والله تعالى خالقٌ لأفعالِ العبادِ مِن الكفرِ والإيمانِ، والطاعةِ والعصيانِ.
قال الشارح: (والله تعالى خالق لأفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان) لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خالق لأفعاله، وقد كانت الأوائل منهم يتحاشون عن إطلاق لفظ الخالق على العبد ويكتفون بلفظ الموجد والمخترع ونحو ذلك، وحين رأى الجبائي واتباعه أن معنى الكل واحد، وهو المخرج من العدم إلى الوجود، تجاسروا على إطلاق لفظ الخالق.احتج أهل الحق بوجوه: الأول: أن العبد لو كان خالقاً لأفعاله لكان عالماً بتفاصيلها، ضرورة أن إيجاد الشيء بالقدرة والاختبار لا يكون إلا كذلك، واللازم باطل، فإن المشي من موضع إلى موضع قد يشتمل على سكنتات متخللة وعلى حركات بعضها أسرع وبعضها أبطأ، ولا شعور للماشي بذلك،وليس هذا ذهولاً عن العلم، بل لو سئل لم يعلم، وهذا في أظهر أفعاله. وأما إذا تأملت في حركات أعضائه في المشي والأخذ والبطش ونحو ذلك ما يحتاج إليه من تحريك العضلات وتمديد الأعصاب ونحو ذلك فالأمر أظهر.
قال الخيالي:
قوله: (لكان عالما بتفاصليها) وأما الكسب فيكفيه القصد والعلم جملة، والحاصل أنه فرق بين الخلق والكسب فإن الأول إفادة الوجود بخلاف الثاني فيكفيه العلم الإجمالي.
قوله: (بل لو سئل عنها) ولو في حال المباشرة (لم يعلم) مع أن العلم بالعلم بعد التوجه والالتفات قطعي الحصول وبه يندفع ما يقال يجوز أن لا يشعر بشعوره أو أن لا يدوم.
قال السيالكوتي:
قوله: (وأما الكسب فيكفيه…إلخ) دفع لما سيورد أنكم أثبتم للعبد كسب الأفعال بالاختيار، فنقول: لو كان العبد كاسبًا لكان عالمًا بتفاصيلها ضرورة أن كسب الشيء بالقدرة والاختيار، لا يكون إلا بعد العلم بذلك الشيء بالتفصيل واللازم باطل والملزوم مثله، وحاصل الدفع أن الكسب يكفيه القصد والعلم الإجمالي، ولا حاجة إلى العلم بتفاصيل المكسوب، ولا شك في كون العبد عالمًا بأفعاله على سبيل الإجمال.
قوله: (والحاصل أنه فرق بين الخلق والكسب…إلخ) يعني حاصل الجواب أنه فرق بين الخلق والكسب فإن الخلق يقتضي العلم التفصيلي دون الكسب لأن الخلق إفادة الوجود فهو موقوف على العلم التفصيلي لأن الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن، وكذا كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه على وجوه مختلفة وأنحاء شتى، فوقوع ذلك المعين لأجل القصد بخصوصه والقصد إليه بخصوصه موقوف على العلم به كذلك لأن القصد الجزئي لا ينبعث عن العلم الكلي كما يشهد به البديهة بخلاف الكسب فإنه صرف القدرة والإرادة نحو المقدور من غير أن يكون له تأثير في إيجاده فكيفية العلم الإجمالي هذا ما قيل، والحق أن بيان الفرق بين الخلق والكسب في اقتضائهما العلم مشكل على أنه على تقدير تمامه لا يفيد إذ للمعتزلة أن يقولوا: إن العلم بالتفصيل إنما يشترط في الخلق الكامل، وأما في الخلق الناقص الذي يتصف به العباد فيكفيه العلم الإجمالي، أقول: لا إشكال لأن العلم إنما يجب لتوقف تعلق القصد عليه، ولا شك أن قصد العبد، إنما يتعلق بالفعل بوجه عام، فبأي وجه يريده العبد يتعلق به العلم أيضًا بخلاف الخلق، فإنه إعطاء الوجود لأمر جزئي فما لم يتصور بوجه جزئي لا يتعلق الإرادة به، فلا إشكال في الفرق، وأما أن الخلق الناقص لا يقتضي العلم بوجه جزئي فمكابرة محضة لأن القصد ما لم يتعلق لا يوجد الفعل الاختياري، فلا بد من العلم بوجه جزئي في الإيجاد سواء كان ناقصًا أو كاملًا انما الفرق بينهما في اشتمال الحكم والمصالح فتدبر والله الموفق.
قوله: (وبه يندفع ما يقال…إلخ) وبما ذكرنا من أنه لا شعور بتفاصيل الأفعال في حال المباشرة مع أن العلم بالعلم بعد التوجه ضروري، ولذا قيل: إنه علم ضروري يتبع النظري اندفع ما قيل: يجوز أن يكون العبد عالمًا بتفاصيل أفعاله ولا يكون له العلم بعلمه أو يجوز له أن يكون له شعور، وعلم بذلك التفصيل، ولا يبقى زمانًا طويلًا، ووجه الدفع الأول أن العلم بالعلم الضروري بعد الالتفات وههنا ليس كذلك، ووجه الدفع الثاني أنه لا علم له حال المباشرة أيضًا فإن المحرك أصبعه يتأمل في تفصيل أجزائه عند الحركة، ولا يشعر به فلا يكون شعورًا بالتفاصيل، ولا بحركة الإجزاء وإنكار ذلك مكابرة.
قال الشارح: الثاني: النصوص الواردة في ذلك، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﱠ أي عملكم، على أن ما مصدرية لئلا يحتاج إلى حذف الضمير، أو معمولكم على أن ما موصولة، ويشتمل الأفعال، لأنا إذا قلنا أفعال العباد مخلوقة لله تعالى أو للعبد لم نرد بالفعل المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع، بل الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع، أعني ما نشاهده من الحركات والسكنات مثلاً.وللذهول عن هذه النكتة قد يتوهم أن الاستدلال بالآية موقوف على كون ما مصدرية.وكإماما: ﱡﭐﱿ ﲀ ﲁ ﲂﱠ أي ممكن، بدلالة العقل، وفعل العبد شيء ممكن. وكقوله تعالى: ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱠ في مقام التمدح بالخالقية، وكونها مناطاً لاستحقاق العبادة.
قال الخيالي:
قوله: (أي عملكم على أن ما مصدرية) ينبغي أن يجعل هذا المصدر بمعنى المفعول ليصح تعلق الخلق به ثم يحمل الإضافة بمعونة المقام على الاستغراق وإلا فالمعمول لا يعم مثل السرير بالنسبة للنجار فلا يتم المقصود وأما ما الموصولة فهي عامة وضعا وبالجملة حذف الضمير أقل
تكلفا.
قوله: (ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱠ الآية) وقد يوجه بالحمل على خلق الجواهر لكنه خلاف الظاهر.
قال السيالكوتي:
قوله: (وينبغي أن يجعل هذا المصدر) أي ينبغي أن يجعل المصدر بمعنى المفعول أعني المعمول ليصح تعلق الخلق به لأن المعنى المصدري أعني الإيقاع والأحداث أمر اعتباري لا محقق له في الخارج، و إلا لزم التسلسل في الإيقاعات، فلا يكون متعلقًا للخلق ثم ينبغي حمل إضافة المصدر إلى ضمير الخطاب على الاستقراء بمعونة المقام لأن المقام مقام التمدح وإن كان أصل الإضافة للعهد على ما بين في موضعه إذ لو لم يحمل على الاستغراق لم يتم المقصود إذ لا شك أن المعمول يصدق على مثل السرير بالنسبة إلى النجار أعني ما يتعلق به الوقوع إذ يقال للسرير: إنه معمول النجار باعتبار أنه تعلف به الأفعال والحركات الصادرة عنه حتى صارت معدات لوجوهه، فعلى تقدير أن لا تكون الإضافة للاستغراق يجوز أن يكون المراد ببعص المعمولات أمثال هذا للمعمول، فلا يتم المقصود وهو إثبات أن جميع أفعال العباد ومعمولاتهم مخلوقة له تعالى الرد على المعتزلة إذ لا خلاف لهم في أن أمثال هذا المعمول من الجواهر، ومخلوقة له تعالى لا مدخل للعبد فيها، وإنما الخلاف فيما يقع بكسب العبد ويستند إليه من الأعراض مثل الصوم والصلاة والأكل والشرب والقيام والقعود ونحو ذلك قيل: لا حاجة إلى حمل الإضافة على الاستغراق لأن المراد بالعمل المعمول بمعنى الحاصل بالمصدر وهو لا يصدق على مثل السرير، فإنه معمول بمعنى ما يتعلق به الوقوع وإطلاق المصدر على المعنى الحاصل بالمصدر، وإن كان مجازًا من قبيل الإطلاق اللازم وإرادة الملزوم إلا أنه كثير الوقوع في كلامهم بحيث بفهم بلا قرينة تدل عليه فيتم المصدوق بلا ريبة، قلت: لا يتم المقصود على هذا التقدير أيضًا إذ المقصود أن جميع الأفعال سواء كانت سبيل المباشرة أو التوليد مخلوقة له تعالى أولًا وبالذات والمعمول على هذا المعنى لا يشمل المتولدات كحركة المفتاح المتولد من حركة اليد وهو ظاهر، فلا بد من أن يراد بالمعمول ما يتعلق به العمل بمعنى ترتبه عليه يحمل الإضافة على الاستغراق فيشمل أفعال المباشرة والتوليد وما يتعلق به العمل على سبيل الوقوع عليه ويتم المقصود كما لا يخفى.
