ورؤيةُ الله تعالى جَائزَةٌ في العقلِ.
قال الشارح: (ورؤية الله تعالى) بمعنى الانكشاف التام بالبصر، وهو معنى إدراك الشيء كما هو بحاسة البصر، وذلك أنا إذا نظرنا إلى البدر ثم غمضنا العين فلا خفاء في أنه وإن كان منكشفاً لدينا في الحالين لكن انكشافه حال النظر إليه أتم وأكمل، ولنا بالنسبة إليه حينئذ حالة مخصوصة هي المسماة بالرؤية. (جائزة في العقل) بمعنى أن العقل إذا خُلي ونفسه لم يحكم بامتناع رؤيته ما لم يقم له برهان على ذلك، مع أن الأصل عدمه، وهذا القدر ضروري، فمن ادعى الامتناع فعليه البيان. وقد استدل أهل الحق على إمكان الرؤية بوجهين: عقلي وسمعي.
قال الخيالي:
قوله: (بمعنى الانكشاف التام) يشير إلى أن الرؤية مصدر مبني للمفعول لأن الانكشاف صفة المرئي ومصدر المبني للفاعل صفة الرائي.
قوله: (بمعنى أن العقل إذا خلى…إلخ) هذا هو الإمكان الذهني وليس بمحل النزاع إذ الخصم قائل به.
قال السيالكوتي:
قوله: (يشير إلى أن الرؤية…إلخ) أي يشير بتفسير الرؤية بالانكشاف إلى أن الرؤية مصدر مبني للمفعول بمعنى كونه تعالى مرئيًّا لأن الانكشاف صفة المرئي والمصدر المبني للفاعل أي كون الشخص رائيًا صفة الرائي، وإنما حمل الشارح على الأول مع أن الثاني أيضًا محتمل لتبادره منه من غير تقدير شيء في العبارة ولأنه المتنازع فيه لأن الخصم إنما يرى المانع من جانب المرئي وإن كان كل منهما لازمًا للآخر، فعلى هذا يكون قوله: وإثبات الشيء أيضًا مصدرًا مبنيًّا للمفعول أي كون الشيء مثبتًا لكن قوله فيما بعد: ولنا بالنسبة إليه حالة مخصوصة هي المسماة بالرؤية يدل على أنه مصدر مبني للفاعل ويمكن أن يقال: تفسير الرؤية بالانكشاف تفسير باللازم، فلا حاجة إلى التأويل ويكن موافقًا لما في شرح المقاصد أن إذا عرفنا الشمس بحد أو رسم كان نوعًا من المعرفة ثم إذا أبصرنا وغمضنا كان نوعًا آخر من الإدراك فوق الأول ثم إذا فتحنا المعينتين كان نوعًا آخر من الإدراك فوق الأولين سميناه بالرؤية.
قوله: (هذا هو الإمكان الذهني…إلخ) يعني عدم الحكم بامتناعها بعد التخلية هو الإمكان المفسر بتجويز الذهن وفرضه مع عدم المانع الشامل للممتنع الذي يكون العلم بامتناعه كسبيًا إذ يصدق عليه أن العقل بعد التخلية وعدم ملاحظة الدليل لا يحكم بامتناعه، وهو ليس محل النزاع لأن الخصم قائل بإمكان الرؤية بهذا المعنى، فإنه يقول: إن العقل بعد التخلية لا يحكم بامتناع الرؤية لكن بعد ملاحظة الدليل من كونه تعالى مجردًا عن المكان الجهة، وعدم كونه جسمًا مكيفًا بالعوارض التي هي شرط الرؤية يحكم بامتناعه إنما النزاع في الإمكان الذاتي المقابل للامتناع المفسر بأن لا يكون الوجود والعدم مقتضى الذات فالصواب أن يقول: إن العقل إذا خلى ونفسه يحكم بعدم امتناع رؤيته، يمكن أن يقال: إن الإمكان الذهني كاف في هذا المقام، وإن غفل عنه السلف الكرام لأن العقل إذا لم يحكم بامتناعه بعد التخلية عملنا بالظواهر الدالة على الوقوع ما لم يقم دليل على امتناعه إذ لا يمكن صرف الظواهر ولا التوقف فيها بمجرد احتمال أن يظهر دليل عقلي على الامتناع إذ لو كفى مجرد جواز ذلك في الصرف والتوقف لوجب الصرف والتوقف في جميع الظواهر الواردة في الأحكام الشرعية إذ يجوز أن يظهر دليل عقلي على امتناعها، فعلم أن عدم حكم العقل بالامتناع بعد التخلية كاف لنا في العمل بالظواهر، ويؤيد ذلك أن القوم لم يتعرضوا لإثبات الإمكان الذاتي في سائر السمعيات كالسمع والبصر والكلام وعذاب القبر وغير ذلك، بل اكتفوا على أنها أمور ممكنة أخبر بها الصادق، ومن ادعى الامتناع فعليه البيان، ولعمري ما أحسن الشارح في اختصار مسلك الجواز.
