والاستطاعةُ مع الفعلِ وهي حقيقةُ القدرةِ التي يكونُ بها الفِعلُ.
(والاستطاعة مع الفعل) خلافاً للمعتزلة. (وهي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل) إشارة إلى ما ذكره صاحب التبصرة من أنها عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية، وهي علة للفعل، والجمهور على أنها شرط لأداء الفعل لا علته.
قال الخيالي:
قوله: (و هي علة للفعل) أي علة عادية كالنار للإحراق والجمهور على أنه شرط عادي له كيبس الملاقي له ولك أن تقول من شأنها التأثير عنده ومن شأنها توقف التأثير الفاعل عليه عندهم فتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي علة عادية) وهي ما يدور عليه الفعل وجودًا وعدمًا كالنار مع الإحراق والشرط العادي ما يتوقف عليه تأثير الفاعل عادة لا حقيقة ولم يكن دائرًا معه كيبس الملاقي، فإن تحقق اليبس لا يستلزم تحقق الاحتراق، فما قاله الفاضل المحشي من أنه لا يظهر الفرق بين كون القدرة علة عادية وبين كونها شرطًا عاديًّا ليس بشيء، وهذا عند الشيخ الأشعري حيث ينفي كون شأن القدرة الحادثة التأثير فتسميتها علة وشرطًا مجاز.
قوله: (ولك أن تقول…إلخ) هذا ما وقع في كلام الآمدي من أن شأن القدرة الحادثة التأثير، وإن لم تؤثر بالفعل لوقوع متعلقاتها بقدرة الله تعالى فحينئذ تسميتها علة أو شرطًا حقيقة فما قاله الفاضل المحشي: من أن كون شأن القدرة التأثير غير مسلم عند أصحابنا، فلا يحسن إيراده غير مسلم لأنهم إنما ينفون التأثير بالفعل لا كون شأنه التأثير.
قال الشارح: وبالجملة هي صفة يخلقها الله تعالى عند قصد اكتساب الفعل بعد سلامة الأسباب والآلات، فإن قصد فعل الخير خلق الله تعالى قدرة فعل الخير، وإن قصد فعل الشر خلق الله تعالى قدرة فعل الشر، فكان هو المضيع لقدرة فعل الخير، فيستحق الذم والعقاب، ولهذا ذم الكافرين بأنهم لا يستطيعون السمع، وإذا كانت الاستطاعة عرضاً وجب أن تكون مقارنة للفعل لازمان لا سابقة عليه، وإلا لزم وقوع الفعل بلا استطاعة وقدرة عليه لما مر من امتناع بقاء الأعراض.
قال الخيالي:
قوله: (فكان هو المضيع) يشير إلى وجه الذم في ترك الواجبات وان لم يكسب القبيح وهو لا ينافي الذم في فعل المنهيات لوجه آخر وهو صرف القدرة إليه على ما سيجيء.
قوله: (وإلا لزام وقوع الفعل بلا استطاعة) لا يخفي أن هذا الكلام إلزامى على من يقول بتأثير القدرة الحادثة وإلا فلا دخل للاستطاعة في وجود الفعل حتى يستحيل بدونها.
قوله: (لما مر من امتناع بقاء الأعراض) فلا نقض بقدرة الله تعالى إذ ليست من قبيل الأعراض عندهم.
قال السيالكوتي:
قوله: (يشير إلى وجه الذم في ترك الواجبات…إلخ) يعني أن وجه الذم واستحقاق العقاب في ترك الواجبات بمعنى عدم إتيانها وإن لم يكتسب القبيح وهو تضييعه لقدرة فعل الخير بترك القصد إليه، وهذا مبني على ما هو الأصح من أن عدم الفعل ليس متعلق القدرة والإرادة بل هو متعلق عدم القدرة والإرادة على ما مر من أن الأعدام ليست متعلق الشيئة والقدرة، وأما عند من يرى أنه مقدور حاصل بصرف الإرادة والقدرة، وأما عند من يرى أنه مقدور حاصل بصرف الإرادة والقدرة فاستحقاق الذم والعقاب فيه لكسب القبيح بالاتفاق ومما ينبغي أن يعلم أن قول الشارح فيستحق الذم والعقاب يستفاد منه أنه قد يستحق الذم والعقاب بترك قصد الفعل أيضًا وأنه قد لا يعاقب بعفو من الله تعالى أو سهو من العبد أو نحو ذلك، ومعنى الاستحقاق أنه لو عوقب بذلك كان ملائمًا لنظر الشارع لا أنه حق لازم لأنه ليس مذهبنا، قال بعض الفضلاء: إنه لو كان استحقاق الذم والعقاب لإضاعة مبدأ فعل الخير لكان معاقبًا بقصد فعل الشر لحصول التضييع مع أن قصد فعل الشر معفو ما لم يعمل، أقول: الأصح أن المعفو هو خطور فعل الشر بدون القصد، وأما القصد فلا، قال في تمهيد المعرفة: ثم أعمال القلوب من الفكر والنية هل يحاسب أم لا؟ فقال بعضهم: لايحاسب، وبعضهم يحاسب، والأصح أنه إن خطر بباله ولم يعتقد ولم ينو ذلك فإنه لا يحاسب وإن كان كفرًا لأن ذلك الخطر مما لا يمكن الاحتراز عنه، وأما إذا خطر بباله واعتقد ذلك وثبت عليه فإنه يسأل ويحاسب لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸﱠ وقوله تعالى: ﱡﭐ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﱠ
قوله: (وهو لا ينافي…إلخ) أي كون التضييع سبب الذم والعقاب في ترك الواجبات لا ينافي أن يكون وجه الذم في فعل المنهيات شيئًا آخر أعني صرف القدرة إليه ماسيجيء في قوله: وصحة الاستطاعة تعتمد إلخ حيث قال: إلا أنه صرف قدرته إلى الكفر وضيع باختياره إلخ، وإنما قلنا: إنه لا ينافي ذلك لأن ترك الواجب وإن كان من المنهيات إلا أنه من المتروك، فيجوز أن يكون وجه الذم والعقاب فيه مغايرًا لما في فعلها.
قوله: (هذا الكلام إلزامي…إلخ) أي هذا الدليل على وجوب المقارنة دليل إلزامي مبني على مذهب الخصم القائل بتأثير القدرة، فحاصل الدليل أنه لو كانت الاستطاعة سابقةً على الفعل يلزم وقوع الفعل بلا استطاعة، ولكن وقوعه بدونها محال عندكم لأنه يستلزم تخلف الأثر عن المؤثر، وإلا أي وإن لم يكن إلزاميًّا بل تحقيقيًّا مبنيًّا على مذهب أهل الحق فلا يفيد وجوب المقارنة لأن استحالة وقوع الفعل بدون الاستطاعة حينئذ ممنوع، إذ لادخل للاستطاعة في وجود الفعل عنده حتى يستحيل وجود الفعل بدونها، قيل فيه أنه قد عرفت آنفا أن الاستطاعة عندهم إما علة عادية أو شرط عادي له وعلى كلا التقديرين يستحيل وجوده بدونها عادة، أقول: إن كان المدعى أن الاستطاعة تجب أن تكون مع الفعل ولا يجوز تقدمها أصلًا فلا بد أن يجعل الكلام إلزاميًّا لأنه لو جعل تحقيقيًّا إنما يدل على أنه يلزم خلاف جري العادة، وهو لا يستلزم امتناع تقدمها مطلقًا، وإن كان المدعى أن الاستطاعة تكون مع الفعل بطريق جري العادة فلا حاجة إلى جعله إلزاميًّا، ولعل المحشي حمله على الأول بناء على رعاية ظاهر قول الشارح وإذا كانت الاستطاعة عرضًا وجب أن تكون مقارنة بالفعل لعدم بقاء الأعراض.
قوله: (فلا نقض بقدرة الله تعالى…إلخ) أي حين إذ كانت مقارنة القدرة الحادثة مبنيةً على بقاء امتناع الأعراض لا يرد النقض بقدرة الله تعالى، وتقرير النقض أنه لو كانت القدرة مع الفعل لا قبله لزم حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره، إذ الفرض كون القدرة مع الفعل فيلزم من حدوث مقدوره حدوث قدرته، ومن قدم قدرته قدم مقدوره، وكلاهما باطلان، بل قدرته أزلية إجماعًا ومتعلقة في الأزل بمقدوراته، فقد ثبت تعلق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ولو كانت ممتنعة في القدرة الحادثة غير باقية لأنها من الأعراض وهي ممتنعة البقاء، وإلا لزم قيام المعنى بالمعنى على ما مر، فلو كانت قبل الفعل يلزم وقوع الفعل بلا استطاعة بخلاف القدرة القديمة فإنها باقية أزلًا وأبدًا، فلا يلزم من تقدمها على وجود المقدور محال.
قوله: (ليست من قبيل الأعراض) لأن العرض عبارة عن ممكن يكون تحيزه تابعًا لتحيز شيء آخر، والصفات ليست كذلك.
قال الشارح: فإن قيل: لو سلم استحالة بقاء الأعراض فلا نزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال، فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة. قلنا: إنما ندعي لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة، وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد اعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة له، ثم إن ادعيتم أنه لا بد لها من أمثال سابقة حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان.
قال الخيالي:
قوله: (فقد اعترفتم بأن القدرة…إلخ) حاصله أنه ليس نفي وجود المثل السابق داخلا في دعوى الأشعري وفيه بحث إذ المذهب أن لا قدرة قبل الفعل أصلا ومدعى المعتزلة جوازها قبله لا أنه لا بد من مثل سابق كما ستعرفه.
قال السيالكوتي:
قوله: (حاصله أنه ليس نفي وجود المثل…إلخ) يعني حاصل الجواب أن مدعى الشيخ الأشعري أن القدرة مقارنة للفعل سواء سبقها مثل أو
لا، وليس نفي وجود المثل السابق داخلًا في دعواه حتى يرد أن دليله إنما يدل على وجوب المقارنة لا على أن لا يوجد قبل الفعل لجواز أن تكون باقية بتجدد الأمثال على ما هو مذهبه في جميع الأعراض، فتكون قبل الفعل مع المقارنة له بتجدد الأمثال، فلا يلزم وقوع الفعل بلا استطاعة.
قوله: (وفيه بحث…إلخ) حاصله أن نفي المثل السابق داخل في دعواه، إذ مذهبه أن لا قدرة قبل الفعل، ومذهب المعتزلة جوازها قبله حيث قالوا: إنه لا بد من مثل للقدرة سابق على حصول الفعل وإلا لزم تكليف العاجز على ماستعرفه، فالنزاع بين الفريقين في أن القدرة قبل الفعل أم لا، قال في المواقف: قال الشيخ وأصحابه: القدرة الحادثة مع الفعل ولا توجد قبله، وقالت المعتزلة: القدرة قبل الفعل، فمنهم من قال ببقائها حال الفعل، ومنهم من نفاه، وبهذا ظهر ركاكة قوله: لا بد من مثل سابق، والأولى أن يقول: لا بد من قدرة سابقة لأن وجود المثل إنما هو عند بعض المعتزلة القائلين بأن القدرة باقية حال الفعل بتجدد الأمثال، وأما عند من يقول ببقائه حال الفعل وهو يبقى ببقاء الأعراض فليس عنده مثل سابق بل نفس القدرة التي يعتمد عليها التكليف كما لايخفى.
