قوله: (وأما على الإطلاق…إلخ) يعني أن الترديد المذكور إما أن يكون على الإطلاق بدون اعتبار التمانع على ما هو الظاهر القريب إلى الفهم غير المحتاج إلى البيان فحينئذ نختار الشق الأول وهو أن تكونهما واقع بمجموع القدرتين وقولكم إنه ينافي كمال القدرة قلنا يجوز أن يكون وقوعه بمجموع القدرتين بحيث يتعلق الإرادة عى هذا الوجه أي: بأن يكون للقدرة الأخرى مدخل فيه وهذا لا ينافي كمال القدرة في نفسها وإنما المنافي له أن يتعلق الإرادة بوجود المقدور بحيث لا يكون للقدرة الأخرى مدخل فيه وكان واقعًا بمجموعهما فإنه يلزم نقصان القدرة لأن كمال القدرة إنما يكون على وفق الإرادة.
قوله: (كما في أفعال العباد عند الأستاذ) فإنه ذهب إلى أن أفعال العباد واقعة بمجموع قدرة الله تعالى وقدرة العبد وأن قدرة الله وإن كانت كاملة كافية في حصولها إلا أن إرادته تعالى تعلقت بأن يكون لقدرة العبد أيضًا مدخل فيها.
قوله: (وكذا يمكن اختبار الثالث) وهو أن يكون التكون بأحدهما ولانسلم أنه يستلزم الترجيح بلا مرجح لم لايجوز أ، يكون المرجح إرادة أحدهما الوجود بتوسط قدرة الآخر أو تفويض أحدهما إرادة تكوين جميع الأمور إلى الآخر وكذا يجوز أن يكون كل منهما مستقلًا في الإيجاد لكن أراد أحدهما وجوده فوجد ولم يرد الآخر وجوده ولاعدمه ولااستحالة في ذلك.
قوله: (والتحقيق في هذا…إلخ) أي: التحقيق في أن الآية حجة قطعية أو إقناعية أنه إن حمل الآية على نفي تعدد الصانع مطلقًا سواء كان مؤثرًا بالفعل أولا فهي إقناعية لاتفيد القطع فإنه سواء أريد لفساد الخروج عن هذا النظام أو عدم التكون يرد منع الملازمة إن أريد بالفعل ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان على مابينه الشارح لكن الظاهر من منطوق الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض، حيث قال الله تعالى:ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ فإنه ليس المراد باظرفية المعنى الحقيقي؛ أعني: التمكن لأن الإله منزه عن التمكن فيكون المراد التصرف والتأثير فيهما والمعنى أنه لو كان المؤثر فيهما آلهة لفسدتا أي: لم تكونا فالحق حينئذ أن الملازمة قطعية والآية حجة قطعية إذ تأثير الإلهين في تكونهما على سبيل التوارد بأن يوجد بكل منهما على حدة محال لامتناع التوارد فتأثيرهما في تكونهما إما على سبيل الاجتماع بأن يكون تكونهما بمجموع قدرتيهما أو على سبيل التوزيع والتقسيم بأن يكون المؤثر في بعض منها إله وفي بعض آخر إله آخر فنقول لو أمكن إلهان مؤثران فيهما على سبيل التوزيع أو الاجتماع لأمكن التمانع بينهما ضرورة كون كل منهما صانعًا تام القدرة لكن إمكان التمانع محال لاستلزامه المحال فلا يكون أحدهما صانعًا وإذا لم يكن أحدهما صانعًا يلزم انعدام كل من السماء والأرض وعدم وجوده إن كان التأثير على سبيل الاجتماع ضرورة انعدام جزء علة لكل المستلزملانعدام علته أو انعدام البعض إن كان على سبيل التوزيع لانتفاء علته التامة فعلى تقدير تعدد المؤثر في العالم يلزم أن يفسد العالم بمعنى أن لا يوجد هذا المحسوس لأن التعدد يستلزم إمكان التمانع المستلزم لأن لا يكون أحدهما صانعًا المستلزم لعدم تكون العالم كلًا على تقدير الاجتماع وبعضًا على تقدير التوزيع فمعنى قوله: فيلزم انعدام الكل إلخ أنه على تقدير أن يكون التأثير على سبيل الاجتماع أو التوزيع يلزم عدم وجود الكل أو البعض عند عدم كون أحدهما صانعًا الذي يستلزمه إمكان التمانع الذي يستلزمه تعدد الصانع وبما حررنا لك ظهر أن ما قاله المحشي المدقق فيه أنه يجوز أن لايعدم كون أحدهما صانعًا فلا يلزم انعدام الكل ولا البعض وإن أريد أنه يلزم انعدام الكل أو البعض بالإمكان فانتفاء اللازم ممنوع ليس بشيء منشأه قلة التدبير فإن عدم كون أحدهما صانعًا لازم لإمكان التمانع الذي هو لازم لإمكان التعدد كما لايخفى والفاضل الجلبي لم يحم حول المقصود فوقع فيما وقع واعلم أنه يمكن حمل قوله: لا يقال الملازمة قطعية على هذا التوجيه وحينئذ لايتم الجواب المذكور كما لايخفى على المتأمل هذا نهاية ماتيسر لي من تحرير الكلام وتقرير المرام بعون الله الملك العلام.
قوله: (ويمكن أن يوجه الملازمة…إلخ) أي: يمكن توجيه الملازمة في الآية بحيث يفيد نفى تعدد الصانع على سبيل القطع مطلقًا سواء كان مؤثرًا بالفعل أولا وهو أن يقال: المراد بالفساد عدم التكون بالفعل والمعنى لو أمكن تعدد الواجب الذي من شأنه التأثير والإيجاد لم يكن العالم ممكنًا فضلًا عن أن يكون موجودًا لأن وجوده فرع إمكانه لكونه حادثًا وإلا أي: وإن كان العالم ممكنًا حين تعدد الواجب لأمكن التمانع بينهما ضرورة كون كل منهما قادرًا تامًا وتحقق مصحح مقدوريتها؛ أعني: إمكان المصنوع لكن إمكان التمانع محال لاستلزامه المحال على ما مر فلا يكون العالم ممكنًا لأن إمكان التمانع لازم لمجموع الأمرين؛ أعني: التعدد وإمكان شيء من الأشياء فإذا كان التعدد مفروضًا يلزم أن لا يكون شيئ من الأشياء ممكنًا حتى يلزم إمكان التمانع الذي هو محال وبما حررنا اندفع ما قيل: إن عدم إمكان العالم لايستلزم الفساد بمعنى عدم التكون لجواز كونه واجبًا لأن كون العالم واجبًا معلوم بطلانه مما سبق من كونه بجميع أجزائه حادثًا إذ الواجب لا يكون حادثًا ولايخفى عليك أنه يمكن حمل مانقله المحشي من شرح المقاصد على هذا التوجيه بأن يكون المراد بقوله لم يتكون السماء والأرض لم يمكن تكونهما ويكون الترديد على تقدير التمانع الفرضي وهذا ظاهر عند المتأمل.
قوله: (لو أريد باللازم…إلخ) نقل عنه تقرير الدليل هكذا لو وجد صانعًا لأمكن التمانع بأن يريد كل منهما إيجاد المصنوع على وجه الاستقلال فأمكن أن لا يوجد المصنوع مع وجود علته التامة وهي إرادة كل منهما لامتناع أن يوجد بهما أو بكل منهما أو بأحدهما لكن حمل الفساد في الآية على هذا المعنى مما لايخفى بعده. انتهى كلامه.
قوله: (لامتناع…إلخ) دليل لقوله فأمكن أن لا يوجد المصنوع ووجه البعد أن إرادة عدم التكون من الفساد خلاف الظاهر فكيف يقيده بالإمكان ثم يقيده بمنع وجود علته التامة.
قوله: (لم الأمر) يعني لم أمر الدليل وكونه حجة قطعية لتحقق الملازمة وانتفاء اللازم قطعًا أما الملازمة فلأن التعدد يستلزم إمكان التمانع وهو يستلزم عدم التكون بالإمكان مع وجود العلة التامة وأما انتفاء اللازم فلما تقرر من أن عدم المعلول مع وجود علته التامة ممتنع وإلا لم يكن العلة التامة تامة.
قال الباجوري:
قوله: (لا يقال الملازمة قطعية والمراد بفسادهما عدم تكونهما) أي: لا يقال ذلك اعتراضا على جعل الملازمة عادية، المبني على أن المراد بفسادهما خروجهما عن هذا النظام. وحاصله أنا لا نسلم أن الملازمة عادية حتى تكون الآية حجة إقناعية، بل الملازمة قطعية؛ لكونها عقلية والمراد بفسادهما عدم تكونهما أي: عدم وجودهما، وليس المراد به الخروج عن هذا النظام بالفعل أو الإمكان كما تقدم.
وقوله: (بمعنى…إلخ) بيان لكون الملازمة قطعية، وأشار بذلك إلى أن في الآية إضمار واسطتين، الأولى: إمكان التمانع، الثانية: انتفاء كون أحدهما صانعا، فلزوم الفساد بمعنى عدم الوجود للتعدد بهاتين الواسطتين.
وقوله: (أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع) أي: أن الحال والشأن لو فرض إلهان صانعان لأمكن بينهما تمانع وتخالف، والملازمة في هذه الشرطية مسلمة.
وقوله: (فلم يكن أحدهما صانعا) أي: وإذا أمكن التمانع فلم يكن أحدهما صانعا، بمعنى أنه لم يكن واحد منهما صانعا لمنع الآخر إياه مما قصده، والملازمة في هذه الشرطية غير مسلمة كما سيذكره الشارح بقوله “لأنا نقول…إلخ”.
وقوله: (فلم يوجد مصنوع) أي: وإذا لم يكن أحدهما صانعا فلم يوجد مصنوع؛ لامتناع وجود مصنوع بدون صانع. والحاصل أنه يلزم من فرض التعدد عدم وجود المصنوع بواسطتين؛ لأن لازم لازم اللازم لشيء لازم لذلك الشيء.
قوله: (لأنا نقول إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع) أي: لأنا نقول في رد ما يقال إمكان التمانع بين الصانعين الذي هو لازم التعدد لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع، وأما عدم كون أحدهما صانعا المبني عليه عدم وجود المصنوع فلا يستلزمه إمكان التمانع؛ لأنه لا يلزم من إمكان التمانع وقوع التمانع بالفعل؛ لجواز الاتفاق، فيكون أحدهما صانعا بتفويض الآخر له.
وقوله: (وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع) أي: وعدم تعدد الصانع لا يستلزم انتفاء المصنوع؛ لجواز أن يوجد بأحدهما ابتداء من غير وقوع التمانع، وهذا الجواب مبني على أن الظاهر المتبادر عدم التكون بالفعل؛ إذ حاصله أنا لا نسلم أن تعدد الصانع يستلزم عدم وجود المصنوع، بخلاف الجواب المذكور بالعلاوة المذكورة بعد ذلك، فإنه ليس مبنيا على ذلك، بل هو مبني على الترديد، فمعنى قوله “على أنه…إلخ” أنه يمكن أنه لا ينبني على الظاهر بخصوصه، بل يفصل بأن يقال: إن أريد عدم التكون بالفعل فتمنع الملازمة؛ لأن المستلزم له وقوع التمانع لا إمكانه، وإن أريد عدم التكون بالإمكان، فتمنع الاستثنائية القائلة: لكن اللازم باطل أي: منتف؛ لأن إمكان التمانع يستلزم إمكان عدم التكون، ولأن الفاعل المختار له أن لا يوحدهما، فيكون عدم تكونهما أمرا ممكنا بقطع النظر عن وجودهما بالمشاهدة، وبهذا التقرير اندفع ما قيل: إن ما سبق على العلاوة منع الملازمة، فلا معنى لإيراده بعينه في العلاوة، فتدبر.
قوله: (على أنه…إلخ) أي: ولنجر على أنه…إلخ، والضمير للحال والشأن،
وقوله: (يرد منع الملازمة) يرد على السائل منع الملازمة بين التعدد وعدم التكون.
وقوله: (إن أريد عدم التكون بالفعل) أي: إن أريد بعدم التكون المذكور في كلام السائل عدم التكون بالفعل كما هو الظاهر المتبادر.
وقوله: (ومنع انتفاء اللازم) أي: ويرد منع انتفاء اللازم الذي إفادته الاستثنائية القائلة، لكن اللازم باطل أي: منتف،
وقوله: (إن أريد بالإمكان) أي: إن أريد بعدم التكون المذكور في كلام السائل عدم التكون بالإمكان، ولو أريد باللازم عدم التكون بالإمكان مع وجود العلة التامة التي هي إرادة كل منهما إيجاده على وجه الاستقلال، لتم أمر الدليل وكانت الآية حجة قطعية؛ لانتفاء اللازم قطعا، وتقرير الدليل عليه أن يقال: لو وجد صانعان لأمكن بينهما التمانع، وإذا أمكن التمانع، أمكن أن لا يوجد المصنوع مع وجود علته التامة، وهو باطل قطعا، لكن هذا التقرير بعيد؛ لأن إرادة عدم التكون من الفساد خلاف الظاهر.
قال الشارح: فإن قيل: مقتضى كلمة لو أن انتفاء الثاني في الزمان الماضي بسبب انتفاء الأول، فلا يفيد إلا الدلالة على أن انتفاء الفساد في الزمان الماضي بسبب انتفاء التعدد. قلنا: نعم بحسب أصل اللغة، لكن قد تستعمل للاستدلال بانتفاء الجزاء على انتفاء الشرط من غير دلالة على تعيين زمان، كما في قولنا: لو كان العالم قديماً لكان غير متغير، والآية من هذا القبيل، وقد يشتبه على بعض الأذهان أحد الاستعمالين بالآخر، فيقع في الخبط.
قال الخيالي:
قوله: (فلا يفيد إلا الدلالة…إلخ) أي: فيلزم أن يكون كلا الانتفاءين الماضيين مقررين لكن تعلل الثاني بالأول بحسب الماضي، والمقصود
بيان تحقق الانتفاء الأول بحسب جميع الأزمنة بدليل تحقق الانتفاء الثاني.
قوله: (من غير دلالة على تعيين الزمان) ولو سلم الدلالة على تعيين الماضي لتم المقصود أيضا؛ لأن الحادث لا يكون إلها.
قال السيالكوتي:
قوله: (فيلزم…إلخ) إذا كان كلمة لولا تفيد إلا الدلالة على أن انتفاء الثاني لانتفاء الأول في الزمان الماضي يلزم أن يكون كلا الانتفاءين الماضيين؛ أعني: انتفاء التعدد وانتفاء الفساد أمرين مقررين معلومين للسامع لكن قصد بإدخال لو عليهما تعليل الثاني بالأول كما أن قولك لو جئتني لأكرمتك يدل على أن كلا الأمرين معلوم الأمرين معلوم الانتفاء عند السامع لكن انتفاء الثاني لأجل انتفاء الأول وهو ليس بمقصود من الاستدلال بل المقصود منه بيان تحقق انتفاء الأول بحسب جميع الأزمنة الماضية والحالية والاستقبلالية بدليل تحقق انتفاء الثاني المقرر عند السامع والآية لاتفيده فلا يكون استدلالًا.
قوله: (ولو سلم الدلالة…إلخ) يعني ولو سلم دلالة الآية على أن انتفاء التعدد في الزمان الماضي بسبب انتفاء الفساد فيه تم المقصود؛ أعني: إثبات وحدة الصانع مطلقًا بدليل انتفاء الفساد في الماضي لأنه إذا ثبت انتفاء التعدد في الزمان الماضي يكون ماجاء به التعدد في الحال والاستقبال حادثًا والحادث لا يكون إلهًا فلا يكون ماجاء به التعدد إلهًا فيكون الصانع واحدًا.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل :…إلخ) هذا السؤال وارد على الاستدلال بالآية، وحاصله: منع أن الآية تثبت المدعى الذي هو انتفاء تعدد الإله في جميع الأزمنة، وإنما تثبت انتفاء الفساد في الزمان الماضي بسبب انتفاء التعدد؛ لأن ذلك هو مقتضى كلمة “لو”
وقوله: (مقتضى كلمة لو) أي: مقتضى كلمة هي” لو” فالإضافة للبيان.
وقوله: (إن انتفاء الثاني في الماضي بسبب انتفاء الأول) أي: أن انتفاء الجزاء في الزمن الماضي بسبب انتفاء الشرط في الزمن الماضي.
قوله: (فلا يفيد إلا الدلالة…إلخ) وإن اعتبر هذا المقتضى في الآية، فلا يفيد إلا الدلالة…إلخ، ويلزم من ذلك أن يكون كلا الانتفاءين الماضيين، وهما انتفاء التعدد وانتفاء الفاسد أمرين مقررين عند السامع، لكن يعلل الأول بالثاني بحسب الماضي، كما في قولك: لو جئتني لأكرمتك، وهذا المعنى ليس مقصودا هنا، بل المقصود بيان تحقق انتفاء الأول، الذي هو التعدد بحسب جميع الأزمنة؛ أعني: الماضي والحال والاستقبال، بدليل تحقق انتفاء الثاني الذي هو الفساد، وليس كلا الانتفاءين مقررين عند السامع، بل الأول مجهول والثاني مقرر عند السامع؛ فلذلك استدل على الأول بالثاني.
قوله: (قلنا نعم بحسب أصل اللغة) أي: قلنا في الجواب عن القيل المذكور. نعم مقتضى كلمة “لو” بحسب أصل اللغة؛ أي: الكثير والغالب في اللغة، فالمراد من أصل اللغة الكثير والغالب فيها، كما يفهما من مقابلته بـ”قد” التي للتقليل،
وقوله: (لكن قد تستعمل للاستدلال…إلخ) أي: قد تستعمل كلمة “لولا” استعمالا قليلا في اللغة للاستدلال…إلخ فيكون لـ”لو” في اللغة استعمالان، أحدهما: كثير شائع وهو المذكور في السؤال، وثانيهما: قليل وهو الاستدلال المذكور، وعلى الأول: أهل النحو وعلى الثاني: أرباب المعقول وما دل عله ظاهر كلامه في شرح التلخيص من أن استعمالها في الاستدلال استعمال منطقي، فقد رده المحقق الشريف بأن القرآن لم ينزل إلا على لغة العرب دون الاصطلاح، فالصواب: أنه استعمال لغوي أيضا إلا أن الأشيع هو الأول.
قوله: (بانتفاء الجزاء) أي: المعلوم للمخاطب،
وقوله: (على انتفاء الشرط) أي: المجهول للمخاطب، وفي كلام الشارح تفنن حيث عبر أولا بالثاني والأول، وعبر ثانيا بالجزاء والشرط. وقوله: (من غير دلالة على تعيين زمان) أي: من غير دلالة لكلمة “لو” على تعيين زمان بأن تدل على خصوص الزمن الماضي، ولو سلمت دلالة كلمة “لو” في هذا الاستعمال على تعيين الماضي، لتم المقصود أيضا، وهو إثبات وحدة الصانع بحسب جميع الأزمنة؛ لأنه إذا ثبت انتفاء التعدد في الزمان الماضي يكون ما حصل به التعدد في الحال أو الاستقبال حادثا، والحادث لا يكون إلها فيكون الصانع واحدا.
قوله: (كما في قولنا لو كان العالم قديما لكان غير متغير) أي: فإنه قد استعملت كلمة “لو” في ذلك للاستدلال بانتفاء الجزاء الذي هو عدم التغير على انتفاء الشرط الذي هو القدم من غير دلالة على تعيين زمان.
وقوله: (والآية من هذا القبيل) أي: والآية المذكورة من هذا الاستعمال القليل.
قوله: (وقد يشتبه على بعض الأذهان أحد الاستعمالين بالآخر فيقع الخبط) أي: كما وقع لابن الحاجب وكثير من المتأخرين، حيث نظروا إلى الاستعمال الثاني القليل، فاعترضوا قول النحاة أن “لو” لامتناع الثاني لا امتناع الأول، قالوا والصحيح أنها موضوعة لامتناع الأول لا امتناع الثاني.أ.ه. ورد عليهم بأن ما قاله النحاة مبني على الاستعمال الأول في كلمة “لو” لا على الاستعمال الثاني فيها، وحينئذ لا اعتراض عليهم، فالحق أن كلا من الاستعمالين ثابت، وأن الأول بحسب أصل اللغة والثاني قليل فيها.
القديمُ
قال الشارح: (القديم) هذا تصريح بما علم التزاماً، إذ الواجب لا يكون إلا قديماً، أي: لا ابتداء لوجوده، إذ لو كان حادثاً مسبوقاً بالعدم لكان وجوده من غير ضرورة، حتى وقع في كلام بعضهم أن الواجب والقديم مترادفان، لكنه ليس بمستقيم، للقطع بتغاير المفهومين، وإنما الكلام في التساوي بحسب الصدق، فإن بعضهم على أن القديم أعم لصدقه على صفات الواجب، بخلاف الواجب فإنه لا يصدق عليها، ولا استحالة في تعدد الصفات القديمة، وإنما المستحيل في تعدد الذوات القديمة.
قال الخيالي:
قوله: (لكنه ليس بمستقيم للقطع بتغاير المفهومين) لأن قدماء المتكلمين يريدون بالترادف التساوي، وقال في التبصرة الإيمان والإسلام من قبيل الأسماء المترادفة وكل مؤمن مسلم وبالعكس ثم بين لكل منهما مفهوما على حدة.
قال السيالكوتي:
قوله: (قدماء المتكلمين…إلخ) يعني أن ما وقع في كلام البعض من الحكم بترادف الواجب والقديم مستقيم بأن يكون المراد به التساوي في الصدق دون ما هو المشهور من الاتحاد في المفهوم فإن قدماء المتكلمين قد يريدون بالترادف التساوي في الصدق حيث ذكر الشيخ أبو المعين أن الإيمان والإسلام من الأسماء المترادفة بمعنى أنه يصدق كل منهما على الآخر ثم بين لكل منهما مفهومًا على حدة وماقيل : من أنه يحتمل أن يكون لكل منهما أو لأحدهما معنيان أحدهما مشترك بينهما والآخران متغايران والترادف باعتبار المشترك وعدمه باعتبار المتغايران فالتأييد ليس على ماينبغي فمجرد احتمال إذ ليس في عبارته ولا في عبارة القوم مايشعر بكونهما من الألفاظ المشتركة.
قال الباجوري:
قوله: (القديم) هذا إشارة إلى مبحث القدم، وهو خبر آخر عن قوله “والمحدث للعالم” وعلم من ذلك صحة إطلاق القديم عليه تعالى، وقد ورد في بعض الروايات بدل الأول.
قوله: (هذا تصريح بما علم التزاما) أي: قول المصنف القديم تصريح بما علم من قوله فيما سبق “والمحدث للعالم” هو الله بطريق الالتزام؛ لأنه قد بين المراد من الله بأنه الذات الواجب الوجود، وواجب الوجود لا يكون إلا قديما كما صرح به الشارح، حيث قال “إذ الواجب لا يكون إلا قديما”؛ إذ المتبادر أنه علة لقوله “علم التزاما” ويحتمل أنه تعليل لدعوى المصنف أن المحدث للعالم قديم.
قوله: (إذ الواجب لا يكون إلا قديما) أي: إذ الواجب لذاته المفهوم من لفظ الجلالة في قوله “هو الله تعالى” لا يكون إلا قديما لما تقدم من أن واجب الوجود هو الذي لا يسبقه عدم ولا يلحقه عدم.
وقوله: (لا ابتداء لوجوده) تفسير لقوله” قديما” فالمراد بالقديم في حقه تعالى ما لا ابتداء لوجوده، وليس المراد به ما تطاول زمنه بخلافه في حق غيره، كما في قولهم هذا بناء قديم ونحو ذلك، فإن المراد بالقديم في حق غيره تعالى ما تطاول زمنه، وليس المراد به ما لا ابتداء لوجوده. قوله: (إذ لو كان حادثا…إلخ) أي: إذ لو كان الواجب حادثا…إلخ، وهو تعليل لقوله “لا يكون إلا قديما”
وقوله: (مسبوقا بالعدم) تفسير لقوله “حادثا باللازم” لأن الحادث هو الموجود بعد عدم، ويلزم من ذلك أن يكون مسبوقا بالعدم،
وقوله: (لكان وجوده من غيره ضرورة) أي: وإذا كان وجوده من غيره ضرورة لم يكن واجبا؛ لأنه لا معنى للواجب إلا ما كان وجوده من ذاته مع أن الغرض أنه واجب.
قوله: (حتى وقع في كلام بعضهم…إلخ) غاية لقوله “إذ الواجب لا يكون إلا قديما”،
وقوله: (مترادفان) أي: لفظان مترادفان على معنى واحد.