قال الشارح: تقرير الأول: أنا قاطعون برؤية الأعيان والأعراض، ضرورة أنا نفرق بالبصر بين جسم وجسم وعرض وعرض، ولا بد للحكم المشترك من علة مشتركة، وهي إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان إذ لا رابع يشترك بينهما. والحدوث عبارة عن الوجود بعد العدم، والإمكان عن عدم ضرورة الوجود والعدم، ولا مدخل للعدم في العلية، فتعين الوجود وهو مشترك بين الصانع وغيره، فيصح أن يرى من حيث تحقق علة الصحة وهي الوجود، ويتوقف امتناعها على ثبوت كون شيء من خواص الممكن شرطاً أو من خواص الواجب مانعاً.
قال الخيالي:
قوله: (ضرورة أنا نفرق بالبصر) يرد عليه أنه إن أريد به الفرق برؤية البصر فمصادرة وأريد باستعمال البصر فلا يفيد؛ لأنا نفرق بالبصر بين الأعمى والأقطع، والتحقيق إن الفرق بمدخلية البصر لا يقتضي كون المفروق مبصرا.
قوله: (إذ لا رابع يشترك بينهما) يرد عليه أن التحيز المطلق ووجوب الوجود بالغير والمقابلة بل الأمور العامة كالماهية والمعلومية والمذكورية ونحوها أمور مشتركة بينهما، فإن قلت علية الأمور العامة تستلزم صحة رؤية الواجب فلا ضرر في النقض بها على أنها تقتضي صحة رؤية المعدومات مع استحالتها قطعيا قلت يجوز أن تشترط بشيء من خواص الموجود الممكن.
قوله: (و الإمكان عبارة عن عدم ضرورة الوجود…إلخ) وأيضا لو عللت بالإمكان لصح رؤية المعدوم الممكن هذا خلف وفيه نظر.
قوله: (و لا مدخل للعدم في العلية) لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم ولا ما هو مركب منه كذا في شرح المواقف، ويرد عليه أنه لا يمنع الشرطية فلا يتم المقصود.
قوله: ( يتوقف امتناعها) أي امتاع الرؤية فإن امتناع وجود الرؤية لفقد شرط أو وجود مانع لا يمنع الصحة المطلوبة.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أنه إن أريد…إلخ) أي إن أريد بالفرق بالبصر الفرق برؤية البصر بين جسم وجسم وعرض وعرض، فهو مصادرة بجعل المدعي جزءًا من الدليل إذ يصير الكلام هكذا إنا قاطعون برؤية الأعيان والأعراض لأنا نفرق بالرؤية بين جسم وجسم وعرض وعرض، وكلما كانا مفروقين برؤية البصر فهما مرئيان ولا يخفى فساده، وإن أريد به الفرق باستعمال البصر فهو لا يفيد في إثبات المقصود أعني كون الأعيان والأعراض مرئيين، فإنا نفرق باستعمال البصر بين الأعمى والأقطع مع عدم كونهما مرئيين لدخول العدم في مفهومهما لأنهما عباراتان عن عدم البصر وعدم اليد والتحقيق هو أن الفرق بتوسط استعمال البصر لا يستلزم كون المفروق مبصر الجواز أن يكون المبصر عوارضه وبتوسط ذلك الإدراك يفرق العقل بينه وبين أمر آخر، قيل: إن الضرورة قاضية بأن الرؤية لا تتعلق إلا بالموجود ولا اختصاص لها بشيء من الأعيان والأعراض، وبهذا القدر يحصل المطلوب، وفيه أن كون الحكم بعدم اختصاص الرؤية بشيء من الأعيان والأعراض ضروريًّا محل تأمل، كيف وقد ذهب كثير من العقلاء إلى أن المرئي هو الأعراض من الألوان أو الأضواء وغير ذلك على ما بين في محله.
قوله: (يرد عليه أن التحيز المطلق…إلخ) يعني أن الحصر ممنوع، إذ التحيز المطلق أعني كون الشيء شاغلًا للحيز سواء كان بالذات أو بالعرض والوجوب بالغير، وكونه مقابلًا للرائي بل الأمور العامة الشاملة كلها مشتركة بينهما، فيجوز أن يكون علة صحة الرؤية واحدًا منها، قال الفاضل المحشي في كون وجوب الوجود علة للرؤية لا يضر المعلل لأن فيه ثبوت المطلوب، وهو صحة رؤية الواجب لتحقق وجوب الوجود فيه، وأما كونه بالغير فهو أمر اعتباري محض، فلا يصلح علة لصحة الرؤية ومتعلقًا لها انتهى كلامه. وفيه أنا لا نسلم أن كونه بالغير أمر اعتباري، وعلى تقدير التسليم فيجوز أن يكون شرطًا لعلية الوجوب، وأجيب بما مر بأنا نعلم بالضرورة مدخلية الوجود في العلية، ولا يخفى أن هذا القدر لا يثبت العلية.
قوله: (فإن قلت علية الأمور…إلخ) هذا الجواب على تقدير تمامه إنما يدفع النقض بالأمور الشاملة للمفهومات بأسرها كالماهية والمعلومية لا المفهومات الشاملة للجوهر والعرض فقط كالمخلوقية والكثرة مثلًا، والجواب الحاسم لمادة الشبهة ما سيجيء من الشارح من أن المراد بالعلة متعلق الرؤية ولاشك أن شيئًا من الأمور العامة لا يصلح متعلقًا لها لكونها أمورًا اعتبارية غير موجودة في الخارج.