قوله: (وأما ما الموصولة) يعني أن ما إذا حمل على الموصولة، فلا حاجة إلى إرادة الاستغراق بمعونة المقام لأن لفظة ما عامة موضوعة للاستغراق فالمعنى، والله خلقكم وجميع ما تعملون بخلاف الإضافة فإنها موضوعة في الأصل للعهد إذ هو الأصل في التعريف، فلا بد في إرادة الاستغراق هنا من استعانة المقام.
قوله: (وبالجملة حذف الضمير أقل…إلخ) أي حاصل الكلام أن حذف الضمير العائد إلى الموصول أقل تكلفًا بخلاف جعل ما مصدرية فترجيح الشارح ما المصدرية بأنه لا يحتاج فيه إلى حذف الضمير ليس كما ينبغي قيل غرض الشارح مجرد بيان وجه جعل ما مصدرية لا ترجيحية على الموصولة حتى لا يرد ما ذكر ويمكن أن يقال: غرض المحشي أيضًا مجرد بيان ترجيح التوجيه الثاني على الأول لا الرد على الشارح.
قوله: (وقد يوجه…إلخ) أي قد يوجه من جانب المعتزلة هذه الآية بأن المراد بالخلق خلق الجواهر، والمعنى أفمن يخلق الجواهر كمن لا يخلقها دون خلق الأعراض، والأفعال الحسية، وقد يوجه أيضًا بأن المراد الخلق بلا آلة ومباشرة أسباب، وكلاهما خلاف الظاهر إذ لا قرينة تدل على التخصيص، كيف وجعل الخلق المتعدي منزلًا منزلة اللازم بحذف المفعول يدل على أن المراد أن من اتصف بالخلق مطلقًا ليس كمن لا يتصف بالخلق.
قال الشارح: لا يقال: فالقائل بكون العبد خالقاً لأفعاله يكون من المشركين دون الموحدين!! لأنا نقول: الإشراك هو إثبات الشريك في الألوهية، بمعنى وجوب الوجود، كما للمجوس، أو بمعنى استحقق العبادة كما لعبدة الأصنام، والمعتزلة لا يثبون ذلك، بل لا يجعلون خالقية العبد كخالقية الله تعالى، لافتقاره إلى الأسباب والآلات التي هي بخلق الله تعالى.إلا أن مشايخ ما وراء النهر قد بالغوا في تضليلهم في هذه المسألة، حتى قالوا: إن المجوس أسعد حالاً منهم، حيث لم يثبتوا إلا شريكاً واحداً، والمعتزلة أثبتوا شركاء لا تحصى !!
قال الخيالي:
قوله: (والمعتزلة لا يثبتون ذلك) ويمنعون كون الخلق مناطا لاستحقاق العبادة وورود الآية السابقة في ذلك المقام.
قال السيالكوتي:
قوله: (ويمنعون كون الخلق…إلخ) يعني أن المعتزلة لا يثبتون الشريك في وجوب الوجود واستحقاق العبادة، ويمنعون كون الخلق مناطه
لاستحقاق العبادة ويمنعون كون الخلق مطلقًا مناطًا لاستحقاق العبادة بل مناطه خلق الجواهر والخلق الذي يكون بلا آلات وأسباب ويمنعون ورود الآية السابقة أعني قوله تعالى: ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱠ في مقام المدح.
قال الشارح: واحتجت المعتزلة: بأنا نفرق بالضرورة بين حركة الماشي وحركة المرتعش، وأن الأولى باختياره دون الثانية، وبأنه لو كان الكل بخلق الله تعالى لبطل قاعدة التكليف والمدح والذم والثواب والعقاب، وهو ظاهر. والجواب: أن ذلك إنما يتوجه على الجبرية القائلين بنفيالكسب والاختيار له أصلاً، وأما نحن فنثبته على ما نحققه إن شاء الله تعالى. وقد تتمسك: بأنه لو كان خالقاً لأفعال العباد لكان هو القائم والقاعد والآكل والشارب والزاني والسارق إلى غير ذلك !! وهذا جهل عظيم، لأن المتصف بالشيء من قام به ذلك الشيء، لا من أوجده.
قال الخيالي:
قوله: (لبطل قاعدة التكليف) وهي أن المكلف به أمر اختياري ألبتة.
قوله: (المدح والذم والثواب والعقاب) قد يقال يجوز أن يمدح ويذم باعتبار المحلية كالمدح بالحسن والذم بالقبح وأيضا الثواب والعقاب فعل الله تعالى وتصرف له فيما هو خالص حقه فلا يسأل عن لمّيتها كما لا سيأل عن لمّية خلق الاحتراق عقيب مساس النار.
قال السيالكوتي:
قوله: (وهي أن المكلف به أمر اختياري البتة) لأنه إذا كان الكل بخلق الله تعالى تكون الأفعال الصادرة عنه بمنزلة أفعال الجمادات ولا يكون له اختيار فيها فلا يكون المكلف به اختياريًّا، واللازم باطل إذ قد اتفقوا على أن ما وقع به التكليف اختياري البتة وإن اختلفوا في أنه هل يجوز التكليف بما لا يطاق أم لا.
قوله: (يجوز أن يمدح…إلخ) حاصله أنا لا نسلم الشرطية المذكورة بقوله: لو لم يكن العبد خالقًا لبطل المدح والذم والثواب والعقاب، فيجوز أن يكون المدح والذم باعتبار المحلية وأن يكون ترتب الثواب والعقاب على الأفعال المذكورة ترتبًا عاديًّا مثل ترتب الإحراق على إمساس النار وهو تصرف له في خالص حقه، فلا يسئل عن لميتهما بأن يقال: لِمَ ترتب الثواب على هذا الفعل ولم ترتب العقاب على ذلك، كما لا يقال: لِمَ ترتب الإحراق على إمساس النار، وقيل هذا إنما يتم لو لم يكن المدح استحسانيًّا والذم اعتراضيًّا كما لا يخفى، و إنما ترك الشارح هذا الجواب لأنه كما ينفعنا ينفع الجيرية أيضًا فهو علينا لا لنا من كل وجه، والجواب بإثبات الكسب الاختياري هو العمدة فلذا اختاره.
وهي كُلُّها بإرادتِهِ، ومشيئتِهِ، وحُكمِهِ، وقضيتِهِ.
قال الشارح: أو لا يرون أن الله تعالى هو الخالق للسواد والبياض وسائر الصفات في الأجسام، ولا يتصف بذلك؟!! وربما يتمسك: بقوله تعالى: ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ ﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱠ. والجواب: أن الخلق هنا بمعنى التقدير. (وهي) أي أفعال العباد (كلها بإرادته ومشيئته) قد سبق أنهما عندنا عبارة عن معنى واحد، (وحكمه) لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى خطاب التكوين، (وقضيته) أي قضائه، وهو عبارة عن الفعل مع زيادة أحكام.
قال الخيالي:
قوله: (إشارة إلى خطاب التكوين) أي قوله تعالى: ﱡﭐ ﱠ ﱠ فإن الله أجرى عادته فيما أراد شيئا على أن يقول له كن فيكون.
قوله: (هو عبارة عن الفعل…إلخ) يؤيد قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱠ فهو من الصفات الفعلية وفي شرح المواقف أن قضاء الله تعالى عند الأشاعرة هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هو عليه فما لا يزال فهو من الصفات الذاتية لكن التفسير به ههنا يؤدي إلى التكرار.
قال السيالكوتي:
قوله: (فإن الله تعالى أجرى عادته…إلخ) يعني أن قوله: كن حقيقة، والله تعالى قد أجرى عادته في تكوين الأشياء بأن يكونها بهذه الكلمة، وإن لم يمتنع تكونها بغيرها، والمعنى نقول له: احدث فيحدث عقيب هذا القول لكن المراد الكلام الأزلي القائم بذاته تعالى لا الكلام اللفظي المركب من الأصوات لأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر ويتسلسل، ولأنه يستحيل قيام الصوت والحرف بذاته تعالى ولما لم يتوقف خطاب التكوين على الفهم واشتمل على أعظم الفوائد وهو الوجود جاز تعلقه بالمعدوم، و إنما قال الشارح: لا يبعد لأن أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله تعالى: ﱡﭐ ﱠ ﱠ مجاز عن سرعة الإيجاد وسهولته على الله تعالى وكمال قدرته تمثيلًا للغائب أعني تأثير قدرته في المراد بالشاهد أعني أمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به من غير توقف وامتناع و لا افتقار إلى مزاولة أمر واستعمال آلة، وليس ههنا قول ولا كلام، وإنما يكون وجود الشيء بالخلق والتكوين مقرونًا بالعلم والقدرة والإرادة، كذا ذكره الشارح العلامة في التلويح.