قوله: (لكنه ليس بمستقيم للقطع بتغاير المفهومين) أي: لكن ما وقع في كلام بعضهم من أن الواجب والقديم مترادفان ليس بمستقيم، للجزم بأن مفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر؛ إذ مفهوم الواجب ما كان وجوده من ذاته، ومفهوم القديم الذي لا ابتداء لوجوده أو ما لا ابتداء له، وجوديا كان أو عدميا، على الخلاف في ذلك، وحينئذ فلا يكونان مترادفين، فإن المترادفين هما المتحدان ماصدقا ومفهوما، كلفظ: إنسان وبشر، بخلاف المتساويين، فإنهما المتحدان ماصدقا المختلفان مفهوما، كلفظ: ناطق وضاحك، لكن قدماء المتكلمين يريدون بالترادف التساوي، قال في التبصرة: الإيمان والإسلام من قبيل الأسماء المترادفة، وكل مؤمن مسلم وبالعكس، ثم بين لكل منهما مفهوما على حدة. أ.ه. فأنت تراه قد أطلق الترادف وأراد به التساوي، باعتبار محل الإيمان والإسلام، فكل محل للإيمان محل للإسلام وعكسه، وحينئذ يقال: ما وقع في كلام بعضهم من أن الواجب والقديم مترادفان ليس مبنيا على المشهور، بل هو مبني على اصطلاح قدماء المتكلمين، وقال بعضهم: مراد الشارح أن هذا البعض لما رأي الواجب والقديم ملازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر، فهم أنهما مترادفان بالمعنى المشهور؛ فلذلك رده الشارح، فلعله وجد في كلام بعضهم ذلك، وعدم وجدانك لا يدل على عدم الوجود في نفس الأمر.
قوله: (وإنما الكلام في التساوي بحسب الصدق) أي: لا كلام في التغاير بحسب المفهوم، وإنما الكلام في التساوي بحسب الصدق، أي: بحيث يصدق كل منهما على ما يصدق عليه الآخر، كما في الكاتب والضاحك، وفي عبارته حذف، والتقدير: وإنما الكلام في التساوي بحسب الصدق وعدم التساوي، وإن شئت قلت مراده التساوي وجودا وعدما، فقيل : هما متساويان، وقيل : القديم أعم من الواجب. وقد أشار إلى القول الأول بقوله “وفي كلام بعض المتأخرين…إلخ” وإلى القول الثاني بقوله “فإن بعضهم على أن القديم…إلخ” ففي كلامه لف ونشر مشوش.
قوله: (فإن بعضهم على أن القديم أعم من الواجب) أي: فإن بعض المتكلمين جرى على أن القديم أعم من الواجب عموما مطلقا، فكل واجب قديم وليس كل قديم واجبا، فذاته تعالى واجب وقديم وصفاته تعالى قديمة فقط، كما أشار إليه الشارح بقوله “لصدقه على صفات الواجب” وهذا مذهب الفخر الرازي ومن تبعه كالشارح.
وقوله: (لصدقه على صفات الواجب) أي: لصدق القديم دون الواجب على صفات الواجب: كالقدرة والإرادة والعلم ونحوها، فإنها قديمة وليست واجبة على طريقة الفخر ومن تبعه كما علمت.
قوله: (ولا استحالة في تعدد الصفات) جواب عما يقال: إذا كان القديم صادقا على صفات الواجب، لزم من ذلك تعدد القدماء وتعدد القدماء مستحيل.
وقوله: (وإنما المستحيل تعدد الذوات القديمة) أي: خلافا للفلاسفة حيث قالوا بقدم العالم، وكان الأولى أن يقول: “وإنما المستحيل تعدد الذات القديمة”؛ لأن الذي يتصف بالتعدد هو الذات الواحدة، ويمكن الجواب بجعل “ال” في الذوات للجنس.
قال الشارح: وفي كلام بعض المتأخرين كالإمام حميد الدين الضرير رحمه الله ومن تبعه تصريح بأن واجب الوجود لذاته هو الله تعالى وصفاته، واستدلوا على أن كل ما هو قديم فهو واجب لذاته بأنه لو لم يكن واجباً لذاته لكان جائز العدم في نفسه، فيحتاج إلى وجود مخصص فيكون محدثا، إذ لا نعني بالمحدث إلا ما يتعلق وجوده بإيجاد شيء آخر.
قال الخيالي:
قوله: (تصريح بأن واجب الوجود لذاته هو الله تعالى وصفاته) يرد على ظاهره أن كل صفة محتاجه إلى موصوفها فكيف تكون واجبة لذاتها، وسيجيء تأويله.
قوله: (إذ لا نعني بالمحدث إلا ما يتعلق…إلخ) هذا يدل على أن وجود الصفة القديمة لا يتعلق بإيحاد شيء وهذه جهالة بينة وإن قالوا كلامنا في القديم بالذات والصفة ليست كذلك لم يصح حكمهم بوجوب الصفات.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد على ظاهره…إلخ) أي: يرد على ما هو المفهوم من ظاهر هذا التصريح من أن وجود الصفات كوجود الواجب مقتضي ذاتها من غير احتياج إلى شيء فيرد عليه أن كل صفة محتاجة في وجودها إلى موصوفها فكيف يكون واجبة لذاتها.
قوله: (وسيجيء تأويله) أي: تأويل التصريح المذكور وهو أن المراد من كونها واجبة لذاتها أنها واجبة لذات الواجب تعالى بمعنى أن ذاته تعالى كافية في اقتضائها من غير احتياج إلى أمر ومآله أنه تعالى موجب في صفاته لئلا يلزم كونه محل الحوادث ولا شك أن الواجب الذاتي بهذا المعنى؛ أعني: عدم الاحتياج إلى الغير لا ينافي احتياجها إلى موصوفها فجينئذ لا يرد ما ذكر وهذا حاصل مانقل عنه لكن لا يرد على باطنه لأن معنى كون الشيء موجودًا بذاته أن لايحتاج إلى الغير في وجوده أصلًا لابمعنى عدم الاحتياج إلى شيء أصلًا فيكون الصفات واجبة لأنها ليست غير الذات. انتهى كلامه. وأنت خبير بأن هذا التأويل مع عدم تماميته في نفسه لتوقفه على القول بأن الإيجاب ليس نقصًا في صفاته وبأن قولهم علة الاحتياج هو الحدوث دون الإمكان إنما هو في غير الصفات وأن قولهم كل ممكن حادث إنما هو فيما إذا كان صادرًا بالقصد والاختيار وكل ذلك تخصيص في أحكام العقلية مع عدم تحمل العبارة له لأن ضمير قوله لذاته راجع إلى الموصولفي الواجب وكما أن حمل الله عليه يجعله واجبًا لذاته كذلك حمل الصفات عليها يجعلها واجبة لذاتها بلا تفاوت لايطابقه الاستدلال المذكر فإن قوله: لكان جائزًا لعدم في نفسه صريح في أن المراد أن كل ما هو قديم فهو واجب لذاته بمعنى أن ذاته وحقيقته يقتضي لوجوده من غير احتياج إلى شيء أصلًا إذ جواز العدم في نفسه إنما يقابل الوجوب بهذا المعنى.
قوله: (هذا يدل على أن وجود…إلخ) يعني أن قولهم أن المحدث مايتعلق وجوده بإيجاد شيء آخر يدل على أن الصفات القديمة لايتعلق وجودها بإيجاد شيء لعدم كونها محدثة وهذه جهالة بينة فإن بداهة العقل حاكمة بأن الصفات محتاجة في وجودها إلى موصوفها فإن قلت: مايحكم بالضرورة هو احتياج الصفة إلى وجود الموصوف لا الاحتياج إلى إيجاد وإلا لزم كون الصفات مخلوقة فلا يلزم الجهالة قلت ليس المراد بالإيجاد ههنا الإخراج من العدم إلى الوجود فإنه غير لازم من الاحتياج إلى المخصص بل مدخلية في الوجود بل اقتضاء الوجود ولا شك أن وجود الصفة متعلق باقتضاء الموصوف وجودها هذا ويرد على الاستدلال بحث قوي وهو أن الاحتياج إلى اقتضاء المخصص وجوده لايستلزم الحدوث بمعنى سبق العدم عليه الذي هو مناف للقدم بمعنى عدم المسبوقية بالعدم لجواز أن يكون ذلك الاقتضاء بطريق الإيجاب وما ذكروا من أن كل ما هو محتاج في وجوده إلى شيء فهو مسبوق بالعدم ليس بصحيح على إطلاقه بل فيما إذا كان صادرًا عنه بالاختيار والتمسك بأن كل ماسوى الله حادث والمحتاج إلى الحادث حادث لايجدي نفعًا لجواز أن يكون المخصص أمرًا عدميًا أزليًا *قال بعض الفضلاء: الجهالة البينة إنما يلزم إذا كان محمولًا على ظاهر كلامهم أما إذا كان محمولًا على التأويل المذكور ويكون المراد أنه لو لم يكن واجبًا لذاته أي: لذات الواجب لكان محتاجًا إلى مخصص مباين مفارق فيكون مجدثًا إذ لانعني بالمحدث إلا مايكون محتاجًا في وجوده إلى إيجاد شيء آخر مغاير له والصفات ليست غير الذات فلا يكون محدثة فلا تلزم الجهالة البينة إذ لايلزم منه أن لايتعلق وجودها بإيجاد شيء أصلًا. انتهى كلامه. ولايخفى عليك أن هذا التوجيه مع استلزامه استدراك قوله وإلا لكان جائزًا في نفسه بل يأبى عنه أو مع ورود الاعتراض السابق عليه يرد عليه أنا لانسلم أنه لو لم يكن واجبًا لذاته تعالى لكان محتاجًا إلى مخصص مباين مفارق لم لايجوز أن يكون محتاجًا إلى أمر ليس غير الذات ولاعينه كأن يكون قديمًا صادرًا عن ذات الواجب تعالى بتوسط صفة واجبة بذاته تعالى فلا يلزم حدوثه ولاكونه واجبًا لذاته. تأمل فإنه من مطارح الأذكياء.
قوله: (وإن قالوا…إلخ) يعني إن قالوا في دفع الجهالة المذكورة أن المراد بقولنا كل ما هو قديم فهو واجب لذاته القديم بالذات وهو ما لايكون محتاجًا إلى شيء أصلًا والصفة القديمة ليست بقديمة بالذات بل محدثة بالذات لاحتياجها إلى موصوفها فيكون داخلة في كون وجودها متعلقة بإيجاد شيء فلا يلزم الجهالة فيرد عليهم أنه لايثبت حينئذ حكمهم بأن الصفات واجبة بالذات لعدم كونها قديمة بالذات.
قال الباجوري:
قوله: (وفي كلام بعض المتأخرين…إلخ) كان المناسب لما تقدم أن يقول: وإن بعضهم على أن الواجب والقديم متساويان.
وقوله: (كالإمام حميد الدين الضرير) هو حنفي ماتريدي وحميد بفتح الحاء المهملة وكسر الميم،
وقوله: (رحمه الله) جملة دعائية.
وقوله: (ومن تبعه) أي: وافقه على هذا القول، وهذا مذهب السنوسي ومن تبعه وهو الحق.
قوله: (تصريح بأن واجب الوجود لذاته هو الله تعالى وصفاته) أي: فيكون الواجب والقديم متساويين. وظاهر ذلك أن صفاته تعالى لا تحتاج إلى شيء، كما أن ذاته العلية لا تحتاج إلى شيء؛ لأنه يلزم من كون كل منهما واجب الوجود لذاته، أن لا يحتاج كل منهما في وجوده إلى شيء، ويرد على ظاهره أن كل صفة محتاجة لموصوفها فكيف تكون واجبة لذاتها؟ وسيجيء تأويل ذلك في الشرح عند قول المصنف “وهي لا هو ولا غيره” بأن المراد أن الله وصفاته كل منهما وجب لذات المولى، فيكون الضمير في قوله “لذاته” راجعا للمولى، وهذا لا ينافي احتياج الصفات في وجودها إلى موصوفها، ومآل هذا التأويل إلى أنه تعالى موجب لصفاته، ورد هذا التأويل بأنه لا يوافقه الاستدلال المذكور بقوله “بأنه لو لم يكن واجبا لذاته لكان جائز العدم في نفسه” لأنه صريح في أن المراد بالواجب لذاته ما كانت ذاته مقتضية لوجوده؛ إذ جواز العدم في نفسه إنما يقابل الوجوب بهذا المعنى.
قوله: (واستدلوا) أي: حميد الدين الضرير ومن تبعه.
وقوله: (على أن كل ما هو قديم فهو واجب لذاته) أي: المعلوم مما صرحوا به من أن واجب الوجود لذاته هو الله تعالى وصفاته كما تقدم التنبيه على ذلك.
وقوله: (بأنه لو لم يكن واجبا لذاته لكان جائز العدم في نفسه) أي: بإنما هو قديم، لو لم يكن واجبا لذاته لكان جائز العدم في نفسه؛ لعدم الواسطة بين الواجب لذاته والجائز في نفسه.
وقوله: (فيحتاج في وجوده إلى مخصص) أي: وإذا كان جائز العدم في نفسه، فيحتاج في وجوده إلى مخصص؛ ضرورة أن وجوده ليس من ذاته فيكون من غيره وهو معنى احتياجه إلى مخصص.
وقوله: (فيكون محدثا) أي: وإذا كان محتاجا إلى مخصص، فيكون محدثا بفتح الدال اسم مفعول، والفرض أنه قديم، فيكون كونه محدثا باطلا، فيكون ما استلزمه وهو كونه محتاجا إلى المخصص باطلا، فيكون ما استلزمه وهو كونه جائز العدم في نفسه باطلا، فيكون ما استلزمه وهو عدم كونه واجبا لذاته، وإذا بطل هذا ثبت كونه واجبا لذاته وهو المطلوب.
قوله: (إذ لا نعني بالمحدث إلا ما تعلق…إلخ) تعليل لكون احتياجه إلى المخصص مستلزما لكونه محدثا، أي: وإنما لزم من كونه محتاجا إلى المخصص مستلزما لكونه محدثا، أي: وإنما لزم من كونه محتاجا إلى المخصص كونه محدثا؛ لأننا لا نقصد بالمحدث إلا ما تعلق…إلخ، وأشار بذلك إلى رفع ما يقال: لا نسلم لزوم كونه محدثا لكونه محتاجا إلى مخصص؛ لجواز أن يكون وجوده من غيره بطريقة الإيجاب، فلا يكون محدثا، لأن المحدث هو المسبوق بالعدم أو ما كان لوجوده ابتداء. وحاصل الدفع: أنه ليس المراد بالمحدث هنا المسبوق بالعدم أو ما كان لوجوده ابتداء، بل المراد به هنا ما يتعلق وجوده بإيجاد شيء آخر، ولا خفاء في لزوم كونه محدثا بهذا المعنى كونه محتاجا إلى مخصص، وهذا الكلام يدل على أن وجود الصفة القديمة لا يتعلق بإيجاد شيء لعدم كونها محدثة، وهذه جهالة بينة؛ فإن بديهة العقل حاكمة بأن الصفة محتاجة في وجودها إلى موصوفها. فإن قيل: إن الذي تحكم به البديهية هو احتياج الصفة إلى وجود الموصوف، لا الاحتياج إلى إيجاده، وإلا لزم كون الصفات موجودة بعد عدم. أجيب بأنه ليس المراد بالإيجاد ههنا الإخراج من العدم إلى الوجود، بل المراد به اقتضاء الوجود، وإن قالوا في دفع الجهالة المذكورة كلامنا في القديم بالذات والصفة ليست قديمة بالذات لم يصح حكمهم بوجوب الصفات؛ لعدم كونها قديمة بالذات، وهذا مبني على مذهب الفخر الرازي ومن تبعه كالشارح من أن صفاته تعالى ممكنة في ذاتها واجبة لاقتضاء ذات الباري لها، والحق مذهب السنوسي ومن تبعه من أن صفاته تعالى واجبة في ذاتها وليست ممكنة أصلا، وما قاله الرازي فهو زلة وقعت منه، وحينئذ فلا نسلم أن ما اقتضاه كلام حميد الدين الضرير ومن تبعه من أن وجود الصفة القديمة لا يتعلق بإيجاد شيء جهالة، بل الجهالة هي القول بأن وجود الصفة القديمة يتعلق بإيجاد شيء؛ لأنه مبني على كلام الرازي وهو زلة وقعت منه كما علمت.
قال الشارح: ثم اعترضوا بأن الصفات لو كانت واجبة لذاتها لكانت باقية ببقاء هو نفس تلك الصفة، وهذا كلام في غاية الصعوبة، فإن القول بتعدد الواجب لذاته مناف للتوحيد.والقول بإمكان الصفات ينافي قولهم بأن كل ممكن فهو حادث، فإن زعموا أنها قديمة بالزمان بمعنى عدم المسبوقية بالعدم وهذا لا ينافي الحدوث الذاتي بمعنى الاحتياج إلى ذات الواجب، فهو قول بما ذهب إليه الفلاسفة من انقسام كل من القدم والحدوث إلى الذاتي والزماني، وفيه رفض لكثير من القواعد، وستأتي لهذا زيادة تحقيق.
قال الخيالي:
قوله: (باقية ببقاء هو نفس تلك الصفة) وأما الأعراض فبقاؤها غيرها؛ لانفكاكه عنها حال الحدوث، لكن يرد أن البقاء مضاف إلى الصفة فكيف يكون نفس المضاف إليه فإن أرادوا بكونه نفسها عدم الزيادة بحسب الوجود الخارجي على ما سيجيء في التكوين فلم لم يجوزوا النفسية بهذا المعنى في الأعراض حتى لا يلزم تجددها.
قال السيالكوتي:
قوله: (وأما الأعراض…إلخ) يعني وأما ما قالوا من أن الأعراض غير باقية لأن بقاءها يستلزم قيام المعنى بالمعنى فلأن بقاءها غيرها لانفكاكه عنها في حال الحدوث فإنها في أول زمان الحدوث موجودة وليست بباقية ضرورة أن البقاء إنما يحصل في الزمان الثاني لأنها عبارة عن الوجود في الزمان الثاني واستمراره على ماسيجيء في الشرح.
قوله: (لكن يرد أن البقاء…إلخ) يعني يرد على قوله بأن بقاء الصفة نفسها أنه إن أريد بكونه نفسها الاتحاد في المفهوم فذلك مما لايخفى فساده لأن البقاء يضاف إلى الصفة فيقال بقاء العلم والقدرة فكيف يكون نفس المضاف إليه بحسب المفهوم وكذا يقال: صفة باقية وصيغة الباقي يقتضي زيادة البقاء كالعالم يقتضي زيادة العلم وإن أريد به عدم الزيادة في الوجود الخارجي بمعنى أنه ليس في الخارج أمر وراء الصفة يسمى بالبقاء بل هو أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة وجودها إلى الزمان الثاني فلا شك في صحته لكن لم لم يجوزوا نفسية البقاء بهذا المعنى في الأعراض ولم لم يقولوا بأن الأعراض باقية ببقاء هو نفسها بمعنى أنها ليست في الخارج إلا الأعراض وأما البقاء فليس أمرًا موجودًا في الخارج زائدًا حالًا فيها كحلول السواد في الجسم بل هو أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة وجودها إلى الزمان الثاني حتى لايلزم القول بتجدد الأعراض في كل آن الذي هو مصادم لمشاهدة الحس وكونها منفكة عن البقاء حال الحدوث وحصول الاتصاف به بعد إنما يفيد الزيادة في العقل لافي الوجود الخارجي بأن يكون للأعراض وجود فيه وللبقاء وجود آخر أيضًا فإن تجدد الاتصاف بصفة لا يقتضي كونها موجودة في الخارج لجواز تجدد الاتصاف بالأمور الاعتبارية التي لا تحقق لها في الخارج كمعية الباري تعالى مع الحوادث فإنه متصف به مع كونها موجودة في الخارج وإلا لزم كونه محل الحوادث. تأمل فإنه دقيق.
قوله: (على ماسيجيء) في التكوين حيث قال من قال: إن التكوين عين المكون أراد أن الفاعل إذا فعل شيئًا فليس ههنا إلا الفاعل والمفعول وأما المعنى الذي يعبر عنه بالتكوين والإيجاد ونحو ذلك فهو أمر اعتباري يحصل من نسبة الفاعل إلى المفعول وليس أمرًا متحققًا مغايرًا للمفعول في الخارج.
قال الباجوري:
قوله: (ثم اعترضوا) أي: اعترض عليهم بناء على الظاهر المتبادر من قراءته بالبناء للمفعول، أو اعترضوا على أنفسهم بناء على خلاف الظاهر المتبادر من قراءته بالبناء للفاعل.
وقوله: (بأن الصفات لو كانت واجبة لذاتها لكانت باقية) أي: بأن صفات الله لو كانت واجبة لذاتها لكانت باقية؛ لامتناع عدم الواجب.
وقوله: (والبقاء معنى) أي: والبقاء صفة وجودية.
وقوله: (فيلزم قيام المعنى بالمعنى) أي: فيلزم قيام المعنى الذي هو البقاء بالمعنى الذي هو الصفات، وقيام المعنى بالمعنى باطل عند أهل الحق، ومقتضى صنيعهم أن هذا الاعتراض لا يرد على القائلين بأن الصفات ليست واجبة لذاتها، ولعل وجهه أنها عندهم ليست باقية ببقاء قائم بها، بل باقية ببقاء الذات، وهذا كله مبني كما ترى على القول بأن البقاء صفة معنى والحق أنه صفة سلب، وعليه فلا يرد الاعتراض ولا يحتاج للجواب.
قوله: (وأجابوا بأن كل صفة فهي باقية ببقاء هو نفس تلك الصفة) أي: وأجاب القائلون بأن الصفات واجبة لذاتها عن الاعتراض المذكور، بأن كل صفة من الصفات المذكورة فهي باقية ببقاء هو نفس تلك الصفة، لا معنى آخر زائد عليها، حتى يلزم قيام المعنى بالمعنى. وحاصل هذا الجواب: منع كون البقاء صفة معنى، واختيار أنه صفة نفسية، فالصفات بقاؤها نفسها، وأما الأعراض فبقاؤها غيرها لانفكاكه عنها حال حدوثها، فإنه عبارة عن الوجود في الزمن الثاني على ما سيجيء في الشرح، فلو كان بقاؤها عينها لما انفك عنها حال حدوثها. وأورد على هذا الجواب أن البقاء مضاف إلى الصفة في قولهم: بقاء العلم بقاء القدرة ونحو ذلك، والمضاف غير المضاف إليه، فكيف يكون المضاف نفس المضاف إليه؟ هذا إن أرادوا بكونه نفسها الاتحاد في المفهوم، فإن أرادوا بكونه نفسها عدم زيادته عليها بحسب الوجود الخارجي، على ما سيجيء في التكوين بمعنى أنه ليس أمرا زائدا عليها في الوجود الخارجي، بل هو أمر اعتباري، فلم لم يجوزوا نفسية البقاء بهذا المعنى في الأعراض؟ بأن يقال الأعراض باقية ببقاء هو نفسها، بمعنى أن بقاءها ليس أمرا زائدا عليها في الخارج، بل هو أمر اعتباري حتى لا يلزم القول بتجدد الأعراض في كل زمان، الذي هو مصادم لشهادة الحس، لا يقال ينافي كون بقاء الأعراض نفسها انفكاكه عنها حال حدوثها كما تقدم؛ لأنا نقول لا منافاة إلا إن أريد بكونه نفسها الاتحاد في المفهوم، فإن أريد بكونه نفسها عدم زيادته عليها في الخارج فلا منافاة؛ لأنه لا مانع من جواز تجدد الاتصاف بالأمور الاعتبارية.
قوله: (وهذا كلام في غاية الصعوبة) أي: وهذا الكلام المذكور في صفاته تعالى الشامل لكلام القائلين بوجوب الصفات لذاتها ولكلام القائلين بإمكانها، في غاية الصعوبة والإشكال، وقد علل ذلك، بالنسبة لكلام القائلين، بوجوب الصفات لذاتها بقوله: “فإن القول بتعدد الواجب لذاته…إلخ”، وبالنسبة لكلام القائلين بإمكانها بقوله “والقول بإمكان الصفات ينافي…إلخ”، ومقتضى هذا الصنيع أن الشرح قد توقف في هذه المسألة، لكن المقرر أنه تابع للفخر في القول بإمكان الصفات، ويحتمل أن اسم الإشارة عائد لكلام القائلين بوجوب الصفات لذاتها فقط، والأول أنسب بقوله “والقول بإمكان الصفات ينافي…إلخ”، وبقوله” “فإن زعموا…إلخ”، وكلام العصام والكسْتلي يؤيد القول بإمكان الصفات، ولكن الحق: القول بوجوبها لذاتها بتعدد الواجب لذاته منافٍ للتوحيد، أي: فإن القول بتعدد الواجب لذاته اللازم على القول بوجوب الصفات لذاتها مناف للتوحيد، الذي هو اعتقاد عدم التعدد في الألوهية، فإنه يقتضي أن واجب الوجود لذاته واحد، ويجاب عن ذلك بأن المنافي للتوحيد إنما هو تعدد الذات الواجبة لا تعدد الواجب بإثبات ذات واجبة وصفات واجبة، قياسا على ما قيل في قدم الصفات على أنه لا تعدد أصلا لعدم مغايرة الصفات للذات كما سيأتي بيانه.