قوله: (قلت يجوز أن يشترط…إلخ) يعني يجوز أن يشترط علية واحد من تلك الأمور بشيء من خواص الممكن الموجود كالحدوث وتساوي طرفي الوجود والعدم إلى ذاته إلى غير ذلك، فلا يمكن تحقق ذلك الأمر من حيث كونه علة للرؤية في الواجب والمعدومات، ولا يلزم صحة رؤيتهما وبما حررنا لك ظهر فساد ما قال الفاضل المحشي: وأما قوله: فيجوز أن يشترط بشيء من خواص الموجود الممكن فمدفوع بما يذكره فيما بعد من أن امتناع وجود الرؤية بفقد شرط أو وجود مانع لا يمنع الصحة المطلوبة إذ لم يجعل شيء من خواص الموجود الممكن شرطًا لوجود الرؤية حتى يتم ما ذكره بل شرط لعلية ذلك الأمر، ولا شك أنه إذا كان شيء من تلك الخواص شرطًا للعلية لا يكون ذلك الأمر من حيث العلية متحققًا في الواجب، فلا يلزم صحة الرؤية.
قوله: (أيضًا لو عللت…إلخ) يعني لو كانت علة صحة الرؤية الإمكان لصح رؤية المعدوم الممكن لتحقق الإمكان فيه لكنه مخالف للضرورة.
قوله: (وفيه نظر…إلخ) نقل عنه وجه النظر أنه يجوز أن يشترط علية الإمكان بشيء من خواص الموجود كما أشير إليه آنفا.
قوله: (لأن التأثير صفة إثبات…إلخ) هذا الكلام من السيد الشريف مبني على ظاهر ما يفهم من عبارة المواقف من قوله: وهذه العلة لا بد أن تكون مشتركة وإلا لزم تعليل الواحد بالعلل المختلفة، وذلك غير جائز لما مر في مباحث العلل انتهى. وإلا فالعلة ههنا ليست بمعنى المؤثر بل بمعنى متعلق الرؤية كما سيجيء يعني أن العلة لا بد أن تكون مؤثرة، والتأثير صفة إثبات فثبوته فرع ثبوت المثبت له، فلا يتصف به العدم الصرف، ولا ما يتركب منه، ولو قيل: إن الرؤية لا تتعلق بالمعدوم لكان صحيحًا في نفسه لكن لا ينتظم بظاهر كلام الشارح.
قوله: (ويرد عليه أنه لا يمنع…إلخ) يعني أن الدليل المذكور إنما يدل على أنه لا يمكن أن يكون العدم نفس العلة الفاعلية أو جزأها، ولا يدل على أنه لا يمكن أن يكون نفس العدم شرطًا لها، فيجوز أن يكون الوجود بشرط الحدوث أو الإمكان علة للرؤية، فلا يثبت صحة رؤية الواجب، نقل عنه وأنت خبير بأن احتمال الشرطية لا يقتصر على العدم بل يجوز أن يناقش باحتمال أن يشترط عليه الوجود بكل ما يخص بالممكن انتهى. ومن هذا ظهر أن ما ذكره الفاضل المحشي في دفع هذا الإيراد من أنه قد صرح الشارح بأن المراد بالعلة متعلق الرؤية والقابل لها، ولا خفاء في لزوم كونه وجوديًّا، وهذا معنى ما ذكره في شرح المواقف، ويؤيده ما ذكر فيه أيضًا أن المراد بعلة صحة الرؤية ما يمكن أن يتعلق به الرؤية لا ما يؤثر في الصحة، واحتياج الصحة إلى العلة بمعنى المتعلق ضروري، ونعلم أيضًا بالضرورة أن متعلق الرؤية أمر موجود لأن المعدوم لا يصح رؤيته قطعًا انتهى. كلامه لا يدفع الإيراد المذكور، إذ يجوز أن يكون أمر موجود من خواص الممكن شرطًا للوجود على أن حمل العلة ههنا على المتعلق مما يخل بنظم الكلام على ما مرّ في الحاشية السابقة.
قوله: (فإن امتناع وجود الرؤية…إلخ) يعني امتناع الرؤية موقوف على ثبوت كون الشيء من خواص الممكن شرطًا أو من خواص الواجب مانعًا وهو لم يثبت، وعلى تقدير ثبوته لا يضر، فإن امتناع وجود الرؤية لفقد شرط أو تحقق مانع لا يمنع الصحة المطلوبة أعني الصحة بحسب الذات مع قطع النظر عن الأمور الخارجية.