قوله: (ويؤيده قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱠ) قال الشارح في التلويح: التحقيق إن القضاء إتمام الشيء إما قولًا كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﱠ أي حكم، أو فعلًا كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱠ أي خلقهن وأتقن أمرهن انتهى كلامه. فعلم مما ذكر أن ما وقع في شرح العمدة أن القضاء يذكر ويراد به الأمر كما قال الله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﱠ أي أمر، ويذكر ويذكر ويراد به الحكم كما قال الله تعالى: ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯﱠ حيث جعل إرادة الأمر معنى مغايرًا الإرادة الحكم ليس على ما ينبغي بل الحكم والأمر واحد، وكذا الإعلام والتبيين كما قيل المراد بالقضاء في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱠ الإعلام والتبيين ألفاظ مرجعها واحد، أعني إتمام الشيء قولًا يعبر عنه بحسب مناسبة المقام بواحد منها.
قوله: (فهي من الصفات الفعلية) أي إذا كان المراد به الخلق مع زيادة الأحكام يكون من الصفات الفعلية فمرجعه إما إلى تعلق التكوين أو إلى تعلق القدرة عقيب الإرادة على ما عرفت فيما سبق.
قوله: (وفي شرح المواقف) إن قضاء الله تعالى قال فيه: اعلم أن قضاء الله تعالى عند الأشاعرة هو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، وأما عند الفلاسفة فهو عبارة عن عن علمه بما ينبغي أن يكون الوجود عليه حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام وهو المسمى عندهم بالعناية الأزلية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها انتهى. وما وقع في شرح الطوالع للأصفهاني من أن القضاء عبارة عن وجود جميع المخلوقات في اللوح المحفوظ وفي الكتاب المبين مجتمعة ومجملة على سبيل الإبداع فهو راجع إلى تفسير الحكماء ومأخوذ منه، فإن المراد بالوجود الإجمالي الوجود الظلي للأشياء وباللوح المحفوظ جوهر عقلي مجرد عن المادة في ذاته وفي فعله، يقال له: العقل في عرف الحكماء، وإنما قلنا المراد ذلك لأن ما ذكره منقول من شرح الإشارات للمحقق الطوسي حيث قال: اعلم أن القضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة على سبيل الإبداع والقدرة عبارة عن وجودها في موادها الخارجية مفصلة واحدًا بعد واحد كما جاء في التنزيل في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱠ كذا ذكره أبو المعين النفسي في حواشيه، ويؤيده ما وقع في التلويح حيث قال: القضاء في كلام الحكماء عبارة عن وجود المخلوقات، وبما ذكرنا في هذه الحاشية وفيما سبق ظهر أن ليس للقضاء إلا ثلاثة معاني، أحدها اللغوي، والثاني مصطلح الأشاعرة، والثالث مصطلح الفلاسفة، فما قيل: إن للقضاء ستة معاني فهو من قلة التدبر.
قوله: (لكن التفسير به ههنا يؤدي…إلخ) يعني أنما لم يفسر الشارح القضاء بما هو مذكور في شرح المواقف لأنه يؤدي إلى زيادة التكرار وكذا تفسير بالحكم أيضًا يؤدي إلى التكرار.
وتقديرِهِ.
قال الشارح: لا يقال: لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب الرضا به، لأن الرضا بالقضاء واجب، واللازم باطل، لأن الرضا بالكفر كفر.
لأنا نقول: الكفر مقضي لا قضاء، والرضا إنما يجب بالقضاء دون المقضي. (وتقديره) وهو تحديد كل مخلوق بحده الذي يوجد من حسن وقبح ونفع وضر وما يحويه من زمان ومكان وما يترتب عليه من ثواب وعقاب. والمقصود تعميم إرادة الله وقدرته لما مر من أن الكل بخلق الله تعالى، وهو يستدعي القدرة والإرادة لعدم الإكراه والإجبار.
قال الخيالي:
قوله: (و الرضا إنما يجب بالقضاء) قيل عليه لا معنى لرضاء بصفة من صفات الله تعالى بل المراد هو الرضاء بمقتضى تلك الصفة وهو المقضي، فالصواب أن يجاب بأن الرضاء بالكفر لا من حيث ذاته بل من حيث هو مقضي ليس بكفر، وأنت خبير بأن رضاء القلب بفعل الله تعالى بل بتعلق صفته أيضا مما لا سترة في صحته ثم إن الرضاء بهما يستلزم الرضاء بالمتعلق من حيث هو متعلق مقضي لا من حيث ذاته ولا من سائر الحيثيات كما يشهد به سلامة الفطرة ولما كان الرضاء الأول هو الأصل والمنشأ للثاني اختار الشارح هذا الطريق في الجواب فليتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (قيل عليه إنه لا معنى للرضاء) يعني أنه لا معنى للرضاء بصفة الله تعالى إذ القائل برضيت بقضاء الله تعالى لايريد أنه رضي بصفة من صفاته تعالى بل يريد أنه بمقتضى تلك الصفة وهو المقضي، وقد يجاب عن أصل الاعتراض بأن الرضاء بالكفر إنما يكون كفرًا إذا كان مع الاستحسان له وعدم الاستقباح بخلاف الرضاء بكفر الكافر مع استقباحه قصدًا إلى زيادة غوايته كما قال الله تعالى: حكاية عن موسى ﱡﭐ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﱠ وفيه أن ذلك إنما هو في الرضاء بكفر الغير، وأما الرضاء بكفر نفسه فهو كفر مطلقًا، قال في التاتارخانية: من رضي بكفر نفسه فقد كفر، ومن رضي بكفر غيره فقد اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا يكفر بالرضاء بكفر غيره إن كان لا يحب الكفر ولا يستحسنه.
قوله: (وأنت خبير بأن رضاء القلب بفعل الله تعالى…إلخ) يعني أن ما ذكره المعترض من أنه لا معنى للرضاء بصفة من صفاته تعالى مما لا معنى له إذا تعلق رضاء القلب بفعل الله تعالى على تقدير كونه عبارة عن الفعل مع زيادة الأحكام بل يتعلق صفته على تقدير كونه عبارة عن إرادته الأزلية مما لا سترة في صحته، ولا شك أن الرضاء بهما يستلزم الرضاء بمتعلق تلك الصفة من حيث إنه متعلق ضرورة أن الرضاء بالفعل وتعلق الصفة لا يتصور إلا بالرضاء بطرفيه من حيث كونهما متعلقين له، فيكون مآل جواب الشارح وما ذكره المعترض بقوله: فالصواب إلخ واحدًا إذ يصير المعنى والرضاء إنما يجب بالقضاء المستلزم لفرضاء بالمقضي من حيث كونه متعلقًا له لا بالمقضي من حيث ذاته ولا من سائر الحيثيات، وإنما اختار الشارح هذا الطريق ولم يقل: الرضاء إنما يجب بالمقضي من حيث كونه مقضيًّا لا من حيث ذاته لأن الرضاء بالأول أعني القضاء هو الأصل والمنشأ للثاني إذ الرضاء بالمتعلق إنما يجب لتعلق الرضاء به، فإن قيل: لا فرق بين هذه الصفة وبين غيرها في وجوب الرضاء بذاتها وبتعلقها، فما وجه التخصيص حيث قالوا: الرضاء بالقضاء؟ وأجيب بأن هذه الصفة لما كان صدور الآلام من آثارها كان مظنة أن يعترض العباد فيها ولم يرضوا بهذه الصفة وبتعلقها، فلدفع هذا التوهم قالوا: يجب الرضاء بالقضاء.
قال الشارح: فإن قيل: فيكون الكافر مجبوراً في كفره والفاسق في فسقه، فلا يصح تكليفهما بالإيمان والطاعة. قلنا: إنه تعالى أراد منهما الكفر والفسق باختيارهما، فلا جبر، كما أنه تعالى علم منهما الكفر والفسق بالاختيار، ولم يلزم تكليف المحال. والمعتزلة أنكروا إرادة الله تعالى للشرور والقبائح، حتى قالوا: إنه تعالى أراد من الكافر والفاسق إيمانه وطاعته، لا كفره ومعصيته زعماً منهم أن إرادة القبيح قبيحة كخلقه وإيجاده.ونحن نمنع ذلك، بل القبيح كسب القبيح والاتصاف به، فعندهم يكون أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادة الله تعالى، وهذا شنيع جداً. حكي عن عمر بن عبيد أنه قال: ما ألزمني أحد مثل ما ألزمني مجوسي كان معي في السفينة، فقلت له: لم لا تسلم ؟ فقال: لأنالله لم يرد إسلامي، فإذا أراد الله إسلامي أسلمت. فقلت للمجوسي: إن الله تعالى يريد إسلامك، ولكن الشياطين لا يتركونك. فقال المجوسي: فأنا أكون مع الشريك الأغلب. وحكي أن القاضي عبد الجبار الهمداني دخل على الصاحب ابن عباد وعنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء!! فقال الأستاذ على الفور: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. والمعتزلة اعتقدوا أن الأمر يستلزم الإرادة والنهي عدم الإرادة، فجعلوا إيمان الكافر مراداً وكفره غير مراد، ونحن نعلم أن الشيء قد لا يكون مراداً ويؤمر به، وقد يكون مراداً وينهى عنه لحكم ومصالح يحيط بها علم الله تعالى، أو لأنه ﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﱠ ، ألا ترى أن السيد إذا أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده يأمره بالشيء ولا يريده منه.وقد يتمسك من الجانبين بالآيات، وباب التأويل مفتوح على الفريقين.