قال الشارح: وأما ما يقال: لو فرضنا بقاء القدرة السابقة إلى آن الفعل إما بتجدد الأمثال وإما باستقامة بقاء الأعراض، فإن قالوا بجواز وجود الفعل بها في الحالة الأولى فقد تركوا مذهبهم حيث جوزوا مقارنة الفعل بالقدرة، وإن قالوا بامتناعه لزم التحكم والترجيح بلا مرجح، إذ القدرة بحالها لم تتغير ولم يحدث فيها معنى لاستحالة ذلك على الأعراض، فمل صار الفعل بها في الحالة الثانية واجباً وفي الحالة الأولى ممتنعاً؟
قال الخيالي:
قوله: (لاستحالة ذلك على الأعراض) وإلا يلزم قيام العرض بالعرض ويرد عليه أنه يجوز أن يكون وصفا اعتباريا مثل رسوخ القدرة لا معنى موجودا يمتنع قيامه بمثله.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أنه يجوز أن يكون…إلخ) حاصله أنه إنما يلزم قيام العرض بالعرض لو كان الأمر الحادث فيها في الحالة الثانية أمرًا موجودًا حتى يكون عرضًا، فإنه قسم الموجود الممكن، وأما إذا كان أمرًا يعتبره العقل وينتزعه من غير أن يكون له تحقق في الخارج زائد على نفس القدرة كالرسوخ، فإن الكيفية النفسانية من حيث استحكامها في موضعها ولو بتعاقب الأفراد والأمثال تسمى راسخة، وليس الرسوخ أمرًا زائدًا عليها في الخارج كما لايخفى، قال بعض الأفاضل: هذا البحث مندرج في النظر الذي ذكره الشارح بقوله: وفيه نظر لأن حاصل قوله: لأنه يجوز أن يمتنع الفعل في الحالة الأولى لانتفاء الشرط إلخ أنه لا يلزم من عدم حدوث معنى فيها أن يكون وجوب الفعل في الحالة الثانية وامتناعه في الأولى تحكمًا لجواز أن يكون وجود الشرط في الحالة الثانية من حدوث وصف اعتباري فيها مثل رسوخ القدرة، فلا يلزم قيام العرض بالعرض أو غير ذلك من الأمور الاعتبارية المناسبة، أقول: إن قول الشارح مع أن القدرة التي هي صفة القادرفي الحالتين على السواء ينافي ما ذكر لأن القدرة الراسخة الحادثة في الحالة الثانية ليست مساوية للقدرة الحادثة في الحالة الأولى لعدم كونها راسخة، فالظاهر أن الشارح أراد أنه يجوز أن تكون الحادثة في الحالة الثانية أمورًا خارجة يكون شروطًا لتأثيرها، فلا يلزم قيام العرض بالعرض فتأمل.
قال الشارح: ففيه نظر، لأن القائلين بكون الاستطاعة قبل الفعل لا يقولون بامتناع المقارنة الزمانية، وبأن حدوث كل فعل يجب أن يكون بقدرة سابقة عليه بالزمان ألبتة حتى يمتنع حدوث الفعل في زمان حدوث القدرة مقرونة بجميع الشرائط، ولأنه يجوز أن يمتنع الفعل في الحالة الأولى لانتفاء شرط أو وجود مانع، ويجب في الثانية لتمام الشرائط، مع أن القدرة التي هي صفة القادر في الحالتين على السواء. ومن هاهنا ذهب بعضهم إلى أنه إن أريد بالاستطاعة القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير فالحق أنها مع الفعل، وإلا فقبله، وأما امتناع بقاء الأعراض فمبني على مقدمات صعبة البيان، وهي أن بقاء الشيء أمر محقق زائد عليه، وأنه يمتنع قيام العرض بالعرض، وأنه يمتنع قيامهما معاً بالمحل. ولما استدل القائلون بكون الاستطاعة قبل الفعل بأن التكليف حاصل قبل الفعل ضرورة أن الكافر مكلف بالإيمان وتارك الصلاة مكلف بها بعد دخول الوقت، فلو لم تكن الاستطاعة متحققة حينئذ لزم تكليف العاجز وهو باطل.
قال الخيالي:
قوله: (ومن ههنا ذهب بعضهم) وهو الإمام الرازي وبه يرتفع نزاع الفريقين إلا أن الشيخ لما لم يقل بتأثير القدرة الحادثة فسروا التأثير بما يعم الكسب فصار الحاصل أن القدرة مع جميع جهات حصول الفعل بها أو معها مقارنة وبدونه سابقة وفي كلام الآمدي أن القدرة الحادثة من شأنها التأثير لكن عدم التاثير بالفعل لوقوع متعلقها بقدرة الله تعالى وحينئذ لا إشكال أصلا.
قوله: (و أنه يمتنع قيامهما) أي قيام الشيء وبقاؤه (معا بالمحل) بمعنى تبعيتهما له في التحيز وإلا فليس جعل أحدهما صفة للآخر أولى من العكس بل الكل صفة المتبوع ووجه الصعوبة فيه أن تابع شيء في التحيز يجوز أن يكون تابعا لآخربخصوصية ذاتية بينهما.
قال السيالكوتي:
قوله: (وهو الإمام الرازي…إلخ) قال في المواقف: قال الامام الرازي: القدرة تطلق على مجرد القوة التي هي مبدأ الأفعال المختلفة، ولا شك أن نسبتها إلى الضدين سواء وهي قبل الفعل، وتطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير برمتها، ولا شك أنها لا تتعلق بالضدين بل هو بالنسبة إلى كل مقدور غيرها بالنسبة إلى الآخر لاختلاف الشرائط وهي مع الفعل، ولعل الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير والمعتزلة أرادوا مجرد القوة فلا نزاع.
قوله: (إلا أن الشيخ لما لم يقل…إلخ) دفع لما أورد على ما قال الإمام الرازي من أن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ، فكيف يصح أن يقال أنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لجميع شرائط التأثير، وحاصل الدفع أن المراد بالتأثير ما يعم الكسب بأن يكون المراد القدرة المستجمعة لجميع شرائط حصول الفعل سواء كانت مؤثرة أو مقارنة عادة، فيطابق مذهب الشيخ، وصار الحاصل أن القدرة مع جميع الجهات التي يحصل الفعل بها أي بسببها كما هو رأي المعتزلة أو معها أي مقارنًا لها كما هو رأي الشيخ مقارنة للفعل غير سابقة عليه وبدون تلك الجهات سابقة عليه.
قوله: (وفي كلام الآمدى…إلخ) أي وقع في كلام الآمدى أن القدرة الحادثة من شأنها التأثير، وإنما لم تؤثر بالفعل لأن متعلقاتها وقعت بقدرة الله تعالى حتى لو لم يسبقها قدرته تعالى لكانت كافية في التأثير، وحينئذ لا إشكال في صحة ما ذكره الإمام الرازي ولاحاجة إلى تعميم التأثير لما يعم الكسب كما لا يخفى.
قوله: (بمعنى تبعيتهما في التحيز) إنما فسر القيام بهذا لأن القائل بامتناع قيام العرض بالعرض، إنما يفسره بهذا المعنى فمن قال: الأولى أن يقال بمعنى اختصاص الناعت بالمنعوت أو التبعية في التحيز لم يأت بشيء.
قوله: (وإلا فليس…إلخ) أي وإن لم يمتنع قيامهما معًا بالمحل بل جاز قيامهما معًا بالمحل فليس جعل أحدهما وصفًا للآخر بأن يقال السواد باق أولى من العكس بأن يقال البقاء أسود.
قوله: (ووجه الصعوبة…إلخ) حاصله أنه يجوز أن يكون بين الأمرين القائمين بمحل خصوصية ذاتية بها يصير أحدهما صفة للآخر دون العكس، وإنما لم يذكر وجه صعوبة المقدمتين الأوليين لأنه قد مر ذكرهما في الشرح.
ويقعُ هذا الاسمُ على سلامةِ الأسبابِ والآلاتِ والجوارحِ.
قال الشارح: أشار إلى الجواب بقوله: (ويقع هذا الاسم) يعني لفظ الاستطاعة (على سلامة الأسباب والآلات والجوارح) كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﱠ. فإن قيل: الاستطاعة صفة المكلف وسلامة الأسباب والآلات ليس صفة له، فكيف يصح تفسيرها بها؟ قلنا: المراد سلامة الأسباب والآلات له، والمكلف كما يتصف بالاستطاعة يتصف بذلك حيث يقال: هو ذو سلامة الأسباب، إلا أنه لتركبه لا يشتق منه اسم فاعل يحمل عليه، بخلاف الاستطاعة.
قال الخيالي:
قوله: (المراد سلامة أسبابه) يعني أن للمكلف وصفا إضافيا يعبرعنه تارة بلفظ مجمل دال على الإضافة ضمنا وتارة بلفظ مفصل دال عليها صريحا فلا فرق إلا بالإجمال والتفصيل ونظيره التمول وكثرة المال وكون الاستطاعة وصفا ذاتيا للمكلف ممنوع وإلا لم يصح تفسيرها بسلامة أسبابه.
وقوله: (هو ذو سلامة أسباب) يفيد صحة الحمل لا صحة التفسير، هذا والأقرب ما أفاده بعض الأفاضل من أن أمثاله مبنية على التسامح فإن وصف المكلف كونه بحيث سلمت أسبابه ولوضوح الأمر تسومح في عد سلامة الأسباب وصفا له.
قال السيالكوتي:
قوله: (يعني أن للمكلف وصفًا إضافيًّا…إلخ) يعني حاصل جواب الشارح أن للمكلف وصفًا بحال متعلقه، وهو كون أسبابه وآلاته سالمة عن الآفة والعاهة يعبر عنه تارة بلفظ مجمل دال على الإضافة وكونه وصفًا بحال متعلقه ضمنًا وهي الاستطاعة، ويعبر عنه تارة بلفظ مفصل دال على الإضافة صريحًا وهي سلامة الأسباب والآلات.
قوله: (وكون الاستطاعة وصفًا ذاتيًّا للمكلف ممنوع) يعني وأما توجيه جواب الشارح بأن السلامة مطلقًا وإن لم يكن وصفًا له لكن المراد سلامة أسبابه، وهو وصف ذاتي للمكلف كما أن الاستطاعة وصف ذاتي له لأن المكلف كما يتصف بالاستطاعة كذلك يتصف بذلك حيث يقال ذو سلامة أسباب، فيصح تفسيرها بها، فيردان كون الاستطاعة وصفًا ذاتيًّا ممنوع، وإلا لما صح تفسيرها بسلامة أسبابه لأنه وصف له باعتبار متعلقه، ولا يصح تفسير الوصف الذاتي بالإضافي، وإن قولنا: ذو سلامة أسباب إنما يفيد صحة حملها على المكلف لا كونها وصفا ذاتيًّا له حتى يفيد صحة تفسير الاستطاعة بذلك، هذا ما سنح بخاطري الكليل وذهني العليل، وبعض من تصدى لحل هذا الكتاب جعل قوله: وأما كون الاستطاعة وصفًا ذاتيًّا فممنوع، وإلا لم يصح تفسيرها بسلامة أسبابه داخلًا في تقرير الجواب، وقال: يعني أن الاستطاعة والسلامة كلاهما وصفان إضافيان لا فرق بينهما إلا بالإجمال والتفصيل، ولا نسلم أن الاستطاعة وصف ذاتي له وإلا لم يصح تفسيرها بسلامة الأسباب لأن سلامةالأسباب أيضًا وصف ذاتي له حيث يقال: ذو سلامة أسباب، فيصح تفسيرها بذلك، وحاصل الجواب أن قولنا ذو سلامة أسباب إنما يفيد صحة الحمل لا كونها صفة ذاتية له حتى يفيد صحة التفسير، ولا يخفى ما فيه، أما أولًا فلأنه حينئذ يصير قوله: وإلا لم يصح تفسيرها بسلامة أسبابه مصادرة وإن أمكن دفعه بالتكليف، وأما ثانيًا فلأن قوله: قولنا ذو سلامة أسباب إلخ يصير كلامًا على السند الغير المساوي، وهو خارج عن قانون المناظرة على أن المنع المذكور لا يضر لأن فيه تسليم صحة تفسير الاستطاعة بسلامة الأسباب، فلا حاجة إلى دفعه، وأما ثالثًا فلأن أسلوب الكلام يأبى عن ذلك كما لايخفى على من له ذوق سليم وطبع مستقيم.