قال الشارح: وكذا يصح أن يرى سائر الموجودات من الأصوات والطعوم والروائح وغير ذلك، وإنما لا يرى بناء على أنه الله تعالى لم يخلق في العبد رؤيتها بطريق جري العادة، لا بناء على امتناع رؤيتها.وحين اعترض بأن الصحة عدمية فلا تستدعي علة، ولو سلم فالواحد النوعي قد يعلل بالمختلفات كالحرارة بالشمس والنار، فلا يستدعي علية مشتركة، ولو سلم فالعدمي يصلح علة للعدمي، ولو سلم فلا نسلم اشتراك الوجود، بل وجود كل شيء عينه. أجيب: بأن المراد بالعلة متعلق الرؤية والقابل لها، ولا خفاء في لزوم كونه وجودياً، ثم لا يجوز أن يكون خصوصية الجسم أو العرض، لأنا أول ما نرى شبحاً من بعيد إنما ندرك منه هوية ما دون خصوصية جوهريته أو عرضيته أو إنسانيته أو فرسيته ونحو ذلك، وبعد رؤيته برؤية واحدة متعلقة بهويته قد نقدر على تفصيله إلى ما فيه من الجواهر والأعراض، وقد لا نقدر، فمتعلق الرؤية هو كون الشيء له هوية ما، وهو المعنى بالوجود، واشتراكه ضروري. وفيه نظر، لجواز أن يكون متعلق الرؤية هو الجسمية وما يتبعها من الأعراض من غير اعتبار خصوصيته.
قال الخيالي:
قوله: (ثم لا يجوز أن تكون خصوصية لجسم…إلخ) جواب لقوله الواحد النوعي قد يعلل إلخ ويرد عليه أن حاصل هذا الكلام هو أن متعلق الرؤية أمر مشترك في الواقع وهذا لا يدفع الاعتراض عن الطريق المذكور ويستلزم استدراك التعرض لرؤية الجواهر والعرض ولاشتراك الصحة بينهما ولاستلزام الاشتراك في المعلول الاشتراك في العلة إذ يكفي أن يقال إذا رأينا زيدا لا ندرك منه إلا هوية ما وهي أمر مشترك بين الواجب والممكن.
قوله: (إنما تدرك منه هوية ما) رد بأن مفهوم الهوية المطلقة أمر اعتباري فكيف يتعلق بها الرؤية بل المرئي خصوصيته الموجود فلعل تلك الخصوصية لها مدخل في تعلق الرؤية، ثم اعلم أن هذا الدليل منقوض بصحة الملموسية على ما لا يخفي.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أن حاصل…إلخ) يعني أن حاصل هذا الكلام هو أن متعلق الرؤية مشترك بين الجوهر والعرض بحسب الواقع، فإن خلاصته أن متعلق الرؤية وجودي وليست في صورة رؤية الشبح من بعيد خصوصية الجوهر والعرض بل الوجود المطلق، وهذا الكلام لا يدفع الاعتراض المذكور بقوله: فالواحد النوعي إلخ عن الطريق المذكور بقوله: إنا قاطعون برؤية الأعيان إلخ إذ خلاصته أنا لا نسلم أنه لا بد للحكم المشترك من علة مشتركة، لم لا يجوز أن يكون ذلك الحكم واحدًا نوعيًّا فيعلل بالمختلفات فلا يستدعي علة مشتركة، ودفعه إنما يكون بإثبات المقدمة الممنوعة وهي أنه لا بد للحكم المشترك من علة مشتركة، والكلام المذكور لايثبته، فإنه إنما يدل على أن علته أمر مشترك في الواقع لأنه لا بد أن يكون مشتركًا، وأجيب بأن هذا جواب بتغيير الدليل وهو شائع فيما بينهم وليس بتحرير للطريق المذكور بحيث يندفع عنه الاعتراضات حتى يرد ما ذكره المحشي، وفيه بحث إذ قوله بأن المراد بالعلة متعلق الرؤية والقابل لها ولا خفاء في كونه وجوديًّا يدل دلالة جلية على أن الجواب تحرير للطريق السابق بحيث يندفع عنه الاعتراضات.
قوله: (يستلزم استدراك…إلخ) عطف على قوله: لايدفع يعني أن هذا الكلام يستلزم استدراك التعرض لأمور لرؤية الجوهر والعرض ولاشتراك الصحة بينهما ولاستلزام الاشتراك في العلة الاشتراك في المعلول، إذ يكفي أن يقال: إذا رأينا زيدًا لا ندرك منه إلا هوية ما وكونه موجودًا من الموجودات، ولذا قد لا نقدر على تفصيل ما فيه من الجواهر والأعراض، فعلم أن متعلق الرؤية أولًا ويالذات هو الهوية المطلقة، وهي مشتركة بين الواجب والممكن فيصح أن يرى، ولاحاجة إلى المقدمات المذكورة كما لا يخفى، هذا خلاصة كلام المحشي، وللفاضل المحشي ههنا كلام لا طائل تحته كما يظهر بأدنى تأمل.
قوله: (رد بأن مفهوم الهوية…إلخ) هذا الرد ذكره السيد السند في شرح المواقف، وحاصله أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين الهويات أمر اعتباري كمفهوم الحقيقة والماهية، فلا يصح أن يكون متعلقًا للرؤية وإلا لزم صحة رؤية المعدومات بل المرئي من الشبح البعيد هو الخصوصية الموجودة فيه إلا أن إدراكها إجمالي لا يتمكن به على تفصيلها، فإن مراتب الإجمالي متفاوتة قوة وضعفًا، فليس كل إجمال وسيلة إلى تفصيل، ألا يرى أن قولنا: كل شيء فهو كذا فلعل لتلك الخصوصية مدخل في الرؤية فلا يصح رؤية الواجب.