قال الخيالي:
قوله: (حكى عن عمرو بن عبيد…إلخ) قال المعتزلة أنه تعالى أراد من العباد إيمانهم رغبة واختيارا لا جبرا واضطرارا فلا نقص ولا مغلوبية في عدم وقوع ذلك كالملك إذا أراد من القوم ان يدخلوا داره رغبة فلم يدخلوا وليس بشيء إذ عدم وقوع هذا المراد نوع نقص ومغلوبية لا أقل من الشناعة وقيل لا يفهم من الإرادة الغير المجبرة إلا الرضاء وهو مذهب أهل السنة وهو كلام خال عن التحصيل إذ الرضاء عندهم هو الإرادة مطلقا وعندنا هو الإرادة مع تعلق الإرادة وقد لا يجامعه. نعم تخلف المراد عن تعلق الإرادة نقص عندنا فلا يجوز في حقه تعالى.
قال السيالكوتي:
قوله: (قالت المعتزلة إنه تعالى…إلخ) يعني قالت المعتزلة في التقصي عن لزوم النقص والمغلوبية بأنه تعالى أراد إيمان العباد اختيارًا منهم لا جبرًا، فلا نقص في عدم وقوعه لعدم دلالته على عجزه بخلاف تخلف المراد عن الإرادة القسرية، فإنه نقص مشعر بالعجز كما لا يخفى.
قوله: (وليس بشيء) أي ما قالت المعتزلة في التقصي ليس بشيء إذ عدم وقوع مراده ولو بالإرادة التفويضية نوع نقص ومغلوبية ولا أقل من الشناعة، حيث لم يقع مراد الملك ووقع مرادات العبيد والخدم كذا في شرح المقاصد.
قوله: (قيل لا يفهم من الإرادة…إلخ) أي قيل في التقصي عن لزوم النقص والشناعة على المعتزلة أنه لا يفهم من إرادته تعالى إيمان العباد رغبة واختيارًا إلا الرضاء به، فقولهم: بتخلف المراد به عن الإرادة التفويضية قول بتخلف المرضي عن الرضاء، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فكما لا يلزمهم النقص والشناعة كذلك لا يلزم المعتزلة أيضًا.
قوله: (وهو كلام…إلخ) أي ما قيل كلام ليس له معنى محصل لأن ذلك إنما يفيد لو كان الرضاء عندنا ما هو عند المعتزلة وليس كذلك، فإن الرضاء عند المعتزلة هو الإرادة مطلقًا من غير تقييد بعدم الاعتراض، فالقول بتخلف المرضي عن الرضاء عندهم قول بتخلف المراد عن الإرادة فيلزمهم النقص والشناعة بخلاف الرضاء عندنا، فإنه الإرادة مع ترك الاعتراض أو نفس الترك، فلا يلزم من القول بتخلفه عن المرضي تخلف المراد عن الإرادة، فإنه أمر قد يجامع تعلق الإرادة كما في إيمان المؤمن، وقد لا يجامعه كما في كفر الكافر، فإنه تعلق به الإرادة دون الرضاء، ولا يلزم من تخلفه عن المرضي نقص وشناعة في ذاته، نعم تخلف المراد عن الإرادة نقص عندنا لكن الرضاء لا يستلزمه كما لا يخفى، وكذا لا يفيد ما قاله الفاضل المحشي من أن للمعتزلة أن يقولوا: إن الإرادة التفويضية هو الأمر والنهي، ولا شك أن مخالفة الأمر والنهي لا يستلزم نقصه ولا مغلوبيته إجماعًا لأن ذلك إنما يتم لو كان معنى الأمر عندهم ما فسر به القوم من طلب المأمور به سواء كان مرادًا أولًا وليس كذلك، فإن الأمر عندهم هو الإرادة فتخلف المأمور عن الأمر تخلف المراد عن الإرادة فيلزمهم النقص والمغلوبية بلا ريبة.
وللعبادِ أفعالٌ اختياريةٌ يُثابونَ بها ويُعاقبونَ عليها.
قال الشارح: (وللعباد أفعال اختيارية يثابون بها) إن كانت طاعة (ويعاقبون عليها) إن كانت معصية، لا كما زعمت الجبرية من أنه لا فعل للعبد أصلاً وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة للعبد عليها ولا قصد ولا اختيار. وهذا باطل لأنا نفرق بالضرورة بين حركة البطش وحركة الارتعاش، ونعلم أن الأول باختياره دون الثاني، ولأنه لو لم يكن للعبد فعل أصلاً لما صح تكليفه ولا ترتب استحقاق الثواب والعقاب على أفعاله ولا إسناد الأفعال التي تقتضي سابقية القصد والاختيار إليه على سبيل الحقيقة مثل صلى وصام وكتب، بخلاف مثل طال الغلام وأسود لونه.
قال الخيالي:
قوله: (وللعباد أفعال اختيارية) اعلم أن المؤثر في فعل العبد إما قدرة الله تعالى فقط بلا قدرة من العبد أصلا وهو مذهب الجبرية أو بلا تأثير لقدرته وهو مذهب الأشعري أو قدرة العبد فقط بلا إيجاب ولا اضطرار وهو مذهب المعتزلة أو بالإيجاب وامتناع التخلف وهو مذهب الفلاسفة والمروي عن إمام الحرمين أو مجموع القدرتين على أن تؤثرا في أصل الفعل وهو مذهب الأستاذ أو على أن تؤثر قدرة العبد في صفه بأن يجعله موصوفا بمثل كونه طاعة أو معصية وهو مذهب القاضي والمقصود ههنا أن للعبد فعلا ينسب إلى قدرته سواء كانت جزء المؤثر كما هو مذهب الأستاذ أو مرادا محضا كما هو مذهب الأشعري ويجب أن يعلم أن جميع أفعال الحيوانات على هذا التفصيل من المذاهب إلا أن بعض الأدلة لا يجري إلا في المكلف فلذلك خصوا العباد بالذكر.
قوله: (لما صح تكليفه) لبطلان تكليف الجماد بالضرورة وأما قوله “ولا ترتب استحقاق الثواب” ففيه نظر مر ذكرُه، وقد يرد أيضا على الجبرية بعدم فائدة التكليف ولا يرد بهذا على الأشعري لجواز أن يكون داعيا لاختيار الفعل.
قال السيالكوتي:
قوله: (أو بلا تأثير لقدرته) فهو مذهب الأشعري، فإن الله تعالى أجرى عادته بأن العبد إذا صرف قدرته وإرادته إلى الفعل أوجده عقيب
ذلك من غير أن يكون لقدرته وإرادته تأثير في وجوده، فذلك الفعل مخلوق الله ومكسوب العبد، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى.
قوله: (أو قدرة العبد بلا إيجاب…إلخ) ولا يخفى أنه لا يظهر مما ذكره فرق بين مذهب الحكماء ومذهب المعتزلة لأن عدم الإيجاب والاضطرار إنما هو بالنسبة إلى نفس القدرة، وأما مع تمام الشرائط من الإرادة وغيرها فليس إلا الإيجاب والاضطرار وهو لا ينافي الاختيار بالنسبة إلى ذاته، ولذا قال في قواعد العقائد: إن مذهب الحكماء والمعتزلة أن الله تعالى يوجب للعبد القدرة والإرادة، وهما يوجبان وجود المقدور، وقال في الشرح الجديد للتجريد، وذهب الحكماء والمعتزلة إلى أنها واقعة بقدرة العباد على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار، نعم فرق بين المذهبين باعتبار أن خلق الإرادة والقدرة في العبد عند المعتزلة على سبيل الاختيار، وعند الفلاسفة بالإيجاب.
قوله: (وهو مذهب الفلاسفة) هذا مبني على ظاهر كلام الحكماء، فإن تحقيق مذهبه أنه تعالى فاعل الحوادث كلها وأن المراتب شروط معدة لإفاضة المبدأ على ما صرح في شرح الإشارات حيث قال: إن الكل متفقون على صدور الكل منه جل جلاله، وأن الوجود معلول له على الإطلاق وإن تساهلوا في مقالاتهم، وما نقل عن أفلاطون من أن العالم كرة والأرض مركزه، والأفلاك قبى والحوادث سهام والإنسان هدف والله الرامي، فأين المفر يشعر بذلك؟ كذا ذكره المحقق الدواني في بعض تصانيفه.
قوله: (والمروي عن إمام الحرمين…إلخ) قال في شرح المقاصد هذا القول من الإمام وإن اشتهر في الكتب إلا أنه خلاف ما صرح به في الإرشاد وغيره حيث قال إن الخالق هو الله تعالى لا خالق سواه، وإن الحوادث كلها حادثة بقدرته تعالى من غير فرق بين ما تعلق بقدرة العباد وما لا يتعلق.