قوله: (والأقرب ما أفاده بعض الأفاضل…إلخ) أراد به السيد الشريف، وحاصل التأويل أن القوم وإن فسروا الاستطاعة بسلامة إلا أنهم تسامحوا في ذلك إذ لم يقصدوا معناه الصريح بل ما يفهم منه أعني كونه بحيث سلمت أسبابه واعتمدوا على ظهور أن الاستطاعة صفة للمتكلف والسلامة ليست صفة، فلا بد أن يقصد بما ذكروا في تعريفها معنى هو صفة أعني كونه بحيث سلمت أسبابه، ودلالة سلامة الأسباب عليها واضحة، وكذا الكلام في كل وصف للشيء بحال متعلقه مثل قولنا: الدلالة فهم المعنى من اللفظ وزيد قائم أبوه، والحق مطابقة الواقع إياه، هذا خلاصة ما ذكره السيد الشريف في حاشية شرح التلخيص، وقد سبق مثله في قوله: مطابقة الواقع إياه فتذكر.
وصِحةُ التكليفِ تَعتمِدُ هذه الاستطاعَة.
قال الشارح: (وصحة التكليف تعتمد هذه الاستطاعة) التي هي سلامة الأسباب والآلات، لا الاستطاعة بالمعنى الأول. فإن أريد بالعجز عدم الاستطاعة بالمعنى الأول فلا نسلم استحالة تكليف العاجز، وإن أريد بالمعنى الثاني فلا نسلم لزومه لجواز أن يحصل قبل الفعل سلامة الأسباب والآلات وإن لم تحصل حقيقة القدرة التي بها الفعل. وقد يجاب بأن القدرة صالحة للضدين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى أن القدرة المصروفة إلى الكفر هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الإيمان، ولا اختلاف إلا في التعلق، وهو لا يوجب الاختلاف في نفس القدرة، فالكافر قادر على الإيمان المكلف به، إلا أنه صرف قدرته إلى الكفر وضيع باختياره صرفها إلى الإيمان، فاستحق الذم والعقاب. ولا يخفى أن في هذا الجواب تسليماً لكون القدرة قبل الفعل، لأن القدرة على الإيمان في حال الكفر تكون قبل الإيمان لا محالة. فإن أجيب بأن المراد أن القدرة وإن صلحت للضدين لكنها من حيث التعلق بأحدهما لا تكون إلا معه حتى أن ما يلزم مقارنتها للفعل هي القدرة المتعلقة بالفعل وما يلزم مقارنتها للترك هي القدرة المتعلقة به، وأما نفس القدرة فقد تكون متقدمة متعلقة بالضدين. قلنا: هذا مما لا يتصور فيه نزاع، بل هو لغو من الكلام، فليتأمل.
قال الخيالي:
قوله: (تعتمد على هذه الاستطاعة) والسر فيها أن سلامة الأسباب مناط خلق الله تعالى القدرة الحقيقية عند القصد بالفعل فبعد السلامة لا حاجة من جهة العبد إلا إلى القصد.
ولا يُكلفُ العبدُ بما ليس في وُسعِهِ.
قال الشارح: (ولا يكلف العبد لما ليس في وسعه) سواء كان ممتنعاً في نفسه كجمع بين الضدين أو ممكناً في نفسه لكن لا يمكن للعبد كخلق الجسم، وأما ما يمتنع بناء على أن الله تعالى علم خلافه أو أراد خلافه كإيمان الكافر وطاعة العاصي فلا نزاع في وقوع التكليف به لكونه مقدوراً للمكلف بالنظر إلى نفسه، ثم عدم التكليف بما ليس في الوسع متفق عليه، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﱠ
قال الخيالي:
قوله: (ولا يكلف العبد بما ليس في وسعه) تحرير المقام أن ما لا يطاق على ثلاث مراتب ما يمتنع في نفسه وما يمكن في نفسه ولا يمكن من
العبد عادة وما يمكن منه ولكن تعلق بعدمه علمه تعالى وإرادته والأولى لا يجوز ولا يقع تكليفه اتفاقا والثانية لا يقع اتفاقا ويجوز عندنا خلافا للمعتزلة والثالثة يجوز ويقع بالاتفاق فهذا توجيه ما قيل تكليف ما لا يطاق واقع عند الأشعري ومن لا يقول به لا يعدها من المراتب نظرا إلى إمكانها من العبد في نفسه وقد يوجه أيضا بأن القدرة الحادثة غير مؤثرة وغير سابقة على الفعل عنده فيكون مما لا يطاق بهذا الاعتبار وفيه بعد لأنه يستلزم كون كل تكليف كذلك وهو لا يقول به.
قوله: (ثم عدم التكليف بما ليس في الوسع) أي بما يمكن في نفسه وما لا يمكن من العبد في نفسه بقرينة قوله وإنما النزاع في الجواز ولك أن تأخذهما على الإطلاق لأنه لا يستلزم الشمول، وقد يقال أن أبا لهب كلف بالايمان وهو تصديق النبي عليه السلام في جميع ما علم مجيئه به ومن جملته أنه لا يؤمن فقد كلف بأن يصدقه في أن لا يصدقه وإذعان ما وجد من نفسه خلافه مستحيل قطعا فحينئذ يقع التكليف بالمرتبة الأولى فضلا عن الجواز وفيه بحث لأنه يجوز أن لا يخلق الله تعالى العلم بالعلم فلا يجد من نفسه خلافه، نعم هو خلاف العادة فيكون من المرتبة الوسطى والذي يحسم مادة الشبهة هو أن المحال إذعانه بخصوص أنه لا يؤمن وإنما يكلف به إذا وصل إليه ذلك الخصوص وهو ممنوع وأما قبل الوصول فالواجب هو الإذعان الإجمالي إذ الإيمان هو التصديق إجمالا فيما علم إجمالا وتفصيلا فيما علم تفصيلا ولا استحالة في الإذعان الاجمالي، وقد يجاب أيضا بأنه يجوز أن يكون الإيمان في حقه هو التصديق بما عداه ولا يخفي بعده إذ فيه اختلاف الإيمان بحسب الاشخاص.
قال السيالكوتي:
قوله: (تحرير المقام…إلخ) أي تحرير محل النزاع على ما هو رأي المحققين، فإنه حكي عن إمام الحرمين والإمام الرازي جواز التكليف بالمحال بل الوقوع مستدلين بما ذكره المحشي بقوله: وقد يقال: إن أبا لهب قد كلف إلخ. وقد نسب ذلك إلى الشيخ الأشعري قدس سره، ولم يثبت تصريحه به، وذلك لأصلين الأول أنه لا تأثير لقدرة العبد في أفعاله، فهي مخلوقة الله تعالى ابتداء، وثانيهما أن القدرة مع الفعل لا قبله، والتكليف قبل الفعل فلا يكون حين الاستطاعة والقدرة، وليس بشيء لأنه يستلزم ذلك أن يكون جميع التكاليف عنده تكليفًا بما لا يطاق على ما سيذكره المحشي، ولأنه لا معنى لتأثير العبد في أفعاله إلا القصد إليه باختياره وإن لم يخلق الله تعالى الفعل عقيب قصده، والتكليف إنما يعتمد على سلامة الأسباب لا على القدرة المقارنة.
قوله: (ما يمتنع في نفسه) كإعدام القديم وقلب الحقائق.
قوله: (ولا يمكن من العبد) إما بأن لا يكون من جنس ما تتعلق به القدرة الحادثة كخلق الجواهر أو يكون لكن من نوع أو صنف لا يتعلق به التكليف كحمل الجبل والطيران إلى السماء.
قوله: (لكن تعلق بعدمه علمه تعالى…إلخ) فإن ما علم الله وأراد عدمه امتنع وقوعه وإن كان ممكنا في نفسه، فامتنع بذلك تعلق القدرة الحادثة.
قوله: (فالأولى لا يجوز…إلخ) أي التكليف بالممتنع الذاتي لا يجوز ولا يقع اتفاقًا من المحققين من أصحابنا بناء على تجويز الإمامين على مامر، واستدلوا على ذلك بأنه لو صح التكليف بالمستحيل لكان مستدعي الحصول إذ لا معنى للتكليف إلا الطلب واستدعاء الحصول، واللازم باطل لأن طلبه فرع تصور وقوعه ولايتصور وقوعه إذ لو تصور لتصور مثبتًا، ويلزم منه تصور الأمر على خلاف ماهيته، فإن ماهيته تنافي ثبوته وإلا لم يكن ممتنعًا لذاته وهذا كتصور الأربعة بأنه ليس بزوج، فإنه تصور على خلاف ماهيته لأن كل ما ليس بزوج ليس بأربعة، وتحقيق هذا الكلام في شرح المختصر العضدي.
قوله: (والثانية لا تقع اتفاقًا…إلخ) بشهادة الآيات والاستقراء قال الله تعالى: ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﱠ.
قوله: (يجوز عندنا…إلخ) لجواز أن يخلق الله تعالى فيه قدرة على ذلك الفعل على خلاف العادة، فإن قيل: يجوز تكليف الجماد وليس كذلك، قلت: فرق بينهما فإن الجماد ليس محلًّا للتكليف لعدم فهم الخطاب بخلاف العبد.
قوله: (والثالثة يجوز ويقع…إلخ) فإن من مات على كفره ومن أخبره الله بعدم إيمانه يعد عاصيًا إجماعًا، ولو لم يقع التكليف به لم يعد عاصيًا.
قوله: (فهذا توجيه…إلخ) يعني أن قولنا التكليف بما تعلق علمه وإرادته بعدمه واقع توجيه ما قيل إن تكليف ما لا يطاق واقع عند الأشعري، وليس المراد أن التكليف بالممتنع لذاته أو ما لا يمكن من العبد واقع عنده كيف، وهو مخالف لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﱠ وبشهادة الاستقراء.
قوله: (ومن لا يقول به لا يعدها…إلخ) دفع لما يتوهم من أنه إذا كان مراد الأشعري ما ذكر فلا معنى للخلاف فيه، فإن وقوع مثل هذا التكليف متفق عليه، وحاصل الدفع أن من لا يقول بوقوع تكليف ما لا يطاق لا يعد هذه المرتبة أي المرتبة الثالثة من مراتب ما لا يطاق نظرًا إلى أنه ممكن في نفسه من العبد.
قوله: (وقد يوجه أيضًا…إلخ) أي قد يوجه ما قيل: إن القدرة غير مؤثرة في الفعل عند الشيخ وغير سابقة عليه والتكليف قبله فيكون التكليف بما لا يطاق بهذا الاعتبار.
قوله: (بما يمكن في نفسه…إلخ) يعني أن المراد بقوله ما ليس في الوسع المرتبة الوسطى بقرينة قوله: وإنما النزاع في الجواز، فإن النزاع إنما هو في جوازه إذ التكليف بالمرتبة الأولى لا يجوز اتفاقًا، وبالمرتبة الثالثة جائز وواقع اتفاقًا.