قوله: (والقول بإمكان الصفات ينافي قولهم بأن كل ممكن فهو حادث) أي: والقول بإمكان الصفات مع كونها قديمة فتكون ممكنة قديمة ينافي قول المتكلمين بأن كل ممكن فهو حادث؛ لأن القول بإمكان الصفات مع كونها قديمة في قوة الجزئية السالبة القائلة: بعض الممكن ليس بحادث بل قديم، ومن المقررات الجزئية السالبة تناقض الموجبة الكلية القائلة ههنا: كل ممكن فهو حادث.
قوله: (فإن زعموما أنها قديمة بالزمان) أي: فإن زعم القائلون بإمكان الصفات مع قدمها جوابا عن المنافاة المذكورة أن الصفات قديمة بالزمان لا بالذات، فتكون قديمة بالقدم الزماني لا بالقدم الذاتي.
وقوله: (بمعنى عدم المسبوقية بالعدم) أي: حال كون القدم بالزمان ملتبسا بمعنىً هو عدم المسبوقية بالعدم، فيكون القديم الزماني هو الذي لم يسبق بالعدم.
وقوله: (وهو لا ينافي الحدوث الذاتي) وإنما ينافي الحدوث الزماني، فكون الصفات قديمة بالزمان لا ينافي كونها حادثة بالذات، وإنما ينافي كونها حادثة بالزمان.
وقوله: (بمعنى الاحتياج إلى ذات الواجب) أي: حال كون الحدوث الذاتي ملتبسا بمعنىً هو الاحتياج إلى ذات الواجب تعالى، فيكون الحادث الذاتي هو الذي يحتاج في وجوده إلى ذات الواجب تعالى.
وقوله: (فهو قول بما ذهبت إليه الفلاسفة) أي: فما زعموه من قدم الصفات بالمعنى المذكور، وكون ذلك لا ينافي الحدوث الذاتي، قول بما ذهبت إليه الفلاسفة، وأسسوه ليبنوا عليه ما ذهبوا إليه من الإيجاب بالذات.
وقوله: (من انقسام كل من القدم والحدوث إلى الذاتي والزماني) بيان لما ذهبت إليه الفلاسفة، فالأقسام أربعة: قدم ذاتي: وهو مختص بذات الواجب، وقدم زماني: وهو أعم من القدم الذاتي، فيجتمعان في ذات الواجب تعالى، وينفرد القدم الزماني في صفاته على القول بإمكانها.
قوله: (وفيه رفض لكثير من القواعد) أي: وفي القول بذلك رفض لكثير من القواعد الكلامية نحو: كون الباري ليس بموجب، وكون القديم هو الذي لا أول له، وكون الحادث هو الموجود بعد عدم من غير تفصيل فيهما، وكون الحادث لا يكون قديما بحال، وأنه لا شيء من الممكن بقديم إلى غير ذلك.
قوله: (وسيأتي لذلك زيادة تحقيق) أي: وسيأتي في شرح قوله “وهي لا هو ولا غيره” زيادة تحقيق لهذا المقام حيث قال “فيما يأتي” والأولى أن يقال…إلخ.
الحيُّ القادرُ العليمُ السميعُ البصيرُ الشائي المريدُ
قال الشارح: (الحي القادر العليم السميع البصير الشائي المريد) لأن دليل بديهة العقل جازمة بأن محدث العالم على هذا النمط البديع والنظام المحكم، مع ما يشتمل عليه من الأفعال المتقنة والنقوش المستحسنة لا يكون بدون هذه الصفات، على أن أضدادها نقائص يجب تنزيه الله عنها. وأيضاً قد ورد الشرع بها وبعضها مما لا يتوقف ثبوت الشرع عليها فيصح التمسك فيها كالتوحيد، بخلاف وجود الصانع وكلامه ونحو ذلك مما يتوقف ثبوت الشرع عليه.
قال الخيالي:
قوله: (بأن محدث العالم على هذا النمط) يعني أن تصور الواجب بعنوان أنه محدث لجميع ما سواه على النمط البديع والنظام المحكم يجعل الحكم
بثبوت هذه الصفات بديهيا فلا يرد ما يقال يحتمل أن يحدثه بالوسط المختار الصادر عنه بالإيجاب، وإيجابه بلا قصد لا يدل على العلم ولا غيره؛ لأن ذلك الوسط من جملة العالم فيكون حادثا فلا يصدر عن القديم بالإيجاب، ولا يخفى أنه إنما يتم إذا لم يقتصر على بيان حدوث ما ثبت وجوده من الممكنات ثم إن اعتبار النمط البديع والنظام المحكم له مدخل في بديهية الحكم، وإلا فيمكن أن يستدل بحدوث العالم على القدرة والاختيار وكل قادر عالم وحي، وظاهر كلام الشارح يعم السمع والبصر لكن في دلالة الأحداث على وجه الاتقان عليهما تأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (يعني أن تصور الواجب…إلخ) يعني قد علم مما سبق أن الواجب محدث لجميع أجزاء ماسواه فإذا تصور بعنوان أنه محدث لجميع ماسواه على النمط البديع والنظام المحكم علم ثبوت الصفات المذكورة بالبداهة فإن كون الأرض على النمط البديع يدل على العلم وكونه حادثًا يدل على القدرة والإرادة وكونه عالمًا قادرًا يدل على الحياة فلا يرد ما يقال إن إحداثه العالم على النمط البديع إنما يدل على اتصافه بالصفات المذكورة إذا كان بلا واسطة لكن يحتمل أن يحدثه بواسطة مختار صادر عنه بطريق الإيجاب من غير قصد وإرادة كما هو مذهب قدماء الفلاسفة حيث ذهبوا إلى أن العالم صادر عنه من غير قصد وشعور كحركة المرتعش فيكون ذلك الوسط قادرًا مريدًا عالمًا حيًا دون الواجب؛ لأن الإيجاب بلا قصد لا يدل على ثبوت العلم ولاعلى غيرها كما لايخفى وإنما قيدنا الإيجاب بلا قصد لأن الإيجاب بتوسط الإرادة كما هو مذهب المتأخرين من الفلاسفة حيث ذهبوا إلى أنه فاعل مختار بمعنى أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لكن الشرطية الأولى لازمة الوقوع والثانية ممتنعة بالنسبة إلى ذاته لا يدل على نفي الصفات المذكورة ولذا أثبتوها وقالوا: إنها عين الذات.
قوله: (لأن ذلك…إلخ) متعلق بقوله لا يرد يعني لا يرد ما يقال لأن ذلك الواسطة من جملة العالم ضرورة كونه ماسوى الله تعالى إذ لايجوز أن يكون صفة من صفاته فيكون حادثًا بحدوث العالم بجميع أجزائه فلا يصدر عن القديم بالإيجاب لأن أثر الموجب القديم لا يكون حادثًا.
قوله: (ولايخفى…إلخ) يعني لا يخفى أن هذا الجواب إنما يتم إذا بين أن جميع ماسوى الله تعالى حادث ولم يقتصر على بيان حدوث ماثبت وجوده من الممكنات لكن لم يثبت فيما سبق فيجوز أن يكون ممكن من الممكنات غير معلوم الوجود والحدوث كالمجردات مثلًا صادرًا عنه بطريق الإيجاب مختارًا بحدوث العالم بتوسطه.
قوله: (ثم إن اعتبار…إلخ) يعني إنما اعتبر الشارح النمط البديع والنظام المحكم لأن له مدخلًا في بديهة الحكم وإلا فيمكن أن يستدل بحدوث العالم على القدرة والاختيار لأن أثر الموجب القديم لا يكون حادثًا وبثبوت القدرة والاختيار على ثبوت العلم فإن صدور الفعل بالقصد والاختيار لا يتصور إلا مع العلم وبثبوتهما على ثبوت الحياة إذ لامعنى للحياة إلا صفة توجب صحة العلم والقدرة.
قوله: (وظاهر كلام الشارح…إلخ) يعني أن ظاهر كلام الشارح يدل على أن تصور الواجب بالعنوان المذكور يوجب ثبوت السمع والبصر أيضًا بديهة لكن فيه تأمل إذ لا دلالة للإحداث على وجه الإتقان عليهما إذ يكفي في ذلك العلم بالمسموعات والمبصرات وأجيب بأن المراد بالسمع واالبصر إدراك المسموعات والمبصرات إذ المقصود ههنا بيان جريان هذه المشتقات عليه تعالى وأما أن مباديها موجودة متغايرة فذلك مطلب آخر يجيء بعد هذا في قوله: وله صفات أزلية وهي العلم. انتهى.
قال الباجوري:
قوله: (الحي القادر…إلخ) إنما أجرى هذه الأسماء عليه تعالى ولم يكتف بإثبات مبادئها فيما بعد مع إنه يتكفل بمعرفتها؛ لأن الدليل على ثبوت المبادئ التي هي الصفات الآتية إطلاق هذه الأسماء عليه تعالى في لسان الشرع على ما سيأتي. ولم يعرف الأسماء المذكورة اكتفاء بتعريف مبادئها فيما بعد ولم يعكس، مع أن تقدم ذكرها يدعوا إليه؛ لأن تعريفها لا يغني عن تعريف مبادئها، وإنما قدم الحيَّ على ما بعده من الأسماء؛ لأن الاتصاف بما عدا الحياة من الصفات يتوقف على الاتصاف بالحياة.
وقوله: (الشائي المريد) هما مترادفان، فالشائي بمعنى المريد كما يؤخذ من قول الشارح بعد قول المصنف فيما يأتي: والإرادة والمشيئة وهما عبارتان عن صفة في الحي توجب تخصيص أحد المقدورين في أحد الأوقات بالوقوع…إلخ، فإن قلت إن لفظ الشائي لم يرد إطلاقه في أسماء الله تعالى، مع أنها توقيفية، فالجواب أنه اكتفى بورود المادة، فإنه قد ورد الفعل في مواضع كثيرة كقوله تعالى:ﱡﭐ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱠ ، ﱡﭐ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢﱠ ، ﱡﭐ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱠ وإن كان الراجح أنه لا يكتفي بورود المادة.
قوله: (لأن بديهة العقل جازمة بأن محدث العالم…إلخ) أي: لأن توجه العقل من غير توقف على نظر حاكم حكما يقينا بأن محدث العالم…إلخ، والمراد أن العقل بمجرد توجهه جازم بذلك، فإسناد الجزم إلى البديهة مجاز عقلي، وقد تقدم أن الواجب محدث لجميع ما سواه على النمط البديع والنظام المحكم بجعل الحكم بثبوت هذه الصفات بديهيا، بأن يقال الله محدث للعالم على هذا النمط البديع، ومحدث العالم على هذا النمط البديع لا يكون إلا متصفا بهذه الصفات، فصغرى هذا الدليل نظرية، وقد تقدم دليلها وكبراه بديهية كما أشار إليه الشارح، وإذا علمت أنه لابد من تصور الواجب بعنوان محدث لجميع ما سواه، علمت أنه لا يرد ما يقال كونه محدثا للعالم على النمط البديع، إنما يدل على اتصافه بالصفات المذكورة إذا كان ذلك الأحداث بلا وسط مختار صادر عنه بالإيجاب، لكن يحتمل أنه أن يكون إحداثه له بالوسط المختار الصادر عنه بالإيجاد وإيجابه بلا قصد لا يدل على العلم ولا على غيره، وإنما قيدنا بعدم القصد؛ لأن الإيجاب بتوسط الإرادة كما هو مذهب المتأخرين من الفلاسفة، حيث ذهبوا إلى أنه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، لكن الشرطية الأولى لازمة الوقوع، والثانية ممتنعة الوقوع يدل على العلم وعلى غيره، وإنما لم يرد ما ذكر؛ لأن ذلك الوسط من جملة العالم فيكون حادثا؛ لأن العالم بجميع أجزائه حادث، وإذا كان كذلك الوسط حادثا فلا يصدر عن القديم بالإيجاب؛ لأن أثر الموجب القديم لا يكون إلا قديما، لكن لا يخفى أن هذا الجواب إنما يتم إذا بين أن جميع ما سواه تعالى حادث، ولم يقتصر على بيان حدوث ما ثبت وجوده من الممكنات، ولم يبين ذلك فيما سبق، اقتصر على بيان حدوث ما ثبت وجوده من الممكنات، فيجوز أن يكون ممكن من الممكنات التي لم يثبت وجودها كالمجردات صادرا عن الله بطريق الإيجاب مختارا يحدث العالم بواسطة، لكن الأصل عدم ما لم يثبت وجوده فلا التفات إلى احتماله، ثم إن اعتبار النمط البديع والنظام المحكم له مدخل في بديهة الحكم، فلذلك اعتبره الشارح، وإلا فتصور الواجب بعنوان أنه محدث للعالم يكفي في الاستدلال، فيمكن أن يستدل بحدوث العالم على القدرة والاختيار أي: الإرادة؛ لأن أثر الموجب القديم لا يكون حادثا، فيكون المولى قادرا مريدا، ويستدل بثبوت القدرة والاختيار على ثبوت العلم والحياة؛ لأن كل قادر مختار هو عالم وحي، وقد اعترض على الشارح بأن ظاهر كلامه يعم السمع والبصر، فيقتضي أن الإحداث على وجه الإتقان يدل على ثبوتهما وليس كذلك؛ لأن العلم كاف في الإحداث على وجه الإتقان، ففي دلالة الإحداث على وجه الإتقان عليهما تأملٌ.
قوله: (على هذا النمط البديع) أي: حال كونه مشتملا على هذا الطريق الذي هو غاية في الإتقان، فالنمط محركا الطريق والبديع الغاية في كل شيء،
وقوله: (والنظام المحكم) أي: والمنظوم المتقن، فالنظام مصدر نظم بمعنى جمع، لكن المراد منه هنا المنظوم والمحكم المتقن وفي الحقيقة قوله: “والنظام المحكم” يرجع للنمط البديع.
وقوله: (مع ما يشتمل عليه) أي: حال كون العالم مع ما يشتمل عليه.
وقوله: (من الأفعال المتقنة) أي: من المفعولات التي هي في غاية الإتقان.
وقوله: (والنقوش المستحسنة) أي: والألوان التي هي في غاية الحسن كما في الطاووس.
وقوله: (لا يكون بدون هذه الصفات) أي: المذكورة في كلام المصنف، وقد تقدم الاعتراض على الشارح أن ظاهر كلامه يعم السمع والبصر.
قوله: (على أن أضدادها نقائص يجب تنزيه الله عنها) أي: ولنجر على أن أضداد الصفات المذكورة نقائص يجب تنزيه الله عنها، وإذا وجب تنزيه الله عن هذه الأضداد، وجب ثبوت تلك الصفات له تعالى، وهذا دليل ثان لكنه دليل إقناعي، إذ لقائل أن يقول لا نسلم أن لها أضداد؛ لأنها مع ما يقابلها من قبيل العدم والملكة، ولا يلزم من خلوه عن الملكة اتصافه بالعدم؛ لجواز انتفاء القابلية بالكلية، ولو سلم أن لها أضداد، فلا نسلم أنها نقائص مطلقا، بل بالنسبة إلى ما من شأنه الاتصاف بتلك الصفات، ولوسلم أنها نقائص مطلقا، فلا نسلم أن من خلا عنها يجب اتصافه بتلك الصفات؛ لجواز خلو المحل عن الضدين معا كالهواء، فإنه خال عن الألوان كلها وعن الطعوم كلها.
قوله: (وأيضا قد ورد الشرع بها) أي: حيث قال تعالىﱡﲗ ﲘﱠ، وقال تعالى: ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱠ وقوله تعالىﱡﭐ ﳉ ﳊ ﳋﱠ، وقال تعالى ﱡ ﱔ ﱕ ﱖ ﱠ ، و قوله تعالى: ﱡﭐ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢﱠ وقال تعالى ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﱠ وهذا دليل ثان لكنه نقلي، وهو لا يفيد في كل الصفات بل في بعضها كما سيبينه.
قوله: (وبعضها مما لا يتوقف ثبوت الشرع عليها) أي: وبعض الصفات المذكورة من الصفات التي لا يتوقف ثبوت الشرع عليها، كالسمع والبصر،
وقوله: (فيصح التمسك بالشرع فيها) أي: فيصح الاستدلال بالأدلة الشرعية في ذلك البعض، وإنما أنث الضمير نظرا لكون ذلك البعض صفات.
وقوله: (كالتوحيد) تنظير لبعض الصفات المذكورة لا تمثيل له؛ لأنه ليس من الصفات المذكورة، وإنما لم يتوقف ثبوت الشرع على التوحيد؛ لأنه إنما يتوقف على الرسالة، وهي تتوقف على المعجزة، وهي تتوقف على صفات التأثير كالقدرة والإرادة، وليس منه التوحيد فيصح التمسك بالشرع فيه، والحق أن الشرع يتوقف على التوحيد؛ لأنه لو فرض التعدد لأمكن التمانع كما تقدم، وحينئذ فلا يكفي التمسك بالشرع فيه، بل لابد من الدليل العقلي.
قوله: (بخلاف وجود الصانع وكلامه ونحو ذلك مما يتوقف ثبوت الشرع عليه) أي: حال كون ما ذكر ملتبسا بمخالفة وجود الصانع وكلام الصانع ونحوهما مما يتوقف ثبوت الشرع عليه كقدرته تعالى وإرادته وعلمه وحياته، فلا يصح التمسك بالشرع في ذلك؛ لأن الاستدلال عليه بالشرع يستلزم الدور إذ في إثبات ما يتوقف عليه الشرع بالشرع، توقف الشيء على ما يتوقف هو عليه، وإن أجيب عنه بأن جهة التوقف منفكة؛ لأن توقف ما ذكر على الشرع من حيث المعرفة، وتوقف الشرع على ما ذكر من حيث الوجود فلا دور؛ لاختلاف جهة التوقف، والحق أن الكلام لا يتوقف عليه الشرع فيصح التمسك بالشرع فيه فدليله سمعي لا عقلي.
ليس بِعَرَضٍ
قال الشارح: (ليس بعرض) لأنه لا يقوم بذاته، بل يفتقر إلى محل يقومه، فيكون ممكناً. ولأنه يمتنع بقاؤه وإلا لكان البقاء معنى قائماً به، فيلزم قيام المعنى بالمعنى وهو محال، لأن قيام العرض بالشيء معناه أن تحيزه تابع لتحيزه، والعرض لا تحيز له بذاته حتى يتحيز غيره بتبعيته. وهذا مبني على أن بقاء الشيء معنى زائد على وجوده، وأن القيام معناه التبعية في التحيز، والحق أن البقاء استمرار الوجود وعدم زواله وحقيقة الوجود من حيث النسبة إلى الزمان الثاني.
قال الخيالي:
قوله: (وهذا مبني على أن بقاء الشيء معنى زائد على وجوده) وعلى أن هذا الزائد أمر موجود في نفسه حتي يكون عرضيا، وهو ممنوع أيضا.
قال السيالكوتي:
قوله: (وعلى أن هذا…إلخ) ظاهر كلام المحشي يدل على أن هذا المنع ليس مندرجًا في عبارة الشارح وليس كذلك، فإن المعنى ههنا بمعنى ما يقابل الذات وهو بهذا المعنى لايطلق إلا على الأمر الموجود فالمعنى هذا مبني على أن بقاء الشيء أمر موجود زائد على وجوده وفي قوله: والحق أن بقاء الشيء إلخ إشارة إلى كلا المنعين إذ كونه عبارة عن عدم الزوال يدل على أنه أمر عدمي ليس بموجود وكون حقيقته الوجود بالنسبة إلى الزمان الثاني يدل على أنه هو الموجود لكن العقل باعتبار نسبته إلى الزمان الثاني يعبر عنه بالبقاء اللهم إلا أن يقال: مقصوده تصريح بما علم ضمنًا في كلام الشارح.
قال الباجوري:
قوله: (ليس بعرض) هذا إشارة إلى مبحث القيام بالنفس وكان الأولى أن يقول: “ولا بصفة”؛ لأن العرض أخص من مطلق الصفة؛ لأنه لا يطلق على الصفة القديمة.
قوله: (لأن لا يقوم بذاته) أي: لأن العرض لا يقوم بذاته كان ذلك من خواص الجرم،
وقوله: (بل يفتقر إلى محل يقوِّمُهُ) أي: بل يفتقر العرض إلى محل يوجده ويحصله.
وقوله: (فيكون ممكنا) أي: وإذا كان يفتقر إلى محل يقومه فيكون ممكنا لا واجبا، وحاصل ما أشار إليه بهذا التعليل دليل من الشكل الثاني نظمه هكذا: العرض لا يقوم بذاته بل يفتقر إلى محل يقومه فيكون ممكنا، والواجب تعالى يقوم بنفسه ولا يفتقر إلى محل يقومه فليس ممكنا، ينتج أن العرض ليس بواجب فتعكس إلى قولنا: “الواجب ليس بعرض” وهو المطلوب.
قوله: (ولأنه يمتنع بقاؤه) أي: ولأن العرض يمتنع بقاؤه زمانين في محل واحد، وأشار بذلك إلى دليل ثاني من الشكل الثاني أيضا نظمه هكذا: العرض يمتنع بقاؤه والواجب لا يمتنع بقاؤه، ينتج أن العرض ليس بواجب فتعكس النتيجة إلى قولنا “الواجب ليس بعرض” وهو المطلوب.
قوله: (وإلا لكان البقاء معنى قائما به) أي: وإلا يمتنع بقاؤه بأن كان باقيا لكان البقاء معنى قائما بالعرض.
وقوله: (فيلزم قيام المعنى بالمعنى) أي: وإذا كان البقاء معنى قائما به، وهو معنى أيضا فيلزم قيام المعنى الذي هو البقاء بالمعنى الذي هو العرض.
وقوله: (وهو محال) أي: وقيام المعنى بالمعنى محال كما اتفق عليه أكثر العقلاء. وحاصل ما أشار إليه دليل مركب من قياسين، وتقرره أن تقول: لو كان العرض باقيا لكان البقاء معنى قائما به، لكن كون البقاء معنى قائما به محال؛ لأنه لو كان البقاء معنى قائما لزم عليه قيام المعنى بالمعنى، لكن قيام قيام المعنى بالمعنى محال.
قوله: (لأن قيام العرض…إلخ) علة لقوله “وهو محال”.
وقوله: (معناه) أي: معنى قيام العرض بالشيء،
وقوله: (إن تحيزه تابع لتحيزه) أي: إن تحيز العرض تابع لتحيز الشيء المفروض قيام العرض به.
وقوله: (والعرض لا تحيزله بذاته ) من تتمة التعليل.
وقوله: (حتى يتحيز غيره بتبعيته) مفرع على المنفي فهو منفي أيضا، فالعرض لا يمكن أن يكون غيره تابعا له في التحيز؛ لأن المتبوع في التحيز لابد أن يكون متحيزا بذاته حتى يصح استتباعه لغيره في التحيز.
قوله: (وهذا مبني…إلخ) أي: وهذا الدليل المذكور بقوله: “وإلا لكان البقاء معنى قائما به…إلخ” مبني على أمرين، الأول: أن البقاء أمر وجودي، وهذا ينبني عليه الاستثنائية القائلة: لكن كون البقاء معنى قائما به محال، وينبني عليه أيضا قوله” فيلزم قيام المعنى بالمعنى…إلخ” فقوله “على أن بقاء الشيء معنى زائد على وجوده” هو الأمر الأول، وقوله “وأن القيام معناه التبعية في التحيز” هو الأمر الثاني.
قوله: (على أن بقاء الشيء معنى زائد على وجوده) زاد العلامة الخيالي وعلى أن هذا الزائد أمر موجود في نفسه، حتى يكون عرضا وهو ممنوع أيضا. أ.ه. وهو في الحقيقة لم يزد شيئا على الشارح؛ لأن المعنى لا يطلق إلا على الأمر الموجود في نفسه مما يقابل الذات.
وقوله: (وأن القيام معناه التبعية في التحيز) أي: وعلى أن قيام العرض بالشيء معناه كون العرض تابعا لذلك الشيء في التحيز.
قوله: (والحق…إلخ) أي: وكل من هذين الأمرين خلاف الحق، والحق…إلخ.