قوله: (أو مجموع القدرتين…إلخ) اي قدرة الله وقدرة العبد على أن يتعلق المجموع بالفعل نفسه ويؤثر في أصل الفعل بمعنى أن قدرة العبد غير مستقلة بالتأثير، فإذا انضمت إليه قدرة الله تعالى صارت مستقلة بتوسط هذه الإعانة، وهذا أقرب من الحق وإن اشتهر في الكتب أنه جعل كلًّا منهما مؤثرًا تامًّا وجوز اجتماع المؤثرين على أثر واحد، فإنه باطل صريحًا.
قوله: (بأن يجعله موصوفا…إلخ) كما في لطم اليتيم تأديبًا وإيذاءً، فإن ذات اللطم واقعة بقدرته تعالى وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد، والظاهر أنه لم يرد أن قدرة العبد مستقلة في خلق وصف الطاعة والمعصية، وإلا لزم عليه ما لزم على المعتزلة بل أراد أن للقدرة مدخلًا في ذلك الوصف، فهو بالنسبة إلى العبد طاعة ومعصية، كذا ذكره المحقق الدواني، ويرد على مذهبه أن هذه الضفات أمور اعتبارية يلزم فعل العبد باعتبار موافقته لما أمر الله سبحانه وتعالى أو مخالفته له، فلا وجه لجعله أثر القدرة.
قوله: (والمقصود…إلخ) يعني أن المقصود في قوله: وللعباد إلخ لا يصدق إلا على هذين المذهبين، فإن قوله: للعباد أفعال رد على الجبرية إذ لا فعل لهم عندهم، وكذا على القاضي إذ للعباد عنده أوصاف الأفعال لا أنفسها، وقوله: اختيارية رد على الحكيم حيث قال: فعل العبد بقدرته بإيجاب واضطرار، وأما الرد على المعتزلة فقد سبق، ولذا لم يشر إليه ههنا.
قوله: (إلا أن بعض الأدلة لا يجري…إلخ) وهو قوله: ولأنه لو لم يكن للعبد فعل لما صح تكليفه ولا ترتب استحقاق الثواب والعقاب على أفعاله.
قوله: (وأما قوله ولاترتب استحقاق الثواب والعقاب) ففيه نظر مر ذكره وهو أن ترتب الثواب والعقاب أمر عادي كترتب الإحراق عقيب مساس النار، فكما لا يقال لِمَ ترتب الإحراق على مساسه كذلك لا يقال لِمَ ترتب على هذا الفعل الثواب وعلى ذلك العقاب.
قوله: (وقد يرد أيضًا على الجبرية…إلخ) أي كما يرد على الجبرية بعدم صحة التكليف يرد بعدم فائدة التكليف والدعوة والبعثة والتأديب لأن فائدة التكليف طلب الفعل أو الترك ولما لم يكن من شأن العبد الفعل صار التكليف بلا فائدة، ولا يرد هذا على الأشعري بأن يقال لو لم يكن لقدرة العبد تأثير في الأفعال لم يفد التكليف لجواز أن يكون ذلك التكليف داعيًا لاختياره الفعل وصرف القدرة والإرادة إليه ليترتب عليه خلق الله تعال ذلك الفعل ترتبًا عاديًّا، وباعتبار ذلك الاختيار المترتب على الداعي يصير الفعل طاعة إذا وافق ما دعاه الشرع أو معصية إذا خالفه ويصير علامة الثواب والعقاب.
قال الشارح: والنصوص القطعية تنفي ذلك كقوله تعالى: ﱡﭐﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﱠ وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬﱠ إلى غيرذلك. فإن قيل: بعد تعميم علم الله تعالى وإرادته الجبر لا زم قطعاً، لأنهما إما أن يتعلقا بوجود الفعل فيجب أو بعدمه فيمتنع، ولا اختيار مع الوجوب والامتناع !! قلنا: يعلم ويريد أن العبد يفعله أو يتركه باختياره، فلا إشكال.
قال الخيالي:
قوله: (فإن قيل بعد تعميم علم الله تعالى وإرادته) هذا بيان الجبر وعدم التمكن بالنسبة إلى كل ممكن وما سبق من قوله “فإن قيل فيكون الكافر مجبورا إلخ” بيان بالنسبة إلى الموجودات فقط وقد فصل في السؤال والجواب ههنا ما يفصل هناك.
قوله: (فيجب) وإلا لجاز انقلاب علمه تعالى جهلا وتخلف المراد عن إرادته وهكذا الحال في الامتناع وأنت خبير بأن الأعدام الأزلية ليست بالإرادة لأن أثر الإرادة حادث فتعميم الإرادة محل بحث ولذا ورد في الحديث المرفوع ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والأظهر أن يقال إن تعلقت الإرادة بالوجود يجب وإلا يمتنع لأنها علة الوجود وعدم العلة علة العدم، هذا والمعتزلة لما جوزوا التخلف عن الإرادة في غير فعل نفسه لم يتوجه السؤال بتعميم الإرادة عليهم.
قال السيالكوتي:
قوله: (هذا بيان الجبر وعدم التمكن…إلخ) مقصوده دفع لما يورد من أن هذا السؤال والجواب قد سبقا حيث قال: فإن قيل فكون الكافر مجبورًا في كفره إلخ فهذا تكرار محض، وحاصل الدفع أن هذا بيان للجبر بالنسبة إلى كل ما يمكن من العبد من الفعل والترك حيث عمم، وقال: إما أن يتعلق بوجود الفعل أو بعدمه وما مر من قوله: فإن قيل بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه فقط حيث خصص الاعتراض بالنسبة إلى الكفر والفسق مع أنه قد فصل في السؤال والجواب ههنا بإيراد السؤال الثاني مع الجواب عنه بالحل والنقض ما لم يفصل في ذلك المقام فلا تكرار، واعلم أن جعل الكفر والفسق من الأفعال الموجودة إما مبني على العرف أو المراد الموجودات في العبد بمعنى اتصافه بها في الخارج لا وجودها في أنفسها وإلا فهما أمران عدميان لا تحقق لهما في الخارج
قوله: (وهكذا في الامتناع) بأن يقال ما علم الله تعالى وأراد عدمه يمتنع إذ لو يمتنع لجاز وقوعه فيلزم انقلاب علمه تعالى جهلًا وتخلف المراد عن إرادته تعالى.
قوله: (وأنت خبير بأن الأعدام الأزلية…إلخ) يعني أن تعميم إرادة الله تعالى ليس إلا بالنسبة إلى الموجودات لأن أعدام الحوادث أزلية، فلو كانت مسبوقة بالإرادة لكانت حادثة لأن أثر الإرادة حادث على ما هو المقرر المتفق عليه بين الجمهور، فتعميم الشارح الإرادة بالنسبة إلى جميع الممكن محل بحث، ويؤيده ما في شرح المواقف العدم ليس أثرًا مجعولًا للقادر كالوجود بل معنى استناده إليه أنه لم يتعلق مشيئته بالفعل، فلم يوجد الفعل لأن إسناد العدم إلى القادر يقتضي حدوثه كما في الوجود، فيلزم أن لا يكون عدم العالم أزليًّا، وأما الجواب بأنا لا نسلم كون أثر الإرادة حادثًا البتة لجواز تقدم القصد على العدم كتقدم الإيجاد على الوجود على ما مر، ولو سلم فيجوز تعميم الإرادة بالعدم حتى يشمل إبقاء الشيء على العدم فليس بجيد لأن المنع الأول وإن كان مخلصًا عن هذا الاعتراض لكنه يهدم الاستدلال بكونه تعالى فاعلًا مختارًا على كون العالم حادثًا، وأما الثاني فلأن بقاء الشيء على العدم ليس إلا اتصافه بالعدم في الزمان الثاني بلا أمر زائد، وإذا لم يكن العدم صالحًا لأن يكون أثرًا فنسبته إلى جميع الأزمنة على السواء بل الحق أن بقاء الشيء على العدم مستند إلى بقاء عدم مشيئة الفعل كما لا يخفى وغاية ما يتكلف أن يقال: إن عدم الأشياء كوجودها مرتبط بإرادته إلا أن ارتباط الوجود بوجودها وارتباط العدم بعدمها، ولا نعني بتعلق الإرادة بالعدم إلا أن تقتضي الإرادة العدم باعتبار عدمها.
قوله: (ولذا وقع في الحديث) فإنه أسند عدم الفعل إلى عدم المشيئة لا إلى مشيئة العدم كذا نقل عنه.
قوله: (وإلا يمتنع…إلخ) أي وإن لم يتعلق الإرادة بالوجود يمتنع وجوده لأن الإرادة علة الوجود وعدم العلة علة عدم المعلول، ومن ههنا ظهر وجه آخر لعدم كون العدم أثر الإرادة لأنه لو كان الإرادة علة له وعدم الإرادة أيضًا علة له يلزم توارد علتين مستقلتين على معلول واحد.