قوله: (ولك أن تأخذهما) أي لك أن تأخذ كلا القولين على الإطلاق ولا تقيدهما بالمرتبة الوسطى، ولا يلزم منه أن يكون الحكم بعدم الوقوع وبالنزاع في الجواز في جميع مراتبه لأن الإطلاق لا يستلزم العموم وشمول الافراد لأن المطلق موضوع لحصة من الحقيقة محتمل لحصص كثيرة من غير تعيين ولا شمول، ألا يرى أن من قال أطعم رجلًا أو اكس رجلًا لا يستلزم الأمر بإطعام جميع الرجال وإكسائهم، فكذا الحكم بعدم وقوع تكليف ما لا يطاق، وبالنزاع في جوازه لا يستلزم أن يكون في جميع مراتبه، والمحشي المدقق جعل الضمير في قوله: ولك أن تأخذها إلى الإمكانين، وقال: ولك أن لا تقيد الإمكانين أعني ما يمكن في نفسه ولا يمكن من العبد في نفسه بقوله في نفسه، وهو لا يستلزم شمول الممتنع لأنه خارج من قوله ما يمكن، وكذا لا يستلزم شمول ما يمكن من العبد لأنه خارج بقرينة قوله: وإنما النزاع ولا يخفى أنه لغو من الكلام لا مدخل له في المقصود أصلًا.
قوله: (وقد يقال إن أبا لهب…إلخ) يعني أن أبا لهب كلف بالإيمان والإيمان عبارة عن تصديق النبي عليه الصلاة والسلام بجميع ما علم مجيئه به من عند الله تعالى، ومن جملة ما علم مجيئه به أن أبا لهب لا يؤمن به ولا يصدقه فيما أتى به فقد كلف بأن يؤمن به بأنه لا يؤمن به، وأن يصدقه في أن لا يصدقه وأنه محال لأن إذعان الشخص بأمر علم في باطنه خلاف ذلك الأمر مستحيل قطعًا يعني أن الشخص إذا كان مصدقًا كان عالمًا بتصديقه علما ضروريًّا، فلا يمكنه حينئذ التصديق بعدم التصديق لأنه يجد في باطنه خلافه، وهو التصديق بل يكون علمه بتصديقه موجبًّا لتكذيبه في الأخبار بأنه لا يصدقه، فحينئذ وقع التكليف بالمرتبة الأولى أعني الممتنع لذاته فضلًا عن جوازه.
قوله: (وفيه بحث لأنه يجوز…إلخ) يعني أنه إنما يجد في نفسه خلافه لو كان له علم بالتصديق الذي حصل له ويجوز أن لا يخلق الله فيه العلم بالعلم، فلا يجد في نفسه خلافه فيجوز أن يذعن بعدم التصديق لعدم العلم له بتصديقه مع حصوله، فلا يكون تكليفًا بالممتنع لذاته، نعم إن خلق العلم بالعلم ضروري لا يتخلف عنه عادة فهو ممتنع عادي، فيكون من المرتبة الوسطى، وفيه أنه يلزم أن يقع التكليف بالمرتبة الوسطى مع أنه ذكر فيما قبل أنه لا يقع التكليف به اتفاقًا، وأيضًا أن هذا الجواب إنما يتم لو بين استحالة أن يصدقه في أن لا يصدقه بأن إذعان ما وجد في نفسه خلافه مستحيل، أما لو بين بأن تصديقه في الأخبار بأنه لا يصدقه في شيء مما جاء به يستلزم عدم تصديقه في ذلك الأخبار أيضًا ضرورة أنه شيء مما جاء به، وما يكون وجوده مستلزمًا لعدمه يكون محالًا، فلا يتم كما لا يخفى، وهذا التقدير اختاره الشارح في حواشي العضدي، ويمكن الجواب على هذا التقرير بأن الإيمان عبارة عن التصديق بجميع ما علم مجيئه به، ومعنى لا يؤمن به وقع الإيجاب الكلي لا السلب الكلي، فلا ينافيه التصديق في هذا الأخبار تأمل، وفي قوله: والذي يحسم مادة الشبهة إشارة إلى ما ذكرنا من المناقشات.
قوله: (والذي يحسم مادة الشبهة) هذا الجواب اختاره السيد الشريف في شرح المواقف، وحاصله أن الإيمان الإجمالي في حقه غير مستلزم للمحال، إنما المحال هو التفصيلي ووجوبه مشروط بالعلم التفصيلي، فالتصديق بأنه لا يؤمن المستلزم للمحال إنما يكلف به إذا علمه ووصل إليه بخصوصه، وهو ممنوع وعلم الله تعالى وأخباره للرسول لا ينافي ذلك فهو كقوله تعالى: لنوح عليه السلام: ﱡﭐ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﱠ الآية ولا يخفى أن هذا الجواب إنما يدفع الشبهة عن الوقوع لا عن الجواز لأن وصول ذلك الأخبار إليه ممكن، والمعلق بالممكن ممكن.
قوله: (وفيه اختلاف الإيمان بحسب اختلاف الأشخاص) وهو مستبعد جدًّا لأن الإيمان حقيقة واحدة لا يتصور اختلافها بحسب الأشخاص.
قال الشارح: والأمر في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱩ ﱪ ﱫ ﱠ للتعجيز دون التكليف، وقوله تعالى: حكاية عن حال المؤمنين: ﱡﭐ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏﱠ ليس المراد بالتحميل هو التكليف، بل إيصال ما لا يطاق من العوارض إليهم، وإنما النزاع في الجواز فمنعه المعتزلة بناء على القبح العقلي، وجوزه الأشعري لأنه لا يقبح من الله تعالى شيء.وقد يستدل بقوله تعالى: ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﱠ على نفي الجواز. وتقريره: أنه لو كان جائزاً لما لزم من فرض وقوعه محال، ضرورة أن استحالة اللازم توجب استحالة الملزوم، تحقيقاً لمعنى اللزوم، لكنه لو وقع لزم كذب كلام الله تعالى، وهو محال، وهذه نكتة في بيان استحالة وقوع كل ما يتعلق علم الله تعالى وإرادته واختياره بعدم وقوعه. وحلها أنا لا نسلم أن كل ما يكون ممكناً في نفسه لا يلزم من فرض وقوعه محال، وإنما يجب ذلك لو لم يعرض له الامتناع بالغير، وإلا لجاز أن يكون لزوم المحال بناء على الامتناع بالغير، ألا يرى أن الله تعالى لما أوجد العالم بقدرته واختياره، فعدمه ممكن في نفسه مع أنه يلزم من فرض وقوعه تخلق المعلول عن علته التامة، وهو محال. والحاصل أن الممكن في نفسه لا يلزم من فرض وقوعه محال بالنظر إلى ذاته، وأما بالنظر إلى أمر زائد على نفسه فلا نسلم أنه لا يستلزم المحال.
قال الخيالي:
قوله: (تقديره أنه لو كان جائزا…إلخ) لو صح هذا التقدير لزم أن لا يجوز تكليف أمثال أبي لهب بالايمان لما أخبر الله عنهم بأنهم لا يؤمنون مع أنه جائز بل وقع.
قال السيالكوتي:
قوله: (لو صح هذا التقرير…إلخ) ما ذكره الشارح بقوله: وحلها نقض تفصيلي منع للملازمة، وما ذكره المحشي نقض إجمالي، وحاصله أن دليلكم بجميع مقدماته باطل لأنه قد يتخلف الحكم عنه في مادة مثل أبي لهب حيث وقع التكليف بالإيمان فضلًا عن الجواز مع جريان الدليل فيه بأن يقال: إنه لو كان جائزًا لما لزم من فرض وقوعه محال لكنه يلزم لأنه يستلزم الكذب في كلام الله تعالى حيث أخبر عنه بأنه لا يؤمن.
وما يُوجَدُ من الألمِ في المضروبِ عَقيبَ ضربِ إنسانٍ، والانكسارِ في الزجاجِ عقيبَ كَسرِ إنسانٍ وما أشبههُ، كلُّ ذلك مخلوقٌ لله تعالى. لا صُنعَ للعبدِ في تخليقِهِ.
قال الشارح: (وما يوجد من الألم في المضروب عقيب ضرب إنسان والانكسار في الزجاج عقيب كسر إنسان) قيد بذلك ليصح محلاً للخلاف في أنه هل للعبد صنع فيه أم لا، (وما أشبهه) كالموت عقيب القتل (كل ذلك مخلوق لله تعالى) لما مر أن الخالق هو الله تعالى وحده، وأن كل الممكنات مستندة إليه لا واسطة. والمعتزلة لما أسندوا بعض الأفعال إلى غير الله تعالى قولا: إن كان الفعل صادراً عن الفاعل لا بتوسط فعل آخر فهو بطريق المباشرة وإلا فبطريق التوليد. ومعناه أن يوجب الفعل لفاعله فعلاً آخر كحركة اليد توجب حركة المفتاح، فالألم متولد من الضرب والانكسار من الكسر وليسا مخلوقين لله تعالى، وعندنا الكل بخلق الله تعالى. (لا صنع للعبد في تخليقه) والأولى أن لا يقد بالتخليق، لأن ما يسمونه متولدات لا صنع للعبد فيه أصلاً، أما التخليق فلاستحالته من العبد، وأما الاكتساب فلاستحالة اكتساب العبد ما ليس قائماً بمحل القدرة، ولهذا لا يتمكن العبد من عدم حصولها بخلاف أفعاله الاختيارية.
قال الخيالي:
قوله: (فلاستحالة اكتساب ما ليس قائما بمحل القدرة) مع أنا نعلم بالضرورة الوجدانية أن حالنا بالنسبة إلى المتولدات فينا كحالنا بالنسبة إلى المتولدات في غيرنا فلا اكتساب في جميع المتولدات.
قوله: (و لهذا لا يتمكن العبد) يرد عليه أن عدم تمكن العبد قبل وجود مباشرة السبب ممتنع وبعده لا ينافي كونه مكتسبا بواسطة السبب كما أن صرف الإرادة والقدرة إلى فعل المباشرة يوجبه ويفوت التمكن من تركه.
قال السيالكوتي:
قوله: (مع أنا نعلم بالضرورة الوجدانية…إلخ) دفع لما يتوهم من أن المدعى أن لا شيء من المتولدات بمكسوب العبد، والدليل إنما ينهض عن المتولدات الغير القائمة بمحل القدرة، وأما المتولدات القائمة بمحلها فلا كالعلم الحاصل بعد النظر القائم بمحله والألم الحاصل من ضرب الشخص لنفسه ونحو ذلك، وحاصل الدفع أنا نعلم بالضرورة أن حالنا بالنسبة إلى المتولدات الحاصلة فينا كحالنا بالنسبة إلى المتولدات الحاصلة في غيرنا في أن ليس شيء منهما مقدورًا لنا، ولا يتمكن من عدم حصولهما فعلم أنه لا اكتساب في جميع المتولدات.
قوله: (يرد عليه أن عدم تمكن العبد إلى آخره) حاصله أن أريد بعدم التمكن من عدم حصولها عدمه قبل مباشرة ما يوجب حصولها، فهو ممنوع وإن أريد عدمه بعد مباشرة ما يوجب حصولها فمسلم لكن عدم التمكن بعد مباشرة السبب لا ينافي كونه مكتسبًا للعبد، ألا يرى أن فعل العبد لا يمكن تركه بعد مباشرة ما يوجب حصوله أعني صرف الإرادة والقدرة مع أن العبد مختار فيه فكذا المتولدات، *قال الفاضل المحشي: يمكن أن يقال: إن كلام الشارح مبني على أفعال المباشرة الممتدة زمانًا والمتولدات الممتدة زمانًا، وحاصله أنك إذا ضربت إنسانًا حتى حصل فيه ألم ممتد زمانًا، فإنك لا تقدر على دفع امتداد هذا الألم في ذلك الزمان بخلاف ما إذا ضربت ضربًا ممتدًّا زمانًا فإنك إذا أردت ترك مباشرة هذا الضرب الممتد زمانًا، فإنك قادر على ترك امتداده، فظهر من ذلك أنه لا اكتساب للعبد في المتولدات الممتدة زمانًا إذ هي ليست قائمة بمحل القدرة، ولذا لا يتمكن العبد من ترك الامتداد كما عرفت بخلاف أفعاله الاختيارية الممتدة زمانًا، فإنها قائمة بمحل القدرة مع أن العبد يتمكن من تركها متى شاء، وقس على هذه المتولدات الغير الممتدة، إذ لا قائل بالفصل، أقول: ما ذكره كلام أوهن من نسج العنكبوت لأن التمكن على ترك امتداد المتولدات الممتدة متحقق حين مباشرة أسبابها مثلًا حين مباشرة الضرب لنا ممكن على أن نضرب ضربًا شديدًا، فيحصل ألم ممتد أو ضعيفًا فيحصل غير ممتد، وبعد المباشرة غير متحقق في أفعال المباشر أيضًا، فإنا بعد تحقق الضرب لا تقدر على عدم مباشرة ضرب ممتد وعلى تقدير التسليم، فعدم القدرة على امتدادها لا يدل على أن لا يكون نفس المتولدات مكسوبًا ومقدورًا لنا لا بد له من دليل.