وقوله: (أن البقاء استمرار الوجود) أي: أن بقاء الشيء استمرار وجوده، فهو أمر اعتباري لا أمر وجودي حتى يلزم قيام المعنى بالمعنى، وحينئذ فتمنع الشرطية القائلة: لو كان العرض باقيا لكان البقاء معنى قائما به؛ لأنها مبنية على أن البقاء معنىً.
وقوله: (وعدم زواله) يقتضي أنه أمر عدمي فينافي قوله “استمرار الوجود” والتحقيق أنه صفة سلب كما تقدم.
وقوله: (وحقيقته الوجود من حيث النسبة إلى الزماني الثاني) أي: وحقيقته البقاء وجود الشيء لا من حيث ذاته بل من حيث نسبته إلى ماعدا الزمن الأول من أزمنة الوجود، فالمراد بالزمن الثاني ما عدا الزمن الأول الذي هو زمن الحدوث، وغرضه بذلك بيان المراد من قوله: “استمرار الوجود” وعلى هذا فالوجود من حيث تحققه في الزمان الأول لا يسمى بقاء، لكن هذا في بقاء الحادث، وأما بقاء الواجب فهو امتناع العدم لا الوجود من حيث النسبة إلى الزماني الثاني.
قال الشارح: ومعنى قولنا: (وجد فلم يبق) أنه حدث فلم يستمر وجوده ولم يكن ثابتاً في الزمان الثاني، وأن القيام هو الاختصاص الناعت بالمنعوت، كما في أوصاف الباري تعالى، وأن انتفاء الأجسام في كل آن ومشاهدة بقائها بتجدد الأمثال ليس بأبعد من ذلك في الأعراض.
نعم تمسكهم في قيام العرض بالعرض بسرعة الحركة وبطئها ليس بتام؛ إذ ليس هنا شيء هو حركة وآخر هو سرعة وبطء، بل هنا حركة مخصوصة تسمى بالنسبة إلى بعض الحركات سريعة وبالنسبة إلى البعض بطيئة، وبهذا تبين أن ليس السرعة والبطء نوعين مختلفين من الحركة، إذ الأنواع الحقيقية لا تختلف بالإضافات.
قال الخيالي:
قوله: (كما في أوصاف الباري تعالى) يعني أن تفسير القيام بالتبعية في التحيز غير مطرد في أوصاف الباري وقد يدفع بأن التفسير لقيام العرض لا لمطلق القيام وأوصافه تعالى ليست أعراضا ولذا حكموا ببقائها وعدم بقاء الأعراض.
قوله: (وأن انتفاء الأجسام) هذا رد إجمالى لدليلهم وحاصله أن ما ذكروه استدلال في مقابلة الضرورة لأن أصحابنا جعلوا الحكم ببقاء الأجسام ضروريا وعدم بقائها ليس بأبعد عند العقل من عدم بقاء الأعراض فبقاؤها ضروري أيضا.
قال السيالكوتي:
قوله: (يعني أن تفسير…إلخ) يعني في قوله كما في صفات الباري إشارة إلى تفسير القيام بالتبعية في التحيز غير جار في قيام صفات الواجب بذاته تعالى لعدم كونه تعالى متحيزًا ودفع هذا بأن عدم جريانه لايضر لأنه تعريف لقيام الأعراض والصفات ليست بأعراض.
قوله: (هذا رد إجمالي) يعني أنه نقض إجمالي للدليل الذي أوردوه على امتناع بقاء الأعراض وتقريره أن دليلكم بجميع مقدماته فاسد لأنه يستلزم المحال؛ أعني: مخالفة الضرورة.
قوله: (لأن أصحابنا جعلوا…إلخ) نقل عنه محصلة أنه لما كان بقاء الأجسام ضروريًا مع جواز عدم بقائها عند العقل كان الحكم ببقاء الأعراض أيضًا ضروريًا مع جواز عدم بقائها إذ احتمال عدم البقاء موجود في الأعراض والأجسام ولاتفرقة بينهما حتى يجعل أحديهما باقيًا بالضرورة عند العقل والآخر غير باق ومن ادعى التفرقة فليبين. انتهى كلامه. أقول: يمكن بيان التفرقة بأن عدم بقاء الأجسام أبعد عند العقل بل محال لأنه يستلزم سقوط التكليف والقصاص والجزاء بخلاف عدم بقاء الأعراض إذ لابعد في تجددها فلذا جعل الأصحاب الحكم ببقاء الأجسام ضروريًا يحكم به بديهة العقل دون الحكم ببقاء الأعراض بل جعلوه من أحكام الحس والحس لا يميز بين الأمثال كمال التمييز كما في المتن.
قال الباجوري:
قوله: (فمعنى قولنا وجد فلم يبق…إلخ) هكذا في بعض النسخ بفاء التفريع وفي بعضها بالواو، لكن الأولى أظهر؛ لأن ذلك يتفرع على ما قبله. وقوله إنه حدث فلم يستمر وجوده أن ذلك الذي وجد حدث فلم يستمر وجوده، بل انعدم عقب حدوثه.
وقوله: (ولم يكن ثابتا في الزمان الثاني) أي: ولم يكن وجوده ثابتا فيما عدا الزمان الأول من الأزمنة، وهذا تفسير لقوله “فلم يستمر وجوده” وعلم من ذلك أنه لا تناقض في قولنا “وجد فلم يبق”؛ لأنه ليس معناه وجد فلم يوجد حتى يحصل التناقض، بل معناه وجد فلم يستمر وجوده، فالمثبت في الزمن الأول والمنفي استمرار ذلك الوجود وكونه ثابتا في غير الزمن الأول، فلم يكن المثبت عين المنفي بل هو غيره.
قوله: (وأن القيام هو اختصاص الناعت بالمنعوت) أي: والحق أن قيام العرض بالشيء هو اختصاص الناعت الذي هو العرض بالمنعوت الذي هو الشيء كاختصاص السواد بالبياض، وحينئذ فيجوز أن يكون العرض باقيا ولو قلنا بأن البقاء معنى، وتمنع الاستثنائية القائلة: لكن كون البقاء معنى قائما به محال وكذلك يمنع دليلها القائل؛ لأنه لو كان البقاء معنى قائما به لزم قيام المعنى بالمعنى، لكن قيام المعنى بالمعنى محال فتمنع محالية قيام المعنى بالمعنى. وهذا وإن كان مذهبا فلسفيا إلا أنه صحيح لعدم مصادمته لقواعد الدين.
قوله: (كما في أوصاف الباري تعالى) أي: كالقيام الذي في أوصاف الباري تعالى، فإن معناه اختصاصها به اختصاص الناعت بالمنعوت، وليس معناه التبعية في التحيز؛ لاستحالة التحيز في حقه تعالى، ومراد الشارح بذلك أن تفسير القيام بالتبعية في التحيز غير مطرد؛ لأنه لا يجري في أوصاف الباري تعالى. وقد يدفع ذلك بأن هذا التفسير لقيام العرض بغيره لا لمطلق القيام، سواء كان القائم عرضا أو صفة قديمة وأوصافه تعالى ليست أعراضا بل صفات قديمة؛ ولذا حكموا ببقائها وعدم بقاء الأعراض. وقد نبه الشارح على ذلك فيما تقدم بقوله “ومعنى قيامه بإضافة القيام إلى ضمير العرض” ونوقش في ذلك بأن الشارح لم يرد بقوله “كما في أوصاف الباري تعالى” الإشارة إلى الاعتراض على تفسير القيام بالتبعية في التحيز بأنه غير مطرد؛ لعدم جريانه في أوصاف الباري تعالى حتى يدفع بما ذكر، وإنما أراد أن قيام العرض بغيره كقيام الصفة بالموصوف بلا تفاوت بينهما، وقيام الصفة بالموصوف معناه اختصاص الناعت بالمنعوت، فكذلك قيام العرض بغيره.
قوله: (وأن انتفاء الأجسام…إلخ) أي: والحق أن انتفاء الأجسام…إلخ، وهذا رد إجمالي لدليلهم، فهو نقض إجمالي متعلق بجملة الدليل بعد النقض التفصيلي المتعلق بكل من المقدمتين على حدته. وحاصله: أن ما ذكروه من الاستدلال على امتناع بقاء العرض استدلال في مقابلة الضرورة فهو مصادم للضرورة؛ لأن أصحابنا جعلوا الحكم ببقاء الأجسام ضروريا لمشاهدة بقائها ولم يلتفتوا لتجويز العقل انتفاء الأجسام في كل آن؛ أي: في كل وقت، وجعل مشاهدة بقائها بتجدد أمثالها، فتكون مشاهدة بقائها أمرا موهوما أوجبه تجدد الأمثال؛ لأن الحس لما لم يميز بين الشيء وشبهه التبس الحال، فظن أن المتجدد نفس المنقضي، والواقع أن عدم بقاء الأجسام على هذا التجويز ليس بأبعد عند العقل من عدم بقاء الأعراض بل مساوٍ له، وحينئذ فبقاء الأعراض ضروري أيضا، فيكون الاستدلال على أن العرض يمتنع بقاؤه استدلال في مقابلة الضرورة، فهو مخالف للضرورة فيكون باطلا، وقال العلامة عبد الحكيم: يمكن التفرقة بين الأجسام والأعراض بأن عدم بقاء الأجسام بعيد عند العقل بل محال؛ لأنه يستلزم سقوط التكليف بخلاف عدم بقاء الأعراض؛ إذ لا بعد في تجددها.
قوله: (نعم تمسكهم في قيام العرض بالعرض…إلخ) كان الأولى أن يقول: “نعم تمسك الفلاسفة في قيام العرض بالعرض…إلخ”؛ لأن الضمير يتبادر منه عوده للمتكلمين إذ السياق في كلامهم، واعلم أن الشارح لما رد استدلال المتكلمين على امتناع بقاء العرض بالنقض التفصيلي ثم بالنقض الإجمالي، وكان ربما يتوهم أن تمسك الفلاسفة في قيام العرض بالعرض بأن الحركة يقوم بها كل من السرعة والبطء تامٌ سالمٌ من الرد، استدرك على ذلك بقوله “نعم تمسكهم في قيام العرض بالعرض…إلخ” فذكر أنه ليس بتام وسالم من الرد.
قوله: (بسرعة الحركة وبطئها) أي: بقيام كل من السرعة والبطء بالحركة، وكل من السرعة والبطء عرض، والحركة عرض، فقد قام العرض بالعرض.
وقوله: (ليس بتام) أي: ليس بتام في الدلالة، بل مردود ومعترض؛ لأنا نمنع كون كل من السرعة والبطء عرضا لأنه أمر اعتباري لا وجود له في الخارج.
قوله: (إذ ليس هناك شيء هو حركة وآخر…إلخ) أي: لأنه ليس في مقام وصف الحركة بالسرعة والبطء شيئان وجوديان، أحدهما: هو حركة، والآخر: هو حركة أو بطء.
وقوله: (بل هناك حركة مخصوصة…إلخ) أي: بل في هذا المقام شيء وجودي واحد هو الحركة تسمى تلك الحركة المخصوصة بالنسبة إلى بعض الحركات سريعة؛ لكون ذلك البعض بطيئا، وبالنسبة إلى البعض الآخر بطيئة؛ لكون ذلك البعض سريعا، فيكون كل من السرعة والبطء أمرا اعتباريا لا وجود له في الخارج حتى يكون في ذلك قيام العرض بالعرض.
قوله: (وبهذا تبين أن ليست السرعة والبطء نوعين مختلفين من الحركة) أي: وبما ذكر من أن الذي هناك شيء واحد هو حركة مخصوصة، تسمى بالنسبة إلى بعض الحركات سريعة، وبالنسبة إلى البعض الآخر بطيئة أنه ليست الحركة السريعة والحركة البطيئة نوعين مختلفين بالذاتيات من الحركة وعلم من ذلك أن في عبارته مسامحة، حيث أطلق السرعة والبطء وأراد الحركة السريعة والحركة البطيئة.
وقوله: (إذ الأنواع الحقيقية لا تختلف بالإضافات) أي: لأن الأنواع الحقيقية كالإنسان والفرس والحمار لا تختلف بالنسب والاعتبارات فلا يقال الإنسان بالنسبة إلى الفرس كذا وبالنسبة إلى الحمار كذا، بخلاف الأنواع الاعتبارية، فإنها تختلف بالإضافات كما هنا، وبالجملة فلا نزاع في وصف الأعراض بالأمور الاعتبارية، وإنما النزاع في وصفها بالأعراض.
ولا جسمٍ، ولا جوهرٍ.
قال الشارح: (ولا جسم) لأنه متركب ومتحيز، وذلك أمارة الحدوث. (ولا جوهر) أما عندنا فلأنه اسم للجزء الذي لا يتجزأ، وهو متحيز وجزء من الجسم، والله تعالى متعال عن ذلك. وأما عند الفلاسفة فلأنهم وإن جعلوه اسماً للموجود لا في موضوع الذي إطلاقهما على الصانع من جهة مجرداً كان أو متحيزاً لكنهم جعلوه من أقسام الممكن وأرادوا به الماهية الممكنة التي إذا وجدت كانت لا في موضوع، وأما إذا أريد بهما القائم بذاته والموجودلا في موضوع فإنما يمتنع إطلاقهما على الصانع من جهة عدم ورود الشرع بذلك مع تبادر الفهم إلى المتركب والمتحيز. وذهاب المجسمة والنصارى إلى إطلاق الجسم والجوهر عليه بالمعنى الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه.
قال الخيالي:
قوله: (أرادوا به الماهية الممكنة) فيلزم أن يكون ممكنا وأن يزيد وجوده على ماهية وجود الواجب عين ذاته عندهم.
قال السيالكوتي:
قوله: (فيلزم أن يكون…إلخ) أي: فلو كان الواجب جوهرًا يلزم أن يكون ممكنًا هنا ويلزم أن يزيد وجوده الخاص على ماهيته لأن وجودات الممكنات زائدة على ماهيتها عندهم مع أن وجوده الخاص عين ماهيته كما قالوا فلا يرد ما قيل : إن الوجود المطلق زائد في الواجب أيضًا وماهو عينه هو وجوده الخاص.
قال الباجوري:
قوله: (ولا جسم) هذا وما بعده من قوله “ولا جوهر” إلى قوله “وله صفات” إشارة إلى مبحث المخالفة للحوادث.
وقوله: (لأنه مركب ومتحيز) أي: لأن الجسم مركب من الجواهر الفردة عند المتكلمين، ومن الهيولى والصورة عند الفلاسفة، وحال في حيز أي: قدر من الفراغ، وأشار بذلك إلى دليل من الشكل الثاني صورته هكذا: الجسم متركب ومتحيز، والواجب ليس بمتركب ولا بمتحيز، ينتج أن الجسم ليس بواجب فتعكس النتيجة إلى قولنا “الواجب ليس بجسم” وهو المطلوب.
وقوله: (وذلك أمارة الحدوث) أي: وما ذكر من التركيب والتحيز علامة الحدوث. أما التركب فلأنه يدل على الاحتياج إلى الأجزاء والمحتاج لا يكون إلا حادثا، وأما التحيز فلأنه يدل على الاحتياج للحيز والمحتاج لا يكون إلا حادثا.
قوله: (ولا جوهر) قد عرفت أن هذا إشارة إلى مبحث المخالفة للحوادث.
وقوله: (أما عندنا فلأنه اسم للجزء الذي لا يتجزأ) أي: أما كونه تعالى ليس بجوهر عندنا معاشر المتكلمين؛ فلأن الجوهر في اصطلاحنا اسم للجزء لا يتجزأ.
وقوله: (وهو متحيز وجزء من الجسم) أي: والجزء الذي لا يتجزأ حالٌ في حيز، وجزء من جملة أجزاء الجسم؛ لأن وجود الجوهر إنما يكون في ضمن الجسم لا بالاستقلال.
وقوله: (والله متعال عن ذلك) أي: والله متنزه عن المذكور من كونه متحيزا وكونه جزءا من الجسم. وحاصل ما أشار إليه بذلك دليل من الشكل الثاني نظمه هكذا: الجوهر متحيز وجزء من الجسم، والله تعالى ليس بمتحيز ولا جزء من الجسم، ينتج أن الجوهر ليس الله تعالى، فتعكس النتيجة إلى قولنا “الله تعالى ليس بجوهر” وهو المطلوب.
قوله: (وأما عند الفلاسفة فلأنهم وإن جعلوه…إلخ) أي: وأما كونه تعالى ليس بجوهر عند الفلاسفة؛ فلأنهم وإن جعلوا الجوهر اسما للموجود، لا في موضوع، أي: لا في محل يُقَوِّمُهُ، بخلاف العرض فإنه اسم للموجود في موضوع، أي: في محل يقومه، سواء كان الموجود لا في موضوع مجردا كالنفوس والعقول أو متحيزا كالأجسام، وهذا المعنى بحسب ظاهره صادق بالواجب كما هو صادق بالممكن، لكن الفلاسفة جعلوا الجوهر من أقسام الممكن الذي هو قسيم للواجب، “وأرادوا به الماهية الممكنة التي إذا وجدت كانت لا في موضوع” أي: لا في محل يقومها بخلاف العرض كما تقدم، وحينئذ فيلزم أن يكون الجوهر ممكنا؛ لأنهم أرادوا به الماهية الممكنة، ويلزم أيضا أن يكون وجوده الخاص زائدا على ماهيته، مع أن المولى سبحانه وتعالى واجب وجوده عين ذاته عندهم، فإنهم يقولون: إن وجود الممكن زائد على ذاته، ووجود الواجب عين ذاته، وعلم من ذلك أن قوله “لكنهم جعلوه…إلخ” هو روح العلة ويؤخذ منه دليل من الشكل الثاني نظمه هكذا: الجوهر من أقسام الممكن، والله تعالى ليس من أقسام الممكن، ينتج أن الجوهر ليس الله، فتعكس النتيجة إلى قولنا الله ليس بجوهر وهو المطلوب.
قوله: (وأما إذا أريد بهما) مقابل لمحذوف ،والتقدير: هذا إذا أريد بالجسم المتركب المتحيز، وبالجوهر الجزء من الجسم أو الماهية الممكنة الذي إذا وجدت كانت لا في موضوع، وأما إذا أريد بهما القائم بذاته مع قطع النظر عن التركب والتحيز في الجسم والموجود، لا في موضوع، لكن لا بمعنى الماهية الممكنة بل بمعنى مطلق الموجود المستغني عن الموضوع في الجوهر، فإنما يمتنع إطلاقهما على الصانع مع كون المعنى المراد منهما حينئذ صحيحا في حقه تعالى من جهة عدم ورود الشرع بإطلاقهما، فقوله القائم بذاته راجع للجسم.
وقوله: (والموجود لا في موضوع) راجع للجوهر.
قوله: (مع تبادر الفهم إلى المتركب والمتحيز) أي: حال كون عدم ورود الشرع بإطلاقهما مصاحبا لتبادر الفهم إلى المتركب في الجسم والمتحيز في الجسم والجوهر، وكان الأولى أن يزيد والممكن؛ ليكون إشارة إلى مذهب الفلاسفة في الجوهر.
وقوله: (وذهاب المجسمة والنصارى…إلخ) أي: ومع ذهاب المجسمة والنصارى…إلخ فهو بالجر معطوف على تبادر،
وقوله: (إلى إطلاق الجسم والجوهر عليه تعالى…إلخ) فالمجسمة يقولون: بأن الله جسم ذو مقدار وجهة، والنصارى يقولون: بأنه جوهر مركب من ثلاث أقانيم؛ أي: أصول، أقنوم الوجود وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، فإطلاق الجسم راجع للمجسمة وإطلاق الجوهر راجع للنصارى. وقوله: (بالمعنى الذي يجب تنزيه الله عنه) راجع لهما وهو متعلق بالإطلاق.
قال الشارح: فإن قيل: كيف صح إطلاق الموجود والواجب والقديم ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع؟ قلنا: بالإجماع وهو من الأدلة الشرعية. وقد يقال: إن الله والواجب والقديم ألفاظ مترادفة، والموجود لازم للواجب، وإذا ورد الشرع بإطلاق اسم بلغة فهو إذن بإطلاق ما يرادفه من تلك اللغة أو من لغة أخرى وما يلازم معناه، وفيه نظر.
قال الخيالي:
قوله: (و فيه نظر) للقطع بتغاير المفهومات وأيضا لا نسلم أن الإذن بالشيء إذن بمرادفه ولازمه كيف لا وقد يكونان موهمين للنقص ولا شك في صحة اطلاق مثل خالق كل شيء ويلزمه خالق القردة والخنازير مع عدم جواز اطلاق اللازم وقيل الطبيب لا يطلق عليه تعالى مع أنه يرادف الشافي وليس بشيء لأن الطبيب هو العالم بالطب والشافي من يفيد الشفاء.
قال السيالكوتي:
قوله: (للقطع بتغاير المفهومات) فإن الله علم للجزئي الحقيقي والواجب معناه ما يكون وجوده من ذاته والقديم مالا يكون مسبوقًا بالعدم.
قوله: (وأيضًا…إلخ) يرد أيضًا أنا لانسلم أن الإذن بالشيء إذن بمرادفه ولازمه لاحتمال أن يكون ذلك المرادف واللازم موهمين للنقص ولا يجوز الاكتفاء في عدم إيهام الباطل بمبلغ إدراكنا لاحتمال عدم اطلاعنا على وجه إيهامه فالتوقف واجب احتياطًا لعظم الخطر في ذلك كما هو مذهب الشيخ الأشعري ومتابعيه اعلم أنه لاكلام في جواز إطلاق أسماء الأعلام الموضوعة في اللغات له بل إنما النزاع في الأسماء المأخوذة من الصفات والأفعال فذهب المعتزلة والكرامية إلى أنه إذا دل العقل على اتصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية جاز أن يطلق عليه تعالى اسم يدل على اتصافه تعالى بها سواء ورد بذلك إذن الشرع أولا وكذا الحال في الأفعال وقال القاضي أبو بكر منا كل لفظ دل على معنى ثابت فيه جاز إطلاقه عليه بلا توقيف إذا لم يكن موهمًا بما لايليق بذاته تعالى وقد يقال: لا بد مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقف وذهب الشيخ ومتابعوه إلى أنه لا بد من التوقيف وهو المختار وذلك الاحتياط احترازًا عما يوهم باطلًا لعظم الخطر في ذلك فلا يجوز الاكتفاء في عدم إيهام الباطل بمبلغ إدراكنا بل لابد من الإسناد إلى إذن الشرع كذا في “شرح المواقف”.
قوله: (ولا شك في جوازه…إلخ) وكذا في جواز إطلاق الجواد عليه مع عدم جواز إطلاق السخي الذي يرادفه وكذا يجوز إطلاق العالم عليه مع عدم جواز إطلاق العارف والفقيه والعاقل والفطين لأن المعرفة قد يراد بها علم يسبقه غفلة والفقه فهم غرض المتكلم من كلامه وذلك مشعر بسابقية الجهل والعقل علم مانع من الإقدام على مالاينبغي مأخوذ من العقال إنما يتصور فيمن يدعوه الداعي إلى مالاينبغي والفطانة سرعة الإدراك فتكون مسبوقة بالجهل.
قوله: (وقيل الطبيب…إلخ) أي: قيل في بيان وجه النظر أنا لانسلم أن الإذن بالشيء إذن بمرادفه فإن الطبيب لايطلق عليه تعالى مع جواز إطلاق الشافي.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل كيف صح…إلخ) منشؤه قوله: “فإنما يمتنع إطلاقهما على الصانع من جهة عدم ورود الشرع بذلك حيث أفاد أن أسماءه تعالى توقيفية”، أي: تتوقف على الورود عن الشارع،
وقوله: (ونحو ذلك) أي: كالصانع ونحوه.
وقوله: (ما لم يرد به الشرع) أي: في كتاب أو سنة، لكن فيه أن القديم وارد إطلاقه في رواية ابن ماجة لحديث الأسماء التسعة والتسعين.
قوله: (قلنا بالإجماع) أي: قلنا في الجواب: صح إطلاق ما ذكر بالإجماع الفعلي فإن السلف أطبقوا على إطلاق تلك الألفاظ.
وقوله: (وهو من الأدلة الشرعية) أي: لأنه لابد له من مستند من كتاب أو سنة وإن خفي علينا، وحينئذ فلا يسلم عدم ورود الشرع بتلك الألفاظ.
قوله: (وقد يقال إن الله والواجب والقديم…إلخ) أي: وقد يقال في الجواب: إن الله والواجب والقديم…إلخ فهو جواب ثان.
وقوله: (ألفاظ مترادفة) أي: فتكون متحدة مفهوما وماصدقا، وسيأتي ما فيه من النظر.
وقوله: (والموجود لازم للواجب) كان الأولى أن يقول: “والموجود لازم لله”؛ لأنه الذي ورد إطلاقه.