قوله: (والمعتزلة لما جوزوا التخلف عن الإرادة…إلخ) يعني أن المعتزلة لما قالوا: إن تخلف المراد عن إرادته تعالى إذا كانت متعلقة بفعل غيره جائز لأنه إرادة تفويضية يجوز تخلف المراد عنها عندهم من غير نقص على ما مر لم يتوجه السؤال عليهم بأن تعميم إرادة الله تعالى بأفعال العباد يستلزم الجبر لأنهم يقولون لا نسلم أنه إذا تعلقت الإرادة بالوجود يجب وإلا يمتنع بل يمكن وجوده وعدمه لأن التخلف ممكن، نعم يرد على أكثرهم السؤال بتعميم علمه تعالى فإن تخلف المعلوم عنه يستلزم الجهل وهو نقص وإنما قيدنا بالأكثر لأن أبا الحسين وإن قال بتعميم العلم لكنه يقول: إنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، فعنده لا يتصور الجبر بالنسبة إلى العلم أيضًا.
قال الشارح: فإن قيل: فيكون فعله الاختياري واجباً أو ممتنعاً، وهذا ينافي الاختيار. قلنا: ممنوع، فإن الوجوب بالاختيار محقق للاختيار لا مناف. وأيضاً منقوض بأفعال الباري جل ذكره، لأن علمه وإرادته متعلقان بأفعاله، فيلزم أن يكون فعله واجباً عليه.
قال الخيالي:
قوله: (فإن قيل فيكون فعله الاختياري واجبا) قد يمنع هذه المقدمة أيضا لأن العلم تابع للمعلوم فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وسلب القدرة والاختيار وكذلك الإرادة إذا تفرعت عن علمه تعالى بالاختيار من العبد للفعل فتأمل.
قوله: (محقق للاختيار) فلا يكون فعل العبد كحركة الجماد وهو المقصود ههنا وأما أن ذلك الاختيار ليس من العبد لأنه لا يوجد شيئا فيكون من الله تعالى فيلزم الجبر فذلك مذهب الأشعري وهو جبر متوسط وأما الذاهبون إلى مذهب الأستاذ فلهم أن يقولوا الاختيار بمعنى الإرادة صفة من شأنها أن تتعلق بكل من الطرفين بلا داع ومرجح فيكون الاختيار من الله تعالى لا يستلزم الجبر كما أن صدور إرادته تعالى عن ذاته بالإيجاب لا ينافي كونه تعالى فاعلا مختارا بالاتفاق.
قوله: (و أيضا منقوض…إلخ) توجيه النقض بالعلم ظاهر وأما بالإرادة فمبني على أزلية تعلقاتها أيضا وقد يجاب بأن الاختيار هو التمكين من إرادة الضد حال إرادة الشيء لا بعدها وكان يمكن في الأزل أن تتعلق إرادته تعالى بالترك بدل الفعل وليس قبل تعلقها تعلق علم موجب له إذ لا قبل للأزل بخلاف إرادة العبد فتدبر.
قال السيالكوتي:
قوله: (قد تمنع هذه المقدمة…إلخ) أي كما تمنع منافاة كون الفعل الاختياري واجبًا أو ممتنعًا للاختيار كذلك يمنع نفس جعل تعلق العلم والإرادة بفعله الاختياري واجبًا أو ممتنعًا لأن العلم تابع للمعلوم بمعنى أن الأصل في المطابقة المعلوم والعلم ظن وحكاية عنه، فإنه انكشاف الشيء على ما هو عليه في حد ذاته، ألا يرى أن صورة الفرس إنما يكون علمًا إذا كان مطابقًا له حتى لو خالفه بوجه ما لم يكن علمًا بل جهلًا، فعلم أنه لا مدخل للعلم في جهل الفعل واجبًا وسلب القدرة والاختيار عن فاعله، وكذلك ليس للإرادة أيضًا مدخل في سلب الاختيار لأن الإرادة متفرعة عن علمه تعالى وتابعة له والعلم تابع للمعلوم الذي صدر عن العبد بالاختيار، فهي أيضًا تابعة لاختيار العبد، فلا يكون موجبًا للفعل، وأما قولهم: وإلا لجاز انقلاب علمه تعالى جهلًا وتخلف المراد عن الإرادة، قلنا: هذا لا يثبت الإيجاب بل الاستلزام والفرق ظاهر.
قوله: (فلا يكون فعل العبد كحركة الجماد…إلخ) أي إذا كان الوجوب أو الامتناع بتوسط الاختيار محققًا للاختيار في نفس الفعل لا يكون ذلك الفعل كحركة الجماد الذي لا مدخل لاختياره فيه أصلًا وهو المقصود ههنا لأن المقصود نفي الجبر في أفعاله الذي يدعيه الجبرية وهذا القدر كاف له، وأما الكلام في أن ذلك الاختيار ليس فعل العبد لأنه لا يوجد شيئًا على ماتقرر عليه رأي أهل الحق فيكون مخلوق الله تعالى فيلزم الجبر، فالشيخ الأشعري يسلمه ويقول: العبد مجبور على الاختيار، فإنه محل الإرادة التي أخذت فيه جبرًا، وهو جبر متوسط لا يستلزم الجبر في الأفعال على ماسيجيء تحقيقه، وأما الذاهبون إلى مذهب الأستاذ فلم يصرحوا بلزومه ولا بعدمه لكن لهم أن يقولوا: إن كون الاختيار مخلوق الله تعالى لا يستلزم الجبر لأن الاختيار الذي هو مخلوق له تعالى بمعنى الإرادة وهي صفة من شأنها أن يتعلق بكل من الطرفين الفعل والترك من غير داع ومرجح كما في قدحي العطشان فكونه من الله تعالى لا يستلزم الجبر في الأفعال لأن إعطاء صفة من حيث كونها صفة ليس جبرًا، إنما يقال: الجبر بالنسبة إلى الأفعال وإعطاء الإرادة لا يستلزم شيئًا، منها ألا يرى أن صدور إرادته تعالى من ذاته تعالى بطريق الإيجاب من غير شائبة الاختيار لا ينافي كونه فاعلا مختارًا بالاتفاق فكذلك صدور إرادة العبد من ذاته تعالى أيضًا لا يستلزم الجبر، ولا ينافي كونه مختارًا إذ لا فرق بينهما في عدم كون كل منهما باختيار صاحبه، نعم لو كان الاختيار بمعنى الإرادة المتعلقة بأحد الطرفين أو الإرادة التابعة للداعي من الله تعالى لزم الجبر لعدم التمكن حينئذ على أحد طرفي الفعل، إما مطلقًا أو عند وجود الداعي لكنه ليس كذلك هذا، ولا يخفى عليك أن ما ذكره إنما يدل على عدم كونه مجبورًا في الأفعال الصادرة بتوسط الاختيار، وأما في نفس الاختيار فهو مضطر ومجبور قطعًا كما أنه تعالى موجب بالنسبة إلى الإرادة وغيرها من الصفات وإن كان مختارًا بالنسبة إلى الأفعال الصادرة بتوسطها، والشيخ الأشعري إنما يقول بكونه مجبورًا في الاختيار لا في الأفعال الصادرة بتوسطه تأمل.
قوله: (توجيه النقض بالعلم ظاهر) بأن يقال: ما علم الله تعالى وجوده في الأزل يجب وما علم عدمه يمتنع، فلا يكون الأفعال الصادرة عنه فيما لا يزال اختيارية مع أنها اختيارية بالاتفاق من المتخاصمين.
قوله: (وأما بالإرادة فمبني…إلخ) أي النقض بإرادته تعالى مبني على أن تعلقات الإرادة أزلية فيقال: ما أراد الله تعالى في الأزل وجوده يجب وإلا يمتنع فلا يكون له اختيار في الأفعال الصادرة عنه فيما لا يزال، أما إذا كانت حادثة فلا يتم إذ لا يكون للإرادة تعلق سابق على وجود الأشياء به يجب أو يمتنع، قال الفاضل الجلبي أن النقض وارد لو كان تعلقاتها حادثة بأن يقال: إن تعلقت بإيجاد شيء فيما لا يزال يجب وجوده وإلا يمتنع وجوده فبطل الاختيار، وفيه بحث لأن هذا الوجوب بالاختيار حين الإيجاد وهو لا ينافي الاختيار لتحقق التمكن على الفعل والترك قبل الإيجاد، وإنما المنافي له الوجوب الحاصل قبل الإيجاد كالحاصل من تعلق الإرادة في الأزل وهو ظاهر.
قوله: (وقد يجاب بأن الاختيار…إلخ) حاصل الجواب أن الاختيار عبارة عن التمكن عن إرادة الضد حال إرادة الشيء لا بعدها، فالوجوب الحاصل بعد إرادته لا ينافي الاختيار، وهذا حاصل في ذاته تعالى بالنسبة إلى الإرادة لأنه كان يمكن في الأزل أن يتعلق إرادة الله بكل من الطرفين على سبيل البدل وكذا بالنسبة إلى العلم أيضًا لأنه ليس قبل تعلق إرادته تعالى تعلق علم موجب لتعلق الإرادة لأن تعلقاتها أزلية، ولا يتصور القبلية والبعدية في الأزل بخلاف إرادة العبد، فإن تعلقها متأخر عن تعلق علمه تعالى وإرادته الأزلية، فيتحقق الوجوب أو الامتناع قبله، فلا يكون له التمكن من الطرفين حين تعلق الإرادة، وقد يجاب عن النقض بالإرادة بأن المرجح الموجب في أفعاله تعالى هو إرادته المستندة إلى ذاته تعالى بطريق الإيجاب بخلاف ما في أفعال العبد، فإنه بإرادة الله تعالى، فيلزم الجبر فيه قطعًا.