والمقتولُ ميتٌ بأجلِهِ.
قال الشارح: (والمقتول ميت بأجله) أي الوقت المقدر لموته، لا كما زعم بعض المعتزلة من أن الله تعالى قد قطع عليه الأجل.
لنا أن الله تعالى قد حكم بآجال العباد على ما علم من غير تردد، وبأنه ﱡﭐ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﱠ
واحتجت المعتزلة بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر، وبأنه لو كان ميتاً بأجله لما استحق القاتل ذماً ولا عقاباً ولا دية ولا قصاصاً، إذ ليس موت المقتول بخلقه ولا بكسبه.
قال الخيالي:
قوله: (أي بالوقت المقدر لموته) ولو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت من غير قطع بامتداد العمر ولا بالموت بدل القتل.
قوله: (قد قطع عليه الأجل) أي لمن يوصله إليه فإنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل فهم يقطعون بامتداد العمر لولاه وحاصل النزاع أن المراد بالأجل المضاف زمان تبطل فيه الحياة قطعا من غير تقدم ولا تأخر فهل يتحقق ذلك في المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل فيعيش إلى وقت هو أجل له كذا في شرح المقاصد.
قوله: (ﱡﭐ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﱠ ) إن قلت لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه قلت قوله تعالى: لا يستقدمون عطف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط.
قوله: (واحتجت المعتزلة) قالوا المسئلة بديهية والمذكور في معرض الاحتجاح تنبيه واستشهاد فلكونه في صورة الحجة استعيرت لفظ الحجة له.
قال السيالكوتي:
قوله: (ولو لم يقتل لجاز أن يموت…إلخ) إذ على تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه، فلا قطع بالموت ولا بالحياة.
قوله: (من غير قطع بامتداد العمر…إلخ) على ما ذهب إليه جمهور المعتزلة من أنه لو لم يقتل لعاش إلى امتداد أمد هو أجله ولا قطع بالموت يدل القتل على ما ذهب إليه أبو الهذيل منهم، فإنه قال: لو لم يقتل لمات بدل القتل، وتمسك بأنه لو لم يمت لكان القاتل قاطعًا لأجل قدره الله تعالى في علمه، وهو محال، والجواب أن عدم القتل، إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذ لا يثبت محال كذا في شرح المقاصد.
قوله: (أي لم يوصله إليه) يعني أنه تعالى لما أقدر القاتل على قتله، فقد قطع عليه الأجل، ولم يوصله إلى أجله، فضمير الفاعل في لم يوصله راجع إلى الله تعالى لا إلى القاتل على ما زعم الفاضل المحشي حتى يرد عليه ما قاله من أن التفسير بقوله: لم يوصله مبني على أن يكون عبارة الشرح هكذا أن القاتل قد قطع عليه الأجل لكن الواقع في أكثر النسخ أن الله تعالى قد قطع عليه الأجل، وحينئذ لا يوافق قوله: فهم أي المعتزلة، والمراد أكنرهم لما عرفت من خلاف أبي الهذيل فيه.
قوله: (وحاصل النزاع أن المراد بالأجل المضاف…إلخ) المقصود من هذا التحرير بيان الفرق بين مذهب جمهور المعتزلة، وأهل السنة، ودفع ما يقال: إنه إذا كان الأجل زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى كان المقتول ميتًا بأجله قطعًا، وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك قطعًا من غير تصور خلاف فكان الخلاف لفظيًّا على ما يراه الأستاذ، وكثير من المحققين، وتقرير الجواب أن المراد بأجله المضاف زمان بطلان حياته بحيث لا مخلص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى: ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﱠ ويرجع الخلاف إلى أنه هل تحقق ذلك في حق المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات، وإن لم يقتل يعيش إلخ كذا قرر السؤال، والجواب في شرح المقاصد، ولعله جواب باختيار أن المراد زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكنه لا مطلقًا بل علمه وقدره بطريق القطع، وحينئذ يصلح محلًّا للخلاف لأنه لا يلزم من عدم تحقق ذلك في المقتول تخلف العلم عن المعلوم لجواز أن يعلم بتقدم موته بالقتل مع تأخر الأجل الذي لا يمكن تخلفه عنه.
قوله: (قلت لا يستقدمون…إلخ) يعني أن قوله تعالى: ﱡﭐ ﲘ ﲙ ﱠ معطوف على قوله: ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﱠ لا على الجزاء، فمعنى الآية لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لايستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه، هذا هو المشهور، ولا يخفى أن فائدة تقييد قوله: لا يستأخرون فقط بالشرط حينئذ غير ظاهر وإن صح مع أن المتبادر إلى الفهم السليم أن يكون معطوفا على لا يستأخرون، قال بعض المحققين: إن قوله: لا يستقدمون عطف على قوله: ولا يستأخرون، وأنه سبحانه وتعالى نبه بذلك على أن عند مجيء الأجل كما يمتنع التقديم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخير عنه وإن كان الثاني ممكنًا عقلًا، وذلك لأن خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بينهما عدمًا فيما ذكره كالجمع بين من يسوف التوبة ثم تاب عند حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ الآية ولعل هذا مراد ما ذكر في حواشي شرح التلخيص أنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قوله: لا يستأخرون ولا يستقدمون لا يستطيعون تغيرًا على نمط قوله تعالى: ﱡﭐ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﱠ ومن هذا الباب قولهم: كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء، فلا يرد عليه ما قال الفاضل المحشي: أنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر قوله: لا يستقدمون، والحق أنه معطوف على مجموع الشرط والجزاء على ما هو مشهور.
قوله: (قالوا المسئلة بديهية…إلخ) يعني أن المعتزلة ادعوا الضرورة في هذه المسألة وقالوا الاستشهادات المذكورة في بيانها تنبيهات، فإطلاق الشارح لفظ الحجة على تنبيهاتهم حيث قال: احتجت بطريق الاستعارة لكونها في صورة الحجة، ويمكن أن يقال: فيه إشارة إلى فساد زعمهم في ادعاء الضرورة، وما ذكره الفاضل المحشي من أن من ادعى الضروة من المعتزلة هو أبو الحسين ومن تابعه، وأن الجمهور كانوا يقولون بأن المسألة استدلالية، وما ذكره الشارح بقوله: واحتجت إلخ مبني على مذهب الجمهور من المعتزلة، فلا حاجة إلى أن يجعل لفظ الاحتجاج مجازًا عن التنبيه، فليس بشيء لأن المعتزلة قاطبة ادعوا الضرورة في تولد موت المقتول من فعل القاتل بل في سائر المتولدات، قال في شرح المواقف: قالوا: إنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله وادعوا فيه أي في تولده من فعل القاتل وبقائه لولا القتل الضرورة كما ادعوها في سائر المتولدات وانتفائها عند انتفائها انتهى. والخلاف الذي نقله بين أبي الحسين وغيره من المعتزلة إنما هو في كونها مستندة إلى العباد لا في كونها متولدات من أفعالهم، فأبو الحسين يدعي الضرورة في كونها فعل العبد، وجمهور المعتزلة يستدلون عليه وثمامة بن أبريش يقول: إنها حوادث لا محدث لها، والنظام: كلها من فعل الله تعالى لا من فعل العبد إلى غير ذلك من الاختلافات المذكورة فيما بينهم على ما ذكره السيد الشريف في شرح المواقف.
قال الشارح: والجواب عن الأول: أن الله تعالى كان يعلم أنه لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين سنة، لكنه علم أنه يفعلها فيكون عمره سبعين سنة، فنسبت هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناء على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت تلك الزيادة.وعن الثاني: أن وجوب العقاب والضمان على القاتل تعبد لارتكابه المنهي، وكسبه الفعل الذي يخلق الله تعالى عقيبه الموت بطريق جري العادة، فإن القتل فعل القاتل كسباً، وإن لم يكن له خلقاً.
قال الخيالي:
قوله: (و الجواب عن الأول…إلخ) يرد عليه أنه لا يوافق تحرير محل النزاع ويؤدي إلى القول بتعدد الأجل بل الجواب أن تلك الأحاديث أخبار آحاد فلا تعارض الآيات القطعية والمراد الزيادة بحسب الخير والبركة كما يقال ذكر الفتى عمره الثاني.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أنه لا يوافق…إلخ) يعني أن المفهوم من تحرير النزاع أن الأجل وهو الزمان الذي يبطل فيه الحياة من غير تقدم وتأخر زمان واحد لا يتصور فيه تعدد والاختلاف إنما هو في تحققه في المقتول وهذا الجواب يدل على تعدد الأجل أحدهما أربعين مثلًا والآخر سبعين، قيل عليه ليس محصول الجواب أنه تعالى قدر عمره أربعين على تقدير وسبعين على تقدير حتى يلزم تعدد الأجل بل محصله أنه تعالى قدره سبعين بحيث لايتصور التقدم والتأخر عنه لعلمه بأن طاعته تصير سببًا لثلاثين فيصير مع أربعين يستحقه من غير طاعة سبعين.
قوله: (أو المراد الزيادة بحسب الخبر والبركة…إلخ) يعني أن المراد بأن الطاعة تزيد في العمر بأنها تزيد فيما هو المقصود الأهم من العمر، وهو اكتساب الكمالات والخيرات والبركات التي بها تستكمل النفوس الإنسانية فيفوز بالسعادة الأبدية.
والموتُ قائمٌ بالميتِ مخلوقٌ لله تعالى، لا صُنعَ للعبدِ فيه تخليقًا ولا اكتسابًا، والأجلُ واحدٌ.
قال الشارح: والموت قائم بالميت مخلوق لله تعالى، لا صنع فيه للعبد تخليقاً ولا اكتساباً. ومبنى هذا على أن الموت وجودي بدليل قوله تعالى: ﱡﱌ ﱍ ﱎ ﱠ والأكثرون على أنه عدمي، ومعنى خلق الموت قدره. (والأجل واحد) لا كما زعم الكعبي أن للمقتول أجلين: القتل والموت، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت، ولا كما زعمت الفلاسفة أن للحيوان أجلاً طبيعياً وهو وقت موته بتخلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين، وآجالاً اخترامية على خلاف مقتضى طبيعته بحسب الآفات والأمراض.
قال الخيالي:
قوله: (لا كما زعم الكعبي) فإنه خالف المعتزلة السابقة فقال المقتول تبطل حياته بأجل القتل.
قال السيالكوتي:
قوله: (فإنه خالف المعتزلة السابقة…إلخ) حاصل الخلاف أن الأجل في الحيوان الزمان الذي علم الله تعالى أنه يموت فيه، وللناس فيه أجل واحد عند غير الكعبي إلا أنه لا يتقدم الموت على الأجل عند الأشاعرة ويتقدم عند المعتزلة، وقال الكعبي: إنه متعدد أحدهما القتل والثاني الموت، والمقتول ليس بميت عنده بناء على أن القتل فعل العبد والموت لا يكون إلا فعل الله تعالى أي مفعوله وأثر صنعه.