وقوله: (وإذا ورد الشرع…إلخ) هو روح الجواب.
وقوله: (فهو إذن بإطلاق ما يرادفه من تلك اللغة أو من لغة أخرى) أي: فورود الشرع بإطلاق اسم بلغة إذنٌ بإطلاق ما يرادفه، سواء كان ذلك المرادف من تلك اللغة كما في الأسماء المذكورة، أو كان من لغة أخرى كما خُدَايْ فإنه من اللغة الفارسية وهو مرادف لله.
وقوله: (وما يلازم معناه) أي: كما في الموجود وهو معطوف على قوله ما يرادفه.
قوله: (وفيه نظر) أي: وفي هذا الجواب الثاني نظر؛ لأنا نمنع الترادف للقطع بتغاير المفهومات، فإن مفهوم الله الذات العلية ومفهوم الواجب ما يكون وجوده من ذاته ومفهوم القديم ما لا أول له، وأيضا على تسليم الترادف لا نسلم أن الإذن بالشيء إذن بمرادفه ولازمه كيف لا وقد يكون المرادف واللازم موهمين للنقص، فالمرادف الموهم للنقص كالعارف المرادف للعالم؛ لأن المعرفة قد يراد بها الإدراك المسبوق بالجهل، وهذا نقص واللازم الموهم للنقص كخالق القردة والخنازير اللازم الخالق لكل شيء؛ لأن خالق القردة والخنازير فيه نسبة القبيح إلى الله تعالى ولا شك في صحة إطلاق العالم دون العارف وإطلاق خالق كل شيء دون خالق القردة والخنازير، وقيل في بيان وجه النظر لا نسلم أن الإذن بالشيء إذن بمرادفه، فإن الطبيب لا يطلق عليه تعالى، مع أنه يرادف الشافي وهو يطلق عليه تعالى، وليس هذا القيل بشيء؛ لتخالفهما مفهوما فإن الطبيب هو العالم بالطب والشافي من يفيد الشفا، فليس الطبيب مرادفا للشافي.
ولا مُصوَّرٍ، ولا محدودٍ، ولا معدودٍ، ولا متبعِّضٍ، ولا متجزّ، ولا مُتَركّبٍ، ولا متناهٍ.
قال الشارح:
(ولا مصوَّر) أي: ذي صورة وشكل مثل صورة إنسان، أو فرس لأن ذلك من خواص الأجسام يحصل لها بواسطة الكميات والكيفيات وإحاطة الحدود والنهايات. (ولا محدود) أي: ذي حد ونهاية. (ولا معدود) أي: ذي عد وكثرة، يعنى ليس محلاً للكميات المتصلة كالمقادير، ولا المنفصلة كالأعداد وهو ظاهر. (ولا متبعض ولا متجزئ) أي: ذي أبعاض وأجزاء. (ولا متناه) لأن ذلك من صفات المقادير والأعداد.
قال الخيالي:
قوله: (وباعتبار انحلاله إليها متبعضا ومتجزئا) لكن يعتبر في التجزيء كون ما إليه الانحلال ما منه التركيب بخلاف التبعض.
قال السيالكوتي:
قوله: (لكن يعتبر في التجزيء…إلخ) على ما يشعر به لفظ التجزيء فإن معناه قسمة الشيء إلى أجزائه قال بعض الفضلاء ذلك معتبر في
الانحلال إذ هو عبارة عن بطلان الصورة وزوالها بخلاف التبعض والتجزيء فإنه بمعنى مطلق الانقسام. انتهى كلامه. ولا يخفى أنه يلزم على هذا أن يكون ذلك معبرًا في التجزي والتبعض أيضًا على مافسرهما الشارح لاعتباره الانحلال فيهما حيث قال وباعتبار انحلاله إليها متبعضًا ومتجزئًا.
قال الباجوري:
قوله: (ولا مصور) المتبادر أن لفظ مصور في كلام المتن اسم مفعول، فيكون بمعنى ذات وقع عليها التصوير، مع أن محدث العالم كما يتنزه عن أن يكون مصورا بتصوير الغير يتنزه عن أن يكون له صورة بدون تصوير الغير، فلذلك أفاد الشارح أنه ليس اسم مفعول وإنما هو صيغة نسب، حيث قال: أي: ذي صورة وشكل؛ لأن صيغة المفعول قد تأتي للنسب، كما في قوله تعالى:ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ أي: ذا ستر، وعطف الشكل على الصورة عطف تفسير.
قوله: (مثل صورة إنسان وفرس) أي: أو غيرهما كصورة ملك، وفي اقتصاره هنا على الصورة إشارة إلى أن المراد بالشكل والصورة شيء واحد، فيكون عطفه عليها عطف تفسير كما تقدم.
قوله: (لأن ذلك من خواص الأجسام)تعليل لقول المصنف “ولا مصور” فكأنه قال: وإنما لم يكن مصورا؛ لأن ما ذكر من الصورة والشكل من الأمور المختصة بالأجسام ومحدث العالم ليس بجسم،
وقوله: (يحصل لها) أي: يحصل ذلك للأجسام،
وقوله: (بواسطة الكميات) أي: بواسطة المقادير كالطول والعرض والعمق.
وقوله: (والكيفيات) أي: الأعراض القائمة بالأجسام وإحاطة الحدود، أي: كإحاطة الحدود بالمضلع كالمثلث الذي أحاط به ثلاث حدود، والمربع الذي أحاط به أربعة حدود.
وقوله: (والنهايات) عطف تفسير.
قوله: (ولا محدود) المتبادر أن لفظ محدود في كلام المصنف اسم مفعول، فيكون بمعنى ذات وقع عليها الحد وهذا ليس مرادا، ولذلك أفاد الشارح أنه ليس اسم مفعول، وإنما هو صيغة نسب حيث قال: “أي ذي حد ونهاية” وعطف النهاية على الحد عطف تفسير.
وقوله: (ولا معدود) يقال فيه ما قيل في الذي قبله، ولذلك قال الشارح: أي: ذي عد وكثرة، والمراد بالكثرة الزيادة على الواحد، وعطف الكثرة على العد من عطف اللازم على الملزوم.
قوله: (يعني ليس محلا…إلخ) لما كان تفسير المحدود بمحل الكميات المتصلة تفسيرا بالمراد لا بالحقيقة، وإن كان تفسير المعدود بمحل الكميات المنفصلة تفسيرا بالمعنى الحقيقي، أتى الشارح بالعناية فقال: “يعني ليس محلا…إلخ” وهو تفسير لقوله “ولا محدود ولا معدود” على اللف والنشر المرتب، فقوله “المتصلة” كالمقادير راجع لقوله “ولا محدود “.
وقوله: (المنفصلة) كالأعداد راجع لقوله “ولا معدود” فالمراد من كونه تعالى ليس محدودا أنه ليس محلا للكميات المتصلة كالمقادير والمراد من كونه تعالى ليس معدودا أنه ليس محلا للكميات المنفصلة كالأعداد.
قوله: (وهو ظاهر) أي: وكونه تعالى ليس محلا للكميات المتصلة والمنفصلة واضح لا يحتاج إلى البيان ويحتمل أن المعنى: وتفسير قوله: “ولا محدود ولا معدود” بذلك المعنى واضح، فالضمير إما راجع لكونه تعالى ليس محلا للكميات المتصلة والمنفصلة أو ليفسر قوله: “ولا محدود ولا معدود” بالمعنى المذكور.
قوله: (ولا متبعض ولا متجزئ) قضية كلام الشارح؛ أعني: قوله: وباعتبار انحلاله إليها متبعضا ومتجزئا أن المتبعض والمتجزئ مترادفان وسيأتي خلافه.
قوله: (أي ذي أبعاض وأجزاء) فيه لف ونشر مرتب؛ لأن قوله “أبعاض” راجع للمتبعض وقوله “وأجزاء” راجع للمتجزئ. وفي الحقيقة فالأجزاء مرادفة للأبعاض على ما اقتضاه كلام الشارح من الترادف بين المتبعض والمتجزئ.
قوله: (ولا متركب منها) أي: ولا متركب من الأبعاض والأجزاء المذكورة بالقوة في قول المصنف: ولا متبعض ولا متجزئ، وإنما ذكرت بالفعل في كلام الشارح.
قوله: (لما في كل ذلك من الاحتياج المنافي للوجوب) أي: لما في كل ما ذكر من المتبعض والمتجزئ والمتركب من الاحتياج المنافي للوجوب الذاتي، فإن المتبعض يحتاج إلى الأبعاض والمتجزئ يحتاج إلى الأجزاء وكذلك المتركب والاحتياج مقتضي للإمكان الذي هو ضد الوجوب، وكان الأولى تأخير ذلك عن قوله “فما له أجزاء…إلخ”؛ لأنه تحرير للمدعى وهو متقدم على الاستدلال عليه.
قوله: (فما له أجزاء…إلخ) قد عرفت أنه تحرير للمدعى؛ لأن غرضه بذلك بيان أن الفرق بين المتركب وكل من المتبعض والمتجزئ بالاعتبار، فأشار بقوله: “يسمى باعتبار تألفه منها متركبا” إلى أن المتركب هو ما له أجزاء تألف منها أي: تركب من تلك الأجزاء، وأشار بقوله “وباعتبار انحلاله إليها متبعضا ومتجزئا” إلى أن كلا من المتبعض والمتجزئ هو ما له أجزاء ينحل إليها، لكن قضية ذلك أن المتبعض والمتجزئ مترادفان، وليس كذلك بل يعتبر في التجزئ كون الأجزاء التي يؤول إليها الانحلال هي الأجزاء التي حصل منها التركيب، بخلاف التبعيض فإنه لا يعتبر فيه ذلك، فيكون التبعيض أعم من التجزئ عموما مطلقا، وذلك كما في الحصير فإنه باعتبار انحلاله إلى الخيط والسمار اللذين حصل منهما التركيب يسمى متجزئا وكذلك يسمى متبعضا، وباعتبار انحلاله إلى قطع كل قطعة منها باقي على نسجه يسمى متبعضا ولا يسمى متجزئا، فكل متجزئ متبعض ولا عكس.
قوله: (ولا متناه) أي: ولا ذي نهاية.
وقوله: (لأن ذلك من صفات المقادير والأعداد) أي: لأن التناهي من صفات المقادير التي هي الطول والعرض والعمق، ومن صفات الأعداد التي هي الكميات المنفصلة، وكل من المقادير والأعداد من خواص الممكنات، ومحدث العالم ليس بممكن.
ولا يُوصف بالماهيةِ، ولا بالكيفيةِ، ولا يتمكَّنُ في مكانٍ.
قال الشارح: (ولا يوصف بالماهية) أي: المجانسة للأشياء، لأن معنى قولنا ما هو؟ من أي جنس هو، والمجانسة توجب التمايز عن المجانسات بفصول مقومة، فيلزم التركيب. (ولا بالكيفية) أي: من اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وغير ذلك مما هو من صفات الأجسام وتوابع المزاجوالتركيب. (ولا يتمكن في مكان) لأن المكن عبارة عن نفوذ بعد في بعد آخر متحقق أو متوهم يسمونه المكان. والبعد عبارة عن امتداد قائم بالجسم أو بنفسه عد القائلين بوجود الخلاء، والله تعالى منزه عن الامتداد والمقدار، لاستلزامه التجزئ.
قال الخيالي:
قوله: (لأن معنى قولنا ما هو من أي جنس هو) صرح به السكاكي وغيره وهذا المعنى هو الذي نفي عنه تعالى نعم لها معان أخر مثل السؤال عن الحقيقة أو الوصف ولا يتعلق غرضنا بذلك، لكن يرد أن يقال المعتبر في الماهية هو الجنس اللغوي لا المنطقي وهم يعدون البشر جنسا مثلا فيلزم التركيب.
قوله: (والبعد عبارة عن امتداد) يعني أن البعد امتداد له نوعان عند القائل بوجود الخلاء وأما عند اصحاب السطح فله النوع الأول فقط وهذا التعريف للبعد الموجود ويعلم منه البعد الموهوم بالمقايسة.
قال السيالكوتي:
قوله: (لأن معنى ماهو…إلخ) تعليل لقوله أي: مجانسة الأشياء يعني إنما فسرنا الماهية بالمجانسة لأن معنى ما هو سؤال عن الجنس فمعنى الماهية المنسوب إلى ماأعني مايقع جوابًا عنه وهو الجنس فيكون المعنى ولايوصف بأن له جنسًا ولايقال إنه مجالس لشيء من الأشياء.
قوله: (صرح به السكاكي) يعني صرح السكاكي وغيره بأن ماللسؤال عن الجنس حيث قال في المفتاح وأما ماللسؤال عن الجنس تقول: ما عندك بمعنى أن الأجناس عندك، وجوابه أنه إنسان أو فرس أو طعام وكذلك تقول ما الكلمة وما الاسم وما الفعل وما الحرف وما الكلام.
قوله: (وهذا هو المعنى الذي نفى عنه) أي: وإنما حمل كلمة ما على معنى أي: جنس من الأجناس مع أن لها معان أخر أيضًا مثل السؤال عن الحقيقية المختصة بالشيء على ما ذكره السيد الشريف في شرح المفتاح في بيان قوله تعالى: ﱡﭐ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ أنه يحتمل أن يكون فرعون قد سئل بما عن خصوصية ذاته تعالى كأنه قال أي: شيء على الإطلاق تفتيشًا عن حقيقته الخاصة ماهي وأجاب موسى عليه السلام بالوصف تنبيهًا على أن خصوصية تلك الحقيقة محجوبة عن عقول البشر والسؤال عن الوصف على ما ذكره في المفتاح حيث قال ويسئل بما عن الوصف تقول مازيد وجوابه الكريم ونحوه لأنه المعنى الذي نفى عنه تعالى لاستلزامه التركيب المنافي للوجوب وأما السؤال عن الحقيقة المختصة والوصف فلا يتعلق غرضنا بنفي ذلك بل هو متصف عند المتكلمين وإنما قال غرضنا لأن الفلاسفة لهم غرض متعلق بذلك في الجملة حيث لايوصف الواجب بالحقيقة عندهم والأوصاف المغايرتين لوجوده تعالى فإن الواجب عندهم هو الوجود المجرد وفسر الفاضل الجلبي قوله مثل السؤال عن الحقيقة بالحقيقة النوعية ويخدشه أنه ليس معنى مغايرًا للأول بل هو داخل فيه لأن المراد بالجنس الجنس اللغوي.
قوله: (لكن يرد أن يقال…إلخ) يعني أنه يقال التقريب ليس بتام لأن المعتبر في الماهية المفسرة بأي جنس من الأجناس هو الجنس اللغوي بمعنى الأمر الشامل لا الجنس المنطقي أي: المقول على مختلفين بالحقائق على مايدل عليه مانقل من المفتاح والجنس اللغوي أعم لشموله الحقيقة النوعية أيضًا فإنهم يعدون البشر جنسًا وإذا كان المعتبر في المجانسة الجنس اللغوي الشامل للأنواع الحقيقية فلا يلزم من اتصافه تعالى بالمجانسة اللغوية التركيب في ذاته لجواز أن يكون له تعالى حقيقة بسيطة ولايكون له فصل مقوم فإن قيل إذا كان له حقيقة نوعية بسيطة فلا بد من تعين يميزه عما يشاركه فيلزم التركيب في هويته لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز قلت يجوز أن يكون ذلك التعين أمرًا عدميًا غير داخل في هويته تعالى فتأمل وأجاب بعض الفضلاء عن الاعتراض المذكور بأن المراد بالمجانسة المجانسة بالمعنى العرفي أي: المشاركة في الجنس الاصطلاحي ولا شك أن ثبوت الجنس الاصطلاحي له تعالى يستلزم التركيب في ذاته تعالى لابالمعنى اللغوي وهو المشاركة في الجنس اللغوي حتى يرد ما ذكر والقرينة قوله يوجب التمايز بفصول مقومة وأما قوله لأن ما هو إلخ فهو إشارة إلى بيان المناسبة بين المعنى العرفي واللغوي لا أن هذا المعنى مراد ويؤيده أيضًا ماسيأتي من قوله ولايماثله شيء. فتأمل.
قوله: (يعني أن البعد امتداد له…إلخ) يعني أن كلمة أو ليست للشك المنافي للتعريف بل لتقسيم المحدود فالحاصل أن البعد امتداد وله نوعان أحدهما القائم بالجسم التعليمي والثاني الامتداد المجرد عن المادة القائم بنفسه بحيث لو لم يشغله الجسم لكان خلاء وهذان النوعان عند من يقول بوجود الخلاء أي: البعد المجرد الذي يشغله الجسم والخلاء وإن كثر إطلاقه على المكان الخالي عن الشاغل لكن قد يطلق على هذا المعنى أيضًا كما وقع في عبارة هداية الحكمة حيث قال المكان إما الخلاء أو السطح وأما عند القائلين بأنه هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي النافين لوجود البعد المجرد فالبعد هو النوع الأول فقط؛ أعني: الامتداد القائم بالجسم.
قوله: (وهذا التعريف…إلخ) يعني أن تعريف البعد بالامتداد القائم بالجسم أو بنفسه إنما هو للبعد الموجود الذي أثبته الحكماء حيث قالوا بوجود المقدار إذ القيام إنما يتصور فيه وأما تعريف البعد الموهوم الذي هو لاشيء محض كما هو مذهب المتكلمين النافين للمقدار فيعرف بالمقايسة عليه بأن يقال البعد امتداد موهوم مفروض في الجسم أو في نفسه صالح لأن يشغله الجسم وينطبق عليه بعده الموهوم.
قال الباجوري:
قوله: (ولا يوصف بالمائية) اعلم أن المائية في الأصل هي الماهية، لكنها استعملت عرفا في المجانسة للأشياء، وهي نسبة لما بزيادة الهمزة بين الساكنين وهما الألف وياء النسب.
وقوله: (أي المجانسة للأشياء) أي: المشاركة في الأشياء في جنس؛ إذ مجانسة الشيء للشيء كونه مشاركا له في جنسه، كما في الإنسان والفرس فإنهما متجانسان أي: مشتركين في جنس وهو الحيوان.
قوله: (لأن معنى قولنا ما هو من أي جنس) هو تعليل لقول المصنف: ولا يوصف بالمائية مع تفسير المائية بالمجانسة لكن روح العلة هو.
قوله: (والمجانسة توجب التمايز…إلخ) فأشار لمناسبة تفسير المائية بالمجانسة بقوله “لأن معنى قولنا ما هو من أي جنس هو” أي: لأن معنى قولنا في السؤال من أي جنس هو فإذا قيل الذي عندك ما هو كان المعنى من أي جنس هو، فما للسؤال عن الجنس كما صرح به السكاكي وغيره، وهذا المعنى هو الذي نفي عنه تعالى. نعم لما معان أخر: مثل السؤال عن الحقيقة كأن يقال ما الإنسان أي: ما حقيقته، أو عن الوصف كأن يقال ما زيد أي: ما وصفه فيقال في جوابه الكريم أو نحو ذلك، وإنما اقتصر الشارح على كون “ما” للسؤال عن الجنس دون السؤال عن الحقيقة أو عن الوصف؛ لأنه لا يتعلق غرضنا بذلك فإن غرضنا نفي ذلك عنه تعالى ولا ينفي عنه تعالى إلا السؤال عن الجنس بخلاف السؤال عن الحقيقة أو عن الوصف؛ لأن المتكلمين على أن المولى له حقيقة وعلى أنه يوصف بالأوصاف وأشار بقوله “والمجانسة توجب التمايز…إلخ” إلى علة كونه تعالى لا يوصف بالمائية بمعنى المجانسة للأشياء، فكأنه قال: وإنما لم يتصف بالمائية بمعنى المجانسة التي هي المشاركة في جنس؛ لأن المجانسة توجب التمايز عن المجانسات بفصول مقومة فتوجب تميز كل واحد منها عما عداه بالفصل المحقق له،
وقوله: (فيلزم التركيب) أي: وإذا كانت المجانسة توجب التمايز عن المجانسات بفصول مقومة فيلزم التركيب من الجنس الذي وقعت فيه المجانسة، والفصل الذي حصل به التميز مثلا الإنسان والفرس والحمار وغيرها أمور متجانسة أي: متشاركة في الجنس وهو الحيوان، فلابد وأن يتميز كل منها عن المجانسات بفصول مقومة، فيتميز الإنسان بالناطق فتكون حقيقته مركبة من الجنس وهو الحيوان والفصل وهو الناطق وهكذا، لكن يرد على ذلك أن يقال المعتبر في الماهية هو الجنس اللغوي لا المنطقي، والجنس اللغوي أعم من المنطقي لشموله النوع أيضا، فإن أهل اللغة يعدون البشر مثلا جنسا، وحينئذ فلا يلزم التركيب، وأجاب بعضهم عن هذا الإيراد بأن المراد بالمجانسة في قوله: “ولا بالمائية” أي: المجانسة للأشياء المشاركة في الجنس الاصطلاحي الذي هو المنطقي، والمجانسة بهذا المعنى تستلزم التركيب، والمراد بالجنس في قوله: “لأن معنى قولنا ما هو من أي جنس هو” الجنس اللغوي، وإنما أتى الشارح به مع أن المراد بالمجانسة هنا المشاركة في الجنس الاصطلاحي بيان تفسير المائية بالمجانسة مع أن الجنس الاصطلاحي فرد من أفراد الجنس اللغوي، وهذا كاف في صحة التفسير بذلك ولا يضر في ذلك شمول الجنس اللغوي لغير المنطقي.
قوله: (ولا بالكيفية) أي: سواء كانت محسوسة بالحواس الظاهرة كما ذكره الشارح بقوله “من اللون…إلخ” أو بالحواس الباطنة كاللذة والحزن، وقوله: (من اللون) أي: كالبياض والسواد، واللون كيفية تدرك بحاسة البصر.
وقوله: (والطعم) أي: كالحلاوة والمرارة، والطعم كيفية تدرك بحاسة الذوق.
وقوله: (والرائحة) أي: كرائحة المسك، والرائحة كيفية تدرك بحاسة الشم.
وقوله: (والحرارة) أي: كحرارة النار.
وقوله: (والبرودة) أي: كبرودة الماء.
وقوله: (والرطوبة) أي: كرطوبة العجين.
وقوله: (واليبوسة) أي: كيبوسة الحجر، والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة كيفيات تدرك بحاسة اللمس.
وقوله: (وغير ذلك مما هو من صفات الأجسام) أي: كالنعومة والخشونة.
وقوله: (وتوابع المزاج) أي: كالحنو والإشفاق والإذعان والفرح، والمزاج كيفية تحصل من امتزاج العناصر وإنما كانت الكيفيات المذكورة توابعه؛ لأنها تحدث عنه.
و(التركيب) أي: وتوابع التركيب كالكلية والجزئية والصغرى والكبرى.
قوله: (ولا يتمكن في مكان) أي: ولا يحل في مكان بجميع معانيه المختلفة بحسب الأقوال فيه، فإنه اختلف فيه فذهب المتكلمون إلى أنه بعد موهوم ينفذ فيه بعد الجسم وينطبق عليه وهو المراد بالفراغ الموهوم، فالمكان على هذا أمر عدمي لا وجود له وإنما يثبته الوهم. وذهب أرسطو ومن تبعه من المشائين إلى أنه السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي، كالسطح الباطن من الكوز المماس للسطح الظاهر من الماء والهواء مثلا فالمكان على هذا أمر وجودي؛ إذ السطح عندهم عرض قائم بالجسم، والعرض أمر وجودي. وذهب أفلاطون ومن تبعه إلى أنه بعد محقق مجرد قائم بنفسه ينفذ فيه بعد الجسم وينطبق عليه، وذلك يكون بالتداخل، فالمكان على هذا أمر وجودي؛ لأنه جوهر مجرد عن المادة قائم بنفسه غير متحيز، وهذا كله عند أهل العلم، وأما العامة فإنهم يطلقون المكان على ما يمنع الشيء من النزول، فيجعلون الأرض مكانا حتى لو منع جسم صغير جسما كبيرا عن النزول كان مكانا له. واعلم أن قوله “في مكان” يغني عن ذكر التمكن؛ لأن التمكن لا يكون إلا في مكان، وإنما أتى به للتصريح بالعموم ردا على من نفى المكان سوى المكان العلوي.
قوله: (لأن التمكن عبارة عن نفوذ بعد في بعد آخر) علة لنفي التمكن في مكان عنه تعالى، والمراد بالبعد النافذ الامتداد القائم بالجسم من طول وعرض وعمق، والمراد بالبعد المنفوذ فيه الفراغ الموهوم عند المتكلمين، أو السطح الباطن من الحاوي عند أرسطو ومن تبعه، أو البعد المحقق المجرد القائم بنفسه عند أفلاطون ومن تبعه،
وقوله: (متوهم) أي: عند المتكلمين.