قوله: (تأمل) نقل عنه لعل وجه التأمل أن معنى الإيجاب على ما ذكرتم هو عدم التمكن من الطرفين حين تعلق الإرادة بأن يكون تعلقه متفرعًا على شيء تابعًا له إن وجد وجد وإلا فلا، وهذا إنما يستدعي القبلية الذاتية لا الزمانية، فالإيجاب بهذا المعنى حاصل في ذاته تعالى لأن تعلق العلم، وإن لم يكن مقدمًا على تعلق الإرادة بالزمان لكنه مقدم عليه بالذات، فإن تعلق الإرادة تابع لتعلق العلم ومتفرع عليه فيتحقق وجوب الفعل وامتناعه قبل تعلق الإرادة قبلية ذاتية بخلاف إرادة العبد، فإنها متبوعة لتعلق علمه تعالى وإرادته ضرورة توقفها على تعلقها بطريق جري العادة، وإن كان تعلق إرادة العبد متأخرًا عن تعلقهما بالزمان فلا يلزم الإيجاب وسلب القدرة والاختيار.
قال الشارح: فإن قيل: لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إلا كونه موجداً لأفعاله بالقصد والإرادة، وقد سبق أن الله تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها، ومعلوم أن المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين. قلنا: لا كلام في قوة هذا الكلام ومتانته إلا أنه لما ثبت بالبرهان أن الخالق هو الله تعالى، وبالضرورة أن لقدرة العبد وإرادته مدخلاً في بعض الأفعال كحركة البطش دون البعض كحركة الارتعاش، احتجنا في التفصي عن هذا المضيق إلى القول بأن الله تعالى خالق كل شيء والعبد كاسب.
قال الخيالي:
قوله: (مدخلا في بعض الأفعال) أي بالدوران والترتب المحض كالإحراق بالنسبة إلى مسيس النار لا بالتأثير إذ لا حكم للضرورة فيه.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي بالدوران والترتب المحض…إلخ) دفع لما يتوهم من ظاهر العبارة من أن قوله: إن قدرة العبد وإرادته مدخلًا في بعض الأفعال يدل على أن لقدرته تأثيرًا فيه، وهو مناف للحصر المستفاد من قوله: إن الخالق هو الله تعالى، وحاصل الدفع أن ما يحكم به بديهة العقل هو أن لقدرة العبد مدخلًا في بعض الأفعال بالدوران بأنه متى تحقق القدرة تحقق الفعل، ومتى لم يوجد لم يوجد والترتب المحض الخالص عن الحكم بالـتأثير أو بعدمه كما يحكم بدوران الإحراق مع مساس النار، وترتبه عليه إلا أنه يحكم العقل بأن لقدرته مدخلًا فيه بالتأثير حتى يصير منافيًا لقوله: بأن الخالق هو الله تعالى إذ لا حكم للضرورة فيه كما أنه لا حكم لها في عدم التأثير بل كل منهما نظري ثبت بالدليل، وبما ذكره اندفع الشبهة التي أوردت لنفي الجبر المتوسط من أن بديهة العقل كما يحكم بوجود صفة في العبد فارقه بين حركتي البطش والارتعاش يحكم بثبوت تأثيرها، فإن صدق حكمها الأول صدق حكمها الثاني فيكون مذهب القدرية حقًّا، وإن كذب الثاني كذب الأول فيكون مذهب الجبرية حقًّا، فعلى التقديرين لا توسط إذ لا حكم للبديهة في تأثير القدرة الحادثة سيما حين ثبوت انتفائه بالقواطع إنما حكم البداهة بالدوران والترتب المحض كما لايخفى.
قال الشارح: وتحقيقه أن صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب، وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق، والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين، فالفعل مقدور الله بجهة الإيجاد ومقدور العبد بجهة الكسب، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة ا لمفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار، ولهم في الفرق بينهما عبارات مثل: إن الكسب ما وقع بآلة والخلق لا بآلة، والكسب مقدور وقع في محل قدرته والخلق مقدور وقع لا في محل قدرته، والكسب لا يصح انفراد القادر به والخلق يصح انفراده.
قال الخيالي:
قوله: (تحقيقه أن صرف العبد…إلخ) صرف القدرة جعلها متعلقة بالفعل وهو بتعلق الإرادة بمعنى أنه يصير سببا لأن يخلق الله تعالى صفة متعلقة بالفعل وأما صرف الإرادة أي جعلها متعلقة فيجوز أن يكون لذاتها على ما عرفت في إرادة الله تعالى وقيل صرف القدرة قصد استعمالها وهو غير القصد الذي يحدث عنده القدرة كما سيجئ لأن صرف القدرة متأخر عن القدرة المتأخر عن القصد وليس بشيء لأن قصد الاستعمال يقتضي أن يوجد القدرة ولا تستعمل فلا يكون مع الفعل كما هو مذهب من يقول بحدوثها عند قصد الفعل ثم إن تقدم الشيء باعتبار ذاته لا ينافي تأخره بحسب وصفه كما في قولك رماه فقتله فإن الرمى باعتبار إفضائه إلى الموت يكون قتلا وذلك عند تحقق الموت.
قوله: (إيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك) هذا هو التعقيب الذاتي وإلا فالقدرة مع الفعل.
قال السيالكوتي:
قوله: (صرف القدرة جعلها…إلخ) يعني معنى صرف القدرة جعلها متعلقة بالفعل، وذلك الصرف يحصل بسبب تعلق الإرادة بالفعل لا بمعنى أنه سبب مؤثر في حصول ذلك الصرف إذ لا مؤثر إلا الله بل بمعنى أن تعلق الإرادة يصير سببًا عاديًّا لأن يخلق الله تعالى في العبد قدرة متعلقة بالفعل بحيث لو كانت مستقلة في التأثير لا وجد الفعل، وأما صرف الإرادة وجعلها متعلقة بالفعل، فليست مخلوقة لله تعالى حتى يلزم الجبريل هو لذاتها، فإنها صفة من شأنها ترجيح أحد المتساويين بل المرجوح من غير داع لها ومرجح كما عرفت في إرادة الله تعالى من أنه صفة توجب تخصيص أحد المقدورين بالوقوع في بعض الأوقات من غير احتياج إلى مرجح، وكما أن صدور الإرادة عن ذاته تعالى بطريق الإيجاب لا يوجب الجبر في أفعاله كذلك صدور إرادة العبد من ذاته تعالى لا يوجب كونه مجبورًا في أفعاله، واعلم أن هذا المقام يستدعي بسطًا في الكلام فنقول وبالله التوفيق: إن أفعال العباد منها ما يتعلق بها إرادة الله تعالى بلا توسط اختيار العبد بمعنى أن الله يوجدها سواء تعلق بها إرادة العبد أولًا، ومنها ما يتعلق بها إرادته تعالى بتوسط اختياره وإرادته بمعنى أن الله تعالى أوجد في العبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك وإرادة ترجح أحدهما، فإذا رجحت إرادة العبد أحد الطرفين وتفرع عليه تعلق قدرته وصرف الآلات والدواعي إليه بمعنى أن تعلق الإرادة يصير سببًا عاديًّا لأن يخلق الله تعالى في العبد صفة متعلقة بالفعل بحيث لو كانت لها تأثير بالاستقلال لأوجد الفعل ثم تعلقت إرادة الله تعالى وقدرته بخلق ذلك الفعل عقيب ذلك أعني تعلق إرادته وقدرته وصرف الآلة إليه تعقيبًا ذاتيًّا، فإن قيل ذلك الترجيح المتفرع عليه تعلق القدرة وصرف الدواعي إما أن يكون مخلوقًا لله تعالى فالجبر باق أو فعل العبد فيكون العبد خالقًا لبعض أفعاله، قلت ذلك الترجيح من مقتضيات الإرادة على ما بين في موضعه من أن الإرادة صفة من شأنها ترجيح أحد المتساويين، فإن قيل إذا كان الترجيح من مقتضيات ذات الإرادة فما فائدة التكليف؟ إذ الإرادة تتعلق بأحدهما بالضرورة، قلت: قد يصير التكليف داعيًا لتعلق الإرادة بناء على أن الإرادة تابعة للعلم، فإذا علم المكلف أن التكليف واقع هكذا فهو حسن يصير ذلك داعيًا لتعلق إرادته وترجيحه فيصرف القدرة والدواعي إليه فيخلق الله تعالى الفعل عقبيه عادة، وباعتبار ذلك التعلق أعني تعلق الإرادة المترتب على الدواعي يصير الفعل طاعة وعلامة للثواب *والحاصل أن الله تعالى خلق في العبد علمًا إجماليًّا بالأفعال الاختيارية قبل صدورها وعلمًا بحسنها وقبحها وترتب الثواب والعقاب عليها مأخوذ من لسان الشارع وخلق فيه إرادة تابعة لذلك العلم مرجحة لبعضها وقدرة متعلقة بالفعل تابعة لتلك الإرادة بحيث لو كانت مستقلة في الإيجاد لأوجدها فمع العلم بالحسن والقبح الداعي إلى تعلق الإرادة إن تعلقت إرادته بالقبح يستحق الذم باعتبار المحلية والعقاب بطريق جري العادة، وإن تعلقت بالحسن يستحق المدح والثواب كذلك لو فعل قبيحًا لم يعلم قبحه لا يستحق الذم والعقاب، ولو تعلق إرادته بقبيح وعزم عليه مع العلم بقبحه يستحق المؤاخذة وإن لم يخلق بعده، فإن قيل: تلك الإرادة التي من شأنها الترجيح حادثة، فهي إما بإرادة العبد فيلزم التسلسل وإما بإرادة الله تعالى فيكون مجبورًا، قلت: تلك الإرادة مخلوقة لله تعالى والعبد مجبور في نفس تلك الصفة وهو لا يستلزم الجبر في الأفعال الصادرة بتوسطها كما في أفعال الباري تعالى فإنها صادرة بتوسط الإرادة المستندة إلى ذاته بطريق الإيجاب وإلا لزم حدوثها مع أنه مختار فيها إذ لا فرق بين أن تكون مستندة إلى ذاته تعالى بطريق الإيجاب وبين أن تكون مستندة إلى غيره في عدم كونهما بالاختيار والسر فيه أن الإرادة المخلوقة فيه مطلقة من غير أن تكون متعلقة بالحسن أو القبح، هذا محصول ما ذكره الشارح في هذا الكتاب من تحقيق خلق الأفعال والله أعلم بحقيقة الحال.