والحرامُ رزقٌ.
قال الشارح: (والحرام رزق) لأن الرزق اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان فيأكله، وذلك قد يكون حلالاً وقد يكون حراماً، وهذا أولى من تفسيره بما يتغذى به الحيوان، لخلوه عن معنى الإضافة إلى الله تعالى، مع أنه معتبر في مفهوم الرزق. وعند المعتزلة الحرام ليس برزق، لأنهم فسروه تارة بمملوك يأكله المالك، وتارة بما لا يمنع من الانتفاع به، وذلك لا يكون حلالاً. لكن يلزم على الأول أن لا يكون ما يأكله الدواب رزقاً، وعلى الوجهين: أن من أكل الحرام طول عمره لم يرزقه الله تعالى أصلاً. ومبنى هذا الاختلاف على أن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معنى الرزق، وأنه لا رازق إلا الله وحده، وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام، وما يكون مستنداً إلى الله تعالى لا يكون قبيحاً، ومرتكبه لا يستحق الذم والعقاب.
قال الخيالي:
قوله: (فيأكله) أي يتناوله وهو مشهور في العرف وقد يفسر الرزق بما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به بالتغذي أو بغيره فعلى هذا تكون العواري كلها رزقا وفيه بعد لا يخفى ويجوز أن يأكل شخص رزق غيره ويوافقه قوله تعالى: ﱡﭐ ﱫ ﱬ ﱭ ﱠ وقد يقال إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده.
قوله: (بمملوك يأكله المالك) المراد بالمملوك المجعول ملكا بمعنى الإذن في التصرف الشرعي وإلا لخلا عن معنى الإضافة إلى الله تعالى وهو معتبر في مفهوم الرزق عندهم أيضا كما سيجيء فحينئذ يندفع بملاحظة الحيثية خمر المسلم وخنزيره إذا أكلهما مع حرمتهما وفي بعض الكتب أن الحرام ليس بملك عند المعتزلة فإن صح ذلك فالدفع ظاهر.
قوله: (أن لا يكون ما يأكله الدواب رزقا) مع أن ظاهر قوله تعالى: ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱠ يقتضي أن تكون كل دابة مرزوقة.
قوله: (أن من اكل الحرام…إلخ) أجيب بأنه تعالى قد ساق إليه كثيرا من المباحات إلا أنه أعرض عنه بسوء اختياره على أنه منقوض بمن مات ولم يأكل حلالا ولا حراما.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي بتناوله…إلخ) فسر الأكل بالتناول ليتناول المشروب أيضًا.
قوله: (وقد يفسره…إلخ) أي قد يفسر الرزق بما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به سواء كان حلالًا أو حرامًا من المطعومات والمشروبات والملبوسات أو غير ذلك، وهو التعريف المعول عليه عند الأشاعرة.
قوله: (فعلى هذا…إلخ) أي فعلى هذا التعريف يلزم أن يكون العواري رزقًا لأنه مما ساقه الله تعالى فانتفع به.
قوله: (وفيه) أي وفي جعلها رزقًا بُعْدٌ، فإنه لا يقال للعارية في العرف: إنه مرزوق، ويلزم أن يأكل شخص رزق غيره لأنه يجوز أن ينتفع به أحد من غير جهة الأكل وينتفع به الآخر بالأكل.
قوله: (ويوافقه…إلخ) أي يوافق هذا التعريف قوله تعالى: ﱡﭐ ﱒ ﱓ ﱔ ﱠ فإنه يجوز أن يكون الانتفاع به من جهة الإنفاق على الغير بخلاف التعريف الأول، فإنه لا يوافقه لأن ما يتناوله لا يمكن إنفاقه على الغير.
قوله: (وقد يقال…إلخ) على تقدير تفسير الرزق بالمعنى الأول إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده.
قوله: (وإلا لخلا…إلخ) أي وإن لم يكن المراد المجعول ملكًا بمعنى الإذن في التصرف الشرعي لخلا تعريف الرزق عن معنى الإضافة إلى الله تعالى، وهو معتبر في مفهوم الرزق عندهم أيضًا كما سيجيء في الشرح حيث قال: ومبنى هذا الاختلاف إلخ.
قوله: (فحينئذ يندفع بملاحظة الحيثية) أي حين إذ كان المراد ما ذكر يندفع بملاحظة الحيثية أي مملوك يأكله المالك من حيث إنه مملوك بأن يكون مأذونا في أكله ما أورد من أنه ينتقض التعريف بخمر المسلم وخنزيره إذا أكلهما مع حرمتهما، فإنهما مملوكان له عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فيصدق عليهما إذا أكلهما المالك مع كونهما حرامين، وإنما قلنا يندفع لأنهما من حيث الأكل ليسا مملوكين له.
قوله: (وفي بعض الكتب…إلخ) قيل في شرح نظم الأوحدي: إن الحرام ليس بملك عند المعتزلة، فحينئذ اندفاع النقض بالخمر والخنزير ظاهر لعدم كونهما مملوكين.
قوله: (مع أن ظاهر قوله تعالى: ﱡﭐﱣ ﱤ ﱥ ﱠ الآية…إلخ) إنما قال ذلك إذ يجوز أن يقال: المراد كل دابة مرزوقة، أو يقال: إن الحكم على الكل على سبيل التغليب لكنه خلاف الظاهر.
قوله: (يقتضي أن يكون كل دابة مرزوقة) مع أن الدواب لا يتصور في حقها ملك، وكذا يخرج رزق العبيد والإماء إذ لا ملك لهم، قال المحشي المدقق: واعلم أن قولهم ما لا يمنع من الانتفاع به إن كان المراد بلفظ ما الملك وبالمنتفع إذا العقل يرد مأكول الدواب عليه أيضًا، فلا وجه لتخصيصه بالأول حينئذ، وإلا فلا يصح قولهم، وذلك لا يكون إلا حلالًا لأن الدواب ل ايتصور في حقها حل ولا حرمة على ما في المواقف، أقول: معنى قوله: وذلك لا يكون إلا حلالًا أن ذلك لا يكون بالنسبة إلى المكلف إلا حلالًا بقرينة أن النزاع في رزق العبد لا في مطلق الرزق الشامل لرزق الدواب أيضًا، فحينئذ يكون ما لا يمنع من الانتفاع به بالنسبة إلى العبد مقصورًا على الحلال لا مطلقًا، فلا يلزم خروج رزق الدواب عن التعريف الثاني.
قوله: (أجيب عنه…إلخ) أي أجيب عن هذا الاعتراض بحيث يندفع عن التعريف الثاني بأنه تعالى قد ساق إليه كثيرًا من المباحات، ولم يمنعه من الانتفاع إلا أنه أعرض عنها واشتغل بأكل الحرام بسوء اختياره، وأما النقض عن التعريف الأول فغير مندفع حيث اعتبروا فيه الأكل.
قوله: (على أنه منقوض بمن مات ولم يأكل…إلخ) أي على ما ذكرتم من أنه يلزم أن لا يكون من أكل الحرام مرزوقًا وهو باطل لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱠ منقوض بمن مات ولم يأكل شيئًا لا حلالًا ولا حرامًا فإنه يلزم أن لا يكون مرزوقًا وهو باطل بالآية المذكورة، فما هو جوابكم عن هذه المادة فهو جوابنا عن تلك المادة، فإن قالوا: لا نسلم وجود مثل ذلك الشخص، فإنه قد انتفع بدم الحيض والحياة والقوى الحيوانية، فكذا نقول في مادة من أكل الحرام، وهذا النقض إنما يرد لو ثبت بطلان كون من أكل الحرام طول عمره غير مرزوق بالآية المذكورة على ما في شرح المقاصد، وأما إذا ثبت بكونه خلاف الإجماع قبل ظهور المعتزلة على ما في المواقف فلا يرد كما لا يخفى.
وكلٌّ يستوفي رِزقَ نفسِهِ حلالاً كانَ أو حرامًا، ولا يُتصورُ أن لا يأكلَ إنسانٌ رزقَهُ أو يأكلَ غيرُهُ رزقَهُ. والله تعالى يُضِلُّ من يشاءُ، ويهدي من يشاءُ.
قال الشارح: والجواب: أن ذلك لسوء مباشرة أسبابهباختياره. (وكل يستوفي رزق نفسه حلالاً كان أو حراماً) لحصول التغذي بهما جميعاً. (ولا يتصور أن لا يأكل إنسان رزقه أو يأكل رزق غيره) لأن ما قدره الله غذاء لشخص يجب أن يأكله ويمتنع أن يأكله غيره، وأما بمعنى الملك فلا يمتنع. (والله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء) بمعنى خلق الضلالة والاهتداء، لأنه الخالق وحده. وفي التقييد بالمشيئة إشارة إلى أنه ليس المراد بالهداية بيان طريق الحق، لأنه عام في حق الكل، ولا الإضلال عبارة عن وجدان العبد ضالاً أو تسميته ضالاً، إذ لا معنى لتعليق ذلك بمشيئة الله تعالى. نعم قد تضاف الهداية إلى النبي عليه السلام مجازاً بطريق التسبب، كما تسند إلى القرآن، وقد يسند الإضلال إلى الشيطان مجازاً كما يسند إلى الأصنام. ثم المذكور في كلام المشايخ أن الهداية عندنا خلق الاهتداء، ومثل: “هداه الله تعالى فلم يهتد” مجاز عن الدلالة والدعوة إلى الاهتداء.
قال الخيالي:
قوله: (إذ لا معنى لتعلق ذلك…إلخ) وأيضا فيه فوات مقابلة الإضلال للهداية.
قوله: (ومَثَل هداه الله تعالى فلم يهتد مجاز) وكذا قوله تعالى: ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﱠ ويحتمل أن يراد والله أعلم وأما ثمود فخلقنا فيهم الهدى فتركوه فارتدوا إذ لا دلالة في أول الاية وآخرها على نفي الحصول.
قال السيالكوتي:
قوله: (وأيضا فيه فوات مقابلة ما…إلخ) إذ لا مقابلة بين بيان طريق الحق وبين وجدان العبد ضالًّا أو تسميته ضالًّا، وهو ظاهر مع أن المفهوم من الآيات والمعلوم من المحاورات وجود المقابلة بينهما.
قوله: (وكذا قوله تعالى: ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﱠ …إلخ) وكذا الهداية مجاز عن الدعوة وبيان طريق الحق في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﱠ إلخ لامتناع حمله على الحقيقة إذ لا معنى لاستحبابهم العمى على الهدى بعد خلق الله الهداية، فإن استحبابهم العمى على الهدى على ما هو المشهور كناية عن عدم اهتدائهم، فالمعنى: وأما ثمود فدعوناهم إلى طريق الحق وأوضحناهم سبيل الرشد ويسرنا لهم مقاصدنا فاستحبوا العمى أي الكفر على الهدى أي على الإيمان.
قوله: (ويحتمل أن يكون…إلخ) أي ويحتمل أن يكون الهدى في الآية على معناه الحقيقي ويكون المعنى وأما ثمود فخلقنا فيهم الهدى فارتدوا واستحبوا العمى على الهدى، فتكون الهداية حاصلة لهم إلا أنهم تركوها بارتدادهم، وإنما قلنا: يحتمل أن يكون المراد كذلك إذ لا دلالة لسابق الآية ولا للاحقها على أنهم لم يؤمنوا أصلًا ولم تحصل لهم الهداية، فيجوز أن يكون الهداية حاصلة لهم واستحبابهم العمى كناية عن ارتدادهم بعد حصولها، فلا حاجة إلى ارتكاب المجاز والصرف عن الحقيقة.