قوله: (ثم اعلم أن هذا الدليل…إلخ) يعني أن الدليل المذكور لإثبات صحة رؤية الواجب منقوض لصحة الملموسية، فإن الدليل المذكور بعينه جار فيها مع امتناع كون الواجب ملموسًا، وتقريره أن الملموسية مشتركة بين الجوهر والعرض لأنا نفرق باللمس بين جسم وجسم، فإنا نميز الطويل من العريض والطويل من الأطول، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم لما تقرر أن الجسم مركب من الجواهر الفردة فلمس الطول والعرض هو لمس الجواهر التي تركب منها الجسم، وكذا تفرق باللمس بين عرض وعرض، فإنا نميز الرطب عن اليابس والخشن عن الأملس فالملموسية مشتركة بين الجوهر والعرض، ولا بد للحكم المشترك من علة قابلة مشتركة، وهي ليست إلا الوجود، وبما حررنا لك ظهر ضعف ما قال الفاضل المحشي يمكن أن يقال: إن صحة الملموسية مختصة بالأعراض، فلا نقض بصحة الملموسية لعدم جريان الدليل فيها لأن الدليل الذي أورد على رؤية الأعيان جار بعينه في ملموسية الأعيان بلا تفاوت على ماحررنا، فإن تم تم في الموضعين وإلا فلا، أجاب عنه بعض الفضلاء بأنا نلتزم صحة ملموسية الواجب، فإن ما تقرر من الشيخ الأشعري من أنه يجوز أن يدرك بكل حاسة ما يدرك بالحاسة الأخرى يفيد استلزام صحة الإبصار صحة اللمس إلا أنه لم يرد النقل باللمس لم يلتفت إلى البحث عن صحته، وأنت خبير بأن ما ذكره يقتضي صحة المذوقية والمشمومية والمسموعية وهو سفسطة لا يقبلها الطبع السليم، ولذا قال في شرح المقاصد: وأما النقض بصحة الملموسية فقوي والإنصاف أن ضعف هذا الدليل جلي.
قال الشارح: وتقرير الثاني: أن موسى عليه السلام قد سأل الرؤية بقوله: ﱡﭐ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨﱠ ، فلو لم تكن الرؤية ممكنة لكان طلبها جهلاً بما يجوز في ذات الله تعالى وما لا يجوز أو سفهاً وعبثاً وطلباً للمحال، والأنبياء منزهون عن ذلك. وأن الله قد علق الرؤية باستقرار الجبل وهو أمر ممكن في نفسه، والمعلق بالممكن ممكن، لأن معناه الإخبار بثبوت المعلق عند ثبوت المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.
قال الخيالي:
قوله: (والمعلق بالممكن ممكن) يرد عليه أنه يصح أن يقال إن انعدم المعلول انعدم العلة والعلة قد يمتنع عدمها والسر فيه أن الارتباط بحسب الوقوع لا الإمكان.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أنه يصح أن يقال…إلخ) يعني أنا لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن فإنه يصح أن يقال إن انعدم المعلول انعدم العلة، والعلة قد تكون ممتنع العدم مع إمكان عدم المعلول في نفسه كالصفات بالنسبة إلى الذات والعقل الأول بالنسبة إليه عند الحكماء، فيجوز أن تكون الرؤية الممتنعة معلقًا بالاستقرار الممكن والسر في جواز تعليق الممتنع بالممكن أن الارتباط بين المعلق والمعلق عليه إنما هو بحسب الوقوع بمعنى أنه إن وقع عدم المعلول وقع عدم العلة والممكن الذاتي قد يكون ممتنع الوقوع كالممتنع الذاتي فيجوز التعلق بينهما بحسب الوقوع، وليس الارتباط بينهما بحسب الإمكان حتى يلزم من إمكان المعلق عليه إمكان المعلق، أجيب بأن المراد بالممكن المعلق عليه الممكن الصرف الخالي عن الامتناع مطلقًا، ولا شك أن إمكان عدم المعلول المعلق عليه فيما امتنع عدم علته ليس كذلك، بل التعليق بينهما هو بحسب الامتناع بالغير، فإن استلزام عدم الصفات وعدم العقل الأول عدم الواجب من حيث إن وجود كل منهما واجب وعدمه ممتنع بوجود الواجب، وأما بالنظر إلى ذاته تعالى مع قطع النظر عن الأمور الخارجية، فلا استلزام بخلاف استقرار الجبل فإنه ممكن صرف غير ممتنع لا بالذات ولا بالعرض، وأما الرد بأن المعلق عليه استقرار الجبل بعد النظر بدليل الفاء وحين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم استقراره عقيب النظر استحال استقراره، وإن كان بالغير فليس بشيء لأن استقرار الجبل حين تعلقت إرادته تعالى بعدم استقراره أيضًا ممكن بأن يقع بدله الاستقرار وإنما المحال استقراره مع تعلق إرادته بعدم الاستقرار كما يفصح عنه بيان الشارح، قال الفاضل المحشي: والحق أن التركيب المذكور لايصح في اللغة، بل الصحيح أن يقال: إن انعدم العلة انعدم المعلول وليس بشيء إذ لا شك في صحة قولنا: إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم مع أنه قد يكون الملزوم ممتنع الانتفاء، قيل: إن سلمنا أن الارتباط بينهما بحسب الوقوع لكنه إذا فرض وقوع الشرط الذي هو ممكن في نفسه، فأما أن يقع المشروط فيكون أيضًا ممكنًا وإلا فلا معنى للتعليق وإيراد الشرط والمشروط، وفيه بحث إذ الارتباط والتعليق بحسب الوقوع في نفس الأمر لا الفرض، فيجوز أن يفرض وقوع الشرط مع عدم وقوع المشروط فتأمل.