قوله: (وقيل صرف القدرة…إلخ) أي وقيل في بيان معنى صرف القدرة ومغايرته لصرف الإرادة أن صرف القدرة عبارة عن قصد استعمالها، وذلك القصد غير صرف الإرادة لأنه عبارة عن القصد الذي يحدث عنه القدرة كما سيجيء في بيان أن الاستطاعة مع الفعل من أن القدرة صفة يخلقها الله تعالى عند قصد اكتساب الفعل، وإنما قلنا بمغايرتهما لأن صرف القدرة متأخر بالذات عن وجودها لأن قصد استعمالها فرع كونها موجودة، ووجود القدرة متأخر بالذات عن قصد الاكتساب لأنه سبب عادي لخلق القدرة والمتقدم غير المتأخر إذ لو كان عينه يلزم تقدم الشيء على نفسه.
قوله: (وليس بشيء لأن قصد الاستعمال…إلخ) أي ما ذكره صاحب الفيل ليس بشيء أنا بيان معنى صرف القدرة بقصد الاستعمال فلأنه يقتضي أن يوجد القدرة في العبد، ولايكون مستعملًا لأن استعماله موقوف على القصد ومتأخر عنه بالزمان لأن قصد الفعل مقدم على الفعل بالزمان على ما تقرر عليه رأى جمهور المتكلمين، فلا تكون القدرة مع الفعل بل قبله بالزمان لأن الفعل مقارن لاستعمال القدرة المتأخرة بالزمان عن القصد المقارن بوجود القدرة مع أن مذهب من يقول بحدوثها عند قصد الفعل أعني الأشعري أنها مقارنة للفعل بالزمان لا قبله، وأما بيان مغايرة القصدين فلأن تقدم الشيء باعتبار ذاته لا ينافي تأخره بحسب وصفه فيجوز أن يكون القصد من حيث ذاته متقدمًا على القدرة ومتأخرًا عنه باعتبار وصفه أي بالنظر إلى استعمال القدرة فلا يثبت مغايرة القصدين كما في قولك: رماه فقتله فإن الرمي المخصوص باعتبار إفضائه إلى الموت يكون قتلًا وهو إنما يتحقق بعد الموت فيكون الرمي متأخرا عن الموت باعتبار كونه قتلًا مع أنه متقدم على الموت باعتبار ذاته، ولذا صح دخول الفاء في قولك رماه فقتله.
قوله: (هذا هو التعقيب الذاتي) أي كون الفعل عقيب مجموع صرف القدرة والإرادة هو التعقيب الذاتي، وإن كان بالنسبة إلى صرف الإرادة تعقيبًا زمانيًّا بل الشبيه بالذاتي لأن خلق الله تعالى الفعل لا يتوقف على صرف العبد قدرته وإرادته بحيث يمتنع وجوده بدونه إذ هو من الأسباب العادية التي ليست سببيتها إلا وهمية فكذا التعقيب.
قوله: (وإلا فالقدرة…إلخ) أي وإن لم يكن التعقيب ذاتيًّا بل زمانيًّا لم تكن القدرة مع الفعل بل قبله، وهو خلاف مذهب الشيخ الأشعري.
قال الشارح: فإن قيل: فقد أثبتم ما نسبتم إلى المعتزلة من إثبات الشركة. قلنا: الشركة أن يجتمع اثنان على شيء واحد وينفرد كل منهما ما هو له دون الآخر كشركاء القرية والمحلة، وكما إذا جعل العبد خالقاً لأفعاله والصانع خالقاً لسائر الأعراض والأجسام، بخلاف ما إذا أضيف أمر إلى شيئين بجهتين مختلفتين كأرض تكون ملكاً لله تعالى بجهة التخليق وللعباد بجهة ثبوت التصرف، وكفعل العبد ينسب إلى الله تعالى بجهة الخلق وإلى العبد بجهة الكسب. فإن قيل: فكيف كان كسب القبيح قبيحاً سفهاً موجباً لاستحقاق الذم والعقاب بخلاف خلقه. قلنا: لأنه قد ثبت أن الخالق حكيم لا يخلق شيئاً إلا وله عاقبة حميدة وإن لم نطلع عليها، فجزمنا بأن ما نستقبحه من الأفعال قد يكون له فيها حكم ومصالح كما في خلق الأجسام الخبيثة الضارة المؤلمة بخلاف الكسب، فإنه قد يفعل الحسن وقد يفعل القبيح، فجعلنا كسبه للقبيح مع ورود النهي عنه قبيحاً سفهاً موجباً لاستحقاق الذم والعقاب.
قال الخيالي:
قوله: (وينفرد كل منهما بما هو له) قيل فحينئذ لا شركة في مذهب الأستاذ مع أنه أقبح شركة من مذهب المعتزلة وليس بشيء لأن كلا من المؤثرين منفرد بما له من دخله في التأثير، على أن تأثير قدرة العبد في بعض الأمور بجعل الله تعالى وخلقه كذلك ليس أقبح من نفي دخل قدرة الله تعالى بالكلية ولا يجري في ملكه إلا ما شاء.
قال السيالكوتي:
قوله: (قيل عليه حينئذ لا شركة…إلخ) حاصله أن تفسير الشركة بما ذكر يقتضي أن لا تكون الشركة في مذهب الأستاذ لعدم انفراد كل من قدرة الله تعالى وقدرة العبد بمقدور بل مجموعهما، مؤثر في مقدور واحد مع أن مذهبه أقبح شركة من مذهب المعتزلة لأنه يدل على أن قدرته تعالى غير كاملة في الإيجاد بل هي ناقصة محتاجة إلى الإعانة بخلاف مذهب المعتزلة، فإنه لا يدل على النقصان بل على أنه لا يقدر على بعض أمور ولا نقصان في ذلك كما لا نقصان في عدم قدرته على الممتنعات.
قوله: (وليس بشيء…إلخ) أي ما ذكره ليس بشيء لأن كلًّا من المؤثرين أعني قدرة الله تعالى، وقدرة العبد ينفرد بما له من دخله في التأثير على أنا لا نسلم أنه أقبح شركة من المعتزلة لأن تأثير قدرة العبد في بعض الأمور بجعل الله تعالى وخلقه مؤثرًا فيها ليس أقبح من نفي دخل قدرة الله بالكلية، وجعل العبد خالقًا بالاستقلال والقياس على الممتنعات قياس مع الفارق.
قوله: (ولا يجري في ملكه…إلخ) قيل الواو للحال أقول: يجوز أن يكون معطوفًا على قوله: دخل قدرة الله بتقدير أن المصدرية وهو أدخل في الفهم ونظم المعنى كما لا يخفى.
والحسنُ منها برضاءِ الله تعالى، والقبيحُ منها ليسَ برضائِهِ تعالى.
قال الشارح: (والحسن منها) أي من أفعال العباد وهو ما يكون متعلق المدح في العاجل والثواب في الآجل، والأحسن أن يفسر بما لا يكون متعلقاً للذم والعقاب ليشمل المباح. (برضاء الله تعالى) أي بإرادته من غير اعتراض. (والقبيح منها) وهو ما يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل. (ليس برضائه) لما عليه من الاعتراض. قال الله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر)، يعني أن الإرادة والمشيئة والتقدير يتعلق بالكل، والرضا والمحرة والأمر لا يتعلق إلا بالحسن دون القبيح.