قال الشارح: وعند المعتزلة بيان طريق الصواب، وهو باطل لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﱠ ولقوله عليه السلام: “اللهم اهد قومي” مع أنه بين الطريق ودعاهم إلى الاهتداء. والمشهور أن الهداية عند المعتزلة هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، وعندنا الدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب، سواء حصل الوصول والاهتداء أو لم يحصل.
قال الخيالي:
قوله: (وهو باطل لقوله تعالى…إلخ) وأيضا الناس تختلف في الهداية وبيان الطريق يعم الكل، وأيضا فيه فوات قاعدة المطاوعة فإن اهتدى
مطاوع هدي مع أن الاهتداء غيرلازم للبيان، وأيضا يقال في مقام المدح فلان مهدي ولا مدح إلا بالحصول وما يقال إن الاستعداد التام فضيلة يليق أن يمدح عليها فمدفوع بأن التمكن مع عدم الحصول نقيصة يذم عليها كذا قيل، وفيه بحث لأن التمكن في نفس فضيلة والمذمة من عدم الحصول ونظيره أن العلم بلا عمل مذموم مع أنه في نفسه أحق الفضائل بالتقديم وأسبقها في استيجاب التعظيم نعم التمكن عام للكل فلا يناسب قولهم فلان مهدي لكن هذا وجه آخر.
قوله: (ولقوله عليه السلام اللهم اهد قومي) ولقوله تعالى: ﱡﭐﱗ ﱘ ﱙ ﱠ إذ الطلب يستدعي عدم حصول المطلوب، يرد على هذا أنه ينافي التفسير بالخلق أيضا على ما لا يخفى واعلم أن الغرض في أمثال هذا المقام من ذكر النصوص المقابلة وحمل بعضها على التجويز هو الإرشاد إلى طريق دفع تشبث الخصم بالنقض والتنبيه على إمكان المعارضة بالمثل فتنبه وكن على بصيرة.
قوله: (و المشهور أن الهداية…إلخ) يمكن أن يقال مراد المشايخ بيان الحقيقة الشرعية المرادة في أغلب استعمالات الشارع والمشهور فيما بين القوم هو معناه اللغوي والعرفي فلا منافاة.
قال السيالكوتي:
قوله: (وأيضا…إلخ) أي ويرد على هذا المعنى أيضًا أن الناس مختلف في الهداية فبعضهم مهدي وبعضهم ليس كذلك، وبيان طريق الثواب يعم الكل فلا يصح تفسيرها به.
قوله: (وأيضًا يقال في مقام المدح…إلخ) يعني أنه يقال في مقام المدح فلان مهدي فلو كان الهداية بمعنى البيان لكان معناه فلان مبين له طريق الحق ولا مدح فيه إذ لا مدح إلا بحصول الهداية، والبيان لا يستلزمه، قال بعض الأفاضل: لو أريد بالبيان إظهار ذات طريق الثواب لم يوافقه الآية والحديث، ويلزم الاعتراضات الثلاثة التي ذكرها المحشي، أما لو أريد به إظهار طريق الثواب من حيث إنه طريق الصواب فهما يوافقان لأن الرسول لا يمكنه بيان طريق الصواب من حيث إنه صواب بل هو محض خلق الله تعالى، وتندفع الاعتراضات المذكورة أيضًا كما لا يخفى.
قوله: (ومايقال…إلخ) أي ما يقال: إن البيان وإن لم يستلزم لحصول الهداية إلا أنه يفيد الاستعداد التام لحصولها وهو فضيلة في نفسه، فيجوز أن يكون المدح باعتبار ذلك الاستعداد الحاصل منه فمدفوع بأن الاستعداد التام للحصول المقارن مع عدمه مذمة يقتضي الذم عليها فضلًا عن أن يكون ممدوحة.
قوله: (وفيه بحث) أي فيما يقال: في دفع ما يقال بحث لأن الاستعداد والتمكن في نفسه فضيلة والمذمة إنما هو باعتبار مقارنته لعدم الحصول، وهذه المقارنة لا تنافي كونه فضيلة مستحقة لأن يمدح بها في حد ذاته، ويمكن أن يقال: إن المراد بقولنا أن يقال في مقام المدح: فلان مهدي أنه يقال في مقام المدح الذي يقال فيه: مهتدي مهدي بمعنى أنه لا يفرق بين مهدي ومهتدي في المدح مع أن بيان الطريق لا تستلزم مساواته المهتدى في المدح، وحينئذ لا ورود لهذا البحث.
قوله: (نعم التمكن…إلخ) أي نعم يمكن أن يقال في دفع ما يقال: إن الاستعداد والتمكن في نفسه عام للكل، فلا يناسب المدح وكونه تامًّا أو غير تام أمر مبهم غير معين قدره حتى يصلح أن يمدح باعتباره.
قوله: (ولقوله تعالى: ﱡﭐﱗ ﱘ ﱙ ﱠ) يعني لا يصح تفسير الهداية ببيان طريق الصواب لأن طلب الهداية متحقق بشهادة الآية والحديث، والطلب يقتضي عدم حصول المطلوب إذ لا معنى لطلب الحاصل فيلزم أن يكون البيان المذكور حاصلًا وليس كذلك.
قوله: (ويرد على هذا) أي على التمسك بالآية بأنه ينافي التفسير بخلق الاهتداء أيضًا ضرورة أن الاهتداء حاصل مخلوق فيهم والطلب يقتضي عدم حصوله فلا بد من الصرف عن الظاهر والحمل على المجاز، فهي إما مجاز عن زيادة البيان على ما يقوله المعتزلة أو عن التثبيت والدوام عليها على ما يقول معاشر أهل السنة، فلا يصح التمسك بها.
قوله: (ويمكن أن يقال…إلخ) أي يمكن أن يقال في دفع ما يفهم من كلام الشارح من أن ما ذكره المشايخ مخالف ومناف لما هو المشهور لأن ما هو المشهور هو المعنى اللغوي أو العرفي، وما ذكره المشايخ هو المعنى الشرعي، فلا منافاة بينهما.
وما هُو الأصلحُ للعبدِ فليسَ ذلك بواجبٍ على الله تعالى.
قال الشارح: (وما هو الأصلح للعبد فليس ذلك بواجب على الله تعالى) وإلا لما خلق الكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة، ولما كان له منة على العباد واستحقاق شكر في الهداية وإفاضة أنواع الخيرات، لكونها أداء للواجب، ولما كان امتنان الله على النبي عليه السلام فوق امتنانه على أبي جهل لعنه الله، إذ فعل بكل منهما غاية مقدوره من الأصلح له، ولما كان لسؤال العصمة والتوفيق وكشف الضراء والبسط في الخصب والرخاء معنى، لأن ما لم يفعله في حق كل واحد فهو مفسدة له يجب على الله تركها، ولما بقي في قدرة الله تعالى بالنسبة إلى مصالح العباد شيء، إذ قد أتى بالواجب.
قال الخيالي:
قوله: (و إلا لما خلق الكافر…إلخ) إذ الأصلح له عدم خلقه ثم إماتته أو سلب عقله قبل التكليف والتعريض للنعيم فإن قلت بل الأصلح له الوجود والتكليف والتعريض للنعيم المقيم قلت فلم لم يفعل ذلك بمن مات طفلا هذا وإن اعتبر جانب علم الله على مامر في صدر الكتاب فالأمر ظاهر.
قوله: (و لما كان له منة…إلخ) فإنهم قالوا ترك الأصلح المقدور الغير المضر بخل وسفه فلزوم البخل ونحوه جعل تعلق قدرة الله تعالى بالترك مستحيلا أبدا ولا منة في مثل ذلك الفعل ولا معنى لطلبه على ما لا يخفى، لا يقال الأب المشفق يستوجب المنة على ولده في شفقته شرعا وعقلا مع أنه لا اختيار له في شفقته لأنا نقول لا منة في شفقته الجبلية بل في أفعاله الاختيارية المنبعثة عنها إن وجدت.
قال السيالكوتي:
قوله: (إذ الأصلح…إلخ) أي الأنفع له في الدين سواء اعتبر جانب علم الله تعالى أو لم يعتبر.
قوله: (فإن قلت بل الأصلح…إلخ) أي بل الأنفع في الدين الوجود والتكليف والتعريض للتعميم المقيم أي التمكن فيه لكونه أعلى المنزلتين.
قوله: (وإن اعتبر جانب علم الله تعالى) يعني أن الجواب المذكور إنما هو على زعم من لم يعتبر في الأنفع جانب علم الله تعالى وقال: إن من علم الله منه الكفر يجب تعريضه للإيمان ونعيم الجنان على ماذهب إليه معتزلة بصرة، وأما إذا اعتبر في الأنفع جانب علم الله تعالى على ما ذهب إليه الجبائي وتابعوه، فكون الأصلح في حق الكافر الفقير عدم الخلق أو الأمانة أو سلب العقل أظهر وعدم ورود الأشكال المذكورة أجلى، هذا وأما ما ذهب إليه معتزلة بغداد من أن معنى وجوب الأصلح ووجوب الأوفق للحكمة، فلا يرد عليه شيء مما ذكره المحشي والشارح، وقد مر في صدر الكتاب.
قوله: (فإنهم قالوا…إلخ) حاصله أن المنة إنما تكون في الأفعال الاختيارية، وإذا كان الأصلح واجبًا على الله تعالى بحيث يستحيل تركه عنه تعالى لاستلزامه البخل والسفه والجهل والمحال على ذاته تعالى على ماقالوا يكون لازمًا لذاته تعالى، ولا يكون له تعالى اختيار فيه فلا معنى للمنة في مثل ذلك الفعل، ولا معنى لطلبه إذ لا يمكن له تركه، وإنما قيد الأصلح المقدور بغير المضر لأنهم قالوا: الأصلح المقدور المضر غير واجب على الله تعالى بل يجب تركه كإحياء الطفل والتكليف والتعريف والتعريض للنعيم المقيم له، فإن ذلك وإن كان أصلح له في الدين إلا أنه مضر له إذ لو كلف يحتمل أن يطغى ويستكبر فيقع في العقاب الأكبر.
قال الشارح: ولعمري إن هذه مفاسد هذا الأصل، أعني وجوب الأصلح، بل أكثر أصول المعتزلة أظهر من أن يخفى وأكثر من أن يحصى، وذلك لقصور نظرهم في المعارف الإلهية ورسوخ قياس الغائب على الشاهد في طباعهم. وغاية تشبثهم في ذلك أن ترك الأصلح يكون بخلاً وسفهاً. وجوابه: إن منع ما يكون حق المانع، وقد ثبت بالأدلة القاطعة كرمه وحكمته ولطفه وعلمه بالعواقب يكون محض عدل وحكمة. ثم ليت شعري ما معنى وجوب الشيء على الله تعالى، إذ ليس معناه استحقاق تاركه الذم والعقاب، وهو ظاهر، ولا لزوم صدوره عنه بحيث لا يتمكن من الترك، بناء على استلزامه محالاً من سفه أو جهل أو عبث أو بخل أو نحو ذلك، لأنه رفض لقاعدة الاختيار وميل إلى الفلسفة الظاهرة العوار.
قال الخيالي:
قوله: (و جوابه أن منع ما يكون) حاصله أن الأصلح أمر لا يستوجبه أحد بل هو محض حق الله تعالى وقد ثبت أنه كريم حكيم عليم فتركه لا يخل بالحكمة ألبتة فلا يجب عليه رعايته، قيل عليه أن المعتزلة جوزوا ترك الأصلح إذا اقتضاه الحكمة قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ﱡﭐ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﱠ أي وإن تغفر لهم فليس ذلك بخارج عن حكمتك وجوابه أنه لا دلالة في كلامه على أن عدم المغفرة أصله ويجوز أن يكون وجوبه لاستيجاب الكفر العقاب على ما هو المذهب عندهم، ولو سلم ذلك فمعنى كلامه أن الأصلح على هذا التقدير المحال هو المغفرة، ولو سلم فالتجويز على ذلك التقدير لا ينافي الاستحالة، ولو سلم فالكلام مع الجمهور، وههنا بحث وهو أنه لا شك أن ترك ما فيه الحكمة بخل أو سفه أو جهل فيجب عليه رعايتها والمذهب أنه لا واجب عليه تعالى أصلا اللهم إلا أن يقال المراد نفي الوجوب في الخصوصيات.