وقوله: (أو متحقق) أي: عن الحكماء وهو صادق بكونه عرضا كما يقول أرسطو ومن تبعه، أو جوهرا مجردا كما يقول أفلاطون ومن تبعه. وقوله: (يسمونه المكان) أي: يسمي المتكلمون والحكماء البعد الآخر المتوهم أو المتحقق بالمكان فهو شامل لجميع الأقوال.
قوله: (والبعد عبارة عن امتداد قائم…إلخ) يعني أن البعد امتداد له نوعان، أحدهما: قائم بالجسم وهذا هو البعد النافذ، وثانيهما: قائم بنفسه وهذا هو البعد المنفوذ فيه، لكن هذا عند القائلين بوجود الخلاف، وأنه جوهر مجرد وهم أفلاطون ومن تبعه، وأما عند أصحاب السطح وهم أرسطو ومن تبعه، فالبعد النوع الأول فقط وهو القائم بالجسم سواء كان نافذا أو منفوذا فيه، فالبعد النافذ هو الامتداد القائم بالجسم المحوي، والبعد المنفوذ فيه هو الامتداد القائم بالجسم الحاوي. وهذا التعريف للبعد الموجود الذي أثبته الحكماء ويعلم منه البعد الموهوم بالمقايسة، فيقال في تعريفه: هو امتداد موهوم مفروض في الجسم أو نفسه، وبهذا التقرير ظهر لك أن المراد بالخلاء في كلام الشارح: الامتداد الذي هو جوهر مجرد لا المكان الخالي عن الشاغل وإن كثر إطلاقه عليه.
قوله: (والله تعالى منزه عن الامتداد والمقدار) أي: سواء كان منزها أو متحققا، وعطف المقدار على الامتداد عطف تفسير.
وقوله: (لاستلزامه التجزئ) أي: لأنه لا يمتد ولا يكون له مقدار إلا ما كان مركبا من أجزاء وقد تقدم امتناع ذلك في حقه تعالى
قال الشارح: فإن قيل: الجوهر الفرد متحيز ولا بعد فيه، وإلا لكان متجزئاً. قلنا: المتمكن أخص من المتحيز، لأن الحيز هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شيء ممتد أو غير ممتد، فما ذكر دليل على عدم التمكن في المكان.وأما الدليل على عدم التحيز فهو أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزم قدم الحيز، أو لا فيكون محلاً للحوادث.وأيضاً إما أن يساوي الحيز أو ينقصعنه، فيكون متناهياً، أو يزيد عليه فيكون متجزئاً. وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا علو ولا سفل ولا غيرهما، لأنهما إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شيء.
قال الخيالي:
قوله: (فيلزم قدم الحيز) هذا مبني على وجود الحيز وهو خلاف مذهب المتكلمين.
قوله: (فيكون محلا للحوادث) لأن الحصول في الحيز من الأكوان من الموجودات العينية عند المتكلمين.
قوله: (إما أن يساوي الحيز أو ينقص أو يزيد) هذا التردد لإظهار البطلان على جميع التقادير وإلا فلا يتصور زيادة الشيء على حيزه ونقصانه عنه في جميع المذاهب ثم إن هذا الدليل مبني على تناهي الأبعاد وإلا لجاز أن يساوى الحيز الغير المتناهي.
قوله: (باعتبار عروض الإضافة إلى شيء) فإن الدار المبنية بين الدارين علو بالنسبة إلى ما تحتها وسفل بالنسبة إلى ما فوقها.
قال السيالكوتي:
قوله: (وهذا مبني على وجود الحيز) يعني لزوم قدم الحيز إنما هو عند من يقول بوجود الحيز كما هو مذهب الحكماء من أن القدم والحدوث
إنما يكونان من صفات الموجود وأما عند المتكلمين القائلين بأنه موهوم محض فلا يلزم من كونه في الأزل قدمه فلا يتم استدلالهم على مذهبهم فلا يكون دليلًا تحقيقًا ولو أريد بالقدم ههنا معنى الأزل فاستحالة أزلية المعدوم ممنوع كيف وإن الأعدام الأزلية غير متناهية قال الفاضل المحشي ولعل الشارح أراد بقدم الحيز أزليته وهذا أيضًا محال في حقه تعالى إذ يلزم حينئذ أن يكون للمتحيز وضع معين أزلي يشار إليه بالإشارة الحسية وإن كان أمرًا وهميًا وأن يكون الواجب محتاجًا إلى ذلك الأمر الوهمي في الأزل وكل ذلك محال عليه تعالى أو أراد بقدم الحيز قدم المتحيز وهو محال عند المتكلمين إذ يلزم حينئذ تتالى الأكوان غير المتناهية في الأزمنة الماضية غير المتناهية ويبطله برهان التطبيق. انتهى كلامه. ويرد عليه أنا لانسلم لزوم الوضع الذي يشار إليه بالإشارة الحسية وأن الاحتياج إلى الأمر الوهمي ينافي وجوبه الذاتي لجواز أن يكون مقتضى ذاته كسائر الصفات وعلى تقدير التسليم فلا حاجة إلى التطويل بل يكفي أن يقال إنه تعالى ليس بمتحيز وإلا لزم احتياجه إلى الحيز وهو ينافي الوجوب وأنا لانسلم أنه يلزم تتالي الأكوان غير المتناهية لجواز أن يكون له تعالى كون واحد في ذلك الحيز مستمر من الأزل إلى الأبد وإنما يلزم لو كان كونه تعالى من قبيل الأعراض الحادثة التي لاتبقى زمانين.
قوله: (والأكوان من الموجودات العينية…إلخ) يعني على ما مر من أن التكلمين وإن أنكروا الأعراض النسبية بأسرها إلا أنهم قالوا بوجود الأكوان الأربعة الحركة والسكون والاجتماع والافتراق.
قوله: (هذا الترديد…إلخ) دفع لما يتوهم من أن الترديد المذكور قبيح إذ لا يتصور زيادة الشيء على حيزه أو نقصانه في جميع المذاهب كما يشهد به الرجوع إلى معناه وحاصل الدفع أن هذا الترديد لإظهار بطلانه على جميع التقادير المحتملة عند العقل سواء ذهب إليه أحد أولا وقيل إنه ترديد بالنسبة إلى المعنى اللغوي للتحيز إذ هم يطلقون على التزايد والتناقص يقال: زيد في المسجد وعلى الكرسي.
قوله: (ثم إن هذا الدليل) أي: هذا الدليل على وجه قرره الشارح مبني على تناهي الأبعاد وإنما قلنا ذلك إذ لو قرر بأنه إما أن ينقص عن الحيز فيكون متناهيًا أو يساويه أو يزيد عليه فيكون متجزئًا لا يكون مبنيًا عليه كما لا يخفى قيل إن الدليل المذكور مبني أيضًا على أنه تعالى ليس جزء لا يتجزأ لأنه يتركب عنه غيره ولأنه أحقر الأشياء وأخسها وإلا فيجوز أن يكون ناقصًا من الحيز ولا يكون متناهيًا إذ التناهي من خواص المقدار و الجوهر الفرد لا مقدار له.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل الجوهر الفرد…إلخ) هذا السؤال وارد على تعريف التمكن بنفوذ بعد في بعد، وحاصله أن مقصود المصنف أن ينفي حلوله تعالى في مكان مع البعد كما في الجسم، أو مع عدم البعد كما في الجوهر الفرد؛ لأن المتمكن مرادف للمتحيز، وحينئذ فيكون التعريف المذكور غير جامع لعدم شموله لتمكن الجوهر الفرد؛ إذ تمكنه لا يصدق عليه نفوذ بعد في بعد لأنه لا بعد له.
وقوله: (وإلا لكان متجزئا) أي: وإن انتفى لا بعد فيه بأن كان فيه بعد لكان ذا أجزاء مع أن الجوهر الفرد جزء لا يتجزأ.
قوله: (قلنا المتمكن…إلخ) أي: قلنا في الجواب عن هذا القيل المتمكن…إلخ، وحاصله: أنا لا نسلم أن مقصود المصنف أن ينفي حلوله تعالى في مكان مطلقا وأن المتمكن مرادف للمتحيز حتى يكون التعريف المذكور غير جامع، بل المصنف إنما تكلم على أمر خاص وهو التمكن ولم يتكلم على العام وهو التحيز، فإن المتمكن أخص من المتحيز؛ إذ المتمكن خاص بما كان فيه بعد وهو الجسم، والمتحيز شامل لما فيه بعد وهو الجسم، ولما لا بعد فيه وهو الجوهر الفرد، فكل متمكن متحيز ولا عكس.
وقوله: (لأن الحيز هو الفراغ الذي يشغله شيء) أي: لأن الحيز عند المتكلمين هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شيء،
وقوله: (ممتدا أو غير ممتد) تعميم في الشيء، أي: ممتدا ذلك الشيء كالجسم أو غير ممتد كالجوهر الفرد بخلاف المكان فإنه عند المتكلمين هو الفراغ المتوهم الذي يشغله الشيء الممتد كالجسم، فالحيز أعم من المكان عموما مطلقا، ومن هذا تعلم أنه كان الأولى للمصنف أن يقول: “ولا يتحيز في حيز”؛ لأنه يلزم من نفي التحيز نفي التمكن بخلاف العكس، لكن العلامة العصام قد اعترض على الشارح بأن كون الحيز أعم من المكان عند المتكلمين حتى لا يجعلون الجوهر الفرد متمكنا بل متحيزا لم نجده إلا في كلام الشارح، وأما عباراتهم فتصح عن اتحاد معنى الحيز والمكان.
قوله: (فما ذكر دليل على عدم التمكن في المكان) أي: فما ذكر من قوله “لأن التمكن…إلخ” دليل على عدم تمكنه تعالى في المكان الذي تعرض له المصنف.
وقوله: (وأما الدليل على عدم التحيز…إلخ) مقابل لما قبله، ولما كان الدليل السابق إنما يدل على عدم التمكن كما أشار إليه بقوله فما ذكر دليل على عدم التمكن في المكان احتاج إلى ذكر دليل يدل على عدم التحيز فقال: “وأما الدليل على عدم التحيز…إلخ.”
قوله: (فهو إنه لو تحيز…إلخ) أي: فالدليل على عدم التحيز أنه تعالى لو تحيز…إلخ.
وقوله: (فأما في الأزل) أي: فإما أن يكون تحيزه في الأزل.
وقوله: (فيلزم قدم الحيز) أي: لأن كون التحيز في الأزل يستلزم أن يكون الحيز في الأزل فإن التحيز يستحيل وجوده بدون الحيز وهذا مبني على مذهب القائلين بوجود الحيز وهو خلاف مذهب المتكلمين؛ لأنهم يقولون بأن الحيز هو الفراغ الموهوم فلا وجود له عندهم ولا قدم لما لا وجود له فلا يلزم عندهم من كون التحيز في الأزل قدم الحيز فهذا الدليل غير تام بالنظر لمذهب المتكلمين في الحيز.
قوله: (أولا) أي: أو لا يكون تحيزه في الأزل فيكون محلا للحوادث أي: فيكون تعالى محلا للحوادث؛ لأن التحيز إذا لم يكن في الأزل كان حادثا لا يقال التحيز أمر اعتباري والأمر الاعتباري لا يتصف بالحدوث؛ لأنا نقول التحيز هو الحصول في الحيز وهو إما حركة أو سكون وكل منهما من الأكوان الأربعة وهي أمور وجودية عند المتكلمين فتكون متصفة بالحدوث.
قوله: (وأيضا إما أن يساوي…إلخ) هذا شروع في دليل ثاني لعدم التحيز، وهذا الترديد إنما هو لإظهار بطلان التحيز على جميع التقادير التي يفرضها العقل وإلا فلا يتصور زيادة الشيء على حيزه أو نقصانه عنه في جميع المذاهب؛ لأن حيز الشيء قدره، ويمكن أن يقال هذا الترديد منظور فيه للمعنى اللغوي؛ لأن أهل اللغة يطلقون الحيز على الزائد على الشيء فيقولون زيد في المسجد وعلى الناقص عن الشيء فيقولون زيد على الكرسي إذا كان الكرسي ناقصا عنه، فقد جعلوا كلا من المسجد والكرسي أنقص عنه ثم إن هذا الدليل مبني على تناهي الأبعاد المنفوذ فيها وهي الحيزات، ولذلك جعل فيه اللازم على مساواته تعالى للحيز كونه متناهيا وإلا لجاز أن يساوي الحيز الغير المتناهي لعدم لزوم التناهي حينئذ؛ إذ المساوي لغير المتناهي غير متناه. نعم يلزم التجزئ حينئذ؛ لأن الحال في الحيز الغير المتناهي امتداد ومقدار وهو يقبل التجزء، لكن كلام الشارح في لزوم المتناهي فمقتضاه أن التناهي هو المانع من المساواة وهي لا يمشي إلا على القول بتناهي الأبعاد.
قوله: (فيكون متناهيا) راجعا لكل من المساواة والنقص وقد عرفت أن لزوم التناهي للمساواة مبني على تناهي الأبعاد.
وقوله: (فيكون متجزئا) أي: لأن ما قابل الحيز جزء وما زاد عليه جزء آخر، وإنما جعل التجزئ لازما للزيادة فقط دون المساواه والنقصان؛ لما تقدم من أن الحيز أعم من المكان لكونه يشمل الفراغ الذي يشغله شيء غير ممتد، وحينئذ فلا يلزم من المساواة أو النقصان التجزئ وإنما يلزم التناهي كما علمت.
قوله: (وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة) هذا جواب عما يقال قد جرى فيما بينهم نفي كونه في جهة؛ لأن نفي كونه في مكان يستلزم نفي كونه في جهة فيعلم منه بطريق اللزوم.
وقوله: (لا علو) لا في جهة علو.
وقوله: (ولا سفل) أي: ولا في جهة سفل.
وقوله: (ولا غيرهما) من جهة اليمين واليسار والأمام والخلف، فجملة الجهات ست.
قوله: (لأنها إما حدود وأطراف الأمكنة أو نفس الأمكنة) أي: لأن الجهات تارة تطلق حدود وأطراف الأمكنة فيقال أمام الدار وفوق الدار مثلا، ويراد بذلك حدودها وأطرافها، وتارة تطلق على نفس الأمكنة فيقال فوق الأرض أو تحت الأرض مثلا، ويراد بذلك نفس المكان. وقوله: (باعتبار عروض الإضافة إلى شيء) أي: باعتبار عروض إضافة الأمكنة إلى شيء، فإن الدار المبنية بين الدارين علو بالنسبة لما تحتها وسفل بالنسبة إلى ما فوقها، فالفراغ الذي خلت فيه الدار المتوسطة علو وسفل، باعتبار عروض الإضافة إلى شيء.
ولا يجري عليهِ زمانٌ.
قال الشارح: (ولا يجري عليه زمان) لأن الزمان عندنا عبارة عن متجدد مقدر به متجدد آخر، وعند الفلاسفة عن مقدار الحركة، والله تعالى منزه عن ذلك. واعلم أن ما ذكره من التنزيهات بعضها يغني عن البعض، إلا أنه حاول التفصيل والتوضيح في ذلك قضاء لحق الواجب في باب التنزيه، ورداً على المشبهة والمجسمة وسائر فرق الضلال والطغيان بأبلغ وجه وآكده، فلم يبال بتكرير الألفاظ المترادفة والتصريح بما علم بطريق الالتزام.
قال الباجوري:
قوله: (ولا يجري عليه زمان) أي: لا يتعين وجوده بزمان كأن يقال وجد وقت؛ لأنه لا يتعين وجوده بالزمان إلا ما كان وجوده لا يحصل بدون الزمان كوجودنا، بخلاف وجوده تعالى فإنه حاصل ولو فرض انتفاء الزمان فوجود مستمر قبل الزمان ومع الزمان وبعد الزمان لا في الزمان.
قوله: (لأن الزمان عندنا عبارة عن متجدد…إلخ) أي: لأن الزمان عندنا معاشر المتكلمين عبارة عن متجدد معلوم يقدر به متجدد آخر مجهول، كما في قولك: أجيئك عند طلوع الشمس، فإن طلوع الشمس متجدد معلوم قدر به متجدد آخر مجهول، وعلى هذا فالزمان عرض، وأما على القول بأنه مقارنة متجدد موهوم لمتجدد معلوم إزالة للإبهام فهو أمر اعتباري؛ إذ المقارنة المذكورة من الأمور الاعتبارية.
وقوله: (وعند الفلاسفة عن مقدار الحركة) أي: والزمان عند الفلاسفة عبارة عن مقدار حركة الفلك الأعظم وهو العرش، الذي هو مقسم عندهم ثلاثمائة وستون جزءا، وهذا القول هو المشهور عند الفلاسفة وهو قول أرسطو ومن تبعه. وقالت طائفة منهم أنه حركة الفلك، وقالت طائفة منهم أخرى أنه الفلك نفسه، وقال جمع من متقدميهم أنه جوهر مجرد، ثم اختلف هذا الجمع فقال بعض منه وهو أفلاطون ومن تبعه أنه ممكن يقبل العدم، وقال بعض منه آخر أنه واجب لا يقبل العدم، فأقوالهم خمسة.
وقوله: (والله منزه عن ذلك) أي: والله تعالى متنزه عن المذكور من المتجدد ومقدار الحركة فلا يقدر وجوده بمتجدد؛ لأنه لا تجدد في ذاته أصلا، ولا ينطبق وجوده على مقدار الحركة؛ لأن وجوده تعالى متحقق ولو فرض انتفاء الزمان كما تقدم.
قوله: (واعلم أن ما ذكره في التنزيهات بعضه يغني عن البعض) أي: واعلم أن ما ذكره المصنف في التنزيهات التي هي الصفات السلبية المذكورة بقوله “ليس بعرض…إلخ” بعضه يغني عن البعض الآخر لما بينهما من الترادف كالمتبعض والمتجزئ؛ بناء على ما اقتضاه كلام الشارح فيما تقدم من أنهما مترادفان أو لما بينهما من اللزوم، كقوله “ولا يوصف بالكيفية” مع قوله “ولا مصور” فإن سلب الكيفية وسلب الصورة متلازمان، وكذا سلب الحدود وسلب التناهي وهكذا.
وقوله: (إلا أنه حاول التفصيل والتوضيح في ذلك) أي: إلا أن المصنف قصد التفصيل والتوضيح فيما ذكره من التنزيهات؛ قضاء لحق الواجب في باب التنزيه أي: أداء الحق الواجب في باب التنزيه له تعالى عما لا يليق به، وإضافة حق للواجب يحتمل أن تكون من إضافة الموصوف للصفة أي: للحق الواجب أي: الثابت، ويحتمل أن تكون من الإضافة الحقيقية أي: لحق واجب الوجود وهو الله تعالى.
وقوله: (وردا على المشبهة والمجسمة وسائر فرق الضلال والطغيان بأبلغ وجه وآكده) أي: وردا على المشبهة: وهم قوم غلبت عليهم الجهالة إلى أن شبهوه بالحوادث في الصورة والجهة والتحيز ونحو ذلك، وعلى المجسمة: وهم قوم يقولون بأن الله جسم، لكن صنف يقول بأنه جسم كالأجسام، وصنف يقول بأنه جسم لا كالأجسام، وعلى سائر فرق الضلال والطغيان من أهل الكفر والعصيان، كالكرامية: القائلين باتصافه تعالى بالصفات الحادثة فيقولون متصف بقدرة حادثة وهكذا، بأبلغ وجه وآكده؛ لأن التفصيل أبلغ من الإجمال والتصريح بما علم بطريق الالتزام، أي: وحيث كان غرضه ما ذكر فلم يبال بتكرار الألفاظ كالمتبعض والمتجزئ على ما فيه، ولا بالتصريح بما علم بطريق الالتزام كالتصريح بنفي لوازم الجسمية من الصورة والتركيب والتجزئ ونحوها، فإن جميع ذلك قد علم بطريق الالتزام من نفي الجسمية.
قال الشارح: ثم إن مبنى التنزيه عن ما ذكرت على أنها تنافي وجوب الوجود لما فيها في شائبة الحدوث والإمكان على ما أشرنا إليه، لا على ما ذهب إليه المشايخ من أن معنى العرض بحسب اللغة ما يمتنع بقاؤه ومعنى الجوهر ما يتركب عنه غيره ومعنى الجسم ما تركب هو من غيره بدليل قولهم: هذا أجسم من ذاك، وأن الواجب لو تركب فأجزاؤه إما أن تتصف بصفات الكمال فيلزم تعدد الواجب أو لا فيلزم النقص والحدوث.
قال الخيالي:
قوله: (إما أن تتصف بصفات الكمال…إلخ) وجه ضعفه أن صفات الكمال هي العلم والقدرة وأخواتهما ولا يلزم من تعدد موصوفاتها تعدد
الواجب ويرد عليه أن من جملة صفات الكمال والوجوب والقدم وأيضا صفات الكمال هي العلم التام والقدرة التامة ونحوهما وهي لا توجد إلا في الواجب.
قال السيالكوتي:
قوله: (وجه ضعفه…إلخ) حاصله منع الملازمة يعني لا نسلم أنه لو اتصف أجزاؤه بصفات الكمال يلزم تعدد الواجب فإن الاتصاف بالعلم والقدرة وأخواتهما لا يستلزم الاتصاف بوجود الوجود حتى يلزم ما ذكر وبعض الأفاضل بين وجه ضعفه بمنع الملازمة الثانية يعني لا نسلم أنه لو لم يتصف أجزاؤه بجميع صفات الكمال يلزم نقص الواجب وحدوثه وإنما يلزم لو لم يتصف المجموع أيضًا وفيه أن نقص الجزء يستلزم حدوثه وحدوث الجزء يستلزم حدوث الكل. انتهى كلامه. أقول: كون عدم الاتصاف ببعض الصفات نقصانًا بالنسبة إلى الجزء ممنوع لابد له من دليل وعلى تقدير التسليم فثبوت أن نقص الجزء يستلزم حدوثه موقوف على مااشتهر من أن النقصان من سمات الحدوث وأن وجوب الوجود معدن كل كمال ومبعد كل نقصان لكن لم يقم دليل عليه يعتد به.
قوله: (ويرد عليه…إلخ) إثبات الملازمة الممنوعة يعني أن المراد بصفات الكمال جميعها على أن تكون الإضافة للاستغراق ولا شك أن الاتصاف بجميع صفات الكمال يستلزم تعدد الواجب لأن من جملة تلك الصفات وجوب الوجود بل هو أصل بالنسبة إليها فإن قيل: على هذا لاتكون الشرطية الثانية صحيحة؛ أعني: قوله: لو لم يتصف بصفات الكمال يلزم النقص والحدوث لأن رفع الإيجاب الكلي يستلزم السلب الجزئي ولايلزم من انتفاء بعض صفات الكمال الحدوث لجواز أن يكون متصفًا بالوجوب قلت: فحينئذ يلزم تعدد الواجب وقد عرفت بطلانه وقال بعض الفضلاء: هذا مبني على ما قيل: إنه إذا لم يكن متصفًا بجميع صفات الكمال لا يكون واجبًا؛ لأن الوجوب معدن كل كمال ومبعد كل نقصان فيكون حادثًا؛ لأنه حينئذ يكون ممكنًا وكل ممكن حادث وقد عرفت مافيه آنفًا.
قوله: (وأيضًا صفة الكمال…إلخ) توجيه آخر لإثبات الملازمة يعني أن صفات الكمال العلم التام والقدرة التامة ونحوهما لامطلق العلم والقدرة مثلًا وهي لاتوجد إلا في الواجب.
قال الباجوري:
قوله: (ثم إن مبنى التنزيه عما ذكرت على أنها تنافي وجوب الوجود…إلخ) هذا توطئة وتمهيد للتورك على ما ذهب إليه المشايخ في علة التنزيه مما ذكرت، أي: ثم إن بناء التنزيه عن الأشياء التي ذكرت في قوله “ليس بعرض…إلخ” على أن تلك الأشياء تنافي وجوب الوجود.
وقوله: (لما فيها من شائبة الحدوث والإمكان) أي: لما في الأشياء المذكورة من أمارة حدوث المتصف بها وإمكان من قامت به.
وقوله: (على ما أشرنا إليه) أي: على الذي أشرنا إليه في التعاليل التي ذكرت فيما تقدم، كقوله في تعليل قول المصنف: ليس بعرض لأنه لا يقوم بذاته بل يفتقر إلى محل يقومه فيكون ممكنا، وكقوله في تعليل تنزيهه تعالى عن الصورة والحد والعد والتبعض والتجزئ والتركب: لما في كل ذلك من الاحتياج المنافي للوجوب.