قال الشارح: وقد اعترض عليه بوجوه، أقواها: أن سؤال موسى عليه السلام كان لأجل قومه حيث قالوا: ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﱠ فسأل ليعلموا امتناعها كما علمه هو، وبأنا لا نسلم أن المعلق عليه ممكن، بل هو استقرار الجبل حال تحركه وهو محال. وأجيب: بأن كلا من ذلك خلاف الظاهر، ولا ضرورة في ارتكابه، على أن القوم إن كانوا مؤمنين كفاهم قول موسى عليه السلام أن الرؤية ممتنعة، وإن كانوا كفاراً لم يصدقوه في حكم الله تعالى بالامتناع، وأيا ما كان يكون السؤال عبثاً. والاستقرار حال التحرك أيضاً ممكن، بأن يقع السكون بدل الحركة، وإنما المحال اجتماع الحركة والسكون.
قال الخيالي:
قوله: (وقد اعترض عليه بوجوه) منها أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، وأجيب بأن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية فلا يترك بالاحتمال مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول كذا في شرح المواقف، ويرد عليه أن المراد هو العلم بهويته الخاصة والخطاب لا يقتضى إلا العلم بوجه ما كمن يخاطبنا من وراء الجدار.
قوله: (إن كانوا مؤمنين) روي أن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلا من خيار المؤمنين للاعتذار عن عبدة العجل وهم الذين طلبوا الرؤية وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فعلم أنهم ارتدوا أو كفروا من من بعد ما آمنوا فلا إشكال أصلا.
قال السيالكوتي:
قوله: (منها أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري…إلخ) يعني أن الرؤية في أرني مجاز عن العلم الضروري أي ما يكون حاصلًا بلا نظر وفكر بطريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم، وذلك شائع فمعنى ﱡﭐ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨﱠ اجعلني عالمًا بك علمًا ضروريًّا، وهذا تأويل الجاحظ ومن تبعه.
قوله: (وأجيب بأن النظر…إلخ) يعني لو كانت الرؤية بمعنى العلم الضروري لكان النظر المذكور بعده أيضًا بمعناه وليس كذلك، فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية لا يحتمل سواه، فلا يترك بالاحتمال.
قوله: (مع أن طلب العلم…إلخ) علاوة أي على أن طلب العلم الضروري يدل على أن موسى عليه السلام لم يكن عالمًا بربه ضرورة مع أنه يخاطبه، وذلك غير معقول لأن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد وما هو معلوم بالنظر، ليس كذلك كذا في شرح المواقف.
قوله: (ويرد عليه أن المراد…إلخ) أي يرد على العلاوة أن المراد بأرني هو العلم بهويته تعالى الخاصة به، والخطاب لا يقتضي العلم بالهوية الخاصة بل العلم بوجه كلي، فإن من يخاطبنا من وراء الجدار إنما نعلمه بوجه كلي لا بهويته الخاصة، قيل إن أريد بالعلم بهويته الخاصة انكشاف هويته تعالى عند موسى عليه السلام انكشاف المشاهدة فهو الرؤية بعينها وإن أريد وقوع نوع آخر من الانكشاف، فلا بد من تصويره وبيان إمكانه في حقه تعالى ولزومه لرؤيته وعدم لزومه لخطابه حتى يتم كلام المؤول أقول المراد بالعلم بهويته الخاصة هو انكشاف هويته على وجه جزئي بحيث لا يمكن عند العقل صدقه على كثيرين كما في المرئي بحاسة البصر، ولا شك في كونه ممكنًا في حقه تعالى لأنه قادر على أن يخلق في العبد علمًا ضروريًّا بهويته الخاصة على الوجه الجزئي بدون استعمال الباصرة كما يخلق بعده وفي عدم لزومه للخطاب، فإن الخطاب إنما يقتضي العلم بالمخاطب بأمور كلية يمكن صدقها على كثيرين عند العقل وإن كانت في الخارج منحصرة في شخص واحد فهو من قبيل التعقل، وبما قلنا ظهر فساد ما قال الفاضل الجلبي: إن أريد العلم بهويته الخاصة على الوجه الإجمالي فهو حاصل في الخطاب أيضًا، وإن أريد من حيث الخصوصية فهو لا يتصور إلا بطريق الإحساس لأنا لا نسلم أنه لا يتصور بدون الإحساس إذ ليس للحواس مدخل في العلم بل هو بمحض خلق الله تعالى على القاعدة المختارة من الشيخ الأشعري، فيجوز أن يخلق ذلك العلم الجزئي في النفس الناطقة بدون الإحساس كما لا يخفى.