قوله: (ثم ليت شعري…إلخ) قيل معناه اقتضاء الحكمة مع القدرة على تركه وهذا غير الوجوبين اللذين أبطلهما، وجوابه أنهم جعلوا الإخلال بالحكمة نقصا يستحيل على الله فلزوم المحال بجعل الترك مستحيلا وإن صح بالنظر إلى ذاته وهذا هو المذهب الفلاسفة إذ يجعلون ايجاد العالم لازما لاشتماله على المصالح ويسندونه إلى العناية الاأزلية ولهذا اضطر متأخروا المعتزلة إلى أن معنى الوجوب عليه تعالىأنه يفعله ألبتة ولا يتركه وإن جاز الترك كما في العاديات فإنا نعلم قطعا أن جبل أحد لم ينقلب الآن ذهبا وإن جاز انقلابه، وأجيب بأن الوجوب حينئذ مجرد تسمية والعجب أنهم لا يجعلون ما أخبر به الشارع من أفعاله واجبا عليه مع قيام الدليل على أنه يفعله ألبتة.
قوله: (استحقاق تاركه الذم والعقاب) فإن علم هذا الاستحقاق بالشرع فالوجوب شرعي وإلا فعقلي وقال بعض المعتزلة بالوجوب عليه تعالى بمعنى استحقاق تاركه الذم عند العقل فيكون وجوبا عقليا.
قوله: (وهو ظاهر) إذ لا معنى للذم لأنه تعالى المالك على الإطلاق ولا للعقاب بالاتفاق إذ لا يتصور في حقه تعالى.
قال السيالكوتي:
قوله: (حاصله أن الأصلح أمر لا يستوجبه…إلخ) يعني لا نسلم أن ترك الأصلح يكون بخلًا أو سفهًا لأن كل ما يفعله الكريم الحكيم العليم بعواقب الأمور لا يكون خاليا عن المصلحة وإن لم يكن أصلح بالنسبة إلى العبد، فلا يكون بخلًا وسفهًا بل له رعاية لمصلحتهم، وأما الأصلح إلى العبد فغير واجب عليه لأنه محض حق الله تعالى، فيجوز أن يفعله وأن لا يفعله رعاية لمصلحة أخرى.
قوله: (قيل عليه المعتزلة…إلخ) أي قيل عليه: إن ما ذكرتم من جواز ترك الأصلح لاقتضائه الحكمة واشتماله على المصلحة لا يخالف مذهب المعتزلة، فإنهم أيضًا جوزوا ترك الأصلح إذا اقتضاه الحكمة على ما قال الزمخشري في الكشاف في قوله تعالى: ﱡﲾ ﲿ ﳀ ﳁﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﱠ أي إن تغفر لهم فذلك ليس بخارج عن حكمتك يعني أن عدم المغفرة وإن كان أصلح بالنسبة إلى الكفار جزاء بما كانوا يعملون لكن إن تغفر لهم وتترك ما هو الأصلح بالنسبة إليهم، فيجوز ذلك لأنه لا يكون خلاف مقتضى حكمتك.
قوله: (وجوابه أنه لا دلالة في كلامه على أنه…إلخ) يعني أن كلام الزمخشري لا يدل على أن عدم المغفرة أصلح حتى تكون المغفرة ترك الأصلح بسبب اقتضائه الحكمة ووجوب عدم المغفرة عنهم لايدل على كونه أصلح لأنه يجوز أن يكون لأجل استيجاب الكفر العقاب على ما هو مذهبهم من وجوب عقاب العاصي وإثابة المطيع على الله تعالى ولو سلم كون عدم المغفرة أصلح، فمعنى كلام الزمخشري وقوله: إن تغفر لهم فليس ذلك بخارج عن حكمتك أنه على تقدير إن تغفر لهم يكون ذلك هو الأصلح لاقتضائه الحكمة، فلا يلزم جواز ترك الأصلح، ولا يلزم من ذلك أن تكون المغفرة في نفسه أصلح لأن كونها أصلح موقوف على وقوعها، والوقوع محال في حق الكفار عندهم، فيجوز أن يستلزم المحال المحال، ولو سلم أن الأصلح على تقدير المغفرة أيضًا عدم المغفرة فلا نسلم أنه يلزم جواز ترك الأصلح لأن تجويز ترك الأصلح الذي هو عدم المغفرة على التقدير المحال الذي هو إن يغفر الله لهم لا ينافي كون ذلك الترك محالًا في نفسه، فإن مغفرة الكفار محال على الله تعالى عندهم وترك الأصلح الذي هو عدم المغفرة متعلق به، والمعلق بالمحال محال، ولو سلم جميع ما ذكر فالكلام مع جمهور المعتزلة لا مع الزمخشري، قال الفاضل المحشي: ولقائل أن يقول: ليس مراد ذلك القائل أن في كلام الزمخشري دلالة على أن عدم المغفرة أصلح كما زعمتم بل مراده أن الزمخشري جوز ترك الواجب إذا اقتضت الحكمة حيث جوز ترك عقاب الكفار إذا اقتضت الحكمة، فعلم من ذلك أنه يجوز ترك الأصلح إذا اقتضت الحكمة تركه، إذ لا فرق بينهما في أن كل واحد منهما ترك الواجب بسبب اقتضائه الحكمة، وفيه بحث لأنا لا نسلم أنه يلزم من جواز ترك الواجب جواز ترك واجب آخر لجواز أن يكون له خصوصية بها يستحيل تركه، فإن ترك العقاب ترك واجب هو محض حق الله تعالى وترك الأصلح ترك واجب هو حق العبد، فلا يلزم من جواز الأول جواز الثاني على أن في لزوم جواز الأول من كلامه أيضًا ترددًا على ما ذكره المحشي.
قوله: (وههنا بحث…إلخ) أي في الجواب الذي ذكره الشارح بحث وهو أنه إنما يدل على أنه يجوز له ترك الأصلح بناء على اقتضاء الحكمة، لكن لا شك أن ترك ما فيه الحكمة مع عدم الحكمة في الترك بخل وسفه وجهل يستحيل على الله تعالى، فيجب على الله تعالى رعاية الحكمة، ومذهب أصحابنا أنه لا وجوب عليه تعالى أصلًا، فالجواب المذكور لا يحسم مادة الشبهة.
قوله: (اللهم إلا أن يقال…إلخ) أي اللهم إلا أن يقال في دفع هذا البحث: إن المراد بنفي الوجوب على الله تعالى نفي وجوب الخصوصيات على مايقوله المعتزلة من وجوب اللطف كبعثة الرسل وعقاب العاصي وثواب المطيع والعوض على الآلام والأصلح، لا نفي رعاية مطلق الحكمة، فإنه لازم للحكيم العليم بمواقف الأمور.
قوله: (قيل معناه اقتضاء الحكمة…إلخ) يعني معنى وجوب الشيء على الله اقتضاؤه الحكمة مع كونه قادرًا على تركه، وهذا غير الوجوبين اللذين أبطلهما الشارح بقوله: إذ ليس معناه استحقاق تاركه الذم إلخ.
قوله: (وجوابه أنهم…إلخ) حاصله أن هذا الوجوب بهذا المعنى عند المعتزلة بعينه الوجوب الذي هو مصطلح الفلاسفة لأنهم جعلوا الإخلال بما يقتضيه الحكمة نقصًا مستحيلًا على الله تعالى، فبسبب لزوم المحال يكون ترك ما يقتضيه الحكمة مستحيلًا، وإن صح ذلك الترك بالنظر إلى ذاته تعالى فيكون صدور ما يقتضيه الحكمة لازمًا لذاته لاقتضاء الحكمة، وهذا بعينه مذهب الفلاسفة حيث قالوا: يصح صدور العالم وتركه بالنظر إلى ذاته تعالى لكن طرف الفعل لازم لذاته تعالى لاشتماله على المصالح واقتضائه الحكمة، وأما نحن معاشر أهل السنة فلا نقول باستحالة ترك ما يقتضيه الحكمة ولا باستلزامه نقصًا لجواز أن يكون في تركها حكم ومصالح لا نطلع عليها وإن كان يجب عليه رعاية مطلق الحكم، وهذا كله بناء على قولهم بالحسن والقبح العقليين، فإنهم لما قالوا: إن ترك الأصلح واللطف وعقاب العاصي وثواب المطيع قبيح عقلًا لا يجوز على الله تعالى حكموا بوجوب تلك الخصوصيات وقالوا: إن الاختلال به نقص مستحيل على الله فلزمهم ما لزم الفلاسفة من نفي الاختيار.
قوله: (ويسندونه إلى العناية الأزلية) أي يسند الفلاسفة إيجاد العالم إلى العناية الأزلية وهي علمه تعالى بوجه النظام الأكمل في الأزل *قال ابن سينا: العناية إحاطة علمه الأول بالكل وبما يجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام وأكمله، فعلمه الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منيع لفيضان الخير والجود في الكل من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق تعالى وتقدس.
قوله: (ولهذا اضطر متأخرو…إلخ) أي ولأجل أن الوجوب بهذا المعنى راجع إلى الفلاسفة اضطر متأخروا المعتزلة وقالوا: إن معنى الوجوب على الله تعالى أنه يفعله البتة ولايتركه وإن جاز أن يتركه، فلا يكون شيء من طرفي الفعل والترك لازمًا لذاته بحيث يستحيل الطرف الآخر حتى يكون رجوعًا إلى مذهب الفلاسفة كما في العاديات، فإنا نعلم يقينًا أن جبل أحد لم ينقلب ذهبًا وإن جاز أن ينقلب.
قوله: (وأجيب بأن الوجوب…إلخ) أي أجيب عما قاله متأخرو المعتزلة بأن الوجوب حينئذ مجرد تسمية إذ يكون حينئذ محصله أن الله تعالى لا يتركه على سبيل جري العادة، وذلك ليس من الوجوب في شيء بل إطلاق الوجوب عليه مجرد اصطلاح.
قوله: (والعجب…إلخ) أي العجب من متأخري المعتزلة أنهم لا يجعلون ما أخبر به الشارع من أفعاله تعالى من مجيء القيامة والحشر والصراط والميزان والكوثر والتعذيب والتنعيم ونحو ذلك واجبًا عليه تعالى مع قيام الدليل، وهو إخبار الشارع على أن يفعله البتة، فإن معنى الوجوب على ماقالوا متحقق في الأفعال التي أخبر بها الشارع كما هو متحقق في الأمور التي أوجبوها على ذاته تعالى من الأصلح واللطف والثواب والعقاب بزعمهم مع أنهم لا يجعلون تلك الأفعال واجبة عليه تعالى وتقدس.
قوله: (لأنه المالك على الإطلاق) وله التصرف كيف يشاء، فلا يتوجه عليه الذم أصلًا على فعل من أفعاله بل هو المحمود في كل أفعاله، وهذا بناء على بطلان كون الحسن والقبح للأشياء ذاتيًّا بل كل ما فعله الحكيم فهو حسن، والمعتزلة القائلون بالوجوب العقلي عليه تعالى بمعنى استحقاق تاركه الذم ينكرون ذلك، وفي تقييد قوله: ولا العقاب بالاتفاق إشارة إلى ما ذكرنا من أن المعتزلة لا يتفقون في أنه لا معنى للذم لأنه المالك على الإطلاق.