قوله: (لا على ما ذهب إليه المشايخ) عطف على قوله “أنها تنافي” وجوب الوجود أي: لا على ما ذهب المشايخ في تعاليل سلب الأشياء التي ذكرت، وسيأتي تعليل هذا النفي بقوله “لأنها تمسكات ضعيفة” والمراد بالمشايخ مشايخ المتكلمين أو مشايخ ما وراء النهر.
وقوله: (من أن…إلخ) بيان لـ”ما” وحاصل ما استدل به المشايخ على أنه تعالى ليس بعرض ولا جوهر ولا جسم أن يقال: لو كان المولى عرضا لما كان باقيا؛ لأن العرض بحسب اللغة ما يمتنع بقاؤه، ولو كان جوهر التركب عنه غيره؛ لأن معنى الجوهر ما يتركب عنه غيره، ولو كان جسما لتركب هو عن غيره؛ لأن معنى الجسم ما يتركب عنه غيره، واللازم باطل في جميع ما ذكر؛ لأن الله تعالى متنزه عن ذلك كله. ووجه ضعف هذا الاستدلال أن الكلام في المطالب اليقينة، فلا يكفي فيها البناء على اللغة؛ لأنها لا توجب اليقين إذ لقائل أن يقول لا نسلم أن المراد بها ما ذكر، بل المراد بالعرض ما قام بغيره، وبالجوهر الموجود لا في محل، وبالجسم ما قام بذاته.
قوله: (ومعنى الجوهر) أي: بحسب اللغة وكذلك قوله “ومعنى الجسم” فهو بحسب اللغة أيضا، ففي كلام الشارح الحذف من الثاني والثالث لدلالة الأول.
وقوله: (بدليل قولهم هذا أجسم من ذلك) أي: بدليل قول أهل اللغة هذا الجسم أجسم من ذلك الجسم، وفيه أنه قد سبق تضعيف هذا الدليل بأن أجسم من الجسامة التي هي صفة لا من الجسم الذي هو اسم جنس جامد، والكلام في الجسم الذي هو اسم لا صفة وقد تقدم الجواب عن ذلك.
قوله: (وأن الواجب…إلخ) عطف على قوله “إن معنى العرض…إلخ” وحاصل ما استدل به المشايخ على أنه تعالى ليس مصورا ولا معدودا…إلخ؛ لأن الكل يقتضي التركيب أن يقال لو تركب من أجزاء، فأجزاؤه إما أن يتصف كل منها بصفات الكمال كالعلم والقدرة إلى غير ذلك، فيلزم تعدد واجب الوجود، وإما أن لا يتصف كل منها بصفات الكمال بأن اتصف بها البعض دون البعض، أو لم يتصف بها شيء منها فيلزم نقص واجب الوجود وحدوثه لتركبه من تلك الأجزاء، واللازم باطل في الشقين. ووجه ضعف هذا الاستدلال بالنسبة للشق الأول أن صفات الكمال هي العلم والقدرة وأخواتهما من بقية صفات المعاني، وحينئذ فلا نسلم أنه يلزم من تعدد موصوفاتها تعدد الواجب؛ إذ ليس منها وجوب الوجود حتى يلزم ما ذكر، ويرد على هذا التضعيف أن المراد بصفات الكمال ما يشمل الصفات الاعتبارية والصفات السلبية لا خصوص الصفات الوجودية، وحينئذ فمن جملة صفات الكمال الوجوب والقدم، فيلزم من تعدد موصوفاتها تعدد الواجب، وأيضا لو سلمنا أن المراد بصفات الكمال خصوصيات الصفات الوجودية، فصفة الكمال هي العلم التام والقدرة التامة ونحوهما من بقية صفات المعاني وهي لا توجد إلا في الواجب، وبالنسبة للشق الثاني بعد تسليم أنه يلزم من عدم اتصاف الأجزاء بصفات الكمال نقص واجب الوجود وحدوثه، لم لا يجوز أن يتصف المجموع بصفات الكمال وإن لم يتصف كل جزء من أجزائه بصفات الكمال.
قال الشارح: وأيضاً إما أن يكون على جميع الصور والأشكال والكيفيات والمقادير فيلزم اجتماع الأضداد أو على بعضها فيلزم وهي مستوية الأقدام في إفادة المدح والنقص وفي عدم دلالة المحدثات عليه، فيفتقر إلى مخصص ويدخل تحت قدرة الغير، فيكون حادثاً، بخلاف مثل العلم والقدرة فإنها صفات كمال تدل المحدثات على ثبوتها، وأضدادها صفات نقصان لا دلالة على ثبوتها لأنها تمسكات ضعيفة توهن عقائد الطالبين وتوسع مجال الطاعنين زعماً منهم أن تلك المطالب العالية مبنية على أمثال هذه الشبهه الواهية.
قال الباجوري:
قوله: (وأيضا…إلخ) أشار بذلك إلى دليل ثان للمسألة المستدل عليها بما قبله، وهي أنه تعالى ليس مصورا؛ أي: ذا صورة وشكل، وأنه لا يتصف بالكيفية وبعضهم جعله شروعا في الاستدلال على انتفاء الصورة والشكل والكيفية، ولم يدخل ذلك فيما قبله بل جعله مسألة أخرى، وعليه فكان الأولى أن يقول: “وأنه…إلخ”. وحاصل ما استدل به المشايخ على ذلك أن يقال: لو كان ذا صورة وشكل كصورة وشكل المثلث والمربع، وكيفية كالبياض والسواد ومقدار الطول والقصر، فلا يخلو: فإما أن يكون على جميع الصور والأشكال والكيفيات والمقادير فيلزم اجتماع الأضداد الذي هو محال، أو على بعضها دون البعض الآخر، والحال أنها كلها مستوية الأقدام بالنظر لما عند الله تعالى في إفادة المدح أو النقص، وفي عدم دلالة المحدثات عليها التي يستدل بها على إثبات الصانع وصفاته فليس بعضها يفيد مدحا لا يفيده الآخر، وليس بعضها يوهم نقصا لا يوهمه الآخر، بل هي مستوية في إفادة المدح أو الذم. وأما كون بعضها صفات كمال وبعضها صفات نقص، فإنما هو بالنظر لما عند الحوادث، وحينئذ فيفتقر الواجب في صفاته إلى مخصص، ويدخل ذلك المفتقر تحت قدرة الغير، فيكون حادثا لافتقاره واحتياجه إلى غيره. ووجه ضعف هذا الاستدلال أنه يختار الشق الثاني من الترديد، وهو كونه على البعض دون البعض، ونقول: إن الحكم باستواء جميع الصور والأشكال والكيفيات والمقادير فيه نظر؛ لأنه إنما يكون بعد استقصاء جميع ما ذكر وخرط القتاد، وحينئذ يمنع كونها كلها مستوية عنده تعالى في إفادة المدح أو النقص، وبذلك علم أن الواو في قوله “في إفادة المدح والنقص” بمعنى: أو.
قوله: (بخلاف مثل العلم والقدرة…إلخ) أي: وهذا ملتبس بمخالفة مثل العلم والقدرة من بقية صفاته تعالى، كالإرادة والحياة فإنها ليست مستوية مع أضدادها؛ لأنها صفات كمال تدل المحدثات على ثبوتها؛ لكون إيجادها على هذا النمط البديع لا يكون بدون هذه الصفات وأضدادها، كالجهل والعجز والكراهة والموت صفات نقصان لا دلالة للمحدثات على ثبوتها له تعالى، بل لها دلالة على انتفائها عنه تعالى، فليست الصفات المذكورة مستوية مع أضدادها في الكمال أو النقص وفي عدم دلالة المحدثات عليه، فلا يلزم من اتصافه بها دون أضدادها الافتقار إلى المخصص والدخول تحت قدرة الغير حتى يكون حادثا.
قوله: (لأنها تمسكات ضعيفة) أي: وإنما انتفى بنا التنزيه عن الأمور المذكورة على ما ذهب إليه المشايخ من الأدلة التي تمسكوا بها تمسكات ضعيفة، فلا يليق التمسك بها في الاستدلال على المطالب اليقينية وقد سبق بيان وجه ضعفها.
وقوله: (توهن عقائد الطالبين) أي: تضعف اعتقادات الطالبين، فإذا اطلع الطالبون على ضعف هذه الأدلة ضعف اعتقادهم لهذه المطالب. وقوله: (وتوسع مجال الطاعنين) أي: وتوسع جَوَلَان الطاعنين في التنزيهات المذكورة كالمشبهة والمجسمة إذ لهم أن يوسعوا القول حينئذ في رد هذه التنزيهات ببيان ضأي لا مبين مبني على طريقة ألأعاجم نتتهنمتنمتتهمالذي عليه جمهور المتكلمينالذي عليه وأمنا أن وعف أدلتها المذكورة.
وقوله: (زعما منهم) أي: زعما من الطالبين ومن الطاعنين، فهو علة لقوله “توهن” وقوله “توسع”.
وقوله: (إن تلك المطالب) أي: التي هي التنزيهات المذكورة.
وقوله: (مبنية على أمثال هذه الشبه الواهية) أي: التي هي الأدلة التي تمسك بها المشايخ، والواهية بمعنى الضعيفة وصف كاشف؛ لأن الشبه جمع شبهة وهي ما يظن دليلا وليس بدليل.
قال الشارح: واحتج المخالف للنصوص الظاهرة في الجهة والجسمية والصورة والجوارح بأن كل موجودين فرضا لا بد أن يكون أحدهما متصلاً بالآخر مماساً له أو منفصلاً عنه، مبايناً في الجهة، والله تعالى ليس حالاً ولا محلاً للعالم، فيكون مبياناً للعالم في جهة، فيتحيز فيكون جسماً أو جزء جسم مصوراً متناهياً. والجواب عنه: أن ذلك وهم محض وحكم على غير المحسوس بأحكام المحسوس، والأدلة القطعية قائمة على التنزيهات فيجب أن يفوض علم النصوص إلى الله تعالى على ما هو دأب السلف، إيثاراً للطريق الأسلم، أو يؤول بتأويلات صحيحة على ما اختاره المتأخرون دفعاً لمطاعن الجاهلين وجذباً لطبع القاصرين، سلوكاً للسبيل الأحكم.
قال الخيالي:
قوله: (واحتج المخالف بالنصوص الظاهرة) مثل قوله تعالى: ﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﱠ وقوله عليه السلام “إن الله تعالى خلق آدم على صورته” وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊﱠ
قوله: ( أو يؤول بتأويلات صحيحة) بأن يقال المراد بالعروج العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعة ومعنى الصورة الصفة من العلم والقدرة وغيرهما ومعنى اليد القدرة.
قال الباجوري:
قوله: (واحتج المخالف بالنصوص الظاهرة…إلخ) واحتج الخصم المخالف لأهل الحق في التنزيهات السابقة بالنصوص الظاهرة…إلخ. فمن النصوص الظاهرة في الجهة قوله تعالى: ﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﱠ ومن النصوص الظاهرة في الجسمية قوله تعالى:ﱡﭐ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﱠ ومن النصوص الظاهرة في الصورة قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق آدم على صورته” ومن النصوص الظاهرة في الجوارح قوله تعالى: ﱡﭐ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊﱠ والمراد بالنصوص هنا: مطلق الأدلة العقلية ظاهرا كان أو مؤولا، مجملا كان أو مفسرا إلى آخر الأقسام؛ ولذلك وضعها بالظهور حيث قال “الظاهرة…إلخ”، وليس المراد بالنصوص ما لا يتطرق إليه احتمال غير المدلول من الأدلة.
قوله: (وبأن كل موجودَين فرضا…إلخ) عطف على قوله “بالنصوص…إلخ: فالمعطوف عليه دليل نقلي والمعطوف دليل عقلي.
وقوله: (لا بد أن يكون أحدهما متصلا بالآخر مما سأله) أي: بحيث يكون أحدهما حالا في الآخر، ويلزم من ذلك أن يكون موافقا له في الجهة، وذلك كالبياض الحال في الجسم.
وقوله: (أو منفصلا عنه مباينا له في الجهة) أي: أو يكون أحدهما منفصلا عن الآخر، بحيث يحل بينهما ثالث، ويلزم من ذلك أن يكون مخالفا له في الجهة فيكون جهة أحدهما فوق وجهة الآخر تحت مثلا.
وقوله: (والله تعالى ليس حالا ولا محلا للعالم) أي: والله تعالى ليس حالا في العالم ولا محلا للعالم، ويلزم من انتفاء الحالية في العالم والمحلية له، انتفاء اتصال الله بالعالم اللازم له كونه موافقا له في الجهة، وإذا انتفى اتصال الله بالعالم الذي هو الشق الأول من الترديد، ثبت انفصاله عنه الذي هو الشق الثاني منه.
وقوله: (فيكون مباينا له في الجهة) أي: وإذا انتفى كونه تعالى حالا أو محلا للعالم لزم منه أن يكون مباينا للعالم في الجهة؛ لثبوت الانفصال حينئذ المستلزم لكونهما في جهتين مختلفتين.
وقوله: (فيتحيز) أي: لأن كل ذي جهة متحيز فهو مفرع على التفريع قبله.
وقوله: (فيكون جسما أو جزء جسم) أي: لأن التحيز يستلزم الجسمية أو الجوهرية، لكن كان الأولى أن يحذف قوله “أو جزء جسم”؛ لأن دعوى المخالف إنما هو كونه جسما لا كونه جزء جسم؛ لأن الجزء يجب تنزيه الله عنه باتفاق العقلاء؛ لكونه أحقر الأسماء على أن الصورة والتناهي من خواص الأجسام، فلا يوصف بهما الجزء؛ لأنه لا شكل له ولا مقدار حتى يوصف بالصورة والتناهي.
وقوله: (مصورا متناهيا) راجع لكونه جسم وبيان للازمه، ولا يصح رجوعه أيضا لكونه جزء جسم لما علمته.
قوله: (والجواب…إلخ) أي: والجواب من طرف أهل السنة عن ما احتج به المخالف من الدليل النقلي والعقلي، لكن على سبيل اللف والنشر المشوش،
فقوله: (إن ذلك وهم محض وحكم على غير المحسوس بأحكام المحسوس) جواب عن الدليل العقلي فاسم الإشارة عائد على الحكم بأن” كل موجودين فرضا…إلخ” ثم أنه يحتمل أن يجعل الحكم المذكور نفس الوهم على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يؤول الوهم بالموهوم، وحكم الوهم فيما ليس بمحسوس كالمتعلق بالله كاذب؛ إذ يجوز أن لا يكون أحد الأمرين متصلا بالآخر ولا منفصلا عنه؛ لأن كل من الاتصال والانفصال من لوازم التحيز، وقد قام البرهان على امتناعه في حقه تعالى، والمحض: الخالص الذي لم يخالطه إصلاح العقل، والمراد بغير المحسوس المولى سبحانه وتعالى.
وقوله: (بأحكام المحسوس) أي: لأن القوة الوهمية إنما تدرك المعاني المتعلقة بالأمور المحسوسة، وحينئذ فلا يقبل حكمها فيما عدا المحسوس كما هنا، ولولا أن الله تعالى كفانا بإشراق العقل شر ظلمة الوهم لعم الفساد وعظم العناد والله الموفق للرشاد.
وقوله: (والأدلة القطعية قائمة على التنزيهات) جواب عن الدليل النقلي، لكن روح الجواب.
قوله: (فيجب أن يفوض علم النصوص…إلخ) فالمعنى والأدلة القطعية المفيدة لليقين قائمة على ثبوت التنزيهات المذكورة في قوله “ليس بعرض…إلخ”وحينئذ فيجب أن يفوض علم النصوص إلى الله تعالى،مع اعتقاد حتمية تلك النصوص جريا على ما هو دأب السلف في المتشابه.
وقوله: (إيثارا للطريق الأسلم) أي: اختيارا للطريق الذي هو أسلم من غيره لسلامته من اعتبار غير المراد في الواقع.
وقوله: (أو تؤول بتأويلات صحيحة على ما اختاره المتأخرون) أي: أو تؤول هذه النصوص بتأويلات مطابقة للأدلة القطعية جمعا بين الدليلين ما أمكن، بأن يقال في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﱠ المراد بالعروج إليه الرقي إلى موضع يتقرب إليه تعالى بالطاعة فيه، ويقال في قوله تعالىﱡﭐ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﱠ المراد بالإتيان إتيان أمره وبأسه، ويقال في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق آدم على صورته”، المراد بالصورة الصفة من القدرة والعلم وغيرهما، وإن كانت صفة الله قديمة وصفة آدم حادثة، وهذا بناء على أن الضمير عائد على الله تعالى، فإن كان الضمير عائدا على الأخ المذكور في صدر الحديث، وهو قوله: “إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم إلخ” فلا حاجة إلى التأويل ويقال في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊﱠالمراد باليد القدرة. وهذه التأويلات جارية على ما اختاره المتأخرون في المتشابه، وهم المعبر عنهم في بعض العبارات بالخلف،
وقوله: (دفعا لمطاعن الجاهلين) أي: لأنا إذا لم نذكر لهذه النصوص تأويلات صحيحة طعن الجاهلون بالتعطيل؛ لقصورهم عن إدراك الحكمة في إيراد المتشابه فيأخذون بالظواهر.
وقوله: (وجذبا لضبع القاصرين) أي: لأن القاصرين إذا أشكلت عليهم الظواهر يخاف عليهم تزلزل العقائد، فإذا أولناها بتأويلات صحيحة سكنت عقائدهم، والمراد بجذب ضبع القاصرين بتعبدهم عن خلاف الحق والضبع بفتح الضاد المعجمة وسكون الباء الموحدة وهو العضد. وقوله: (وسلوكا للسبيل الأحكم) أي: واتباعا للطريق الأكثر إحكاما أي: إتقانا بالنسبة إلى دفع الشبه عن العقائد، وفي بعض العبارات الأعلم بدل الأحكم. والمراد بالأعلم الأحوج إلى مزيد العلم، واعلم أن السلف الموجودون قبل الأربعمائة والخمسمائة ليس من السلف ولا من الخلف، وقيل السلف هم الصحابة والتابعون وتابعوهم فقط، والخلف من عداهم. والحاصل: أن طريقة الخلف التأويل تفصيلا، وطريقة السلف التفويض مع تنزيه الله تعالى عن الجوارح، فالتنزيه متفق عليه كما أشار إليه صاحب الجوهرة بقوله:
وكل نص أوهم التشبيه*** أوله أو فوض ورم تنزيها
ولا يُشبههُ شىءٌ،
قال الشارح: (ولا يشبهه شيء) أي: لا يماثله. أما إذا أريد بالمماثلة الاتحاد في الحقيقة فظاهر أنه ليس كذلك، وأما إذا أريد بها كون الشيئين بحيث يسد أحدهما مسد الآخر، أي: يصلح كل لما يصلح له الآخر، فلأن شيئاً من الموجودات لا يسد مسده في شيء من الأوصاف، فإن أوصافه من العلم والقدرة وغير ذلك أجل وأعلى مما في المخلوقات بحيث لا مناسبة بينهما.
قال الباجوري:
قوله: (ولا يشبهه شيء) أي: جوهرا كان أو عرضا، ماديا كان أو مجردا، كما أشار لهذا التعميم بالتعبير بالشيء.
وقوله: (أي لا يماثله) فسر المشابهة بالمماثلة، ثم فيها هي خلاف، فقيل هي الاتحاد في الحقيقة، والمراد بذلك المشاركة في جميع الصفات النفسية وهذا هو مذهب الأشعرية. وقيل: هي كون الشيئين بحيث يسد أحدهما مسد الآخر.
وقوله: (أما إذا أريد بالمماثلة الاتحاد في الحقيقة فظاهر) أي: إذا أريد بالمماثلة المنفية الاتحاد في الحقيقة وتمام الماهية كما في زيد وعمرو، فإنهما متحدان في الحقيقة وتمام الماهية وهي الحيوانية والناطقية، فظاهر أنها بهذا المعنى محال لما يلزم عليه من تعدد واجب الوجود، مع أنه قد قام الدليل القاطع على أنه واحد.
وقوله: (وأما إذا أريد كون الشيئين بحيث يسد أحدهما مسد الآخر) أي: وإذا أريد بالمماثلة المنفية كون الشيئين بحيث يقوم أحدهما مقام الآخر، وإن لم يكن من جميع الوجوه.
وقوله: (أي يصلح كل منهما لما يصلح له الآخر) بيان للمراد من قوله “يسد أحدهما مسد الآخر” فأشار بذلك إلى أن المراد بذلك كون أحدهما يقوم مقام الآخر ولو في بعض الوجوه.
وقوله: (فلأن شيئا من الموجودات لا يسد مسده في شيء من الأوصاف) أي: فانتفاؤها ثابت؛ لأن شيئا من الموجودات الممكنة لا يقوم مقامه تعالى في شيء من الأوصاف المتصف بها سبحانه وتعالى.
وقوله: (فإن أوصافه من العلم والقدرة وغير ذلك أجل وأعلى مما في المخلوقات) أي: فإن أوصافه تعالى من العلم والقدرة وغير ذلك كالإرادة والسمع والبصر أعظم وأرفع مما في المخلوقات من الصفات.
وقوله: (بحيث لا مناسبة بينهما) أي: بحيث لا مناسبة بين أوصافه تعالى وما في المخلوقات من الصفات، وحينئذ فلا مشاركة بين صفات الله وصفات المخلوقات إلا في مجرد الإطلاق اللفظي.
قال الشارح: قال في البداية: إن العلم منَّا موجود وعرض ومحدث وجائز الوجود ومتجدد في كل زمان، فلو أثبتنا العلم صفة لله لكان موجوداً وصفة وقديماً وواجب الوجود دائماً من الأزل إلى الأبد، فلا يماثله علم الخلق بوجه من الوجوه، هذا كلامه. فقد صرح بأن المماثلة عندنا إنما تثبت بالاشتراك في جميع الأوصاف حتى لو اختلفا في وصف واحد انتفت المماثلة.
قال الخيالي:
قوله: (و قد صرح بأن المماثلة…إلخ) يريد أن هذا التصريح يناقض قوله فلا يماثل علمه علم الخلق بوجه من الوجوه إذ يفهم منه أن الاشتراك في بعض الوجوه كاف في المماثلة والتوفيق كما سيجيء.
قال السيالكوتي:
قوله: (يريد أن هذا التصريح…إلخ) يعني أن مقصود الشارح من قوله: وقد صرح أن تصريح صاحب البداية في كتابه إن قرئ بصينه المعلوم أو تصريح القوم إن قرئ على صيغة المجهول المماثلة إنما تثبت بالاشتراك من جميع الوجوه تناقض قوله: فلا يماثل علم الخلق بوجه من الوجوه فإنه يدل على أن الاشتراك بين الشيئين في بعض الوجو كاف في مماثلتهما ووجه التوفيق أن المراد بالاشتراك من جميع الوجوه فيما به المماثلة هذا ويمكن أن يكون معنى قوله: فلا يماثل بوجه من الوجوه المبالغة في نفي المماثلة يعني أنه ليس لإثبات المماثلة وجه أصلًا فيكون قوله وقد صرح بيانًا وتأييدًا لقوله لا يماثل والمعنى فلا يكون لإثبات المماثلة وجه أصلًا والحال أنه صرح بأنه إنما يثبت بالاشتراك في جميع الأوصاف.
قال الباجوري:
قوله: (قال في البداية…إلخ) هذا توضيح وتحقيق لما تقدم.
وقوله: (إن العلم منا موجود…إلخ) كان الأولى حذف موجود؛ لأن الوجود اشترك فيه علمنا وعلم الله؛ إذ كل منهما متصف به، ويجاب بأن الاشتراك في إطلاق لفظ الموجود مع عدم المناسبة بين العلمين؛ لأن علمه تعالى لا نهاية له ولا يقبل الانتفاء، وعلم المخلوقات له نهاية ويقبل الانتفاء، وحينئذ فلا مناسبة بين العلمين في الوجود نظرا لمعناه والالتفات إنما هو للمعنى.
وقوله: (وعرض) أي: قائم بالمحل.
وقوله: (ومحدث) أي: مسبوق بالعدم لحصوله بعد أن لم يكن.
وقوله: (وجائز الوجود) أي: لكونه يقبل الانتفاء،
وقوله: (ويتجدد في كل زمان) أي: لأن العرض لا يبقي زمانين عند الأشاعرة.
وقوله: (فلو أثبتنا العلم صفة لله تعالى لكان…إلخ) كان الأولى أن يقول: “وعلم الله موجود…إلخ”؛ لأن قضيىة صنيعه انتفاء العلم عنه تعالى، فإن “لو” تنفي ما بعدها إن كان مثبتا، وأجيب بأن “لو” لمجرد الرابط لها للامتناع، فهي بمعنى متى وإذا.
وقوله: (موجودا) قد عرفت ما فيه.