قوله: (روي أن موسى عليه السلام اختار…إلخ) روي أنه تعالى أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان، فقال: ليتخلف منكم رجلان فتشاحنوا، فقال: إن لمن قعد أجر من خرج فقعد كالب ويوشع عليهما السلام وذهب مع الباقين، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام، فدخل موسى عليه السلام الغمام وخروا سجدًا فسمعوه تعالى يكلم موسى عليه السلام يأمره وينهاه ثم انكشف الغمام فأقبلوا عليه وقالوا ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﱠ كذا في أنوار التنزيل.
قوله: (فعلم أنهم ارتدوا…إلخ) أي فعلم من هذه الرواية أن هؤلاء السبعين الحاضرين مع موسى عليه السلام ارتدوا وكفروا بعد ما كانوا من أخيار المؤمنين، فلا يرد الإشكال الذي أورده الشارح أصلًا لأنا نختار أنهم كانوا كافرين ولا نسلم توقف علمهم بامتناع الرؤية على أن يصدقوه في حكم الله تعالى بأن تراني لأنهم كانوا حاضرين في وقت السؤال سامعين للجواب الصادر من جانب قدسه تعالى بلن تراني كما سمعوا الأوامر والنواهي حين السجدة وغشي الغمام، نعم يتوقف على تصديقه عليه السلام لو كان القائلون بلن نؤمن لك الكفار الذين لم يحضروا وقت السؤال، ولم يسمعوا الجواب على ما في شرح المواقف وما قيل: إن السبعين وإن سمعوا الجواب لكن موسى عليه الصلاة والسلام هو المخبر بأن المسموع كلام الله تعالى فيتوقف على تصديقه، ففيه أنا لا نسلم أن كون المسموع ظاهرًا كلام الله تعالى موقوف على إخبار موسى عليه السلام، فإن فيه علامات وقرائن دالة على أنه ليس من جنس كلام البشر لعدم الترتيب والاستماع من جانب واحد مثلًا هذا ماسنح بخاطر العليل وذهني الكليل في وجه حل الإشكال الجليل، وللفضلاء في توجيهه مقالات كأنها تعسفات تركناها مخافة التطويل.
واجبةٌ بالنقلِ، وقد وردَ الدليلُ السَّمعيُّ بإيجاب رؤيةِ المؤمنينَ لله تعالى في دارِ الآخرةِ. فيُرى لا في مكانٍ، ولا على جهةٍ من مُقابلةٍ أو اتصالِ شُعاعٍ أو ثبوتِ مسافةٍ بين الرائي وبينَ الله تعالى.
قال الشارح: (واجبة بالنقل، وَرَدَ الدليل السمعي بإيجاب رؤية المؤمنين الله تعالى في دار الآخرة) أما الكتاب فقوله تعالى: ﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱠ. وأما السنة فقوله عليه السلام: “إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر” وهو مشهور رواه أحد وعشرون من أكابر الصحابة رضي الله عنهم. وأما الإجماع فهو أن الأمة كانوا مجتمعين على وقوع الرؤية في الآخرة، وأن الآيات الواردة في ذلك محمولة على ظواهرها، ثم ظهرت مقالة المخالفين وشاعت شبههم وتأويلاتهم. وأقوى شبههم من العقليات: أن الرؤية مشروطة بأن المرئي في مكان وجهة ومقابلة من الرائي وثبوت مسافة بينهما بحث لا يكون في غاية القرب ولا في غاية البعد واتصال شعاع من الباصرة بالمرئي، وكل ذلك محال في حق الله تعالى. والجواب: منع هذا الاشتراط، وإليه أشار بقوله: (فيرى لا في مكان ولا على جهة من مقابلة ولا اتصال شعاع ولا ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى) وقياس الغائب على الشاهد فاسد. وقد يستدل على عدم الاشتراط برؤية الله تعالى إيانا، وفيه نظر، لأن الكلام في الرؤية بحاسة البصر.
قال الخيالي:
قوله: (والجواب منع هذا الاشتراط) للمعتزلة أن يقولوا نزاعنا إنما هو في هذا النوع من الرؤية لا في الرؤية المخالفة له بالحقيقة المسماة عندكم بالرؤية والانكشاف التام وعندنا بالعلم الضروري كذا في شرح المقاصد.
قال السيالكوتي:
قوله: (للمعتزلة أن يقولوا…إلخ) يعني للمعتزلة أن يقولوا: نزاعنا إنما هو في هذا النوع من الرؤية التي يخلقها الله تعالى في الدنيا في الحيوانات، هل يجوز أن يتعلق بذاته تعالى هذا النوع من الرؤية وينكشف عنده كالمبصرات الجسمانية أو لا يجوز؟ فعندنا أنه لا يجوز ذلك ولا نزاع لنا معكم في هذا النوع الأخير من الرؤية المخالفة له في الحقيقة والماهية واللوازم والشرائط المسماة عندكم بالانكشاف التام، وعندنا بالعلم الضروري كذا في شرح المقاصد، أقول: الحكم بعدم نزاعهم في هذا النوع من الانكشاف إنما يصح لو جوزوا أن يحصل الانكشاف التام البصري بدون الشروط المذكورة لكن الظاهر من مذهبهم عدم جواز ذلك، حيث قالوا: الإدراك البصري مشروط بالشروط، فالنزاع إذن معنوي لأن العلم الضروري عندهم هو العلم بهويته الخاصة بدون توسط الإبصار، وعندنا الرؤية هو الإدراك بالبصر بدون الشروط المذكورة وهم ينكرونه لتوقفه عندهم على الشروط المذكورة، والحاصل أنهم معترفون بالانكشاف التام العقلي، ونحن إنما نثبت الانكشاف التام الحسي، وهم ينكرونه فالتحاكم المذكور هو تحاكم من غير تراضي الخصمين.
قال الشارح: فإن قيل: لو كان جائز الرؤية والحاسة سليمة وسائر الشرائط موجودة لوجب أن يرى، وإلا لجاز أن كون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها، وإنها سفسطة. قلنا: ممنوع، فإن الرؤية عندنا بخلق الله تعالى، فلا تجب عند اجتماع الشرائط. ومن السمعيات قوله تعالى: ﱡﭐ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚﱠ. والجواب بعد تسليم كون الأبصار للاستغراق وإفادته عموم السلب لا سلب العموم وكون الإدراك هو الرؤية مطلقاً لا الرؤية على وجه الإحاطة بجوانب المرئي: أنه لا دلالة فيه على عموم الأوقات والأحوال. وقد يستدل بالآية على جواز الرؤية، إذ لو امتنعت لما حصل التمدح بنفيها، كالمعدوم لا يمدح بعدم رؤيته لامتناعها، وإنما التمدح في أنه تمكن رؤيته ولا يرى للتمنع والتعزز بحجاب الكبرياء. وإن جعلنا الإدراك عبارة عن الرؤية على وجه الإحاطة بالجوانب والحدود فدلالة الآية على جواز الرؤية بل تحققها أظهر، لأن المعنى أن الله تعالى مع كونه مرئياً لا يدرك بالأبصار لتعاليه عن التناهي والاتصاف بالحدود والجوانب. ومنها أن الآيات الواردة في سؤال الرؤية مقرونة بالاستعظام والاستنكار. والجواب: أن ذلك لتعنتهم وعنادهم في طلبها، لا لامتناعها، وإلا لمنعهم موسى عليه السلام عن ذلك، كما فعل حين سألوا أن يجعل لهم آلهة، فقال: ﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﱠ وهذا مشعر بإمكان الرؤية في الدنيا، ولهذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج أم لا؟ والاختلاف في الوقوع دليل الإمكان. أما الرؤية في المنام فقد حكيت عن كثير من السلف، ولا خفاء في أنها نوع مشاهدة تكون بالقلب دون العين.
قال الخيالي:
قوله: (كالمعدوم لا يمدح…إلخ) يرد عليه أن عدم مدح المعدوم لاشتماله على معدن كل نقص؛ أعني: العدم كما أن الأصوات والروايح لا تمدح مع إمكان رؤيتها؛ لكونها مقرونة بسمات النقص والحق أن امتناع الشيء لا يمنع التمدح بنفيه إذ قد ورد التمدح بنفي الشريك واتخاذ الولد في
القرآن مع امتناعهما في حقه تعالى.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أن عدم المدح…إلخ) يعني أنا لا نسلم الشرطية المذكورة بقوله: لو امتنعت الرؤية لما حصل التمدن بنفيها فإن ما عدمه صفة مدح يحتمل أن يكون في صورة الامتناع أقوى في المدح وعدم تمدح المعدوم بعدم الرؤية، لا نسلم أنه لامتناعها بل لاشتمالها على العدم الذي هو معدن كل نقص فيجوز أن يكون هذا النفي أيضًا من صفات نقصه، ألا يرى أن الأصوات والروائح يمكن رؤيتهما مع أنه لا يفيد نفيها عنهما التمدح لكونهما مقرونين بعلامات النقص من الحدوث والإمكان والتجدد والسر في ذلك أن الموصوف إذا كان كاملًا من جميع الوجوه يكون كل ما نفى عنه من صفات النقص وإلا لم يكن كاملًا من جميع الوجوه فيفيد ذلك النفي التمدح بخلاف ما إذا كان ناقصًا، فإنه يجوز أن يكون المنفي صفة الكمال نفي عنه كما نفى صفات أخر من صفات الكمال، ويكون هذا أيضًا من سمات نقصه فلا يفيد التمدح.
قوله: (والحق…إلخ) أي الحق امتناع الشيء لا يمنع التمدح بنفيه إذا كان من صفات النقص بل الامتناع يدل على كمال المدح، فإنه إذا كان المنفي من صفات النقص، فكلما كان النفي أقوى كان التمدح، ألا يرى أنه قد ورد التمدح ينفي الشريك والولد في القرآن العظيم مع امتناعهما في حقه تعالى.