وقوله: (وصفة) أي: لا عرضا.
وقوله: (قديما) أي: لا محدثا.
وقوله: (وواجب الوجود) أي: لا جائز الوجود.
وقوله: (ودائما من الأزل إلى الأبد) أي: لا يتجدد في كل زمان.
وقوله: (فلا يماثل علم الخلق بوجه من الوجوه) أي: فلا يماثل علم الله علم الخلق في وجه من الوجوه، وهذا يقتضي أن الاشتراك في وجه واحد يكفي في تحقق المماثلة.
وقوله: (هذا كلامه)أتى بذلك لأجل التورك عليه.
قوله: (وقد صرح بأن المماثلة عندنا…إلخ) أي: وقد صرح صاحب البداية بأن المماثلة عندنا معاشر الأشاعرة إنما تثبت بالاشتراك بينهما في جميع الأوصاف، والغرض من حكاية هذا الكلام التنبيه على التناقض في كلام صاحب البداية؛ لأنه يفهم من قوله: “فلا يماثل علم الخلق بوجه من الوجوه” أن اشتراك الشيئين في بعض الوجوه يكفي في مماثلتهما، وهو مناف لما صرح به من أن المماثلة عندنا إنما تثبت بالاشتراك في جميع الأوصاف، وستأتي الإشارة إلى التوفيق بينهما.
وقوله: (حتى لو اختلفا في وصف واحد انتفت المماثلة) أي: لتوقفها على المشاركة في جميع الوجوه.
قال الشارح: قال الشيخ أبو المعين في التبصرة: إنا نجد أهل اللغة لا يمتنعون من القول بأن زيداً مثل لعمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده في ذلك الباب، وإن كان بينهما مخالفة بوجوه كثيرة، وما يقوله الأشعرية من أنه لا مماثلة إلا بالمساواة من جميع الوجوه فاسد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل، وأراد الاستواء به في الكيل لا غير وإن تفاوت الوزن وعدد الحبات والصلابة والرخاوة.
والظاهر أنه لا مخالفة، لأن مراد الأشعري المساواة من جميع الوجوه فيما به المماثلة كالكيل مثلاً.وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام البداية أيضاً، وإلا فاشتراك الشيئين في جميع الأوصاف ومساواتهما من جميع الوجوه يدفع التعدد، فكيف يتصور التماثل؟!
قال الباجوري:
قوله: (قال الشيخ أبو المعين في التبصرة إنا نجد أهل اللغة…إلخ) أي: قال الشيخ أبو المعين، بفتح الميم وكسر العين، كما قاله بعض الأشياخ في كتابه التبصرة إنا نجد أهل اللغة…إلخ، والغرض من نقل كلام الشيخ أبي المعين الإشارة إلى نقل الخلاف في المسألة، وسيأتي التوفيق بينهما في كلام الشارح.
وقوله: (لا يمتنعون من القول بأن زيدا مثل لعمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده في ذلك الباب) أي: لا يمتنع أهل اللغة من إطلاق المماثلة بين زيد وعمرو إذا كان بينهما مخالفة بوجوه كثيرة، أي: ككون زيد أصوليا منطقيا وعمرو لغويا بيانيا وغير ذلك.
وقوله: (وما يقوله الأشعرية من أنه لا مماثلة…إلخ) من كلام الشيخ أبي المعين وهو مبتدأ.
وقوله: (فاسد) خبر، لكن الحكم بفساده إنما هو نظرا لما هو الظاهر من العبارة.
وقوله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم…إلخ) استدلال على فساد قول الأشعرية.
وقوله: (قال..إلخ) هذا طرف حديث أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة ولفظه “التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى”.
وقوله: (الحنطة بالحنطة) أي: الحنطة تباع بالحنطة، أو بيعوا الحنطة بالحنطة فهو بالرفع على الأول، وبالنصب على الثاني.
وقوله: (مثلا بمثل) أي: حال كونهما متماثلين.
وقوله: (وأراد الاستواء بالكيل لا غير) أي: وأراد بالمماثلة في قوله “مثلا بمثل” استواء العوضين في الكيل لا غيره من الأوصاف.
وقوله: (وإن تفاوت الوزن وعدد الحبات والصلابة والرخاوة) أي: بأن تكون إحداهما ثقيلة والأخرى خفيفة، أو تكون إحداهما أكبر حبا من الأخرى أو تكون إحداهما صلبة والأخرى رخوة، فتحصل من ذلك أنه اتفق الشرع واللغة على إثبات المماثلة بين الشيئين، ولو في وصف مع الاختلاف في سائرها، فكلام الأشاعرة حينئذ غير مسلم.
قوله: (والظاهر أنه لا مخالفة) من كلام الشارح قصد به التوفيق بين ما قالته الأشعرية وبين ما قاله أبو المعين. فقوله “لا مخالفة” أي: بين الأشعرية وأبي المعين.
وقوله: (لأن مراد الأشعري المساواة من جميع الوجوه فيما به المماثلة كالكيل مثلا) أي: لأن مراد الأشعرية ومن تبعه المساواة في جميع الوجوه لا في جميع الأوصاف، بل في الوصف الذي تحصل به المماثلة، وذلك الوصف الذي اعتبرت المساواة في جميع وجوهه كالكيل مثلا، فالكيل وصف مشترك بين العوضين وله وجوه كثيرة ككونه بمكيال كبير أو صغير أو متوسط، فيعتبر في تماثل العوضين تساويهما في الكيل من جميع وجوهه، ولا حاجة لقوله “مثلا” مع الكاف إلا أن يجعل للتأكيد.
وقوله: (وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام البداية أيضا) أي: وعلى هذا المراد ينبغي أن يحمل كلام صاحب البداية الذي ذكره الشارح بقوله “وقد صرح بأن المماثلة…إلخ” كما حمل عليه كلام الأشعرية.
وقوله: (وإلا فاشتراك الشيئين…إلخ) أي: وإن لم يحمل كلام الأشعرية وكلام البداية علىى المراد المذكور فلا يصح كلامهما؛ لأن اشتراك الشيئين في جميع الأوصاف كما قاله صاحب البداية، ومساواتهما في جميع الوجوه كما قالت الأشعرية يرفع التعدد بين ذينك الشيئين؛ لأن من جملة الأوصاف والوجوه كون كل منهما ليس غير نفسه، فلو شارك كل منهما الآخر في جميع الأوصاف وساواه في جميع الوجوه لكان كل منهما غير نفس الآخر، بل يكون عينه وحينئذ فقد ارتفع التعدد.
وقوله: (فكيف يتصور التماثل) أي: وإذا ارتفع التعدد فلا يعقل التماثل؛ لأنه يقتضي التعدد فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وحينئذ فيحمل كلام الأشعري وكلام البداية على المراد المذكور.
ولا يَخرُجُ عن علمِهِ وقدرتِهِ شىءٌ.
قال الشارح: (ولا يخرج عن علمه وقدرته شيء) لأن الجهل بالبعض والعجز عن البعض نقص وافتقار إلى مخصص؛ مع أن النصوص القطعية ناطقة بعموم العلم وشمول القدرة، فهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، لا كما يزعم الفلاسفة أنه لا يعلم الجزئيات ولا يقدر على أكثر من واحد، والدهرية على أنه تعالى لا يعلم ذاته، والنظَّام على أنه لا يقدر على خلق الجهل والقبيح، والبلخي على أنه لا يقدر على مثل مقدور العبد، وعامة المعتزلة أنه لا يقدر على نفس مقدور العبد.
قال الخيالي:
قوله: (نقص وافتقار إلى مخصص) يرد عليه أنه يجوز أن يكون بعض الأمور غير قابل لتعلق العلم كالممتنعات بالنسبة إلى القدرة.
قوله: (لا يعلم الجزئيات) أي: من حيث هي جزئيات بل يعلمها من حيث هي كلياتها كعلم المنجم بأن في ساعة كذا خسوفا ما وهذا العلم مستمر قبل الوقوع وبعده.
قوله: (و لا يقدر على أكثر من واحد) لا يقال مذهب الفلاسفة هو الإيجاب والقدرة ينافيه لأنا نقول منافي الإيجاب هو القدرة بمعنى صحة الفعل والترك وأما القدرة بمعنى أنه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل متفق عليها بين الفرقين إلا أن الفلاسفة يجعلون مشيئة الفعل لازمة.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أنه يجوز…إلخ) يعني أن الظاهر أن المراد بالشيء الموجود على ما هو المتعارف بينهم فحينئذ يرد عليه أنا لا نسلم أنه لو خرج من علمه شيء يلزم النقص والافتقار لجواز أن يكون بعض الأشياء مما يستحيل تعلق العلم به لعدم كونه قابلًا له كذات الواجب مثلًا عند من يقول: بأنه لا يعلم ذاته لأن العلم يستدعي المغايرة بين العالم والمعلوم كما أن القدرة لا تتعلق بالممتنعات لعدم كونها قابلة لها ولا يلزم النقص والافتقار وبما حررنا اندفع ما قاله الفاضل الجلبي: يرد عليه أن المراد شمول العلم بالنسبة إلى جميع الموجودات فإن الشيء عندنا الموجود ولما ثبت عندنا قدرة الواجب وأن جميع الموجودات صادرة بطريق الاختيار والإيجاد بالاختيار يستدعي العلم السابق بالضرورة فلا نقض بالمادة التي أوردها المحشي؛ لأن كل ما يوجد يجب تعلق علمه به لأن تعلق القدرة إنما يستدعي العلم السابق بالأمور الموجودة التي تتعلق بها القدرة؛ أعني: الممكنات دون الواجب هذا ولو حمل الشيء في عبارة المتن على ما يصح أن يعلم ويخبر عنه أو الممكن لم يرد ما ذكر كما لا يخفى لكن لا يحصل الرد على الدهرية القائلين بعدم تعلق علم الله تعالى بذاته لأنه غير داخل في الممكن وليس مما يصح تعلق العلم به عندهم ومما يجب أن يعلم أن عبارة المتن قاصرة عن أداء المقصود بالنسبة إلى العلم أن حمل الشيء على الموجود أو الممكن لأن دائرة العلم أوسع مما ذكر لشموله الممتنع ويستلزم أن تكون الممتنعات متعلق القدرة أيضًا أن أريد مايصح أن يعلم.
قوله: (لايعلم الجزيئات) يعني أنه تعالى لايعلم الجزيئات المادية سواء كانت متغيرة أو لا كالأجرام الفلكية الثابتة على أشكالها من حيث إنها جزئيات مانعة من فرض الاشتراك بين كثيرين لأن إدراكها على الوجه المذكور لايمكن إلا بالآلات الجسمانية والله تعالى منزه عن ذلك بل يعلمها من حيث هي كليات غير مانعة من الشركة على ما هو شأن كل مايحصل بطريق التعقل وهذا كما يعلم المنجم بأن في ساعة كذا خسوفًا فإنه قد يعلم الخسوف الجزئي لاعلى الوجه الجزئي لأن ماعلم لايمنع العقل بمجرد تصوره عن حمله على خسوفات متعددة وإن كان في الخارج لايصدق إلا على ذلك الخسوف بل لا بد في ذلك من المشاهدة والإحساس وهو إنما يحصل ذلك بعد الخسوف وهذا التعقل مستمر قبل وقوعه وبعده فحاصل مذهب الفلاسفة أن الله تعالى يعلم الأشياء كلها بطريق التعقل لابطريق التخيل والإحساس لفقدان الآلة فلا يعزب عن علمه تعالى مثقال ذرة في الأرض ولافي السماء لكن لما كان علمه تعالى بطريق التعقل لم يكن ذلك العلم مانعًا عن وقوع الشركة ولايلزم من ذلك أن لا يكون بعض الأشياء معلومًا له تعالى عن ذلك بل ماندركه على وجه الإحساس والتخيل يدركه تعالى على وجه التعقل فالاختلاف في طريق الإدراك لا في المدرك هذا ماأفاده العلامة الدواني في تصانيفه وإليه أشار المحقق الطوسي في شرح الإشارات والمشهور من مذهبهم أنه لايعلم الجزئيات المتغيرة من حيث إنها جزئيات بل على الوجه الكلي وأما الجزئيات غير المتغيرة فيعلمها من حيث إنها جزئيات ووجهه بعض الأفاضل بأن معناه أنه لايعلم الجزئيات المتغيرة بخصوصية تغيرها بحسب الأزمنة بأنها واقعة الآن أو غدًا أو أمس فإنه لو كان عالمًا كذلك فأما أن يتغير العلم بتغير المعلوم فيلزم تغير ذاته تعالى من صفة إلى صفة وإن لم يتغير يلزم الجهل بل يعلمها بحيث لا مدخل للزمان بحسب الأوصاف الثلاثة وهذا العلم يكون مستمرًا لايتغير أصلًا كالعلم بالكليات وتوضيحه أنه تعالى لما لم يكن مكانيًا كان نسبته إلى جميع الأمكنة على السواء فليس بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط كذلك لما لم يكن زمانيًا كان نسبته إلى جميع الأزمنة على السواء فليس بالقياس إليه بعضها ماضيًا وبعضها حاضرًا وبعضها مستقبلًا وكذا الأمور الواقع في الزمان فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كل في وقته وليس في علمه كان وكائن وسيكون بل هي دائمًا حاضرة عنده في أوقاتها بلاتغير أصلًا فعلى هذا يكون قولهم: إنه لايعلم الجزئيات راجعًا إلى أن علمه تعالى ليس زمانيًا هذا لكن قال الأمام: إن اللائق بأصولهم أنه تعالى لايعلم الجزئيات المادية سواء كانت متغيرة أو لا لما يلزم في الأول من تغير العلم وفي الثاني من الافتقار إلى الآلة الجسمانية وبالجملة ليس مرادهم مايتوهم البعض من أن علمه تعالى محيط بطبائع الجزئيات وأحكامها دون خصوصياتها وأحوالها هذا خلاصة الكلام الملتقط من فوائد علم الكلام.
قوله: (المنافي للإيجاب هو القدرة…إلخ) يعني أن للقدرة معنيين أحدهما صحة الفعل والترك أي: يصح منه الإيجاد وتركه وليس شيء منهما لازمًا لذاته بحيث يستحيل الانفكاك عنه تعالى وإلى هذا ذهب المليون وهو مناف للإيجاب وثانيهما إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل وهذا المعنى متفق عليه بين الفريقين إلا أن الحكماء ذهبوا إلى أن مشيئة الفعل الذي هو الفيض والجود لازمة لذاته كلزوم العلم وسائر الصفات الكمالية زعمًا منهم أن تركه نقص فيستحيل انفكاكه عنه فمقدم الشرطية الأولى واجب الصدق ومقدم الثانية ممتنع الصدق وكلتا الشرطيتين صادقتان في حقه تعالى إذ صدق الشرطية لايستلزم صدق طرفيها ولاينافي كذبهما وهذا المعنى لا ينافي الإيجاب فإن دوام الفعل وامتناع الترك بسبب الغير لا ينافي الاختيار بالنسبة إلى ذاته كما أن العاقل مادام عاقلًا يغمض عينيه كلما قرب إبرة من عينيه لقصد الغمز فيها من غير تخلف مع أنه يفعله باختياره وامتناع ترك الإغماض بسبب كونه عالمًا بضرر الترك لا ينافي الاختيار فما ظنك بمن يكون علمه عين ذاته.
قوله: (فمتفق عليه بين الفريقين) قد يقال كون القدرة بهذا المعنى متفقًا عليه محل بحث لأن مشيئة الله تعالى عندهم عبارة عن علمه تعالى بالأشياء على النظام الأكمل على ماصرح به في “شرح المواقف” في بحث إرادة الواجب تعالى فمعنى قولهم إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل إن علم فعل وإن لم يعلم لم يفعل ولما كان العلم لازمًا لذاته تعالى كان طرف الفعل لازمًا لذاته وهذا معنى أن مقدم الشرطية الأولى لازم له وعند المتكلمين عبارة عن القصد فمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل إن قصد فعل وإن لم يقصد لم يفعل ولما لم يكن تعلق القصد لازمًا لذاته لم يكن شيء من الطرفين لازمًا لذاته وهذا معنى عدم لزوم الشرطية الأولى فلا يكون الاتفاق بين الفريقين إلا في اللفظ.
قال الباجوري:
قوله: (ولا يخرج عن علمه وقدرته شيء) هذا تنزيه له تعالى عن الجهل ببعض المعلومات والعجز عن بعض المقدورات، فالمراد بالشيء بالنسبة للعلم بعض المعلومات وبالنسبة للقدرة بعض المقدورات. فإن قيل: كما لا يخرج عن علمه شيء من المعلومات وعن قدرته شيء من المقدورات، لا يخرج عن سمعه وبصره شيء من المسموعات والمبصرات، فلم لم يتعرض له؟ أجيب بأنه لم يتعرض له لعدم المخالفة فيه.
وقوله: (لأن الجهل بالبعض والعجز عن البعض نقص وافتقار إلى مخصص) أي: لأن الجهل ببعض الأشياء الذي ينافي عموم العلم والعجز عن بعض الأشياء الذي ينافي عموم القدرة نقص في حقه تعالى وافتقار إلى مخصص، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، ويرد على هذا الدليل بالنسبة لعدم خروج شيء عن علمه تعالى أنا لا نسلم أنه لو خرج عن علمه شيء يلزم النقص والافتقار إلى مخصص؛ لجواز أن يكون بعض الأمور غير قابل لتعلق العلم به، كذا الواجب عند من يقول بأنه تعالى لا يعلم ذاته؛ لأن العلم يستدعي المغايرة بين العالم والمعلوم فيكون ذلك كالممتنعات بالنسبة للقدرة، فكما أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالممتنعات كالشريك والولد والصاحبة نقص وافتقار إلى مخصص، لا يلزم من عدم تعلق العلم بغير القابل لتعلقه به نقص وافتقار إلى مخصص. وبحث في هذا الإيراد بأنه مجرد تجويز عقلي لا أثر له مع وجود الفرق بين العلم والقدرة؛ إذ تعلق العلم انكشاف وتعلق القدرة تأثير.
قوله: (مع أن النصوص القطعية…إلخ) أشار بذلك إلى الدليل النقلي بعد الدليل العقلي المذكور بقوله “لأن الجهل…إلخ” فإن قيل النصوص الناطقة بعموم العلم والقدرة كقوله تعالى: ﱡﭐ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱠ وقوله: ﱡﭐ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﱠ من قبيل العام ودلالة العام ظنية فلا تكون قطعية. أجيب بأن المراد أنها قطعية المتن وإن كانت ظنية الدلالة.
وقوله: (ناطقة بعموم العلم وشمول القدرة) أي: دالة دلالة واضحة على عموم العلم لكل شيء من الواجب والجائز والمستحيل وشمول القدرة لكل شيء من الممكن فقط، ففي “ناطقة” استعارة تبعية لا يخفى تقريرها، وتعبيره أولا بالعموم وثانيا بالشمول للتفنن.
وقوله: (فهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير) هذا نتيجة لما سبق مقتبسة من الآيات الدالة على عموم العلم وشمول القدرة، وإنما صرح بها ليعطف عليها ما بعدها.
قوله: (لا كما تزعم الفلاسفة) أي: بعضهم وإلا فنقل عن أفلاطون أنه يوافق أهل الحق فيما ذهبوا إليه من أنه تعالى يعلم كل شيء، وبعض قدماء الفلاسفة يقول بأنه تعالى لا يعلم شيئا على ما أفاده العلامة العصام.
وقوله: (من أنه لا يعلم الجزئيات) مقابل لعموم العلم.
وقوله: (ولا يقدر على أكثر من واحد) مقابل لعموم القدرة، ومرادهم بكونه تعالى لا يعلم الجزئيات أنه تعالى لا يعلمها من حيث إنها جزئيات؛ لأن العلم بها من هذه الحيثية لا يكون إلا بآلات جسمانية والله منزه عنها، فلا ينافي ذلك أنه تعالى يعلمها من حيث كلياتها، كما هو شأن كل ما يحصل بطريق التعقل، وهذا العلم كعلم المنجم بأن في ساعة كذا خسوفا، فإنه تعلق بالخسوف من حيث الخسوف الكلي وهو مطلق الخسوف، وإن كان في الواقع جزئيا، وهذا العلم مستمر قبل وقوع ذلك الخسوف وبعده، بخلاف العلم به من حيث إنه جزئي، فإنه إنما يكون بعد وقوعه لتوقفه على المشاهدة والإحساس به، وهما إنما يحصلان بعد وقوعه على هذا، فالمولى يعلم الأشياء كلها حتى الجزئيات باتفاق منا ومنهم، لكن عندنا يعلم الجزئيات من حيث إنها جزئيات بمعنى أنها منكشفة لله بعلمه، وعندهم يعلم الجزئيات من حيث كلياتها، وبالجملة فلا يغيب عن علمه ذرة في الأرض ولا في السماء وإنما لم يقدر على أكثر من واحد عندهم؛ لأنهم يقولون بأن الإله واحد من كل وجه، والواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا واحد. لا يقال مذهب الفلاسفة هو الإيجاب الذاتي، ومقتضى قولهم إنه تعالى لا يقدر على أكثر من واحد أنه تعالى يقدر على واحد، فيلزم منه ثبوت القدرة له تعالى والقدرة تنافي الإيجاب؛ لأنا نقول للقدرة معنيان، أحدهما: صفة يصح معها الفعل والترك والثاني: أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ومنافي الإيجاب هو القدرة بالمعنى الأول، وأما القدرة بالمعنى الثاني فمتفق عليها بين الفريقين إلا أن الفلاسفة يجعلون مشيئة الفعل لازمة لذاته؛ زعما منهم أن ترك الفعل نقص فيستحيل انفكاك الفعل عنه، فمقدم الشرطية الأولى يجب صدقه ومقدم الشرطية الثانية يمتنع صدقه. إذا علمت ذلك علمت أن المراد بالقدرة هنا المعنى الثاني، وهو لا ينافي الإيجاب الذاتي الذي قالت به الفلاسفة.
قوله: (والدهرية) أي: ولا كما تزعم الدهرية بضم الدال المهملة نسبة إلى الدهر على غير قياس، وهم فرقتان: فرقة تنكر الصانع ويسندون الحوادث إلى الدهر، وفرقة تثبته ولكنهم يسندون أكثر الحوادث إلى الدهر.
وقوله: (أنه لا يعلم ذاته) مقابل لعموم العلم وشبهتهم في ذلك أنه لو علم ذاته للزم عليه اتحاد العالم والمعلوم، وردت هذه الشبهة بأن الذات باعتبار وصفها بالعالمية عالم، وباعتبار وصفها بالمعلومية معلوم، فحصل التغاير بين العلم والمعلوم بالاعتبار.
قوله: (والنظام) أي: ولا كما يزعم إبراهيم النظام وأتباعه.
وقوله: (أنه لا يقدر على خلق الجهل والقبح) مقابل لعموم القدرة وعطف القبح على الجهل من عطف العام على الخاص، وشبهته في ذلك: أن خلق الجهل والقبح إن كان مع العلم به سفه، وإن كان بدون العلم به جهل، وكلاهم نقص يجب تنزيه الله عنه، ورُدّت هذه الشبهة بأنا نختار الشق الأول ولا يلزم السفه؛ لأنه لا يقبح شيء بالنسبة إلى فعله تعالى حتى يلزم السفه إذ هو المالك لكل شيء فله التصرف فيه على أي وجه شاء.
قوله: (والبلخي) أي: ولا كما يزعم أبو القاسم البلخي وأتباعه وهو المعروف بالكعبي.
وقوله: (أنه لا يقدر على مثل مقدور العبد) مقابل لعموم القدرة، وشبهته في ذلك أن مقدور العبد إما طاعة أو معصية أو سفه أو عبث، والكل محال على الله تعالى، وردت هذه الشبهة بأن هذه الأفعال اعتبارا تعرض للفعل باعتبار كونه مكسوبا للعبد، لا باعتبار كونه مخلوقا لله تعالى؛ لتنزهه تعالى عن هذه الاعتبارات.
قوله: (وعامة المعتزلة) أي: ولا كما تزعم عامة المعتزلة كأبي علي الجبائي وأتباعه.
وقوله: (أنه لا يقدر على نفس مقدور العبد) مقابل لعموم القدرة، وشبهتهم: أنه لو قدر على نفس مقدور العبد لزم دخول المقدور الواحد تحت قدرتين وهو محال، ورُدّت هذه الشبهة بأنه لا مانع من دخول المقدور الواحد تحت قدرتين، إذا اختلفت الجهة كما هنا، فإنه يدخل تحت قدرة الله خلقا وتحت قدرة العبد كسبا فقط ليس للعبد في فعله شيء إلا الكسب، خلافا للمعتزلة في قولهم بأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية.