قال التفتازاني، رحمه الله تعالى، في شرحه على النسفية: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المتوحد بجلال ذاته وكمال صفاته، المتقدس في نعوت الجبروت عن شوائب النقص وسماته. والصلاة على نبيه محمد المؤيد بساطع حججه وواضح بيناته، وعلى آله وأصحابه هداة طريق الحق وحماته.
قال الخيالي:
أما بعد، الحمد الله لمستأهله، والصلاة على سيد رسله، وآله وصحبه موضحي سبله، فدونك أيها الساري هذا النبراس، كتاب فيه نور وهدى للناس، يرشدك إلى المكامن الخفية، من شرح العقائد النسفية، أمليته أوان الدعة، والاستراحة عن فتور المطالعة، سالكا فيه جادة الإيجاز، من غير تعمية وإِلغاز، وحين ما حمت حول لجينه، ورمت تزيين شينه وسينه،ألحقته إلى خزانة من لا مثل له في العلى، وله المثل الأعلى، الصاحب الأعظم، والدستورالمعظّم بابه كعبة الحاجات، يطوى إليه كل فجّ عميق، ويستقبله وجوه الآ مال من كل بلد سحيق، باهت تيجان الوزارة بِهامته، وحلل الإمارة بقامته، وليّ الأيادي والنعم، ومربي أهل الفضل والحكم، آخذ أيدي العلماء والعلوم، ورافع أَلوية الشرع المرسوم، حائز المآثر والمفاخر، وحاوِي الرياسات الأول بالأواخر، أول مدارج طبعه النقاد، آخر مقامات نوع الإنسان، وآخر معارج ذهنه الوقاد، خارج عن طوق البشر بل عن حدِّ الإمكان.
لو لم يدلَ الوهمَ صيتُ جلاله ** ما خيل طيف خيال سامي حاله
ناظورة الديوان آصف عصرهِ ** وَهْوَ الوزيرُ الفرد في إقبالهِ
محمودُ أهل الفضل طرّاً كاسمه ** وكفى به برهانَ حسنِ خصالهِ
بكمالهِ في الأوج بدرٌ كامل ** بحرٌ محيطٌ زاخرٌ بنوالهِ
في كل علم عالم متبحّر ** في فنّ حلم عالم بحياله
سحبان عيٌّ في فصاحة لفظه** معن بليغ البخل في إفضاله
الصائب الأفكار في تدبيره** الثاقب الآراء في أقواله
للناس يبذل ليس يمسك لفظه** فكأنما أَلفاظه من ماله
تتزاحم الأنوار في وجناته **فكأنه متبرقع بفعاله
وهو الذي عمَّ إنعامه وفشا، الوزير الكبير محمود ﭘاشا، أوضح الله غرة العزة بضيائه، ورفع علم العلم بإعلائه، ولا زال مورد إفضاله ماء مدين المآرب، يوجد عليه أمةٌ من الناس يسقونه المطالب، فإن رفعه إلى سماك القبول، فقد سعد كوكب الأمل في برج شرف الحصول، والله ولي العناية، وكفى به وكيلا.
قال الشارح النحرير عامله الله تعالى بلطفه الخطير بعد ما تيمّن بالبسملة (الحمد لله) أقول: في تعقيب التسمية بالتحميد اقتداء بأسلوب الكتاب المجيد وعمل بما شاع، بل وقع عليه الإجماع، وامتثال لحديثى الابتداء، وما يتوهم من تعارضهما مدفوع إمّا بحمل الابتداء على العرفي الممتد، أو بحمل أحدهما على الحقيقي والآخر على الإضافي كما هو المشهور، ولك أن تجعل الباء في الحديثين للاستعانة، ولا شك أنالاستعانة بشيء لا ينافي الاستعانة بآخر، أو للملابسة، ولا يخفي أن الملابسة تعم وقوع الابتداء بالشيء على وجه الجزئية، وبذكره قبل الابتداء بلا فصل، فيجوز أن يجعل أحدهما جزأ ويذكر الآخر قبله بدون فصل فيكون آن الابتداء آن التلبس بهما.
قوله: (المتوحد بجلال ذاته) الظاهر أن الباء صلة المتوحد، يقال: توحَّد برأيه، أي: تفرد به واستقل، فمعنى التوحد بجلال الذات: عدم شركة الغير في جلال الذات أو الذات الجليلة على نهج حصول الصورة، ويحتمل أن تكون للملابسة، فحينئذ صيغة التفعّل إمّا للصيرورة بدون صنع، كقولهم: تحجر الطين؛ أي: صار حجرا بلا عمل ومدخل من الغير، ومنه التكوّن والتوّلد، وإما للتكلف ولما استحال في شأنه تعالى يحمل على الكمال كما قيل في المتكبّر ونحوه، فمعنى التوحد بجلال الذات: الاتصاف بالوحدة الذاتية أو الكاملة مع ملابسة جلال الذات.
قوله: (بساطع حججه) الأولى كون الضمير لله تعالى؛ ليفيد أن آية نبينا أعظم من آيات سائر الأنبياء، ويجوز أن يكون لمحمد فساطع حججه من قبيل إخلاق ثياب.
قال السيالكوتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، يا من تقدست ذاته عن إحاطة الأفكار، وتنزهت صفاته عن إدراك الأنظار، نحمدك حمداً نضرت في رياض القدس زهراته، وانتشرت في محافل الأنس نفحاته، ونصلي على من ولّى فوق ما يسعه الأفهام، وأولى ما لا يحيط به الأوهام، وعلى آله الذين هم كسفينة نوح عليه الصلاة والسلام، من ركبها نجا، وأصحابه الذين هم كالنجوم من اقتدى بهم اهتدى، وبعد… فيقول العبد المسكين عبد الحكيم بن شمس الدين: إنّ شرح العقائد النسفية للملك القمقام، والقرم الهمام، العالم الرباني، سعد الملة والدين التفتازاني؛ لكونه خير منتجب ومنتخب، قد اشتهر بين الفحول وتناولته أيدي القبول، فأماطوا عنه الغواشي، وكتبوا عليه الحواشي، ثم إن منها ماعلقه الفاضل المحقق الألمعي المدقق للطف معانيه وحسن مبانيه قد امتدت عليه أعناق الخواطر، وسهرت لأجله أعين الدياجر لكن ما أتوا بما يروي الغليل أو يشفي العليل؛ لما أن أبكاره آبية عن خطبة كل عازب، ومخدراته محتجبة لا تنجلي لكل طالب، فصرفت برهة من عنفوان الشباب في حل مبانيه، وانتهبت فرصة عن أعين الزمان لتحقيق معانيه، فقيدت أوابده، وآنست شوارده، وحققت مقاصده، وبينت مصادره وموارده، آخذاً بضبع القاصرين، ومجيباً عن شبهة الناظرين، فجاء بحمد الله تعالى موافقاً للمأمول، وتم بعونه مطابقاً للمسؤول، ثم ألحقته بخزانة من تقلد بأياديه كواهل الإحسان، وأزال بكرمه الضنة عن الزمان عمر رباع الخافقين بحسن معدلته، وشمِلَ شمل الخلائق بلطف سلطته، وهو النير الأعظم المرتقي في مدارج السعادة، والسعد الأكبر المسعود بتاج الخلافة مالك رقاب الملوك، الجامع بين السلطنة والسلوك مؤسس مقاصد الفضل والعلم، ومرصص قواعد الجود والحلم، مجاهد الكفرة وأهل العناد في الله تعالى حق الجهاد، وجاعلهم جزر السباع في البوادي والوهاد، مرجومين بقذف النبال و الرماح الهواطل، هتف الهاتف: وقل جاء الحق وزهق الباطل، مربي العلماء والصلحاء، حامي الملة الغراء، والمؤيد بجنود من عند الله الإله، المجازي أبو المظفر شهاب الدين “شاه جهان بادشاه” فهو الذي يتولاه روحانية سيد المرسلين بالتربية والتكميل بغير الوسائط، لما فيه من صفاء السر من التعطيل والتبطيل الذي هو أجل الروابط، فله الرعاية الكبرى من حضرته، والعناية الوفرى من دولته، ولقد تأسى بهديه في جميع الأحوال حتى نودي من وراء سرادقات الجلال: ما أوتي أحد مثل ما أوتيت، عطاء من ربك بما أوتيت، فهو الملك المولى القائم على القلب المجتهدي، والأوحدي المستعد بترويح الدين الأحمدي، من التجأ إلى جنابه فقد حاز شرفاً عليا، ومن صدف عنه لم يجد نصيراً ولا وليا، لازالت عتبته ملتزم الآكابرة، وسدته مستلم شفاه الجبابرة، اللهم يا لطيفا بالعباد، ويا رؤوفا يوم التناد، ارزقه الاستقامة والسداد.
قوله: (الحمد لمستأهله) أي: لمستوجبه في “الصحاح”، تقول فلان أهل لكذا ولاتقول مستأهل، والعامة تقوله، لكن في “القاموس”: استأهله: استوجبه، لغة جديدة، وإنكار الجوهري باطل، وقال القاضي في تفسير الفاتحة: “لا يستأهل لأن يحمد…إلخ.” فإن قلت أسماء الله تعالى توقيفية، ولم يرد المستأهل في أسماء الله تعالى، قلت: أراد به المعنى الوصفي العام ذهاباً إلى انحصاره في ذاته لا ذاته المخصوصة كما عبر عن ذاته بما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱛ ﱜ ﱝ ﱠ قصداً إلى الوصف، أي: شيء اتصف بالبناء دون ذاته المخصوصة، أو اعتبر ورود أحد المترادفين مورد الآخر، وقد ورد في الحديث:”أهل النعمة والفضل والثناء الحسن” أو اختار مذهب القاضي من أنه إذا اتصف ذاته بصفة يجوز اطلاق اللفظ الدال عليه إذا لم يوهم النقص، وفيهما نظر.
قوله: (والصلاة) فعلة: من صلى إذا دعا، وهو اسم يوضع موضع المصدر، تقول: صليت صلاة، ولا تقول: تصلية والتصلية “درود فرستاد” والسيد من: ساد قومه يسود سيادة “مهتر شدن”فعيل: جمع على سادة كسرى وسراة ولا نظير لهما، يدل على ذلك أنه جمع على سيائد بالهمزة مثل تبيع وتبائع، وقال البصريون فيعل جمع على فعلة كأنهم جمعوا سائداً كقائد وقادة وعلى سيائد بالهمزة على خلاف القياس كجيد والقياس بلا همزة كذا في “الصحاح”.
(وآله) قيل أتباعه وقيل أمته وقيل أهل بيته وقيل آل الرجل ولده وقيل قومه وقيل أهله الذين حرمت عليهم الصدقة وفي رواية أنس سئل النبي صلى الله عليه وسلم مَن آل محمد قال:”كل مؤمن تقي” كذا في الشفاء، والصحب جمع صاحب كركب وراكب من صحب يصحب صحبة وصحابة بمعنى “صحبت كردن وياري كردن“والمراد هم الذين طالت صحبتهم مع الرسول عليه السلام مسلمين وقيل بشرط الرواية وقيل هم مسلمون رأوا النبي عليه السلام، فذكرها بعد الآل تخصيص بعد تعميم، أو تعميم بعد تخصيص.
قوله: (والسبل) جمع السبيل وهو الطريق يذكّر ويؤنّث قال الله تعالىﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱠ وقال تعالىﱡﭐ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﱠ والمراد بها سننه وآدابه وأخلاقه.
قوله: (فدونك) جواب: إما باعتبار الإخبار والإعلام، وهو إما اسم فعل، بمعنى: خذ أو ظرف، بمعنى: قدامك.
(والنبراس) بكسر النون وسكون الباء الموحدة المصباح، فعلى الأول منصوب على المفعولية، وعلى الثاني مرفوع على الابتداء.
(أيها الساري) من السراية بمعنى “شب رفتن“ من حد ضرب منادى بحذف حرف النداء وقع معترضاً شبّه طالب أسرار العقائد النسفية بدون هذا الكتاب بالساري في ظلمة الليل في تحيره وعدم الاهتداء إلى مقصده وهذا الكتاب بالمصباح في كونه آلة الاهتداء ثم استعمل لفظ المشبه به في المشبه ويجوز أن يكون استعارة تمثيلية على تشبيه الهيئة بالهيئة.
(كتاب) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كتاب والجملة استئناف لبيان كونه نبراساً.
(والمكامن) جمع ممكن من كمن كموناً إذا اختفى ووصفه بالخفية للمبالغة أي: المواضع الخفية غاية الخفاء.
(والأوان) الحين، والجمع: آونة، كزمان وأزمنة.
(والدعة) السكينة.
(والجادة) بالجيم وتشديد الدال معظم الطريق.
(والإيجاز) “كوتاه كردن سخن“.
(والتعمية) عميت معنى البيت تعمية “بوشيده كردن“ ومنه المعمي من الشعر وأصله عمى الأمر إذا التبس.
(والألغاز) من ألغز في كلامه إذا عمى مراده والاسم اللغز والجمع ألغاز.
(وحمت) على صيغة المتكلم من حام الطائر وغيره حول الشيء يحوم حوماً وحوماناً؛ أي: دار.
(وما) مصدرية.
(رمت) من رام يروم روما: طلب، عطفه عليه وأراد بالشين المسائل الحالية بالدلائل وبالسين الخالية عنها على ما ذكره قدس سره في “حواشي المطالع” أو أراد الحروف المنقوطة وغير المنقوطة بذكرالخاص وإرادة العام، والمعنى: حين مارمت تصحيح ألفاظه حرفاً حرفا من سقيم اللفظ والمعنى.
وفي (ألحقته) إشارة إلى أن في خزانته نفائس أخرى، هذا الكتاب من ملحقاتها وتوابعها وفي بعض النسخ “أتحفته” وهو تصحيف إذ الاتحاف لا يكون إلى خزانة ولو سلم فالواجب أتحفت به بزيادة الباء في “الصحاح”: التحفة: ما أتحف به الرجل من البر.
(والعلا) الرفعة والشرف فإن ضممت قصرت وإن فتحت مددت.
(المثل) بفتح الميم والثاء المثلثة الصفة اقتباس من قوله تعالى: ﱡﭐ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬﱠ.
(الصاحب) مطلقا الوزير لأنه يصاحب السلطان.
(الدستور) بضم الدال فارسي معرب وهو الوزير الكبير الذي يرجع في أحوال الناس الى مايرسمه وأصله الدفتر الذي جمع فيه قوانين الملك وضوابطه.
(يطوي) على صيغة المجهول من الطيّ بمعنى “درنورديدن“ من حد الضرب.
(الفج) بفتح الفاء وتشديد الجيم الطريق الواسع بين الجبلين.
(العميق) ذو العمق وهو قعر البئر والفج الوادي وفي اختيار الفج إشارة إلى كثرة الواردين على بابه مع تحمل المشاق.
(يستقبله) من الاستقبال “پيشواشدن“.
(الآمال) جمع أمل وهو الرجاء عبر عن ذوي الآمال بالآمال إشارة إلى أنهم لاعتمادهم على مكارم أخلاقه يصيرون حين التوجه إلى بابه أنفس الآمال.
(السحيق) البعيد.
(باهت) من المباهاة، وهي: المفاخرة.
(والتيجان) جمع التاج.
(والهامة) الرأس، والجمع: هام.
(والحلل) جمع حلة بضم الحاء وتشديد اللام: إزار ورداء، شبه التيجان والحلل بأشخاص ذوي مفاخرة بسبب كمالاتهم على طريق الاستعارة بالكناية وأثبت لها المباهاة تخييلا. والمقصودان الوزارة والإمارة قد استقرتا في مقرهما وكملتا بذاته، ولعل وجه جمع التيجان والحلل الإشارة إلى حيازته جميع وجوه الوزارة والإمارة.
(ولي) فعيل من الولاية، من حد حسب في التاج الولاية “والي شدن” والنعت والي وفتح الواو حينئذ هو الوجه ويجوز كسرها والولاية “دوست شدن” والنعت ولي وكسر الواو حينئذ هو الوجه ويجوز فتحها فعلى هذا الصواب والي، لكن ذكر في “شرح المواقف” في الأسماء الحسنى: الولي النصير، وقيل: هو بمعنى المتولي للأمر والقائم به.
(الأيادي) جمع الأيدي جمع اليد بمعنى النعمة فالنعم عطف تفسيري له شبه هيئة تربيته للعلماء وترويجه للعلوم وحفظهما عن الضياع بهيئة من أخذ يد آخر عند المزلقة وحفظه عن الوقوع فيها فقوله “آخذ أيدي العلماء والعلوم” استعارة تمثيلية.
(الألويَة) جمع اللواء بكسر اللام ممدودا: العلم الصغير، ويقال له: البيرق، وفي اختيارها على الأعلام إشارة إلى إحيائه مراسم الشرع صغيرها وكبيرها.
و(الرسوم) جمع: رسم، وهي العلامة: عطف تفسيري لألوية، ويجوز أن يخص الأول بما هو شعار الإسلام.
(حائز) بالحاء المهملة والزاي المعجمة: اسم فاعل من الحوز، وهو الجمع، حازه يحوزه حوزا وحيازة.
(والمآثر) جمع مأثرة بفتح الثاء وضمها، وهي: المكرمة؛ لأنها تؤثر أي: تذكر ويؤثرها قرن عن قرن يتحدثون بها.
(والمفاخر) جمع مفخرة، بفتح الخاء وضمها: المأثرة، فهو تكرير الأول من غير لفظه للتقرير، ويجوز أن يراد بالأول: المكارم الحسبية ومن الثاني: النسبية، يقال: فخرته أفخره فخراً إذا كنت أكرم منه أبا.
وأما (الأول والآخر) بدل من الرياسات، واللام عوض عن الضمير أي: حاوي أول الرياسات وآخرها، وهو كناية عن إحاطته بجميعها.
(والمدارج) جمع مدرجة بفتح الميم وهي المذهب والمسلك.
(النقاد) فعال للمبالغة من نقدت الدراهم: إذا أخرجت عن الزيف.
(والمعارج) المصاعد، جمع معرج: من عرج في الدرجة ارتقى.
(والوقاد) المشتعل، من حد باب ضرب.
(الطوق) بفتح الطاء وسكون الواو: الوسع والطاقة، وقوله “بل عن حد الإمكان” إغراق خارج عن حد الإمكان.
(الدلالة) “راه نمودن”
(والصيت) الذكر الجميل الذي ينتشر في الناس، وأصله من الواوي انقلبت ياء لانكسار ماقبلها كانهم بنوه على فعل بكسر الفاء للفرق بين الصوت المسموع والذكر المعلوم.
(وصيت جلاله) فاعل يدل.
(والوهم) مفعوله.
(وما) فيما خيل نافية والخيلة “پنداشتن“.
(وطيف الخيال) مجيئه بالنوم، يقال: طاف الخيال يطيف طيفاً ومطافاً، والخيال صورتي “كه بخواب ببند“
(والسامي) اسم فاعل من السمو، وهو العلو.
(والناظورة) مبالغة في المنظور.
(والديوان) صاحب الدفتر المذكور، وأصله ذلك الدفتر، من دونت الكتاب: جمعته وقرنت بعضه إلى بعض؛ يعني: أن الوزراء ينظرون إليه دائماً مترقبين لما يأمرهم وقد يقال هو مبالغة في الناظر بمعنى الحافظ فالديوان بمعنى الدفتر كذا في “حواشي المطالع”.
(آصف) علم وزير سليمان عليه السلام استعاره للمدوح باعتبار وصفه المشهورمن كونه وزيراً عظيماً نافذ الحكم جامعاً لمحاسن الأفعال ومكارم الأخلاق.
(طرا) بضم الطاء وتشديد الراء المهملتين أي: جميعاً والضمير في به راجع إلى كونه محموداً.
(أهل الفضل) فاعل كفى والباء زائدة.
(وبرهان) مفعوله ويجوزعكسه والياء حينئذ ليست بزائدة كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم “كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ماسمع” والباء في بكماله إما للملابسة فيكون الجار والمجرور حالًا من المبتدا المحذوف؛ أعني: هو، أو للسببية.
(وفي الأوج) حال من ضمير كامل قدم عليه رعاية للوزن.
(وبدر) خبر المبتدأ المحذوف أي: هو متلبس بكماله أو بسبب كماله بدر كامل حال كون البدر في الأوج.
(والزاخر) بالزاي والخاء المعجمتين والراء المهملة من زخر الوادي إذا امتد جداً وارتفع.
(والنوال) العطاء والياء كما عرفت في بكماله.
(في كل علم) متعلق بمتبحر، يقال: تبحر في العلم، أي: تعمق وتوسع.
و(في فن) متعلق بحياله أي: بإزائه.
(وعالم) بفتح اللام أي: له من الحلم ما بكل العالم.
(سحبان) اسم رجل من بني وائل، كان لسناً بليغاً يضرب به المثل في البيان.
(عي) على وزن فعل، من يعجز عن إفادة المراد من العي، وهو خلاف البيان، وقد عي في منطقه وعيي أيضاً، فهو عيي على وزن فعيل وعي على وزن فعل.
(ومعن) بفتح الميم وسكون العين المهملة معن بن زائدة الشيباني كان أجود العرب.
و(البليغ) من البلوغ، وهو الوصول من حد نصر.
(والبخل) ضد الجود.
(والإفضال) الإحسان.
(والتدبير) في الأمر أن ينظر إلى ما يؤل إليه عاقبته.
(والثاقب) المضيء ترك مفعول يبذل قصداً إلى التعميم.
(ليس يمسك لفظه) مؤكدة له ولذا ترك العطف.
(فكأنما ألفاظه من ماله) في حق الانتفاع والبذل وفيه إشارة إلى أن انتفاع الناس بماله وبذله إياه أمر مقررلاريب فيه
(والتزاحم) “انبوهي كردن“
(الوجنات) جمع وجنة مثلثة الواو وساكنة الجيم ما ارتفع من الخدين.
و(متبرقع) اسم فاعل من تبرقع أي: لبس البرقع وفي جعل أفعاله مطلقاً برقع الأنوار إشارة إلى جميع أفعاله جميلة.
(فشا) ماضٍ من الفشو “براكنده شدن“ من حد نصر وترك المتعلق للتعميم.
(الغرة) بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم وغرة كل شيء أوله وأكرمه فعلى الأول استعارة بالكناية وتخييله وعلى الثاني حقيقية والمقصود دعاؤه باحتياج الغير إليه دائماً وفيه من المبالغة ما لا يخفى.
(مدين) قرية شعيب عليه السلام.
(والمآرب) جمع مأربة، وهي الحاجة، وإضافة المدين إليه من قبيل لجين الماء والماء والسقي ترشيح لذلك التشبيه.
(والأمة) الجماعة وضمير منه للماء وفيه تلميح إلى قوله تعالى: ﱡﭐ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖﱠ
(فإن رفعه) عطف على “ألحقته”.
(والسما كان) كوكبان نيران من الثوابت: السماك الأعزل والسماك الرامح وإضافته إلى القبول كلجين الماء وكذا.
(كوكب الأمل) ولايخفى مافي ذكر السعادة والكوكب والبرج والشرف من لطافة التلازم الشعري.
(والله ولي الإعانة وكفى به وكيلا) جملتان إنشائيتان؛ لبيان إنشاء الاستعانة به تعالى والتوكل عليه، وأورده دفعاً لما يوهمه ماسبق من التجائه في حصول الأمل إلى قبول الممدوح كتابه رب يسر بالخير.
قوله: (النحرير) في “الصحاح” النحرير: العالم المتقن ونقل عنه النحرير البليغ في العلم كأنه ينحر الشيء علماً وعملاً، وقد يقال: نحرت كتاب كذا علماً؛ أي: علمته حق العلم كذا ذكره الجاپردي في “شرح الكشاف ” وما يقال إنه يوناني فغير ثابت انتهى. يعني: أن النحرير بالمعنى المذكور مأ خوذ باعتبار أصل اللغة من النحر وهو في اللبة، وهو مثل الذبح في الحلق والمناسبة الغلبة، وإنما قال كأنه لعدم الجزم بالأخذ؛ لجواز أن يكون موضوعاً لهذا المعنى بالأصالة، لكن تعميم النحرير بحيث يشمل العلم والعمل مما لا يظهر له وجه لأن المأخوذ في النحرير ليس إلا كمال العلم، ولعل المراد به مزاولة العلم وتكراره فإن الإتقان والبلوغ إلى الكمال لا يحصل إلا بهما.
قوله: (عامله…إلخ) أي: جازاه على عمله، المعاملة هنا بمعنى: العمل اختارها للتعدية والمبالغة ملتبسا بلطفه، سمي جزاء العمل عملا بطريق المشاكلة ثم بني منه صيغة المفاعلة. والخطير ما له قدر كذا في “الصحاح”.
قوله: (بعد ما تيمّن بالتسمية) كلمة “ما” مصدرية وفي زيادة لفظه التيمن إشارة إلى أن المتعلق الحقيقي للباء في بسم الله متروك؛ أعني: ملتبساً ومتبركا، وما قيل أن متعلق الياء “أبتدئ” ليس معناه أن الجار والمجرور ظرف لغو واقع موقع المفعول لأبتدئ، بل المراد به ظرف مستقر واقع موقع الحال والعامل فيها أبتدئ، كذا أفاده الشارح في “حواشي التلويح” ووجه ذلك بأن المقصود التبرك في تصنيف الكتاب كله باسم الله لا مجرد أوله.
قوله: ( (في تعقيب…إلخ) أي: في ذكر الحمد بعد التسمية، فإن مدخول الباء هو المعقب، فإن قلت هذه العبارة بعد قوله “بعد ما تيمن بالتسمية” مستدركة، قلت: ربما يتوهم من ذلك أن النكات إنما هي في إيراد الحمد لله بخصوصه وليس كذلك، فإن إيراد التحميد مطلقاً بعد التسمية يتضمن النكات المذكورة، وإن تلك النكات إنما هي في إيراد التحميد بعد التسمية، واختياره على شيء آخر من غير أن يكون لذكر التسمية مدخل؛ إذ يجوزأن يكون معنى العبارة المذكورة: قال الشارح بعد التسمية الحمد لله ولم يورد بعده شيئاً آخر، لكنا على ما قاله الفاضل الهروي في حواشيه على “المطول” أن معنى قوله افتتح كتابه بعد التيمن بالتسمية بحمد الله أنه افتتح بعد التيمن بالتسمية بالحمد لله ولم يورد بعده شيئاً آخر إلى آخره؛ إذ لاخفاء في أن الإجماع لم ينعقد على أنه لابد من ذكر الحمد لله بعد التسمية، ولا يذكر بعدها أمر آخر بل على أنه إذا ذكر الحمد ذكر بعد التسمية على مايدل عليه كلام الشارح في “التلويح” وأن ليس الامتثال بالحديثين في ذكر الحمد دون أمر آخر بل في ذكرهما. قال المحشي المدقق إنما ذكره بعد قوله “بعد التيمن بالتسمية” لأنه اقتداء في تعقيب التيمن بالتسمية بالتحميد؛ إذ لا معنى للتيمن في حق الملك المجيد. أقول ذكر الفاضل البيضاوي في نفسير الفاتحة بعد حمل الباء في التسمية على الملابسة هذا أي: التسمية وما بعدها إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد فعلى هذا يتحقق تعقيب التيمن بالتسمية بالتحميد في الكلام المجيد بدون لزوم التيمن في حق الملك المجيد ثم لا يخفى على ذي فطنة أن كل واحد من النكت مستقل فإن التعقيب أسلوب الكتاب المجيد ومما انعقد عليه الإجماع وإن لم ينعقد على ذكرهما وفيه امتثال بحديثي الابتداء فلا حاجة إلى ما قيل ههنا أمور ثلاثة؛ أحدها: الابتداء بالتسمية، الثاني: تأخير التحميد عن التسمية، والثالث: جمع التسمية والتحميد. وفي الأول: عمل بما شاع. وفي الثاني: اقتداء بأسلوب الكتاب. وفي الثالث: امتثال بالحديثين، وبما ذكرنا ظهر أنه ليس ترك التحميد بعد التسمية على ما فعله بعض المصنفين خرقاً للإجماع لأنه إنما انعقد على التعقيب، وأما لزوم عدم الامتثال فمدفوع؛ لأنه صرح بعض شراح البخاري بأن في صحة حديث التحميد مقالاً فلا يصلح للحجية، وقد وقع كتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الملوك وكتبه للقضاة مفتتحة بالتسمية دون التحميد، ولأنه ذكر الإمام النووي في أول شرح مسلم إنما بدأ بالحمد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر، وفي رواية بالحمد فهو أقطع، وفي روايةٍ أجذم، وفي روايةٍ بذكر الله، وفي روايةٍ بسم الله الرحمن الرحيم. ثم ذكر في باب كتابه صلى الله عليه تعالى وسلم إلى هرقل بالتسمية فقط فعلم أن المراد بالحمد ذكر الله تعالى؛ لأنه صلى الله عليه تعالى وسلم صدر الكتاب بالتسمية دون التحميد ولهذا ذهب الشيخ إبن الحاجب إلى أن لفظ الحمد إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق ولأن الحمد حقيقة ليس إلا إظهار صفات الكمال وهو حاصل في التسمية، واعترض الفاضل الجلبي على هذا الوجه بأنه إنما يتم لو كان عبارة عن الحديث بحمد الله وأما إذا كان بالحمد لله على ما سمعنا من الأستاذين فلا يتم الامتثال إلا بذكر العبارتين. أقول لا يخفى أنه ليس المراد بـ”الحمد لله” هذا اللفظ خاصة بل ما يؤدي مؤداه وإلا لم يكن المبتدئ بأحمد لله وغيره مبتدئاً بالحمد لله وممتثلاً، مع أنه خلاف المقرر عند الكل، على أنك قد سمعت اختلاف الروايات فوجه الجمع أن يحمل في كلها على إظهار صفات الكمال. قيل: إن المأمور به في الحديثين هو الابتداء بهما دون التعقيب فلا يتحقق الامتثال به. أقول: إن أراد بقوله: “إن المأمور به الابتداء” مطلق الابتداء، سواء كان في ضمن التعقيب أو لا، فلا شك أن التعقيب يستلزم الامتثال بهذا المعنى، وإن أراد الابتداء بشرط عدم التعقيب فهو باللسان ممتنع، ولهذا قيل: إن الأمر بالابتداء بهما أمر بالتعقيب؛ إذ لا يتحقق الابتداء الذِكري بهما بدون التعقيب.
قوله: (وما يتوهم من تعارضهما…إلخ) وجه التعارض أن البدء والابتداء معناه التصدير، ومعنى بدأت الكتاب بكذا جعلته في أوله بناء على الجار والمجرور واقع موقع المفعول به وهو لا يتصور بالأمرين، فالعمل بأحد الحديثين يفوت العمل بالآخر.
قوله: (فمدفوع إما بحمل الابتداء على العرفي…إلخ) يعني أن المراد بالابتداء في الحديثين العرفي وهو ذكر الشيء قبل المقصود، وهذا أمر ممتد يمكن الابتداء بهذا المعنى بأمور متعددة من التسمية والتحميد وغيرهما، وهذا المعنى قد يتحقق في ضمن الابتداء الحقيقي وقد يتحقق في ضمن الابتداء الإضافي، فلا حاجة إلى ما قال الفاضل الجلبي من أن المراد حمل الابتداء الواقع في حديث الحمد على العرفي؛ إذ هو تخصيص بلا فائدة بعيد عن عبارة المحشي إذ المناسب حينئذ أن يقول إما يحمل الابتداء في أحدهما على الحقيقي وفي الآخر على العرفي أو الإضافي.
قوله: (أو بحمل أحدهما على الحقيقي) المراد بالابتداء الحقيقي مايكون بالنسبة إلى جميع ماعداه، وبالإضافي ما يكون بالنسبة إلى البعض على قياس معنى القصر الحقيقي والإضافي فلا يرد ما قيل أن كون الابتداء بالتسمية حقيقياً غير مطابق للواقع إذ الابتداء الحقيقي إنما يكون بأول أجزاء التسمية؛ لأن الابتداء الحقيقي بالمعنى المذكور لا ينافي أن يكون بعض أجزائها متصفاً بالتقديم على بعض، كما أن اتصاف القرآن بكونه في أعلى مرتبة البلاغة بالنسبة إلى ماسواه لا ينافى أن يكون بعض سوره أبلغ من بعض.
قوله: (ولك أن تجعل الياء…إلخ) يعني أن المراد بالابتداء في كلا الحديثين الابتداء الحقيقي، والباء في قوله بسم الله وبحمد الله ليس صلة للابتداء، بل هو للاستعانة فيصير المعنى أن كل أمر ذي بال لم يبدأ ذلك الأمر باستعانة التسمية والتحميد يكون أجذم وأقطع ولاخفاء في أنه يمكن الاستعانة في أمر بأمور متعددة، فيجوز أن يستعان في الابتداء أيضاً بالتسمية أو التحميد، بل بأمور أخر لكن يلزم أن لا يكون شيء من الحمدلة والبسملة جزأ من المبتدأ؛ إذ لا يجوز الاستعانة في الشيء بجزئه إذ لا يكون جزء الشيء آلة له ويمكن أن يلتزم ذلك ومن ادعى الجزئية فعليه البيان. ويلزم ترك التأدب في اسم الله بجعله آلة لكن قال السيد الشريف قدس سره في “حواشي الكشاف” أن كون اسم الله آلة ليس إلا باعتبار أنه يتوسل إليه ببركته فقد رجع إلى معنى التبرك، وقد رجح الاستعانة بأنه يدل على أن الفعل بدون اسم الله كـلا فعل فهو أولى من هذه الحيثية من الحمل على التلبس. قيل: فيه نظر؛ لأن الكلام في أن الابتداء مستعيناً بأمر ينافي الابتداء مستعيناً بأمر آخر، وإن لم يكن بين الاستعانتين تناف، وههنا كذلك لأن الابتداء مستعيناً بالتسمية يوجد في آن التلفظ بالتسمية دون الابتداء مستعيناً بالتحميد وبالعكس. أقول: لا نسلم أن الابتداء بشيء باستعانة التسمية يوجد في آن التلفظ بها فقط، فإن الاستعانة بها تبقى وتستمر إلى تمام الأمر المشروع فيه، وكذا الحال في الاستعانة بالتحميد إذ ليس الاستعانة بهما إلا الاستعانة بالتبرك الحاصل بذكرهما وهو باق من أول المشروع فيه إلى آخره، ولو كان الاستعانة في آن التلفظ فقط يلزم أن لا يكون الأمر الذي شرع فيه متصلاً بذكر البسملة مستعاناً بها لعدم وجود التلفظ بالتسمية في وقت الشروع في ذلك الأمر. نعم هذا الاعتراض جار على تقدير الملابسة على ما يأتي مع دفعه، ولعل منشأ الاعتراض توهم أن الاستعانة بهما مثل الاستعانة بالآلات الصناعية حيث تنقطع الاستعانة بها عند تركها، وأجاب المحشي المدقق بأن معنى الابتداء مستعيناً بالتسمية والتحميد: الابتداء حال كون المبتدئ بحيث كان قد وقع منه الاستعانة بهما لعدم تخلل ثالث بين الابتداء وذكرهما.
قوله: (أو الملابسة…إلخ) أي: يجوز أن تكون الباء في الحديثين للملابسة فالابتداء محمول في كليهما على الحقيقي، فيكون المعنى: كل أمر ذي بال لم يبدأ ملتبساً باسم الله وبحمده يكون أجذم وأقطع، أي: لو بدئ ذلك الأمر ولايكون ذلك الشخص أو ذلك الأمر ملتبساً حين الابتداء بهما يكون أجذم وأقطع.
قوله: (ولايخفى أن الملابسة…إلخ) دفع لاعتراض مقدر، وهو أن يقال: إن التلبس بهما حين الابتداء محال؛ لأن التلبس بهما لا يتصور إلا بذكرهما وذكرهما معاً محال، فلو ابتدأ حين ذكر التسمية والتلبس بها لا يكون متلبساً بالتحميد، ولو عكس لا يكون متلبساً بالتسمية، وحاصل الدفع أن الملابسة معناها الملاصقة والاتصال وهو عام يشمل الملاصقة بالشيء على وجه الجزئية بأن يكون ذلك الشيء جزءا لذلك الأمر المبتدأ ويشمل الملاصقة بأن يذكر الشيء قبل ذلك الأمر بدون تخلل زمان متوسط بينهما فحينئذ يجوز أن يجعل الحمد جزءا من الكتاب ويذكر التسمية قبل الحمد لله ملاصقا به بلا توسط زمان بينهما فيكون آن الابتداء آن تلبس المبتدئ بهما. أما التلبس بالتحميد فظاهر؛ لأن آن الابتداء بعينه آن التلبس بالتحميد؛ لأن ابتداء الأمر بعينه ابتداء التحميد لكونه جزءاً منه. وأما بالتسمية فلكونها مذكورة قبله بلا توسط زمان، ولم يرد المحشي بقوله: “فيكون آن الابتداء آن التلبس بهما” أن آن الابتداء آن المصاحبة والمقارنة بهما حتى يرد عليه أن كل واحد من التسمية والتحميد زماني لا يمكن اجتماعهما في زمان واحد فالتلبس بأحدهما قبل التلبس بالآخر فكيف تتصور مقارنتهما ومصاحبتهما في آن واحد. قال المحشي المدقق: وفيه أن كون الملابسة التي هي معنى الباء بمعنى الاتصال محل بحث، مع أن الظاهر أن المقصود من الحديثين على تقدير الملابسة ملابسة المبتدئ أو المبتدأ بهما لملابسة الابتداء بهما. أقول: ذكر الشيخ المحقق جلال الدين السيوطي في شرحه للألفية قال أصحابنا: باء الملابسة نوعان، أحدهما: الباء التي لا يصل الفعل إلى مفعوله إلا بها؛ نحو: “مررت بزيد” لما التصق المرور بمكان يقرب منه زيد جعل كأنه ملتصق بزيد، والآخر: الباء التي تدخل على المفعول المنتصب بفعله إذا كانت تفيد مباشرة الفعل للمفعول نحو “أمسكت بزيد” الأصل أمسكت زيدا فدخلت الباء ليعلم أن إمساكك إياه بمباشرة منك، بخلاف نحو أمسكت زيداً بدون الباء، فإنه يطلق على المنع من التصرف بوجه من غير مباشرة انتهى. فعُلم أن باء الملابسة تستعمل بمعنى: الاتصال بلا فصل كما في مررت بزيد، وبمعنى: المقاربة والمباشرة بمدخوله كما في أمسكت بزيد فاندفع البحث الأول واندفع ما أورده بعض الفضلاء أن باء الملابسة تستدعي صدور الفعل عن فاعل الفعل الذي هو حيزه وتعلقه بمفعوله حال تلبسه بمجرورها ومن البين المكشوف أن ذلك يأبى عن وقوع الابتداء بالمجرور على وجه الجزئية فإن الجزئية من المبتدئ غير مناف كما علمت في أمسكت بزيد من أن المجرور فيه عين الممسوك والجزئية من الابتداء غير لازم. وأما ما ذكره بقوله: مع أن الظاهر إلى آخره، فأقول: قد علمت أن المراد آن تلبس المبتدئ لا آن تلبس الابتداء مع أن المبتدئ والمبتدأ ملابس بالابتداء والابتداء ملابس بهما فكانا ملابسين بهما. واعلم أن ما ذكره المحشّى إنما هو على تقدير أن يراد الملابسة الحقيقية. أما إذا حمل على الملابسة بمعنى التبرك بهما كما هو المقصود فلا حاجة إلى جعل أحدهما جزءًا كما لا يخفى. ثم اعلم أن وجه الملابسة إنما يجري فيما إذا كان المبتدأ مما يمكن أن يكون أحدهما جزءًا منه ولا يجري في نحو الذبح والأكل، وما قيل أن التلبس على وجه الجزئية يفوت ما هو المقصود من حمل الباء على الملابسة؛ أعني: التلبس باسم الله في تمام التصنيف ففيه أن المحشي لم يبين جزئية التسمية، بل يجب أن لا يجعل جزءًا لئلا يفوت التعقيب المجمع عليه على أن استلزام الجزئية للفوت المذكور محل تردد؛ إذ ليس التلبس بهما إلا التبرك والتيمن بهما ولا مدخل في هذا للجزئية والخروج، قال المحشي المدقق: معنى كون الابتداء ملابساً بهما أن الابتداء وقع حال كون المبتدي بحيث كان قد وقع منه الملابسة بهما وإن كان قبل الابتداء لاتصاله به انتهى. ولا يخفى أن قوله “تعم وقوع الابتداء بالشيء إلى آخره” يأبى عن هذا التوجيه فإنه يدل على أن الاتصال قسم من الملابسة، ويمكن أن يوجه كلام المحشي ويكون المراد بالتلبس هو المصاحبة بأن المراد بقوله “آن الابتداء آن التلبس بهما” أن زمان الابتداء زمان التلبس بهما لا أن آن الابتداء الذي هو بعينه آن التلبس بالتحميد ملاصق للآن الذي هو آن التلبيس بالحرف الأخير من التسمية فيكون الزمان الذي فيه الابتداء وهو الزمان المركب من ذينك الآنين وهو بعينه زمان التلبس بهما كما لا يخفى لكن قوله “تعم إلخ” يأبى عن هذا التوجيه أيضاً.
قوله: (الظاهر أن الباء صلة التوحد) يعني أن الباء في قوله بجلال ذاته آلة لإيصال معنى التوحد إليه والجار والمجرور ظرف لغو، سواء كان الباء فيه للظرفيه كما يشعر به عبارة المحشى، أو للإلصاق مأخوذ من وصلت الشيء إذا ربطته بآخر وهذا هو الظاهر؛ لأنه لا يحتاج إلى التكلف الذي يحتاج إليه حين الملابسة لأن معنى التوحد المتعدي بالباء الانفراد والاستقلال بمدخولها، يقال توحد برأيه أي: استقل وتفرد به فمعنى المتوحد بجلال الذات المتفرد بجلال الذات بمعنى عدم شركة الغير فيه واستقلاله به من غير ملاحظة الثبوت بدون صنع أو الكمال وإن أمكن اعتبارهما لأنه خلاف الاستعمال كما نقل عنه ولا يقصد فيه معنى الكمال ولاعدم مدخلية الغير في ثبوت الوحدة بالذات بل مجرد الاستقلال وإن أمكن اعتبارهما ههنا أيضاً.
قوله: (أو الذات الجليلة على نهج…إلخ) أي: يكون إضافة الجلال إلى الذات إضافة الصفة إلى الموصوف كما في حصول الصورة نقل عنه فعلى هذا فيه رد على قدماء المعتزلة حيث قالوا إن ذات الواجب وذوات الممكنات متشاركة في تمام الماهية وإنما الإمتياز بالأحوال والأوصاف انتهى. قال بعض الفضلاء هذا الرد إنما يتم لو كان المزاد بالذات في قوله أو الذات الجليلة الماهية الكلية أما لو كان المراد مايقابل الصفة؛ أعني: الماهية الشخصية القائمة بذاتها فلا أقول لا معنى حينئذ لوصفه تعالى بالتوحد فيه إذ كل أحد مستقل ومنفرد بذاته الشخصية فتعين أن يكون المراد الماهية الكلية ويتم الرد.
قوله: (ويحتمل أن يكون للملابسة) أي: يكون لملابسة فاعل الفعل بمدخول الباء حال قيامه به لا لإيصاله إليه والجار والمجرور ظرف مستقر حال عن ضمير المتوحد فحينئذ معنى المتوحد بجلال المتصف بالوحدة حال كونه متلبساً بجلال الذات وبما ذكرنا لك من أن معنى الصلة إيصال الفعل إلى مدخول الباء ومعنى الملابسة تلبس فاعله به وإنه على الأول ظرف لغو وعلى الثاني ظرف مستقر ظهر وجه التقابل بين التوجيهين واندفع ما قال الفاضل المحشي من أنه بقي ههنا بحث وهو أن الباء لما جعلت للملابسة ينبغي أن يكون للملابسة سواء جعلت صلة للتوحد أو لم تجعل فلا يحسن جعلها للملابسة قسماً لكونها صلة وإنما قلنا ينبغي أن يكون للملابسة لأن الباء لها معانٍ مذكورة في علم النحو والمناسب ههنا هو معنى الإلصاق أو معنى الظرفية وظاهر أن معنى الملابسة من قبيل معنى الإلصاق حتى لم يجعلوا ذلك معنى مغايراً للإلصاق.
قوله: (فحينئذ) أي: حين إذ كان للباء للملابسة لابد لاختيار صيغة التفعل من نكتة لأنه كلام البليغ فصيغة التفعل؛ أعني: التوحد إما بمعنى الصيرورة بدون صنع كما في تحجر في قولهم تحجر الطين أي: صار حجراً بلاعمل ومدخل من الغير بحسب الظاهر ومعنى الصيرورة إن كان هو الكون والإنصاف فلا إشكال في اتصافه تعالى به وإن كان هو الكون مع الإنتقال فلا بد من تجريده عنه لاستحالته على الله تعالى ففي اختيار صيغة المتوحد على الواحد إشارة الى اتصافه بالوحدة من ذاته ليس للغير مدخل فيه بخلاف الواحد.
قوله: (وأما التكلف) أي: أما تكون صيغة التفعل على تقدير الملابسة للتكلف كما في قولهم تودع فلان أي: اختاره على كلفة ومشقة لا على طبع وهذا محال في ذاته تعالى فوجب أن يحمل على لازمه؛ أعني: الكمال لما أن الفعل الذي يحصل بالكلفة يكون على وجه الكمال في اختيار المتوحد على الواحد اشارة الى اتصافه بالوحدة الكاملة بخلاف الواحد فإنه غير مُشعِر به نقل عنه المعنى الأول من فروع التكلف ولهذا لم يعدّه أرباب اللغة معنى مستقلاً وإنما قابله به ههنا لأن فيه خصوصية زائدة ليست في أصل التكلف انتهى فيه دفع لما قيل أن هذه الصيرورة ليست معنى التفعل حقيقةً عند أرباب اللغة فينبغي أن يقتصر على التكلف ولعل وجه الفرعية أن الفعل الذي يكون على وجه الكلفة و المشقة يلزم صيرورة الفاعل من حال الى حال فاستعمل صيغة التكلف في الصيرورة مطلقاً وهو الأغلب في الاستعمال على ما ذكره الشيخ الرضى في شرحه للشافية ولذا قدم المحشي هذا التوجيه لكن اعتبر معها ههنا خصوصية كونه بدون صنع وهذه ليست متحققة في أصل التكلف بل يكون بالصنع قطعاً فلذا صحت المقابلة بينهما وبما ذكرنا اندفع ما قال المحشي المدقق فيه أن كون المعنى الأول من فروع التكلف محل بحث.
قوله: (فمعنى التوحد بجلال الذات الاتصاف بالوحدة الذاتية) أي: على تقدير أن تكون الباء للملابسة وصيغة التوحد للصيرورة؛ أعني: كون معنى التوحد إلخ المتصف بالوحدة التي منشؤها الذات مع ملابسة جلال الذات والصفات وعلى تقدير أن يكون المتكلف محمولاًعلى الكمال معناه المتصف بالوحدة الكاملة وهي الوحدة في الذات و الصفات بلا مدخلية للغير مع ملابسة جلال الذات نقل عنه وعلى تقدير حمله على الكمال يحتمل أن يجعل الباء للسببية اتتهى وذلك لأن الجلال عبارة عن الصفات السلبية وبها كمال الوحدة وأما على تقدير حمله على الكون فلا يصح لأنه يلزم أن يكون لجلال الذات مدخل في الاتصاف بالوحدة الذاتية فيلزم أن لا تكون ذاتية وكذا لا يصح عطف الكمال عليه هذا نهاية تحرير كلام المحشي موافقاً لظاهر عبارته وحواشيه.
قال الفاضل الجلبي توجيهه أن معنى قوله فحينئذٍ أي: حين إذ تقرر أنه يجوز أن يكون الباء صلة أو للملابسة فاعلم أن صيغة التفعل بحسب اللغة إما للصيرورة مع الصنع نحو قطعته فتقطع أو بدون الصنع نحو تحجر الطين وإما للتكلف ولما استحال حمل صيغة التفعل في شأنه تعالى على الحقيقة اللغوية سواء كانت صيرورة أو تكلفاً وجب التجوز عنها بأن يحمل على الكمال كما قيل في المتكبر ونحوه فإن صيغة التفعل فيه للكمال دون الصيرورة والتكلف. أما استحالة الصيرورة مع الصنع أو التكلف فظاهر وأما الصيرورة بدون الصنع فلأنه إن أريد معناه الحقيقي أي: الكون بطريق الإنتقال كالتحجر والتولد فهو أيضاً ظاهر وأما إذا أريد مطلق الكون فلأن الصيرورة لا تستعمل في اللغة إلا على الحوادث فلا يجوز إطلاق صيغة التفعل بمعنى الصيرورة والتكلف على الله تعالى وإذا كان صيغة التفعل في شأنه تعالى محمولة على الكمال فمعنى التوحد بجلال الذات على تقدير أن يكون الباء صلة الاتصاف بالوحدة الذاتية الكاملة غاية الكمال اتصافاً كاملاً في غاية الكمال وعدم شركة الغير في جلال ذاته أو ذاته الجليلة أو الاتصاف بالوحدة الكاملة مع ملابسة جلال الذات على تقديرأن تكون للملابسة انتهى. أقول لا يخفى أنه تكلف محض لوجوده أما أولا فلأنه لا وجه حينئذ لظهور كون الباء صلة للتوحد لأنه على كلا التقديرين يحتاج إلى حمل صيغة التوحد على الكمال. وأما ثانياً فلأن قوله فحينئذ يأبى عنه إباء لا يخفى على ذي الفطانة إذ المناسب أن يقول وصيغة التفعل بدون التفريع. وأما ثالثاً فلأن قوله بدون صنع مع تفويته بقوله كقولهم تحجر الطين إلى قوله ومنه التكون والتولد يصير مستدركاً إذ يكفي حينئذ أن يقول وصيغة التفعل إما للصيرورة وإما للتكلف بل مُخِل على هذا التقدير لأنا لا نسلم أن صيغة التفعل بحسب الاستعمال منحصر في الصيرورة بدون صنع وفي التكلف بل هو مستعمل للصيرورة مع الصنع بل لمعان أخر أيضاً فتقييده بقوله بدون صنع مع تأييده أدل دليل على أنه أراد أن صيغة التوحد محمولة في شأنه تعالى على الصيرورة بدون صنع كما لا يخفى على من له إطلاع بأسلوب الكلام. وأما رابعاً فلأنه لا مناسبة بين الصيرورة والكمال حتى يحمل في شأنه تعالى عليه. وأما خامساً فلأنه إذا كان قوله الإتصاف بالوحدة الذاتية إشارة إلى معنى في جلال الذات أو الذات الجليلة مستدركاً على أن حمل قوله الإتصاف بالوحدة الذاتية على ذلك التقدير تكلف بارد غاية البرودة ثم قال وأما حملها تجوزاً على الكون المطلق فهو وإن جاز أيضاً لكن حملها على الكمال أولى وفيه أن حملها على الكون المطلق ليس باعتبار التجوز بل بتجريده عن بعض المعاني فيكون حقيقة قاصرة وليت شعري ما وجه أولوية الحمل على الكمال مع أن مؤداهما واحد إذ المعنى على تقدير الحمل على الكون المطلق المتصف بالوحدة التي ليس للغير مدخل فيه بل منشؤها ذاته تعالى وعلى تقدير الحمل على الكمال المتصف بالوحدة الكاملة وهي التي تكون في الذات والصفات ولايكون للغير مدخل في الإتصاف بها بل الحمل على الكون المطلق أولى لأنه عمل بالحقيقة القاصرة بخلاف الكمال فإنه مجاز بذكر الملزوم وإرادة اللازم تأمل.
قوله: (الأولى كون الضمير لله…إلخ) اعلم أن الاحتمالات ههنا أربعة لأن ضمير حججه إما أن يكون لله أو للنبي وعلى كلا التقديرين إما أن يكون إضافة الساطع إلى حجج بمعنى مَن أو إضافة الصفة إلى موصوفها فعلى تقدير كون الضمير لله يفيد أن آية نبينا أعظم من آيات سائر الأنبياء إذ يصير المعنى المؤيد بساطع من بين جميع حجج الله تعالى أي: المعجزات الدالة على صدق الأنبياء فإن الحجة إنما تقال باعتبار الغلبة على الخصم أو المؤيد بجميع حججه الساطعة بناء على أن الجمع المضاف يفيد الاستغراق على ماتقرر في الأصول فلو كان غير نبينا مؤيدا بالحجة الساطعة لم يكن نبينا مؤيداً بالساطع من جميع حجج الله تعالى أو بجميع الحجج الساطعة لكن عبارة المحشي ناظرة إلى التقرير الأول؛ أعني: كون الضمير راجعاً إلى الله تعالى وإضافة الساطع إلى الحجج بمعنى من حيث قال ليفيد أن آية نبينا ولم يقل أن آيات نبينا وعلى تقدير أن يكون الضمير لمحمد عليه الصلاة والسلام ينبغي أن يحمل إضافة الساطع إلى الحجج على إضافة الصفة إلى الموصوف ليفيد التمدح بأن نبينا مؤيد بحجج جميعها ساطعة بخلاف ما إذا كانت بمعنى مَن فإنه يخلو عن التمدح إذ يصير المعنى المؤيد بساطع من جميع الحجج التي أُظهرت على يده بل لا مدح فيه إذ سائر الأنبياء إما مؤيد بحجة ساطعة من بين جميع حججهم أو جميع حججهم متساوية فيلزم تساويهم معه أو فضلهم عليه ولذلك فرع المحشي على تقرير كون الضمير لمحمد عليه السلام. قوله: “فساطع حججه” من قبيل إخلاق ثياب، وبما ذكرنا اندفع ما قيل إنه على تقرير أن يكون الضمير لله فإفادته أن آية نبينا أعظم من آيات سائر الأنبياء إنما يتم اذا كان في العبارة إشارة بأن سائر الأنبياء لم يؤيدوا بأمثال هذه البراهين في السطوع والظاهر أنها غير مشعرة لأنه إذا كان الجمع المضاف للاستغراق كما هو الأكثر فاشعار العبارة بها ظاهر لأن المتبادر من الساطع من بين جميع الحجج أن يكون سطوعه بالنسبة إلى كلها كما يقال هذا الشجر مرتفع من بين الأشجار أي: بالنسبة إلى كلها نعم أنها لا تدل عليه بطريق القطع لكن المقام خطابي يكفي فيه الظن قال المحشي المدقق في توجيه قوله ليفيد أن آية نبينا أعظم من آيات سائر الانبياء بناء على أن المراد بإفراد الحجج التي جمعت هي بالقياس إليها حجة كل واحد واحد من الأنبياء بأن يكون جميع حجج هذا النبي فردا وجميع حجج نبي آخر فرداً آخر وهكذا فكأنه قال بساطع جميع حجج الله التي أكرم بها الأنبياء وعلى أن الإضافة للاستغراق وإلا لم تُفد أعظمية آية نبينا على آيات سائر الأنبياء على ما لا يخفى، وليس المراد بها كل واحد واحد من حجج الله مطلقا ولا كل واحد واحد من حجج الأنبياء كذلك وإلا يصير المعنى المؤيد بساطع جميع حجج الله وإن كان بعضها حجة نفسه وحينئذ لا يفيد سطوع جميع حججه بل سطوع بعضها والمقصود هو الأول على ما نقل عنه في الحاشية على قوله فساطع حججه من قبيل أخلاق ثياب من قوله فالمعنى الحجج الساطعة فيدل على سطوع جميع حججه. أقول: لا يخفى أنه لا حاجة إلى تكلف اعتبار جميع حجج نبي حجة واحدة وجعلها فردا من الحجج التي جمعت هي بالقياس إليها بل الظاهر أن المراد كل واحد واحد من حجج الله تعالى التي جاءت بها الأنبياء وأما عدم افادته حينئذ سطوع جميع حجج نبينا فلا يضر لأن المقصود التمدح وإظهار شرف مرتبته على سائر الأنبياء وهو حاصل لأن حجته ساطعة على جميع الحجج وإن كان بعض تلك الحجج حجة نفسه بخلاف حجج سائر الانبياء ويدل على ذلك قوله: “ليفيد أن آية نبينا…إلخ” بإفراد لفظ الآية وما نقل من الحاشية على قوله فساطع حججه إنما هو على تقدير أن يكون الضمير لمحمد عليه السلام فإنه حينئذ لو لم يجعل من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا يفيد التمدح وإظهار شرفه على سائر الأنبياء على ما قررنا فتأمل.
قال الباجوري:
الحمد لله الذي جعل علم التوحيد مبنى قواعد عقائد الإسلام، وأساس علم الشرائع والأحكام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المنجي من ظلمات الشكوك والأوهام، وعلى آله وأصحابه ذوي الهداية والإلهام.
أما بعد، فيقول العبد الفقير إلى مولاه، الخبير البصير، إبراهيم الباجوري بن محمد الجيزاوي -غفر الله له ولوالديه جميع المساوي- لما كان شرح العقائد النسفية، للمحقق المدقق العلامة الفهامة سعد الدين التفتازاني، مشهورا بصعوبة العبارات والمباني، خصوصا مع ما كتبه عليه العلامة الخيالي، فإنه من مجمل المقال أمرني من هو محفوف بلطف الكبير المتعالي، أستاذنا وشيخنا محمد الفضالي أن أكتب عليه كتابة تحل ألفاظه وتبين مراده فامتثلت أمره لي بذلك، وإن لم أكن أهلًا لسلوك تلك المسالك، فأخذت نبذة مما كتبوه على الكتاب، معتمدًا على فتح الملك الوهاب، وها أنا أشرع في المقصود، بعون الملك المعبود، فأقول وبالله التوفيق:
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) ذكر بعض أئمة التفسير أن في البسملة إشارة إلى العقائد كلها؛ لأن معنى بائها: “بي كان ما كان وبي يكون ما يكون”، ومعنى نقطتها: “أنا نقطة الوجود المستمد منها كل موجود”، ولا يكون كذلك إلا إذا اتصف بجميع العقائد.
قوله: (الحمد لله) أي: الحامدية أو المحمودية لله، فالحمد إمّا مصدر حَمِدَ المبني للفاعل فيكون بمعنى الحامدية، أو مصدر حُمِدَ المبني للمفعول فيكون بمعنى المحمودية، وبعد ما تيمن الشارح بالتسمية عقّبها بالتحميد اقتداء بأسلوب الكتاب المجيد، من غير لزوم التيمن في الكتاب المجيد؛ لأنه يلزم عليه التيمن في حقه تعالى وهو مستحيل، لكن قد ذكر البيضاوي، في تفسير سورة الفاتحة: “أن التسمية وما بعدها، مقول على ألسنة العباد” فعليه يتحقق التيمن في الكتاب المجيد بدون لزوم التيمن في حقه تعالى، وعملا بما شاع بين المصنفين، بل وقع عليه الإجماع بينهم، وليس ترك بعض المصنفين التحميد بعد التسمية خرقًا للإجماع؛ لأنه إنما انعقد على التعقيب، فحيث أتوا بالتحميد فلا يفصلون بينه وبين التسمية؛ امتثالا لحديثي الابتداء وهما: “كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم…إلخ”، وخبر “كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله…إلخ” ومن ترك، من المصنفين، التحميد بعد التسمية، فلم يمتثل للحديث الثاني، ولعله نظر إلى ما قاله بعضهم من أن المراد بالتحميد في حديثه: إظهار صفات الكمال، وهو حاصل بالبسملة، ورده بعضهم بأنه إنما يتم لو كانت رواية التحميد بحمد الله، وأما إذا كانت بالحمد لله على ما سمعنا، فلا يتم. فإن قيل كيف يمكن الامتثال للحديثين المذكورين مع تعارضهما؛ لأن الابتداء بالبسملة في أمر ينافي الابتداء بالحمدلة فيه وبالعكس؟ أجيب بأجوبة منها: أن الابتداء في الحديثين محمول على الابتداء العرفي، وهو أمر ممتد من أوّل الأخذ في التأليف إلى الشروع في المقصود، وحمل بعضهم له في حديث التحميد على الابتداء العرفي، وفي حديث التسمية على الابتداء الحقيقي، وإن كان دافعا للتعارض، لكنه بعيد عن عبارتهم. ومنها أن الابتداء قسمان: أحدهما حقيقي: وهو ما يكون بالنسبة لجميع ما عداه، والآخر إضافي: وهو ما يكون بالنسبة إلى البعض، فيحمل حديث التسمية على الأول وحديث التحميد على الثاني، ولم يعكس. وإن كان يندفع التعارض به أيضا؛ لأنه صدنا عنه الكتاب والإجماع، وقول بعضهم: إن الابتداء الحقيقي بالمعنى المذكور لا ينافي أن يكون بعض أجزائها متقدما على بعض، كما أن اتصاف القرآن بكونه في أعلى طبقات البلاغة بالنسبة إلى ما سواه لا ينافي أن يكون بعض سوره أبلغ من بعض، وكل من هذين الجوابين مشهور، وعليها فالباء في الحديثين صلة ليبدأ. ومنها أن تجعل الباء في الحديثين للاستعانة، فيكون فيه إشارة إلى أن الفعل بدون التسمية والتحميد كالعدم، وليس فيه قلة أدب باسم الله تعالى، بجعله آلة لأن المقصود إنما هو التوصل ببركته، فقد رجع الأمر إلى معنى التبرك، كما قاله السيد الشريف، قدس سره، ولذلك يقولون” للاستعانة على وجه التبرك”، ونظر في هذا الجواب بأن التعارض باق بحاله؛ لأن الابتداء في أمر مستعانا عليه بشيء، ينافي الابتداء فيه مستعانا عليه بآخر، وإن لم يكن بين الاستعانتين تنافٍ؛ إذ لا شك أن الاستعانة بأمر لا تنافي الاستعانة بآخر، وأجيبَ بأنه لا بقاء للتعارض؛ لأنه يأتي بالبسملة مستعينا بها، فبالحمدلة كذلك، ثم يبدأ في الأمر المقصود مع كونه مستعينا بهما؛ لأن الاستعانة بهما لا تنقطع بمجرد النطق بهما، بل تستمر إلى الابتداء في الأمر المقصود، بل وإلى تمامه. فقد صدق عليه أن هذا الأمر ابتدئ فيه مستعانا عليه بالتسمية، ومستعانا عليه بالتحميد، ولعل منشأ هذا النظر توهم أن الاستعانة بهما حالة وجودهما فقط، كالاستعانة بالآلات الصناعية، فلا تبقى بعد وجودهما، وليس كذلك. ومنها أن تجعل الباء للملابسة الشاملة للملاصقة وللاتصال. فإن باء الملابسة نوعان: أحدهما: للملاصقة كما في قولك: “أمسكت بزيد” أي: ألصقت إمساكي به، والآخر: للاتصال، كما في قولك: “مررت بزيد” أي: أوصلت مروري به، فيجوز أن يجعل الحمد جزءا من الكتاب، فتكون ملابسته للتأليف بمعنى الملاصقة، وتذكر البسملة قبل الحمد من غير توسط زمان بينهما، فتكون ملابستهما للتأليف بمعنى الاتصال، وحينئذ يكون آن الابتداء هو آن التلبس بهما؛ لأن الآن، بالنسبة إلى الزمانين اللذين هما الماضي والمستقبل، كالنقطة بالنسبة إلى الخط وهو النقطتان طولا. فكما أن النقطة حد مشترك بين جزئي الخط؛ بداية لأحدهما ونهاية للآخر، كذلك “الآن” حد مشترك بين الزمانين؛ نهاية للماضي وبداية لزمن التلفظ بالحمدلة. هكذا يجب أن يفهم هذا المقام، ومن لم يتفطن لذلك تعسف في الكلام، وبما ذكرنا يعلم أنه قاصر عن المراد والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
قوله: (المتوحد…إلخ) قد ضمن المصنف خطبته الإشارة إلى مقاصد الفن على الترتيب المعتبر فيه من مباحث الذات وأقسام الصفات والنبوة والإمامة حيث قال: “المتوحد…إلخ”، وقد رمز إلى مباحث الإمامة بقوله فيما سيأتي: “هداة الحق وحماته” ولا يخفى ما في ذلك كله من براعة الاستهلال؛ وهي أن يأتي المتكلم في طالعة كلامه بما يشعر بمقصوده، ومعنى المتوحد: المتفرد الذي لم يشركه غيره بناء. على أن الباء في قوله: (بجلال ذاته) صلة المتوحد وهو الظاهر، وحيئذ يكون الجار والمجرورظرفا لغوا، فالمعنى المتفرد بجلال ذاته الذي لم يشركه فيه غيره، فإن قيل: لا فائدة في ذلك؛ لأن جلال ذاته تعالى صفة له، ولا شك أن كل موصوف متوحد بصفته؛ إذ لا يتصور أن تقوم صفته بغيره حتى يكون لوصفه بالتوحد بها فائدة. أجيبَ: بأنه يلاحظ ارتباط المتوحد بجلال الذات قبل الإضافة إلى الضمير، ثم يضاف إليه؛ لأنه له في الواقع. ويحتمل أن الباء للملابسة، وحينئذ يكون الجار والمجرور ظرفا مستقرا، وعليه فمعنى المتوحد: الواحد وحدة ذاتية أو الواحد وحدة كاملة؛ لأن صيغة التفعل حينئذ إما للصيرورة بدون صنع صانع ومدخل من الغير، كما في التكَوَّن والتولد. فإن معنى الأول أن يصير الشيء كائنا بلا عمل ومدخل من المخلوقات، ومعنى الثاني أن يصير الحيوان حاصلا من غير أب وأم مثل الحيوان الحاصل من الماء تراكما في الصيف. فالمعنى على هذا: الذي صار واحدا من ذاته لا من غيره، ولابد من تجريد الصيرورة عن الانتقال من حالة إلى أخرى لاستحالته في حقه تعالى، وإما للتكلف: وهو معاناة الفعل ليحصل كما في قولهم: “تكرم زيد وتورع عمرو” إذا صدر كل من الكرم والورع على كلفة، ويلزم من تكلف الشيء كماله، وهو المراد هنا؛ لاستحالة التكلف في حقه تعالى. فالمعنى على هذا: الواحد وحدة كاملة. واستشكل إطلاق المتوحد عليه تعالى، مع أن أسماءه توقيفية: أي: تتوقف على ورودها عن الشارع، وهذا لم يرد. وأجيب بأنه جري على طريقة أبي بكر الباقلاني، المجوز لإطلاق ما لم يرد عليه تعالى إذا صح اتصافه بمعناه ولم يوهم نقصا، وكذا يقال في المتقدس الآتي.
قوله: (بجلال ذاته) أي: بالجلال الثابت لذاته، فتكون الإضافة على معنى اللام، أو بذاته الجليلة، فتكون الإضافة من إضافة الصفة للموصوف. على نهج قولهم في تعريف العلم: حصول الصورة في الذهن، فإن الإضافة فيه من إضافة الصفة للموصوف، أي: الصورة الحاصلة في الذهن، وعلى هذا ففيه رد على قدماء المعتزلة حيث قالوا: “إن ذات الممكن تشارك ذات الواجب في تمام الماهية”، وهذا الرد إنما يتم، كما قاله بعض الأفاضل، لو كان المراد بالذات في جلال ذاته: الماهية الكلية، وأما لو كان المراد الماهية الشخصية، كما هو المتبادر، فلا. وفسر بعضهم الجلال بصفات الثبوت، وبعضهم بصفات السلوب. والحق أنه راجع إليهما؛ إذ هو استحقاق أوصاف العلو: وهي صفات الثبوت والسلوب. وإضافة ذات الضمير للبيان، على رأي من يجوزها في الضمير.
قوله: (وكمال صفاته) أي: الكمال الثابت لصفاته، فتكون الإضافة على معنى اللام، أو صفاته الكاملة، فتكون الإضافة من إضافة الصفة للموصوف، على نسق ما تقدم. والمراد بالصفات: الصفات الثبوتية وكمالها من حيث عدم تناهيها، ومن حيث قدمها وبقاؤها وفيه سؤالا وجوابا ما تقدم من حيث الفائدة وعدمها في الإخبار بذلك.
قوله: (المتقدس) أي: المتنزه، من التقدس: وهو التنزه.
وقوله: (في نعوت الجبروت) أي: في صفاته. فالنعوت: جمع نعت وهو الصفة، والمراد: الصفات الدالة عليه، فالإضافة في ذلك من إضافة الدال للمدلول. و”الجبروت”: فعلوت صيغة مبالغة من الجبر، وهو في الأصل القهر، ثم اتسع فيه فاستعمل في العلو والعظمة، وعليه فالجبروت بمعنى العلو والعظمة التامين.
وقوله:(عن شوائب النقص) أي: عن الأمور التي تشوب النقص وتخالطه. فالشوائب: جمع شائبة، من الشوب وهو الخلط، والمراد بها: الأدناس التي تدل على النقص. فالإضافة في ذلك من إضافة الدال للمدلول، كما في الذي قبله.
وقوله: (وسماته) أي: علاماته. فالسمات: جمع سمة وهي العلامة، وحينئذ فالعطف للتفسير، ثم إن “في” التي في قوله: “في نعوت الجبروت” يحتمل أن تكون للظرفية، وأن تكون للسببية. وعلى الأول يكون المعنى: المتنزه في الصفات الدالة على علوه وعظمته عن الأدناس الدالة على النقص وعلاماته؛ فيكون التنزه راجعًا إلى الصفات، وعلى الثاني يكون المعنى: المتنزه بسبب الصفات الدالة على علوه وعظمته عن الأدناس الدالة على النقص وعلاماته، فيكون التنزه راجعا إلى الذات.
قوله: (والصلاة على نبيه) هكذا في بعض النسخ. وفي بعض أخر (والصلاة والسلام على نبيه) وهذا أولى؛ لما فيه من الجمع بين الصلاة والسلام، وهو مستحسن. والظاهر أن “أل” للعهد، والمعهود هو الفرد الأكمل، وجعلها العلامة العصام للاستغراق. وفيه نظر؛ لأن بعض الأفراد لغيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء، إلا أن يتكلف بأن ما كان لغيره فهو منه؛ لأن الله تعالى أقطعه الدنيا والآخرة، فيعطي منهما ما شاء لمن شاء. واختار النبي على الرسول؛ اقتداء بآية: ﱡﭐ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱠ .
قوله: (محمد) بدل من نبيه، ولا يرد أن المبدل منه في نية الطرح والرمي؛ لأن ذلك أغلبي لا كلي، أو أنه بالنسبة لعمل العامل.
وقوله: (المؤيد) بفتح الياء المشددة على أنه اسم مفعول، كما هو المشهور، أي: المقوّى في دعوى الرسالة، أو بكسرها على أنه اسم فاعل، أي: المقوي دعواه الرسالة، وعلى كل فهو من التأييد، وهو التقوية.
قوله: (بساطع حججه وواضح بيناته) متعلق بالمؤيد. والساطع في الأصل المرتفع، من سطع الصبح: ارتفع، والمراد به هنا: القوي والواضح بمعنى الظاهر. والحجج: جمع حجة. والبينات: جمع بينه، والحجة والبينة متحدان ذاتا، مختلفان اعتبارًا؛ لأنهما بمعنى ما يتقوى به المدعي، لكن من حيث إنه يحج به الخصم فهو حجة، ومن حيث إنه يتبين به صدق المدعي فهو بينة. ومقتضى هذا أن المراد بالحجج والبينات شيء واحد وهو المعجزات، ويحتمل أن المراد بالبينات خصوص الآيات القرآنية، ولا يرد أن فيها غير واضح؛ لأن وضوحها باعتباراته لا تناقض فيها ولا تضارب. والأولى أن يكون الضمير في “حججه وبيناته” لله تعالى؛ ليفيد أن ما أيد به صلى الله عليه وسلم من الحجج والبينات، أعظم مما أيد به غيره من الأنبياء؛ لأن المعنى حينئذ: المؤيد بالساطع من حجج الله والواضح من بينات الله، على أن الإضافة على معنى “من”، أو بحجج الله الساطعة وبينات الله الواضحة، على أن الإضافة من إضافة الصفة للموصوف، فيفيد أن غيره من الأنبياء لم يؤيد بساطع من حجج الله ولا بواضح من بينات الله؛ لأن المتبادر من قوله: “المؤيد بالساطع من حجج الله والواضح من بينات الله” أن سطوع ما أيد به النبي صلى الله عليه وسلم ووضوحه بالنسبة لجميع ما عداه، كما في قولهم: هذا الشجر مرتفع من بين الأشجار، فإن المتبادر منه ارتفاعه بالنسبة لجميع ما عداه، ولا يرد أنها لا تفيد ذلك على القطع؛ لأن المقام خطابي، يكفي فيه الظن. ويجوز أن يكون الضمير فيما تقدم لسيدنا محمد، وعليه فالأولى أن تجعل الإضافة في “حججه وبيناته” من إضافة الصفة للموصوف على حد قولهم: إخلاق ثياب، فإنه من إضافة الصفة للموصوف، فيفيد التمدح بأن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بحجج جميعها ساطع وبينات كلها واضح؛ لأن المعنى حينئذ: المؤيد بحججه الساطعة وبيناته الواضحة، بخلاف ما إذا جعلت الإضافة على معنى “من” فإنه لا يفيد ذلك؛ لأن المعنى حينئذ: المؤيد بالساطع من حججه والواضح من بيناته. وسائر الأنبياء إما كذلك، أو جميع حججهم ساطعة وجميع بيناتهم واضحة، فيلزم تساويهم معه أو فضلهم عليه؛ ولذلك فرع العلامة الخيالي على تقدير كون الضمير لسيدنا محمدصلى الله عليه وسلم قوله: “فساطع حججه من قبيل إخلاق الثياب” والحاصل أن الاحتمالات أربعة؛ لأن الضمير إما لله أو للنبي، وعلى كل فالإضافة إما على معنى “من” أو من إضافة الصفة للموصوف. والأولى جعل الضمير لله باحتماليه، وعلى جعله للنبي فالأولى جعل الإضافة من إضافة الصفة للموصوف، وما قيل: الحجة لمن يدعي شيئا، والنبي هو المدعي، فلا يحسن جعل الضمير لله تعالى، ليس بشيء.
قوله: (وعلى آله وأصحابه) استظهر السيد الشريف أن كلمة “على” للتنبيه على أن الصلاة على الآل والأصحاب، جنس آخر غير جنس الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ونظير ذلك قوله تعالىﱡﭐ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱠ انتهى.
قوله: (هداة طريق الحق) صفة أولى للآل والأصحاب، والهداة: جمع هاد وهو الدال، والمراد بطريق الحق: الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فالمعنى: الدالين لغيرهم على أدلة الحق، وهو الحكم المطابق للواقع.
وقوله: (وحماته) صفة ثانية للآل والأصحاب، والحماة بضم الحاء المهملة: جمع حام بمعنى حافظ، والضمير للحق أو لطريق الحق. فالمعنى: الحافظين للحق أو لطريق الحق بالذب عند ورد شبه المخالفين له ونحو ذلك، وقد تقدم أن في ذلك رمزا إلى مباحث الإمامة.
قال الشارح: وبعد،فإنَّ مبنى علم الشرائع والأحكام، وأساس قواعد عقائد الإسلام، هو علم التوحيد والصفات الموسوم بالكلام، المنجي من غياهب الشكوك وظلمات الأوهام. وإن المختصر المسمى بـ(العقائد)، للإمَامِ الهمام، قدوة علماء الإسلام، نجم الملة والدين عمر النَّسَفِيّ، أعلى الله درجته في دار السلام، يشتملُ من هذا الفنِّ على غُرَرِ الفَرَائد، ودُرَرِ الفوائد، في ضمن فصولٍ هي للدين قواعد وأصول، وأثناء نصوص هي لليقين جواهر وفصوص، مع غاية من التنقيح والتهذيب، ونهاية من حسن التنظيم والترتيب.
قال الخيالي:
قوله: (و بعد فإن) مبنى هذه الفاء إما على توهم “أما” أو على تقديرها في نظم الكلام بطريق تعويض الواو عنها بعد الحذف علىأنه لا منع من اجتماع الواو مع أما كما وقع في عبارة المفتاح في أواخر فن البيان.
قوله: (وأساس قواعد عقائد الاسلام) القواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس وأساس العقائد الإسلامية هو الكتاب والسنة؛ لأن العقائد يجب أن تستفاد من الشرع ليعتد بها، وهما يتوقفإن على المسائل الكلامية ففي هذه القرينة ترقّ في المدح؛ لشمول الأولى للكتاب والسنة بخلاف الثانية، ويمكن أن يقال: أساس العقائد أدلتها التفصيلية، وهي تتوقف على هذا العلم بناء على أن مبحث النظر والدليل جزء منه على ما هو المختار.
قوله: (هو علم التوحيد والصفات) أي: علم يعرف فيه ذلك، فالمراد هو المعنى الإضافي ويمكن أن يراد المعنى اللقبي، فنسبة الوسم إلى الكلام لكونه أشهر.
وقوله: (المنجي عن غياهب الشكوك) إشارة إلى فائدة من فوائده و”الغيهب” ما اشتد سواده، فلرجحان الشك على الوهم أضاف الغيهب إليه والظلمة إلى الوهم.
قوله: ( نجم الملة والدين) هما متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار، فإن الشريعة من حيث إنها يطاع لها دين، ومن حيث إنها تملى وتكتب ملة، والإملال بمعنى: الإملاء وقيل من حيث إنها تجمع عليها ملة.
قوله: ( في دار السلام) أي: الجنة سميت بها؛ لسلامة أهلها من كل ألم ولأن خزنة الجنة تقول لأهلها ﱡﭐ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﱠ ولأن السلام اسم من اسماء الله تعالى، فأضيف إليه تشريفا له ومعنى هذا الاسم هو الذي منه وبه السلامة، ووجه تخصيص هذا الاسم ظاهر.
قال السيالكوتي:
قوله: (أما على توهم أما…إلخ) الفرق بين توهم أما وتقديرها أن معنى التوهم حكم العقل بواسطة الوهم أنها مذكورة في النظم بواسطة اعتباره بها في أمثال هذا المقام فيكون حكمًا كاذبًا ومعنى التقدير أنها مقدرة فيه وتجعل في الأحكام كالمذكورة، فهو حكم مطابق للواقع وبالجملة كلا الوجهين ذكرهما السيد قدس سره وتبعه من جاء بعده لكن الشيخ الرضي صرح بأن تقدير أما مشروطة بكون ما بعد الفاء أمرًا أو نهيًا وما قبلها منصوبًا به كقوله تعالى: ﱡﭐ ﲠ ﲡ ﱠ، والأولى أن يقال إتيان الفاء لإجراء الظرف مُجرى الشرط كما ذكره الشيخ الرضي في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﱠ.
قوله: (بطريق تعويض الواو) متعلق بالتقدير إذ لا يجوز الجمع بينها وبين أما لأنها في أوائل الكتب إما من الاقتضاب أو فصل الخطاب كما هو المشهور، وكلاهما يقتضيان الانقطاع عمّا قبله، وأما على تقدير التوهم قالوا وإما لعطف الجملة على الجملة بناء على أن هذه الجملة لإنشاء مدح العلم والمختصر أو على أن جملة الحمد والصلاة إخبارية لما أن الاخبار بالحمد يستلزم الحمد والصلاة بدل على التعظيم، وإما لعطف القصة على القصة والجامع أن السابق تمهيد للتأليف، وهذا بيان لسببه والظرف معمول أقول المفهوم من السياق.
قوله: (كما وقع في عبارة المفتاح) حيث قال: وأما بعد فإن خلاصة الأصلين إلى آخره، ذكر بعض المحققين أنه إذا قصد بإما ضبط الإجمال بعد التفصيل يكون بمنزلة أن يقول: وبالجملة، فيجوز الجمع بينها وبين الواو، وفائدتها تأكيد مضمون الكلام، وما وقع في المفتاح من هذا القبيل يؤيده قوله خلاصة إلخ. وأما إذا كان من الاقتضاب أو فصل الخطاب كما فيما نحن فيه فلا يجوز.
قوله: ( القواعد) جمع قاعدة، وهي الأساس يعني أن القاعدة ههنا بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي؛ أعني: القضية الكلية المنطبقة على أحكام الجزئيات.
قوله: (لأن العقائد…إلخ) حاصله أن العقائد سواء كان العقل كافياً في إثباتها ولايتوقف إثباتها على الشرع كمسألة وجود الواجب وعلمه وقدرته وكلامه وإرادته أو لا يكون كافيًا كمسألة الحشر وأحوال الجنة، فإن قبول أمثال هذه إنما هو بالشرع يجب أن يؤخذ جميع تلك العقائد من الكتاب والسنة ليعتد بها ويعتمد عليها وإلا لكانت كمسائل الحكمة الإلهية العقلية الصرفة التي لا تصلح للإعتداد إذ كثيرًا ما يحكم العقل بمقتضيات الوهم التي يجب تنزيه الله تعالى عنها وإذا كانت من حيث الاعتداد موقوفة على الكتاب والسنة يكون الكتاب والسنة أساسًا لها، والحال أن ثبوت الكتاب والسنة يتوقف على المسائل الكلامية من كون الواجب موجودًا وقادرًا وعالمًا ومريدًا ومرسلًا للرسل ومصدقًا لها إذ لو لم يثبت كل منها لم يثبت الكتاب والسنة كما لايخفى فيكون الكلام أساسًا للكتاب والسنة الذين هما أساسان للعقائد الإسلامية.نقل عنه فإن قلت: أولًا إن العقائد من الكلام، وكون الكلام أساس أساسها يقتضي كون الشيء أساسًا لنفسه إذ لا يتوقف الكتاب إلا على المسائل الاعتقادية وثانيًا إن الكلام أساس العقائد لأن أساس الأساس أساس، والكتاب أساس علم الكلام لأن العقائد من الكلام فأساسها أساسه، فالكتاب أساس أساس العقائد، فالقرينة الثانية تشمل الكتاب والسنة مثل الأولى، قلت: أولاً الحصر المذكور ممنوع، وإن سلم فالعقائد بحسب اعتدادها تتوقف على الكتاب المتوقف على العقائد بحسب ذاتها، وثانيًا أن المتبادر من أساس الشيء هو الأساس بالذات، وإن سلم فأساس الفن ما يتوقف هو عليه لا بعض مسائلهوإن سلم فأساس الكتاب هو ذات العقائد والكتاب إنما هو أساس العقائد من حيث الاعتداد فلا يكون أساسًا لأساسها من حيث هو أساس فليتأمل انتهى، فما ذكره أولًا إبطال للتوجيه المذكور لكونه أساس الأساس بأنه يستلزم أساسية الشيء لنفسه لأن جميع العقائد على ماذكرتم يتوقف على الكتاب، وهو لا يتوقف إلا على المسائل الاعتقادية فلا بد أن يراد بالمسائل التي جعلتموها أساسًا له تلك المسائل الاعتقادية فيلزم أن يكون بعض العقائد أساسًا لجميعها، ومن جملتها ذلك البعض، فيلزم أساسية الشيء لنفسه، ولا يخفى أن قوله: “العقائد من الكلام” مما لايحتاج إليه ، اللهم إلا أن يقال: المقصود منه الإشارة إلى أنه كما يلزم أساسية العقائد لنفسه كذلك يلزم أساسية الكلام لنفسه، وذلك لأن العقائد من الكلام فأساسها أساسه، فالكتاب أساس الكلام، والكلام أساس له فيكون الكلام أساسًالنفسه، وما ذكره ثانيًا منع لإفادة القرينة الثانية للترقي، وحاصله أن الكلام أساس العقائد لأنه أساس الكتاب الذي هو أساس العقائد، وأساس الأساس أساس، والكتاب أساس الكلام لأن العقائد من الكلام، فأساسها أساسه، فالكتاب أساس أساس العقائد، فالقرينة الثانية في اشتمالها الكتاب والسنة كالأولى، فلا تفيد الترقي في المدح، وأجاب أولًا عن الاعتراض الأول بأن الحصر المستفاد من قوله: إذ لا يتوقف الكتاب إلا على المسائل الاعتقادية ممنوع، إذ كما يتوقف الكتاب عليها يتوقف على مبادئ تلك المسائل وعلى مباحث النظر أيضًا، فالمراد بالمسائل الكلامية مبادئ تلك المسائل أو مباحث النظر أيضًا، فلايلزم أساسية الشيء لنفسه لكن لما كان في منع الحصر المذكور نوع مكابرة لأن ثبوت الكتاب والسنة إنما يتوقف بالذات على ثبوت الواجب وإرادته وقدرته وكلامه على ماسيجيء * وأما على مباديها فإنما هو بالواسطة، فجعلُ الكلام أساس الأساس باعتبار مباديها دون نفسها تحكم، وكذا جعله أساسًا باعتبار مباحث النظر يستلزم أن يكون المنطق وأصول الفقه أساس أساس العقائد لما أن مباحث النظر جزء منه على أن في توقف الكتاب على مباحث النظر نظرًا. قال: “وإن سلم…إلخ” أي: ولو سلم الحصر المذكور فنقول: الفرق بالاعتبار متحقق لأن العقائد من حيث الاعتداد يتوقف على الكتاب، والكتاب يتوقف عليها من حيث ذاتها، فاللازم توقف العقائد من حيث الاعتداد على نفسها من حيث الذات ولا استحالة فيه، قال الفاضل المحشي في توجيه منع الحصر: لا نسلم أن الكتاب لايتوقف إلا على المسائل الاعتقادية لم لا يجوز أن يثبت الكتاب بإعجازه بسبب بلاغته الظاهرة لأهل البلاغة انتهى، أقول: توجيه المنع بهذا الطريق يضر الموجه لأنه حينئذ لا يتوقف الكتاب على المسائل الكلامية أصلًا، فلا يكون أساس أساس العقائد على أن الإعجاز بسبب البلاغة إنما يدل على أنه خارج عن طوق البشر، وأما كونه من الله فموقوف على ثبوت أنه موجود قادر مريد متكلم، وسيجيئ تفصيل هذا، وأجاب ثانيًا عن الاعتراض الثاني بمنع المقدمة الأولى؛ أعني: قوله: “الكلام أساس العقائد” بسند أن المتبادر من الأساس ما يكون أساسًا بالذات، والكلام ليس أساس العقائد بالذات بل بالواسطة، وبمنع المقدمة الثانية؛ أعني: قوله: “والكتاب أساس الكلام” بسند أن أساس الفن مايتوقف عليه كله لا بعض مسائله، وإلا لزم أن يكون المنطق أساس الكلام بل علوم العربية لأنه يتوقف بعض مسائله عليها بل الكلام أساس نفسه لتوقف بعض مسائله على بعض آخر منه، ولئن سلمنا كلتا المقدمتين فأساس الكتاب هو نفس العقائد، والكتاب إنما هو أساس العقائد من حيث الاعتداد، فلا يكون الكتاب أساسًا لأساس العقائد من حيث هو أساس، وفيه أن معنى الأساسية هو التوقف من أي جهة كانت، فاعتبار قيد الحيثية ليس بواجب في كونه أساس الأساس، ولعله أراد هذا بقوله فليتأمل.
قوله: (ففي هذه القرينة ترق في المدح…إلخ) تفريع على ماسبق، يعني إذا كان المراد بالقواعد الكتاب والسنة ففي هذه ترق في مدح الكلام ليس في قوله: “مبنى علم الشرائع والأحكام” لأن القرينة الأولى شاملة للكتاب والسنة لكونهما أيضًا مبنى الأحكام الشرعية العملية بل كونها مبنى لها أولًا وبالذات لاستنباطها منهما، وكون الكلام أساسًا لها باعتبار توقفهما عليه بخلاف الثانية، فإنها غير شاملة للكتاب والسنة إذ لا يصدق عليهما أساس أساس عقائد الإسلام، قال الفاضل المدقق: وفيه أن قوله: هو علم التوحيد والصفات بالضمير الدال على الحصر يدل على أن الأولى تختص بعلم التوحيد والصفات غير متناولة للكتاب والسنة وإن كان على سبيل الادعاء، فلا يناسب ملاحظة الترقي بالوجه المذكور في القرينة الثانية انتهى، ولا يخفى أن هذا الاعتراض بعد تسليم دلالة الضمير على الحصر المذكور إنما يريد لو تقدم الإخبار على العطف فيكون القصر بالنسبة إلى كل من القرينتين، وأما لو كان العطف مقدمًا على الإخبار فحينئذ يكون القصر بالنسبة إلى مجموع القرينتين ولا شك أنه قصر حقيقي وليس غير الكلام متصفًا بمجموع مافي القرينتين.
قوله: (ويمكن أن يقال…إلخ) يعني ان المراد بالقواعد الأدلة التفصيلية وهي الأدلة العقلية والنقلية المذكورة في بيان تلك العقائد على التفصيل، والكلام أساس لتلك الأدلة بناء على أن استلزامها لتلك العقائد وصحتها وفسادها يعرف بالكلام لأن مباحث النظر جزء منه على ما اختاره المتأخرون فيكون أساس أساس العقائد، قال بعض الفضلاء: وفيه أنه إنما يفيد مدح كلام المتأخرين حيث جعلوا مباحث النظر جزءًا منه لا كلام القدماء مع أن المختصر فيه وأنه يلزم أن يكون المنطق أساس عقائد الإسلام وأيضًا المبين في مباحث النظر إنما هو عوارض المبادئ لا نفسها، وأعلى العلوم مايبين فيه نفسه، وإلا يلزم أن يكون المنطق أعلى من الإلهي ولم يقل به أحد، وبه صرح قدس سره في حواشي العضدية فتأمل انتهى.
قوله: (بناء على أن مباحث النظر…إلخ) الأولى أن يقال بناء على أن إثبات تلك الأدلة وإقامة الدليل عليها إنما هو في الكلام حتى لايرد عليه ما سبق والذي خطر بالبال في توجيه عبارة الشارح، وأرجو أن يكون هو الأظهر أن المراد من القواعد القضايا الكلية التي تتوقف عليها العقائد من مباحث الأمور العامة والجواهر والأعراض، والكلام أساس لتلك القواعد لأنها تبين فيه بالدلائل القطعية، وللفضلاء في توجيه عبارة الشارح وجوه كثيرة تركناها مع ما يرد عليها مخافة الإطناب.
قوله: (أي علم يعرف فيه ذلك…إلخ) أي: المسائل المتعلقة بتوحيد الواجب وصفاته، قال بعض الفضلاء: وهو كلام أهل السنة والجماعة لا المعتزلة لأنهم ينفون الصفات، فكلامهم علم التوحيد الصرف، وفيه أن المعتزلة لم ينفوا الصفات بمعنى عدم البحث عنها حتى يكون كلامهم علمًا يعرف فيه التوحيد دون الصفات بل نفيهم بمعنى عدم إثباتها زائدة على الذات قيصدق على كلامهم أنه علم متعلق بالتوحيد والصفات لأنه يبحث فيه عن أحوال الصفات بأنها ليست زائدة على ذات الواجب.
قوله: (فنسبة الوسم…إلخ) حيث قال الموسوم بالكلام قيل هذا ناظر إلى التوجيهين معًا يعني أن الشارح إنما أورد الموسوم بعد قوله: علم التوحيد بناء على أن لفظ الكلام كان أشهر أسماء الكلام، وعندي أنه ناظر إلى التوجيه الأخير ودفع اعتراض نشأ منه، وهو أنه إذا كان علم التو حيد والصفات لقبًا له فلامعنى لنسبة الوسم إلى الكلام، بل الواجب أن يقول: “الموسوم بعلم التوحيد والصفات والكلام”، فتخصيص الوسم يدل على أنه لم يرد المعنى اللقبي، ودفعه المحشي بقوله: “فنسبة الوسم إلخ” يعني إنما نسب الوسم إلى الكلام مع كون كل منهما علمًا له لاشتهاره به، فيكون قوله: “الموسوم بالكلام” صفة موضحة له بمنزلة عطف البيان كما يقال جاءني أبو حفص الموسوم بعمر.
قوله: (من فوائده) إشارة إلى أن فوائده كثيرة كما ذكر في “شرح المواقف”.
قوله: (فإن الشريعة…إلخ) أي الأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده من الاعتقاديات والعمليات من حيث إنها تطاع يقال لها دين، يقال: دانه؛ أي: ذلّه وأطاعه، ومن حيث إنها تكتب ملة، يقال أمللت الكتاب وأمليته أي: كتبته، ففي إضافة النجم إلى الملة والدين إشعار بأنه مقتدى اهل العلم والعمل لأن الكتابة شعار العلماء والعمل شأن الأتقياء، وفي تاخير الدين عن الملة إشارة إلى شرف العلم على العمل.
قوله: (والإملال بمعنى الإملاء…إلخ) نقل عنه هذا جواب سؤال مقدّر، وهو أن يقال كيف يقال الشريعة من حيث إنها تملي ملة، والحال أن الملة من المضاعف والإملاء من الناقص.
قوله: (سميت…إلخ) يعني أن دار السلام مركب إضافي، سميت الجنة به إما لأن أهلها سالمون من الآفات أو لأنهم مخاطبون بالسلام، وعلى هذين التقديرين يكون لفظ السلام مصدراً، أو لأن السلام من أسماء تعالى أضيف الجنة إليه تشريفاً لها كما يقال: بيت الله للمسجد الحرام، فحينئذ يكون لفظ السلام صفة مشبهة.
قوله: (ومعنى هذا الاسم هو الذي منه السلامة) أي: في المبدأ، وبه السلامة أي: في المعاد أو معناه ذو السلامة عن جميع النقائص
قوله: (فوجه تخصيص هذا الاسم) يعني إذا كان السلام من أسماء الله فوجه تخصيص إضافة الدار إليه دون اسم آخر ظاهر لأن معنى هذا الاسم المعطي للسلامة، والجنة دار السلامة، ففي كل منهما معنى السلامة.
قال الباجوري:
قوله: (وبعد) بالبناء على الضم؛ لحذف المضاف إليه ونية معناه، وهو النسبة التقييدية التي بين المضاف والمضاف إليه. وإنما نسبت للمضاف إليه حيث قالوا معناه مع أنها لا تعمل إلا بين المضاف والمضاف إليه؛ لأنه يتوقف تحققها على المضاف إليه. والواو يحتمل أنها عاطفة عطف قصة على قصة، وضابطه: أن يعطف مجموع جمل سيقت لغرض على مجموع جمل سيقت لغرض، وبين الغرضين تناسب كما هنا. فإن ما سبق تمهيد للتصنيف، وما يأتي بيان لسببه؛ إذ القصد بقوله: “فإن…إلخ” بيان سبب شرح المختصر المسمى “بالعقائد”، وعلى هذا الاحتمال فالإتيان بالفاء في قوله: “فإن…إلخ” لتوهم أمّا ويحتمل أنها نائبة عن أمّا، والأصل: “أما بعد” فحذفت أما وعوض عنها الواو، وعلى هذا الاحتمال فالفاء في قوله: “فإن…إلخ” لتقدير أمّا في نظم الكلام بطريق تعويض الواو عنها بعد الحذف، فالواو على هذا الاحتمال نائبة عن أما، لا عاطفة حتى يلزم على تقدير أما أن الأصل “وأما بعد” فيقال: إن”أما بعد” لفصل الخطاب، وهو موجب للانقطاع، وحينئذ لا يجوز الإتيان معها بالواو المقتضية للوصل على أنه قد يقصد بـ”أما بعد” الإجمال بعد التفصيل، وحينئذ يجوز الإتيان معها بالواو المذكورة، فتكون بمنزلة قولهم: وبالجملة، كما وقع في المفتاح، في أواخر فن البيان حيث قال: “وأما بعد فإن خلاصة الأصلين…إلخ” فقصده بـ”أما بعد” الإجمال بعد التفصيل. فكأنه قال: وبالجملة كما يدل عليه قوله: “خلاصة”. والفرق بين قولهم “أما” وتقديرها: أن معنى التوهم حكم العقل بواسطة الوهم أنها مذكورة في الكلام بواسطة اعتياده للإتيان بها في مثل هذا المقام، ومعنى تقديرها: أنها ملحوظة في الكلام كالمذكورة، وقد ذكر هذين الوجهين السيد الشريف ومن تبعه، لكن الرضي صرح بأن تقدير “أما” مشروط بكون ما بعد الفاء أمرا أو نهيا، وكون ما قبلها منصوبا، كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲠ ﲡ ﱠ، وعليه فلا يصح تقدير أما هنا؛ لفقد الشرطين المذكورين، وحينئذ فالفاء لتوهم أما أو لإجراء الظرف مجرى الشرط، كما ذكره سيبويه في قولك: حين لقيت زيدا فأنا أكرمه، وجعل الرضي منه قوله تعالى: ﱡﭐ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﱠ.
قوله: (فإن مبنى…إلخ) في تعبيره بالمبنى أولا وبالأساس ثانيا تفنن؛ لأن المبنى: ما انبنى عليه غيره وهو الأساس.
وقوله: (علم الشرائع والأحكام) أي: العلم المتعلق بالشرائع والأحكام، فالإضافة من إضافة المتعلق بالكسر للمتعلق بالفتح، وجعلهَا بعضهم للبيان. والشرائع: جمع شريعة والمراد بها الأحكام الفرعية، كثبوت وجوب كذا، وثبوت حرمة كذا. وعطف الأحكام عليها من قبيل عطف المساوي؛ لأن الأحكام، وإن كانت أعم من الشرائع، لكن المراد بها الأحكام الفرعية التي أريدت بالشرائع. ومحصل هذه الفقرة: أن علم التوحيد يتوقف عليه علم الأحكام الشرعية الفرعية. وبيان ذلك أن علم الأحكام الشرعية الفرعية مأخوذ من الكتاب والسنة، وثبوت الكتاب والسنة متوقف على صدق الرسول، وهو متوقف على المعجزة، وهي لا تكون إلا ممن اتصف بالقدرة والإرادة وغيرهما من بقية الصفات، ولا يعلم ذلك إلا من علم التوحيد.
قوله: (وأساس…إلخ) عطف على “مبنى…إلخ”.
وقوله: (قواعد عقائد الإسلام) أي: قواعد عقائد أهل الإسلام، فهو على تقدير مضاف. والمراد الإسلام المنجي عند الله، وهو الإذعان الظاهري الموافق للإذعان الباطني. ومعنى العقائد: الأحكام الأصلية الاعتقادية، سواء كان العقل كافيا في إثباتها كثبوت القدرة لله، أو لم يكن كافيا في إثباتها، كثبوت الحشر والنشر. والمراد بقواعد هذه العقائد: الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ لأن العقائد تنبني عليها، فتكون تلك الآيات والأحاديث أساس العقائد الإسلامية؛ لأن هذه العقائد لابد وأن تستفاد من الشرع ليعتد بها، وإلا لكانت كمسائل الحكمة العقلية الصرفية التي لا اعتداد بها؛ لأن العقل كثيرا ما يحكم بمقتضيات الوهم. ومحصل هذه الفقرة: أن علم التوحيد يتوقف عليه الكتاب والسنة، وهما ينبني عليهما العقائد الإسلامية. أما توقف الكتاب والسنة على علم التوحيد؛ فلأن ثبوتهما متوقف على صدق الرسول، وهو متوقف على المعجزة، وهي لا تكون إلا ممن اتصف بالصفات التي لا تعلم إلا من علم التوحيد. وأما انبناء العقائد الإسلامية على الكتاب والسنة؛ فلأنها لا يعتد بها إلا إذا كانت مأخوذة منهما فتلخص من مجموع الفقرتين: أن علم التوحيد يتوقف عليه الأحكام الشرعية الفرعية، ويتوقف عليه الكتاب والسنة الذين يتوقف عليهما الأحكام الأصلية الاعتقادية. وفي الفقرة الثانية ترقٍ في مدح علم التوحيد؛ لأنه مدحه في الفقرة الأولى بأنه مبنى علم الشرائع والأحكام، مع أن الكتاب والسنة مبنى علم الشرائع والأحكام أيضا، بل الكتاب والسنة مبنى ذلك أولا، وبالذات لاستنباطه منهما. وأما علم التوحيد فهو مبنى باعتبار توقف الكتاب والسنة عليه كما تقدم. ومدحه في الفقرة الثانية بأنه أساس أساس العقائد الإسلامية. ولا يتصف بذلك إلا علم التوحيد. فالفقرة الأولى تشمل الكتاب والسنة؛ لأنهما مبنى علم الشرائع والأحكام. وأما الثانية فلا تشملهما؛ لأنهما ليسا أساس أساس العقائد الإسلامية. فإن قيل ينافي كون الكتاب والسنة مبنى علم الشرائع والأحكام قوله: “هو علم التوحيد”، فإن الضمير يدل على الحصر وحينئذ تكون الفقرة الأولى مساوية للفقرة الثانية، فلا يكون في الفقرة الثانية ترق. أجيب بأن الحصر بالنسبة إلى مجموع الفقرتين، فليس غير علم التوحيد متصفا بمجموع الفقرتين، وهذا لا ينافي أن الكتاب والسنة يتصفان بالفقرة الأولى، فحينئذ يثبت الترقي في الفقرة الثانية. فإن قيل لا نسلم أنه يثبت الترقي في الفقرة الثانية حينئذ؛لأن الكتاب والسنة يشاركان علم التوحيد فيها أيضا كالأولى. فإن علم التوحيد أساس العقائد؛ بواسطة كونه أساسا للكتاب والسنة اللذين هما أساس العقائد الإسلامية؛ إذ أساس الأساس لشيء، أساس لذلك الشيء. والكتاب والسنة أساس لعلم التوحيد؛ بواسطة أنه أساس العقائد التي هي منه. فقد صدق على الكتاب والسنة أنه أساس أساس العقائد الإسلامية، فشارك علم التوحيد في الفقرة الثانية الكتاب والسنة، فلم تفد الترقي. أجيب بأن المتبادر من الأساس ما يكون أساسا بالذات، وعلم التوحيد ليس أساس العقائد بالذات بل بالواسطة، فلم يصدق على الكتاب والسنة أنهما أساس أساس العقائد، وحينئذ ثَمَّ كون الفقرة الثانية فيها ترقٍ. فإن قيل العقائد من علم التوحيد، وقد جعل أساسا لها بواسطة كونه أساسا للكتاب والسنة اللذين هما أساس العقائد، فيلزم أساسية العقائد لنفسها. أجيب بأن جهة الأساسية مختلفة؛ لأنها متوقفة على الكتاب والسنة من حيث الاعتداد، وهما يتوقفان على التوحيد من حيث الذات. فاللازم أساسية العقائد من حيث الذات لنفسها من حيث الاعتداد، ولا استحالة فيه. ويجوز أن يراد بقواعد العقائد الأدلة التفصيلية، عقلية كانت أو نقلية. وإنما كان علم التوحيد أساسا لتلك الأدلة؛ لأن إثباتها إنما هو في علم التوحيد. ويجوز أيضا أن يراد بقواعد العقائد: القضايا الكلية التي تتوقف عليها العقائد، كالقضايا المتعلقة بالجواهر والأعراض والأمور العامة. وإنما كان علم التوحيد أساسا لتلك القضايا؛ لأنها بيّنت فيه بالأدلة القطعية، وعلى هذا الاحتمال فالمراد بالقواعد: المعنى الاصطلاحي بخلافه على غيره، فإن المراد بها عليه المعنى اللغوي. وللفضلاء في هذه العبارة وجوه أخر تركتها خوف الإطالة.
قوله: (هو علم التوحيد والصفات) أي: الذي هو كلام أهل السنة، بخلاف كلام المعتزلة فإنه علم التوحيد دون الصفات؛ لأنهم نفوها كما قاله بعض الأفاضل، وإن بحث فيه العلامة عبد الحكيم، ثم إنه يحتمل أن يكون المراد من ذلك: المعنى الإضافي، وهو المتبادر من قوله: “الموسوم…إلخ”؛ لأن تخصيص الوسم بالكلام يدل على أن غيره ليس موسوما به، والمعنى على هذا الاحتمال: هو علم يعرف فيه التوحيد والصفات. والمراد بالتوحيد الوحدة، وإن كان مدلوله اعتقاد الوحدة، وحينئذ فعطف الصفات على التوحيد من عطف العام على الخاص، ويحتمل أن يكون المراد منه المعنى اللقبي، وعلى هذا الاحتمال يكون قوله: “علم التوحيد والصفات” مفردا بمنزلة عبد الله علما، فإن قيل كان عليه حينئذ أن يقول هو الموسوم بعلم التوحيد والصفات وبالكلام، فلا يخص الوسم بالكلام. أجيب بأنه خص الوسم بالكلام؛ لكونه أشهر.
قوله: (الموسوم) أي: المسمى، والضمير فيه لعلم التوحيد والصفات، لكن على احتمال أن المراد منه المعنى العلمي يكون الضمير عائدا عليه باعتبار مدلوله، فيكون فيه استخدام.
وقوله: (بالكلام) متعلق بالموسوم، وسيأتي قريبا في الشرح بيان حكمة تسمية هذا الفن بالكلام، فتفطن.
قوله: (المنجي) بالجيم أي: المخلص، أو بالحاء المهملة أي: المبعد، من التنحية وهي الإبعاد، وهذا هو الأنسب بالتعدية بعن، وعلى كل فهو بيان لفائدة من فوائد علم التوحيد الكثيرة، كما ذكره في “شرح المواقف”.
قوله: (عن غياهب الشكوك) أي: عن الشكوك الشبيهة بالغياهب، فالإضافة من إضافة المشبه به للمشبه. والغياهب: جمع غيهب وهو الظلمة الشديدة، فهو أخص من مطلق الظلمة. والشكوك: جمع شك وهو إدراك كل من الطرفين على حد سواء.
وقوله: (ظلمات الأوهام) أي: الأوهام الشبيهة بالظلمات، فالإضافة من إضافة المشبه به للمشبه، كما في سابقه. والأوهام: جمع وهم وهو إدراك الطرف المرجوح. فإن قيل: من علم التوحيد السمعيات، التي لا طريق لها إلا السمع، وهو قد لا يفيد اليقين، بل يفيد الظن الذي يستلزم الوهم؛ لأنه مقابله، فكيف يكون علم التوحيد منجيا عن ظلمات الأوهام؟ أجيب: بأن الأوهام ظلمة في اليقينيات دون الظنيات، كما قاله العصام، وإنما أضاف الغياهب للشكوك ومطلق الظلمات للأوهام؛ لقوة الشك على الوهم، فأضاف الأقوى إلى الأقوى والأضعف إلى الأضعف.
قوله: (وأن المختصر…إلخ) عطف على قوله: “فإن مبنى…إلخ”. فبعد أن مدح علم التوحيد بما تقدم، شرع يمدح هذا المختصر بما يأتي؛ توطئة لكونه يشرح هذا المختصر، كما يدل عليه قوله فيما بعد: “فحاولت أن أشرح…إلخ” وليس المتن مختصرا من كتاب، كما قد يتوهم من وصفة بالمختصر، وإنما وصفه بذلك؛ لأن المصنف اختصر فيه المسائل المطولة، حيث أوردها مجردة عن أدلتها وذكر الاختلاف فيها.
قوله: (المسمى بالعقائد) إنما سمي بذلك؛ لأن جميع ما فيه عقائد صرفة؛ إذ لم يذكر المصنف فيه الوسائل إلى الأحكام كالمبادئ. فإن قيل قوله: “قال أهل الحق…إلخ” وسيلة للعقائد، فلم يخل المختصر عن الوسائل. أجيب: بأن ذلك له جهتان: جهة كونه وسيلة، وجهة كونه من العقائد. والمنظور إليه هنا الجهة الثانية.
قوله: (للإمام…إلخ) أي: الكائن للإمام…إلخ. فالجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة ثانية للمختصر. ومعنى الإمام: المتقدم على غيره في العلوم النقلية والعقلية. ومعنى الهمام: عظيم الهمة في تحرير المطالب العلمية.
قوله: (قدوة علماء الإسلام) أي: قدوة علماء أهل الإسلام الآخذين عنهم، ولو بواسطة، والقدوة: بتثليث القاف بمعنى المقتدى به، أو باقية على ظاهرها، ويكون قد جعله نفس القدوة مبالغة.
قوله: (نجم الملة والدين) أي: المضيء فيهما. فالنجم: بمعنى المضيء، والإضافة من إضافة الشيء إلى محله، فيكون قد شبه الملة والدين بالسماء بجامع العلو والشرف، وطوى لفظ المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو النجم، ففيه استعارة بالكناية وتخييل. وفي الإضافة المذكورة إشارة إلى أن المصنف جمع العلم والتقوى؛ لأن الملة مرجعها العلم وهو شعار العلماء. والدين مرجعه الطاعة، وهي شعار الأتقياء. وفي تقديم الملة على الدين إشارة إلى شرف العلم على العمل. وفي الحقيقة الملة والدين بمعنىواحد، غاية الأمر أنهما يختلفان بالاعتبار، فهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار. فإن كلا منهما بمعنى الأحكام الشرعية، لكن من حيث إنه يدان لها، أي: ينقاد ويطاع لها، تسمى دينا ومن حيث إنها تملى، أي: تلقى على الرسول أو علينا، تسمى ملة. ولا يرد أن الملة من الإملال وهو مضاعف، فكيف تسمى ملة من حيث إنها تملى مع أنه من الإملاء وهو ناقص؟ لأن الإملال بمعنى الإملاء. وقيل إنها إنما سميت ملة من حيث إنها يجمع عليها؛ لأنه يقال مَلّ القوم على كذا إذا أجمعوا عليه، لكن قال بعض الأفاضل في حواشيه على “التلويح” “ولم أجد في كتب اللغة استعمال الملة بمعنى الاجتماع” وقد أشار إلى ذلك العلامة الخيالي حيث حكاه بصيغة التمريض.
قوله: (عمر) هو أبو حفص بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن لقمان السّمرقندي. مات سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.
وقوله: (النسفي) نسبة لنسف: بفتح السين قرية من بلاد الترك، كما نقل عن بعض الأشياخ.
قوله: (أعلى الله درجته…إلخ) أي: رفع الله منزلته…إلخ، وهذه الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى؛ إذ القصد بها الدعاء للمصنف.
قوله: (في دار السلام) أي: التي هي الجنة. والمراد بالسلام في ذلك السلامة من الآفات والآلام، وسميت الجنة بذلك على هذا؛ لسلامة أهلها عن كل آفة وألم. والمراد به سلام التحية، وسميت الجنة بذلك على هذا؛ لأن خزنتها تقول لأهلها: سلام عليكم طبتم، أو المراد به اسم الله تعالى، وأضيفت إليه؛ تشريفا لها. ووجه تخصيص هذا الاسم بإضافتها إليه دون بقية الأسماء كالرحمن ونحوه ظاهر؛ لأن معنى هذا الاسم: الذي منه السلامة في الدنيا، وبه السلامة في الآخرة، وأهل الجنة سالمون فيها من كل آفة وألم، ففي كل منهما معنى السلامة.
قوله: (يشتمل…إلخ) خبر أن في قوله: “وأن المختصر…إلخ”، فالضمير المستتر في يشتمل عائد للمختصر، وهو اسم للألفاظ المخصوصة الدالة على المعاني المخصوصة، فيكون الاشتمال من اشتمال الدال على المدلول؛ إذ المشتمل هو المختصر وهو اسم للألفاظ كما علمت، والمشتمل عليه هو الغرر والدرر. والمراد بهما المسائل التي هي المعاني.
قوله: (من هذا الفن) أي: الذي هو علم التوحيد. والجار والمجرور حال من الغرر والدرر، وقدمت الحال على صاحبها المجرور؛ رعاية للسجع. وفيه جرى على مذهب الكوفيين المجوزين لتقديم الحال على صاحبها المجرور، كما في قوله تعالىﱡﭐ ﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ فكافة: حال مقدمة على صاحبها المجرور وهو الناس.
قوله: (على غرر الفرائد ودرر الفوائد) الجار والمجرور متعلق بيشتمل. والغرر: جمع غرة وهي في الأصل بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، واستعيرت هنا للمسألة شديدة الحسن استعارة تصريحية بجامع شدة الحسن. والفرائد: جمع فريدة وهي في الأصل الجوهرة الثمينة. سميت بذلك؛ لأنها تفرد في ظرف وحدها لئلا تختلط بغيرها، واستعيرت هنا للمسألة الحسنة والدرر: جمع درة وهي في الأصل الجوهرة، واستعيرت هنا للمسألة الحسنة. والفوائد: جمع فائدة وهي ما استفيد من علم أو مال وغيرهما كجاه، والمراد بها هنا المسألة العلمية. والإضافة في “غرر الفوائد ودرر الفوائد” على معنى “من”. وحاصل المعنى: يشتمل على ما اشتد حسنه من المسائل الحسنة، وعلى المسائل الحسنة من المسائل العلمية حال كون كل منهما من علم التوحيد. وفي التعبير بالفرائد والدرر إشارة إلى أن ذلك العلم المأخوذ من المسائل المعبر عنها بهما كالبحر الذي يستخرج منه الدرر والفرائد. ولعل المراد بدرر الفرائد ما استفاده من مشايخه مما اختص به حتى يغاير ما قبله، وإن لم يتعين ذلك لكون الخطبة مقام إطناب.
قوله: (في ضمن فصول) أي: حال كون الغرر والدرر في ضمن فصول، فالجار والمجرور حال من درر وغرر. والمراد بكونها في ضمن الفصول أن الفصول مشتملة عليها اشتمال الدال على المدلول؛ إذ الفصول جمع فصل وهو الطائفة من الكلام. سميت فصلا؛ لأنها تفيد معنى مفصولا عن غيره. أي: متميز عنه غير ملتبس به.
وقوله: (هي للدين قواعد وأصول) أي: تلك الفصول باعتبار مدلوها قواعد وأصول للدين، فالضمير راجع للفصول باعتبار مدلولها. والمراد بالدين الأحكام الفرعية. وإنما كانت الفصول باعتبار مدلولها قواعد وأصولا للدين بمعنى الأحكام الفرعية؛ لأن العمل بالأحكام الفرعية لا يعتد به، إلا بعد العلم بمدلول هذه الفصول، الذي هو الأحكام الأصلية المعبر عنها بالغرر والدرر. وعطف الأصول على القواعد من قبيل عطف التفسير. والمراد بهما هنا: المعنى اللغوي وهو الأساس.
قوله: (وأثناء نصوص) أي: وفي أثناء نصوص، فهو عطف على ضمن، والأثناء: الوسط. والنصوص: جمع نص والمراد به المنصوص عن أهل الحق ولو بحسب المعنى؛ لتصدير المصنف الكتاب بقوله: “قال أهل الحق” والمراد بكون الغرر والدرر في أثناء النصوص: أن النصوص مشتملة عليها اشتمال الدال على المدلول.
وقوله: (هي لليقين جواهر وفصوص) أي: تلك النصوص كالجواهر والفصوص لليقين بجامع التحلية بكلٍ؛ فكما أن الذهب ونحوه يحلى بالجواهر والفصوص المرصعة عليه، كذلك اليقين يحلى بالنصوص، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة بالكناية وتخييل، فيكون قد شبه اليقين بنحو الذهب المرصع بالجواهر والفصوص بجامع مطلق النفاسة في كلٍ وطوى لفظ المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الجواهر والفصوص، وعلى هذا تكون النصوص هي الجواهر والفصوص مبالغة. والمراد باليقين: الجزم المتعلق بالغرر والدرر السابقة. والمراد من الجواهر: الدرر التي تستخرج من البحر؛ بقرينة ذكر الفصوص، لا الجواهر المقابلة للأعراض، كما يفهم من كلام العصام. والمراد بالفصوص: ما اختير من الجواهر ليرصع به الذهب ونحوه، فعطف الفصوص على الجواهر من عطف الخاص على العام. فتحصل من كلامه: أن هذا المختصر احتوى على أحكام أصلية، معبر عنها بالغرر والدرر، كائنة في فصول تفيد تلك الأحكام، ونصوص تقوى الجزم المتعلق بها.
قوله: (مع غاية من التنقيح والتهذيب) حال من ضمير يشتمل الراجع للمختصر. أي: حال كونه مصاحبا للمرتبة العظمى من مراتب التهذيب الذي هو تخليص المعاني من المبتذل منها. فالتنقيح متعلق بالألفاظ، والتهذيب متعلق بالمعاني.
قوله: (ونهاية من حسن التنظيم والترتيب) أي: ومع المرتبة العظمى من مراتب حسن التنظيم، الذي هو وضع كل شيء في مرتبته، وإن لم تكن الأشياء المرتبة متناسبة. فبين التنظيم والترتيب عموم وخصوص وجهي. وإضافة حسن للتنظيم والترتيب، من إضافة الصفة للموصوف. أي: التنظيم الحسن والترتيب الحسن.
قال الشارح: فحاولتُ أن أشرحَه شرحاً يفصِّل مجملاته، ويبين معضلاته، وينشر مطوياته، ويظهر مكنوناته، مع توجيهٍ للكلام في تنقيح، وتنبيهٍ على المرام في توضيح، وتحقيقٍ للمسائل غب تقرير، وتدقيقٍ للدلائل إثر تحرير، وتفسيرٍ للمقاصد بعد تمهيد، وتكثيرٍ للفوائد مع تجريد، طاوياً كشح المقال عن الإطالة والإملال، ومتجافياً عن طرفي الاقتصاد والإطناب والإخلال. واللهُ الهادي إلى سبيل الرشاد، والمسؤول لنيل العصمة والسداد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال الخيالي:
قوله: (طاويا كشح المقال) الكشح: الجنب، وطي الكشح كناية عن الإعراض.
قوله: (الإطناب والإخلال) بالجر مجموعهما بدل من الطرفين أو بيان لهما، ولما تعدد المتبوع معنى أجري الإعراب على كل منهما، ويجوزرفعهما على أنهما خبر مبتدأ محذوف.
قوله: (وهو حسبي ونعم الوكيل) رد الشارح في بعض كتبه هذا العطف بأن الجملة الثاية إنشائية فلا تُعطَف على الأولى الإخبارية، وكذا على “حسبي” باعتبار تضمنه معنى يحسبني؛ لأنه خبر أيضا، ويرد عليه أن المراد بالجملة الأولى إنشاء التوكل لا الإخبار عنه تعالى بأنه كاف، وهو ظاهر، وأيضا يجوز أن يعتبر عطف القصة على القصة بدون ملاحظة الإخبارية والإنشائية، وردّه بعض الفضلاء أيضا بأنه يجوز أن يقدر مبتدأ في المعطوف بقرينة المعطوف عليه؛ أي: “وهو نعم الوكيل” فتكون إخبارية كالأولى، ثم قال وأيضا يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب، ويدل عليه قطعا قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﱠ لأن هذه الواو من الحكاية لا من المحكي؛ إذ لا مجال للعطف فيه إلا بتأويل بعيد لا يلتفت إليه وهو أن يقال تقديره: “وقلنا نعم الوكيل” وليس هذا مختصا بما بعد القول؛ لحسن قولنا:”زيد أبوه عالم وما أجهله” ويرد عليه أنه يحتمل أن يكون الواو في الآية من المحكي بتقدير المبتدأ في المعطوف أو عطفه على الخبر المقدم ثم إن حسن المثال المذكور بدون التقدير ممنوع وبعد تقدير المبتدأ في المعطوف يكون إخبارا كالمعطوف عليه.
قال السيالكوتي:
قوله: (كناية عن الإعراض) لأن المعرض عن الشيء يطوي كشحه عنه، فذكر اللازم الذي هو طي الكشح وأراد الملزوم وهو الإعراض، ويجوز أن يكون استعارة تخييلية مرشحة بأن شبه في نفسه المقال بما له كشح فأثبت الكشح تخييلاً ورشحه بالطي والمآل واحد.
قوله: (ولما تعدد المتبوع…إلخ) نقل عنه وهذا جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: إن الإعراب للتابع والبدل يكون واحدًا، فلِمَ تعدد الإعراب ههنا؟ فأجاب بقوله: “ولما تعدد إلى آخره” وحاصله أن المتبوع أيضًا متعددٌ معنًى، فكأنه ذكر كلًّا من المتبوعين على حدة وعقبه بتابعه.
قوله: (بأن الجملة الثانية إنشائية…إلخ) يعني أن الجملة الثانية وهي قوله: “نعم الوكيل” جملة إنشائية لأن أفعال المدح وضعت لإنشائه، والجملة الأولى؛ أعني: قوله: “وهو حسبي” جملة إخبارية، فلا يجوز عطف إحداهما على الأخرى بالواو لكمال الانقطاع، وكذا لا يجوز عطفه على حسبي، أما على تقدير عدم التأويل فلأنه يلزم عطف الجملة على المفرد وهو غير جائز لما مرّ، وأما على تقدير تأويله بيحسبني فلأنه وإن حصل المناسبة بينهما بأن كلًّا منهما جملة فعلية لكن الأولى خبرية والثانية إنشائية على هذا التقدير أيضًا.
قوله: (ويرد عليه…إلخ) يعني أن الجملة الأولى وإن كانت خبرية صورة لكنها واقعة في محل الدعاء والمقصود بها إنشاء الكفاية لا الإخبار بأنه تعالى كاف في نفس الأمر وهو ظاهر، قال بعض الأفاضل ينقل الكلام حينئذ إلى عطفه على قوله: “والله الهادي” وإن جعل ذلك لإنشاء المدح فينقل الكلام إلى عطفه على قوله: “فحاولت”، وجعلُه إنشاءً لشرحه بعيدٌ جدًّا، أقول جملة والله الهادي ليس معطوفًا على جملة فحاولت حتى يلزم البعد بل هو جملة دعائية، والواو فيه اعتراضية كما في قوله: إن الثمانين وبلغتها فكأنه قال: اللهم اهدني إلى سبيل الرشاد وأعطني العصمة والسداد، وعدل إلى الجملة الاسمية للدلالة على الدوام والثبات كما في الحمد لله.
قوله: (وأيضًا يجوز عطف القصة على القصة…إلخ) معنى عطف القصة على القصة على ما بينه السيد الشريف ناقلًا عن صاحب الكشاف أن يعطف جمل مسوقة لغرض على جمل مسوقة لغرض آخر لمناسبة بين الغرضين فكلما كانتأشد كان العطف أحسن من غير نظر إلى كون الجمل خبرية أو إنشائية، فعلى هذا يشترط في عطف القصة على القصة أن يكون كل من المعطوف والمعطوف عليه جملًا متعددة، وههنا ليس كذلك، ولعل المحشي أراد بعطف القصة على القصة عطف حاصل مضمون إحدى الجملتين على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى اللفظ، وهذا العطف مما جوزه الشارح في شرح التلخيص في بحث الفصل والوصل ووصفه بالدقة والحسن، وأيده بمثال أورده صاحب الكشاف، وهو زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرًا بالعفو والإطلاق، وإن رده السيد السند هنا، لكن بقي ههنا بحث، وهو أن الشارح إنما رد هذا العطف في عبارة التلخيص ولا يمكن جعل وهو حسبي فيه إنشاء، ولا يقول صاحبه بعطف القصة على القصة بشيء من المعنيين على ما نص عليه الشارح في بحث الفصل والوصل منه، فلا يتم جواب المحشي من قبله، نعم لو كان قصد الشارح رد هذا العطف مطلقًا لتم لكنه ليس كذلك، كيف وقد اعترف به في “شرح الكشاف ” وبوقوعه في القرآن نحو ﱡﭐ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﱠ قوله: (وردّه بعض الفضلاء…إلخ) أي: ردّ سيد المحققين رد الشارح هذا العطف في حاشيته على شرح التلخيص بأنه يجوز عطف نعم الوكيل على مجموع هو حسبي بأن يقدر المبتدأ في المعطوف إما مقدمًا ليناسب المعطوف عليه أي: هو نعم الوكيل فيكون المخصوص مقدمًا على نعم الوكيل نحو زيد نعم الرجل علىما صرح به صاحب المفتاح وغيره من أن المخصوص مقدم عليه، وإما مؤخرًا أي: نعم الوكيل هو، ويكون المخصوص المؤخر مبتدأ على مذهب من يجعله مبتدأ، وإنما يتعرض السيد السند لهذا الاحتمال لأنه لايتم على مذهب من يجعل المخصوص خبر مبتدإ محذوف بخلاف الاحتمال الأول إذ لا خلاف في أنه إذا كان مقدمًا فهو متعين للابتداء، ولايخفى عليك أنه بعد تقدير المبتدإ لو لم يؤولنعم الوكيل بمقول في حقه ذلك يكون الجملة أيضًا إنشائية إذ الجملة الاسمية التي خبرها إنشاء إنشائية كما أن الجملة التي خبرها فعل فعلية بحسب المعنى، كيف لا ولا فرق بين نعم الرجل زيد وزيد نعم الرجل في أن مدلول كل منهما نسبة غير محتملة للصدق والكذب، وبعد التأويل لايكون المعطوف جملة نعم الوكيل، بل جملة متعلقة خبرها نعم الوكيل، واعتراض الشارح إنما هو في عطف نعم الوكيل على أنه بعد التأويل يفوت إنشاء المدح العام الذي وضع أفعال المدح لإنشائه بل يصير لإخبار المدح الخاص، وهو أنه مقول في حقه نعم الوكيل.
قوله: (وأيضًا يجوز…إلخ) يعني ثم قال بعض الفضلاء في رد الشارح بأنه يجوز عطف نعم الوكيل على حسبي باعتبار تضمنه معنى يحسبني لأنه وإن كان إخبارًا لكن له محل من الإعراب لوقوعه خبرًا لهو، ويجوز عطف الإنشاء على الإخبار الذي له محل من الإعراب، فإن قلت: الموجب لمنع العطف كمال الانقطاع، وهو باقٍ في صورةٍ يكون للإخبار محل من الإعراب، فما الوجه في جوازه؟ قلتُ: الوجه أن الجمل التي لها محل من الإعراب واقعة موقع المفردات لأن نِسَبَها ليست مقصودة بالذات، فلا التفات إلى اختلافها بالإنشائية والإخبارية بل الجمل حينئذ في حكم المفردات التي وقعت موقعها، فيجوز عطف تلك الجمل بعضها على بعض كالمفردات، ومن هذا تبين وجه جواز عطف الجمل التي لها محل من الإعراب على المفرد وبالعكس، فحينئذ يجوز عطف جملة نعم الوكيل على حسبي بلا تأويله بيحسبني لأنها جملة لها محل من الإعراب، صرح به السيد السند في حاشية المطول، هذا وقد ذكر الشيخ الرضي أن “نعم الرجل” بمعنى المفرد وتقديره رجل جيد فحينئذ لا إشكال في عطفه على “حسبي”.
قوله: (ويدل عليه قطعًا) أي: يدل على أن عطف الإنشاء على الإخبار الذي له محل من الإعراب جائز قوله تعالى: ﱡﭐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕﱠ فإن نعم الوكيل معطوف على حسبنا الله وهو إخبار له محل من الإعراب لأنه مقول قالوا.
قوله: (لأن هذه الواو من الحكاية لا من المحكي…إلخ) دفع لتوهم أنه لِمَ لا يجوز أن يكون مجموع الجملتين مقول قالوا بثبوت الواو بينهما بأن يكون المقول على سبيل الحكاية حسبنا الله ونعم الوكيل فلا يكون من عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب؟ ووجه الدفع أن الواو من الحكاية أي: من كلام الحاكي أي: قالو حسبنا الله وقالو نعم الوكيل، ولا يجوز أن يكون من الكلام المحكي لأنه لا يصح العطف حينئذ، إذ يلزم عطف الإنشاء على الإخبار فيما لا محل له من الإعراب إلا بتأويل بعيد وهو أن يقال: تقديره وقلنا: نعم الوكيل، ومثل هذا التقدير لا يلتفت إليه لعدم انسياق الذهن إليه ولاقرينة دالة عليه مع أنه لا مناسبة بين مفهومي الجملتين على وجه يحسن العطف بالواو.
قوله: (وليس هذا مختصاً بما بعد القول) حتى يتوهم أن جواز المذكور فيما إذا كان بعد القول ولأن مصحح العطف هو أنه إذا كان للجملة محل من الإعراب فيكون بمنزلة المفرد الذي وقعت في موقعه هو مشترك في جميع المواد وليس مختصًّا بما بعد القول على ما يشهد به حسن قولنا: زيد أبوه عالم وما أجهله، فإن جملة وما أجهله لإنشاء التعجب عطفت على أبوه عالم وهي خيرية.
قوله: (ويرد عليه) أي: على ما قاله بعض الفضلاء من أن الآية دالة على جواز العطف المذكور قطعًا أنه يجوز أن يكون الواو من المقول المحكي ويكون مدخول الواو معطوفًا على ما قبله بتقدير المبتدإ إما مؤخرًا ليناسب المعطوف عليه، فإن حسبنا خبر والله مبتدأ لأن الحسب بمعنى المحسب وإضافته إلى ضمير المتكلم لفظية، وإلا فالمبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين يجب تقديم المبتدأ على الخبر في كلام البلغاء بقرينة ذكره في المعطوف عليه ومجيء حذفه في الاستعمال وانتقال الذهن إليه ، وإما مقدمًا رعاية لقرب المرجع مع ما سبق، وبما ذكرنا اندفع ما قاله الفاضل المحشي من أن تقدير المبتدأ مقدمًا تأويلٌ بعيدٌ، إذ المشهور تقدير المخصوص بالمدح مؤخرًا، وعلى هذا يكون من قبيل عطف الإنشاء على الإخبار، وأما تقدير المبتدإ في قوله: وهو حسبي ونعم الوكيل فليس ببعيد لأن المبتدأ مذكور في المعطوف عليه مقدمًا على الخبر بخلاف حسبنا الله إذ لم يذكر فيه اسم الله مبتدأ مقدمًا على الخبر لأن التأويل المذكور إنما يكون بعيدًا إذا لم يكن قرب المرجع داعيًا إلى تقديره مقدمًا كما أن تقديمه في المعطوف عليه قرينة على تقديره في المعطوف مقدمًا في فهو حسبي ونعم الوكيل، وعلى تقدير التأخير لا يكون من عطف الإنشاء على الإخبار على أحد المذهبين وهو أن يكون المخصوص المقدر مبتدأ، وهذا القدر كاف لنفي قطعية دلالته.
قوله: (أو عطفه…إلخ) يعني يجوز أن لا يكون الواو من الحكاية ويكون نعم الوكيل معطوفًا على حسبنا الذي هو خبر مقدم على المبتدإ، فيكون من عطف الجملة التي لها محل من الإعراب لأنه حينئذ يكون خبرًا عطفًا على المفرد، والسيد السند قدس سره يجوّز عطف الجملة على المفرد إذا كان لها محل من الإعراب على ماصرح به في حاشيته على شرح التلخيص لا من عطف الإنشاء على الإخبار هذا ثم بعد تسليم كون الواو من الحكاية لا يدل على الجواز المذكور قطعًا لجواز أن يكون قالوا مقدرًا في المعطوف بقرينة ذكره في المعطوف عليه فيكون من عطف الجملة الفعلية الخبرية على الجملة الفعلية الخبرية نقل عنه أن تقدير المبتدإ يبطل أصل الاستدلال، وأما العطف على الخبر المقدم فإنه يبطل الطريق المذكور انتهى، لأنه على الأول لايكون من عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب، وعلى الثاني لا يكون الواو من الحكاية *واعلم أن ما أورده المحشي إنما يرد لو كان معنى قوله قطعًا يقينيًا أما لو كان معناه دلالة تقطع مادة الاعتراض ولو إلزامًا فلا لأنه لا يمكن للمعترض أن يعترف بهذه التوجيهات إذ لو اعترف بها لم يكن لاعتراضه موقع لجريانها في حسبي الله ونعم الوكيل.
قال الباجوري:
قوله: (فحاولت أن أشرحه…إلخ) أي: فأردت أن أكشفه وأبينه…إلخ. وهذا متسبب عما قبله، من مدح علم التوحيد ومدح المختصر، كما أفادته الفاء.
قوله: (شرحا) أي: بشرح فهو منصوب بنزع الخافض، ويحتمل أنه منصوب على المصدرية. وعلى الأول: فالمراد بالشرح الألفاظ المخصوصة باعتبارد دلالتها على المعاني المخصوصة، ويؤيده أن الموصوف بالصفات الآتية إنما هو الشرح بالمعنى المذكور. وعلى الثاني: فالمراد بالشرح المعنى المصدري، وتكون الضمائر في الأفعال الآتية، أعني: “يفصل ويبين…إلخ” عائدة عليه، لا بالمعنى المصدري بل بمعنى الألفاظ المخصوصة، فيكون فيه استخدام.
قوله: (يفصل مجملاته) صفة أولى للشرح. والمجملات: هي الألفاظ التي لم تتضح معانيها؛ بأن كانت مشتركة اشتراكا لفظيا أو متواطئة. فالإجمال في الأولى راجع للمعنى، وفي الثانية راجع للماصدق. والمراد بتفصيلها: بيان المعنى المراد منها.
قوله: (ويبين معضلاته) صفة ثانية للشرح. والمعضلات: بكسر الضاد المشكلات التي صعب على الناظر فهمها. والمراد بتبيينها: تصويرها تصويرا تتضح به.
قوله: (وينشر مطوياته) صفة ثالثة للشرح. ومطوياته: المعاني التي انطوى عليها، فإذا كان اللفظ محتملا لمعانٍ متعددة، نشرها الشرح. والمراد بنشرها: بسطها.
قوله: (ويظهر مكنوناته) صفة رابعة للشرح. والمكنونات: هي المعاني الخفية المستترة، كأنها في كِنّ، والمراد بإظهارها بيانها.
قوله: (مع…إلخ) راجع للأفعال الأربعة، وهي: “يفصل ويبين وينشر ويظهر”.
قوله: (توجيه للكلام) أي: لكلام المصنف. والتوجيه: تصحيح ما ظاهره الفساد، فإذا كان كلام المصنف يتبادر منه غير المراد، صرفه إلى المراد. فهذا الصرف يقال له توجيه.
وقوله: (في تنقيح) أي: للفظ المفيد لذلك التوجيه. و”في” بمعنى مع وفي الإتيان بها؛ إشارة إلى كمال هذا التنقيح حتى صار كأنه ظرف للتوجيه. وعلم من ذلك أن هذا التنقيح متعلق باللفظ الذي يأتي به الشارح، لا بكلام المصنف، فلا يرد ما قيل: إن هذا ينافي ما سبق من أن كلام المصنف مصاحب لغاية من التنقيح.
قوله: (وتنبيه) أي: ومع تنبيه، فهو عطف على توجيه.
وقوله: (على المرام) متعلق بتنبيه. والمرام: بفتح الميم وضمها هو المراد.
وقوله: (في توضيح) أي: للمرام. و”في” بمعنى مع. وفي الإتيان بفي ما سبق.
قوله: (وتحقيق) أي: ومع تحقيق، فهو عطف على توجيه.والمراد بالتحقيق أحد معنييه: وهو إثبات المسألة بدليل، لا المعنى الآخر: وهو ذكر الشيء على الوجه الحق.
وقوله: (للمسائل) متعلق بتحقيق. والمسائل: جمع مسألة والمراد بها أحد معنييها وهو النسبة التي تكون في القضية، لا المعنى الآخر وهو القضية بتمامها.
وقوله: (غِبَّ تقرير) أي: عقب تقرير لتلك المسائل. أي: جعلها في قرار، وهو اللفظ الدال عليها. والظرف متعلق بتحقيق فهو ظرف له.
قوله: (وتدقيق) أي: ومع تدقيق. فهو عطف على توجيه. والمراد بالتدقيق أحد معنييه: وهو إثبات الدليل بدليل آخر إذا كانت مقدماته نظرية، لا المعنى الآخر: وهو ذكر الشيء على وجه فيه دقة.
وقوله: (للدلائل) متعلق بتدقيق. والدلائل: جمع دلالة بمعنى دليل، لا جمع دليل، أو جمعه أدلة.
وقوله: (إثر تحرير) أي: بعد تحرير لتلك الدلائل. أي: تخليصها من الحشو.
قوله: (وتفسير) أي: ومع تفسير، فهو عطف على توجيه.
وقوله: (للمقاصد) متعلق بتفسير. والمقاصد: هي المعاني المقصودة. وأتى بذلك مع علمه مما سبق لأجل قوله: “بعد تمهيد”.
وقوله: (بعد تمهيد) أي: بعد توطئة للمقصود، بأن يقدم على المقصود ما يساعد على فهمه؛ ليكون فهمه بعد ذلك أتم.
قوله: (وتكثير) أي: مع تكثير فهو عطف على توجيه.
وقوله: (للفوائد) متعلق بتكثير، وأشار بذلك إلى أنه لا يقتصر على فوائد المصنف، بل يأتي بفوائد زائدة عليها.
وقوله: (مع تجريد) أي: تجريدها عن الحشو.
قوله: (طاويا كشح المقال…إلخ) أي: حال كوني طاويا كشح المقال…إلخ، فهو حال من الفاعل في قوله: “فحاولت أن أشرحه…إلخ” وأصل الكشح: ما بين الخاصرة والضلع الخلف، ولا يخفى أن المقال الذي هو القول ليس له كشح، فيكون في الكلام استعارة بالكناية وتخييل، حيث شبه المقال بذي كشح، وطوى لفظ المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الكشح فهو تخييل.
وقوله: (طاويا) ترشيح، وبعد ذلك فهو كناية عن الإعراض؛ إذ من أعرض عن شيء طوى كشحه عنه، فهو من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم.
وقوله: (عن الإطالة) أي: الزيادة على ما يؤدي أصل المراد بلا فائدة من غير تعيينه للزيادة، كما في قوله: “وألفى قولها كذبا ومينا”، فإن تعين فهو الحشو، كما في قوله: “وأعلم علم اليوم والأمس قبله”.
وقوله: (والإملال) من عطف اللازم على الملزوم، إذ يلزم من الإطالة الإملال، أي: السآمة.
قوله: (متجافيا…إلخ) أي: حال كوني متجافيا…إلخ، فهو حال من الفاعل في قوله: “فحاولت أن أشرحه…إلخ” فتكون حالا مترادفة، أو من الضمير في قوله: “طاويا كشح المقال…إلخ” فتكون حالا متداخلة.
وقوله: (عن طرفي الاقتصاد) متعلق بمجافيا، والاقتصاد: هو التوسط بين الإفراط والتفريط، ومنه الحديث الشريف: “ولا عَالَ من اقتصد” والمراد بطرفيه: الإفراط والتفريط، لكن في جعل كل منهما طرفا للاقتصاد تسمح؛ لأن طرف الشيء جزء منه، وكل منهما ليس جزءا من الاقتصاد.
قوله: (الإطناب والإخلال) بالجر على أنهما بدل من طرفي الاقتصاد، أو عطف بيان لهما، أو بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف، أي: وهما الإطناب والإخلال، أو بالنصب على أنهما مفعولان لفعل محذوف، أي؛ أعني: بطرفيه الإطناب والإخلال. فإن قيل: كان مقتضى الظاهر على جعله بدلا أو عطف بيان، أن يجعل الإعراب على آخر الكلمة الأخيرة؛ لأن مجموعهما هو التابع فيعرب بإعراب المتبوع، وقد جعل الإعراب على آخر كل من الكلمتين على حدته. أجيب بأن المتبوع لما تعدد معنىً، جعل الإعراب على كل منهما، فكأنهما تابعان لمتبوعين، وبأن التابع لما كان أمرين كل منهما قابل لأن يعرب بإعراب المتبوع، جعل الإعراب على كل منهما. ومعنى الإطناب: الزيادة على ما يؤدي به أصل المراد لفائدة. ومعنى الإخلال: إيجاد الخلل في دلالة اللفظ على المعنى؛ بسبب الإجحاف في الاختصار.
قوله: (والله الهادي…إلخ) هذه الجملة ليست معطوفة على جملة “فحاولت” كما قاله العلامة عبد الحكيم، وإلا لزم عطف الإنشاء على الخبر؛ لأن هذه الجملة خبرية لفظا إنشائية معنىً، وجعل جملة فحاولت إنشائية معنىً؛ لكون المقصود بها إنشاء مدح الشرح بعيد جدا. ومعنى الهادي: الدال من الهداية وهي الدلالة.
وقوله: (إلى سبيل الرشاد) أي: إلى طريق الاهتداء، وحاصل المعنى: اللهم دلني إلى طريق الاهتداء؛ لفهم معنى كلام المصنف، بخلق قوة الفكر، وذكاء الفهم، واستحضار الأدلة المناسبة للمعنى المقصود، وإزالة الشواغل.
وقوله: (والمسئول…إلخ) عطف على الهادي…إلخ.
وقوله: (لنيل العصمة والسداد) أي: لحصول الحفظ من الخطأ في فهم معنى كلام المصنف، وإصابة الصواب فيه. فالمراد من العصمة مطلق الحفظ، وأما العصمة الواجبة للأنبياء فهي بمعنى: الحفظ من الذنب، مع استحالة وقوعه. ومعنى السداد: إصابة الصواب، واللام: زائدة للتقوية، وفي بعض النسخ إسقاطها. فإن قيل: كان اللائق تقديم قوله: “والمسئول…إلخ” على قوله “الهادي…إلخ” لأن الهداية بعد السؤال. أجيب بأن: ما سلكه الشارح فيه إشارة إلى أن المولى كريم يعطي قبل السؤال، بل وبدون سؤال.
قوله: (وهو حسبي ونعم الوكيل) أي: وهو كافيَّ فيما طلبته منه، ونعم المفوض إليه في الأمور التي منها مطلوبي المذكور، فحسبي بمعنى كافيَّ. والوكيل بمعنى المفوض إليه. وقد رد الشارح في بعض كتبه العطف في هذا التركيب بأن الجملة الثانية إنشائية؛ لأن “نعم” فعل مدح، وأفعال المدح وضعت لإنشائه، والجملة الأولى إخبارية؛ لأن القصد بها الإخبار بأن الله كافٍ، وحينئذ فلا يصح عطف الثانية على الأولى؛لما بينهما من كمال الانقطاع، وكذا على حسبي باعتبار تضمنه معنى يحسبني؛ لأن فيه عطف الجملة الإنشائية على الجملة الإخبارية تأويلا. ورد هذا الرد بأمور، الأول: أن الجملة الأولى ليست إخبارية، بل إنشائية؛ لأن المقصود بها إنشاء الكفاية لكونها واقعة في مقام الدعاء، لا الإخبار بأنه تعالى كاف. فحاصل هذا الرد: تسليم أنه لا يصح عطف الإنشاء على الإخبار، لكن لا نسلم أن ما هنا منه، بل من عطف الإنشاء على الإنشاء. فإن قيل: ينقل الكلام حينئذ إلى عطف الجملة الأولى على جملة قوله: “والله الهادي…إلخ” فإن جعلت إنشائية ينقل الكلام إلى عطفها على جملة قوله: “فحاولت…إلخ” وجعله إنشاء لمدح الشرح بعيد جدا. أجيب: بأنا نختار أن جملة قوله: “والله الهادي…إلخ” إنشائية، لكنها ليست معطوفة على جملة قوله: “فحاولت…إلخ” كما تقدم. وبحث في هذا الرد بأن الشارح إنما رد هذا العطف في عبارة التلخيص، ولا يمكن جعل “هو حسبي” فيها إنشاء؛ لأن صاحب التلخيص لا يقول بأن الجملة الاسمية تكون إنشائية، فليس قصد الشارح رد هذا العطف مطلقا حتى يتوجه عليه هذا الرد، كيف وقد اعترف به في “شرح الكشاف “، وبوقوعه في القرآن!نحو قوله تعالى: ﱡﭐ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﱠ الثاني: أن هذا العطف من قبيل عطف القصة على القصة، بدون ملاحظة الإخبارية والإنشائية، فحاصل هذا الرد: تسليم أنه لا يصح عطف الإنشاء على الإخبار؛ لكي لا نسلم أن ما هنا منه، بل من عطف القصة على القصة، من غير اعتبار إخبارية أو إنشائية. لا يقال عطف القصة على القصة يشترط فيه كون كل من المعطوف والمعطوف عليه جملا متعددة، كما يعلم من ضابطه المتقدم؛ لأنا نقول قد جوز الشارح في شرح التلخيص في بحث الفصل والوصل، عطف حاصل مضمون إحدى الجملتين على حاصل مضمون الأخرى، من غير نظر إلى اللفظ، ووصفه بالدقة والحسن ،وأيده بمثال أورده صاحب الكشاف وهو: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق، وإن رده السيد قدس سره. وبحث في هذا الرد بأن الشارح إنما رد هذا العطف في عبارة التلخيص كما علمت، وصاحب التلخيص لا يقول بعطف القصة على القصة على ما نص عليه الشارح في بحث الفصل والوصل، فليس قصد الشارح رد هذا العطف مطلقا حتى يتوجه عليه هذا الرد كما سبق في الذي قبله. الثالث: أنه يجوز أن يقدر مبتدأ في المعطوف بقرينة المعطوف عليه، والتقدير: وهو نعم الوكيل، فتكون الجملة الثانية إخبارية كالأولى. فحاصل هذا الرد: تسليم أنه لا يصح عطف الإنشاء على الإخبار لكن لا نسلم أن ما هنا منه بل من عطف الإخبار على الإخبار، وبحث في هذا الرد بأنه بعد تقدير المبتدأ لا تصير الجملة إخبارية إلا أولت بأن المعنى: وهو مقول فيه نعم الوكيل، وإلا كانت إنشائية بحسب المعنى. كيف لا ولا فرق بين نعم الرجل زيد، وزيد نعم الرجل في أن مدلول كل منهما نسبة غير محتملة للصدق والكذب، وبعد التأويل يكون المعطوف جملة متعلق، خبرها “نعم الوكيل”، ورد الشارح إنما هو في عطف “نعم الوكيل” على إنه بعد التأويل يفوت إنشاء المدح العام؛ لأنه يصير إخبارا بالمدح الخاص، وهو أنه مقول في حقه نعم الوكيل. الرابع: أنه يجوز أن تكون جملة نعم الوكيل معطوفة على حسبي باعتبار تضمنه معنى يحسبني؛ لأنه يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب. فحاصل هذا الرد: منع عدم جواز عطف الإنشاء على الإخبار مطلقا، بل يجوز فيما له محل من الإعراب. فإن قيل: الموجب لمنع العطف كمال الانقطاع، وهو موجود فيما له محل من الإعراب، فما الوجه في جوازه في ذلك؟ أجيب: بأن الجمل التي لها محل من الإعراب واقعة موقع المفردات؛ لأن نسبها ليست مقصودة بالذات، فلا التفات إلى اختلافها بالإنشائية والإخبارية، واستدل بعضهم على جواز العطف فيما له محل من الإعراب بقوله تعالى: ﱡﭐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﱠ لأن الواو من الحكاية لا من المحكي، فهو من كلام الحاكي وهو الله تعالى، لا من كلام المحكي عنهم وهم الصحابة؛ لأنه لا مجال للعطف حينئذ إلا بتأويل بعيد، وهو أن يقال: والتقدير: وقلنا نعم الوكيل، ومثل هذا التقدير لا يلتفت إليه لعدم انسياق الذهن إليه؛ إذ لا مناسبة حينئذ بين مفهومي الجملتين، لا يقال العطف في الآية بعد القول وما هنا ليس بعده؛ لأنا نقول ليس هذا مختصا بما بعد القول لحسن قولنا: زيد أبوه عالم، وما أجهله، فإن جملة “ما أجهله” إنشائية؛ لأنها لإنشاء التعجب، وهي معطوفة على جملة: “أبوه عالم”، وهي إخبارية؛ لأن لها محلا من الإعراب، وليست بعد القول. وبحث في هذا الاستدلال بأنه يحتمل أن تكون الواو من المحكي، ويقدر مبتدأ في المعطوف بقرينة ذكره في المعطوف عليه، أي: وهو نعم الوكيل، فيكون العطف في الآية من قبيل عطف الإخبار على الإخبار، ولكن قد سبق أن الجملة التي خبرها إنشاء تكون إنشائية، إلا إن أولت بأن المعنى: وهو مقول فيه نعم الوكيل، على أنه يحتمل أن تكون جملة “نعم الوكيل” معطوفة على الخبر المتقدم على المبتدأ، فإن “حسبنا” خبر مقدم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، وحينئذ فالجملة لها محل من الإعراب، والسيد السند يجوز عطف الجملة على المفرد، إذا كان لها محل من الإعراب، ثم إن حسن قولنا: زيد أبوه عالم، وما أجهله، بدون تقدير مبتدأ في المعطوف ممنوع، وبعد تقدير مبتدأ فيه يكون إخبارا كالمعطوف عليه؛ وعلم مما تقرر أن الثلاثة الأول بالتسليم، والرابع بالمنع.
قال الشارح: اعلم أن الأحكام الشرعية منها ما يتعلَّقُ بكيفية العمل، وتُسمَّى فرعية وعملية، ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية. والعلم المتعلِّق بالأولى يسمى علمَ الشَّرائعِ والأحكَامِ؛ لما أنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها. وبالثانية: علمَ التَّوحيد والصفات؛ لما أن ذلك أشهر مباحثه وأشرف مقاصده.
قال الخيالي:
قوله: (اعلم أن الأحكام الشرعية) للحكم معان ثلاثة: نسبة أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا، وإدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها، وخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أوالتخيير كالوجوب والإباحة ونحوهما، وهذا الأخير غير مراد ههنا؛ لأنه وإن عمّ الفعل الاعتقاد لكن يلزم انحصار مسائل الكلام في العلم بالوجوب وأخواته، واستدراك قيد الشرعية. اللهم إلا أن يحمل على التجريد في الأول أو التأكيد في الثاني أو يجعل التعريف للحكم الشرعي، فالمراد إما المعنى الأول ووجهه ظاهر أو الثاني فحينئذ يجعل العلمان عبارة عن المسائل أو الملكة وعلى التقديرين معنى الشرعية: ما يؤخذ من الشرع لا ما يتوقف عليه؛ لأن وجوده تعالى ووحدته مثلا لا تتوقف على الشرع لكن الأحكام الاعتقادية إنما يعتد بها إذا أخذت من الشرع.
قوله: (منها ما يتعلق بكيفية العمل) إن أريد به مطلق التعلق فالأمر ظاهر وإنما لم يعتبر التعلق بنفس العمل في الأولى لأن تعلقها بالعمل من حيث الكيفية وتعلق عامة الأحكام الثانية ليس كذلك وإن أريد به تعلق الإسناد بطرفيه أوالتصديق بالقضية فالمراد بالاعتقاد المعتقدات مثل وجود الواجب ووحدته، فحينئذ فيه إشارة إلى أن موضوع الفقه هو العمل، ويتوهم من أن موضوعه أعم من العمل؛ لأن قولنا الوقت سبب وجوب الصلاة من مسائله وليس موضوعه بعمل، ولأنهم عدّو علم الفرائض بابًا عن الفقه وموضوعه التركة ومستحقوها، ففيه أن ذلك القول راجع إلى بيان حال العمل بتأويل أن يقال: إنّ الصلاة تجب بسبب الوقت كما أنّ قولهم:”النية في الوضوء مندوبة” في قوة قولنا:”إن الوضوء يندب فيه النية” ثم إنه ينبغي أن يكون موضوع الفرائض قسمة التركة بين المستحقين كما أشار إليه من عرّفه بأنه علم يبحث فيه عن كيفية قسمة تركة الميّت بين الورثة لا التركة ومستحقوها على ما قيل وبالجملة تعميم موضوع الفقه مما لم يقل به أحد.
وقوله: (وبالثانية علم التوحيد والصفات) هذا من قبيل العطف على معمول عاملين مختلفين والمجرور مقدم، قال في التلويح: الأحكام الشرعية النظرية تسمى اعتقادية وأصلية ككون الإجماع حجة والإيمان واجبا، وبه يظهر أن ليس العلم المتعلق بالثانية على الإطلاق علم التوحيد؛ لأن حجية الإجماع من مسائل أصول الفقه، والجواب: إن هذه المسألة مشتركة بين الأصولين والمغايرة بحسب جهة البحث بناء على أن موضوع الكلام المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية.
قوله: (أشهر مباحثه) يشير إلى أن له مباحث أخرى، أما عند من يقول بأن موضوعه أعمّ من ذات الله فظاهر وأما عند غيره فلأن الصفة المطلقة عندهم هي الصفة الذاتية الوجودية ولذا لم يعدّوا مباحث الأحوال والأفعال والنبوة والإمامة من مباحث الصفات وإن رجع الكل إلى صفة ما، على أن الإمامة إنما هي من الفقهيات إلا عند بعض الشيعة
قال السيالكوتي:
قوله: (للحكم معان ثلاثة…إلخ) يعني قد يطلق الحكم على نفس النسبة الخبرية إيجابية كانت أو سلبية، وهذا المعنى عرفي، وقد يطلق على إدراك تلك النسبة بمعنى أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة يعني إدراكها بطريق الإذعان والقبول، وهذا مصطلح المنطقيين *واعلم أنه قد حقق أن النسبة الواقعة بين زيد وقائم هو الوقوع بعينه أو اللاوقوع كذلك وليس ههنا نسبة أخرى هي مورد الإيجاب والسلب، وأنه قد يتصور هذه النسبة في نفسها من غير اعتبار حصولها أو لاحصولها في نفس الأمر بل باعتبار أنها تعلق بين الطرفين تعلق الثبوت والانتفاء، ويسمى نسبة حكمية ومورد الإيجاب والسلب ونسبة ثبوتية أيضًا نسبة العام إلى الخاص؛ أعني: الثبوت لأنه المتصور أولًا، وقد تسمى سلبيةً أيضًا إذا اعتبر انتفاء الثبوت، وقد يتصور باعتبار حصولها أو لاحصولها في نفس الأمر، فإن تردد فهو الشك، وإن أذعن بحصولها أو لاحصولها فهو التصديق المسمى بالحكم بالمعنى الثاني عند المنطقيين، فالنسبة الثبوتية تتعلق بها علوم ثلاثة اثنان تصوريان أحدهما لا يحتمل النقيض والثاني يحتمله، والثالث تصديق، فقد ظهر أن المعنى الأول أي: نسبة أمر إلى آخر ليس أمرًا مغايرًا للوقوع واللاوقوع كما فهمه المحشي المدقق حيث جعل الوقوع معنىآخر للحكم، وأن معنى قوله نسبة أمر إلخ تعلق أمر إلخ وقوعاً كان أو لاوقوعاً إن كان الإيجاب والسلب بمعنى الوقوع واللاوقوع أو تعلق أمر بآخر سواء كان مورد الإيجاب أو مورد السلب إن كان بمعنى إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة صرح بكلا الإطلاقين الشارح في شرح الشرح لمختصر المنتهى، وإن معنى قوله إدراك وقوع النسبة أو لاوقوعها إدراك أن النسبة الثبوتية واقعة في نفس الأمر أو ليست بواقعة فيها، ثم إنه ذكر السيد الشريف أنه يجوز أن يفسر الحكم بالتصديق فقط وأن يفسر بالتصديق والتكذيب وهذا بناء على أن إذعان أن النسبة ليست بواقعة إذعان بأن النسبة السلبية واقعة، فعلى هذا يجوز أن يعرف الحكم بإدراك الوقوع فقط دون أن يعرف بإدراك الوقوع واللاوقوع معًا، فما ذكره المحشي المدقق من أن كون الحكم بمعنى إدراك وقوع النسبة أو لاوقوعها يشعر بأن المراد بالنسبة النسبة التقييدية التي يرد عليها الإيجاب والسلب لا النسبة التامة الخبرية لأن الحكم على تقدير كونها تامة ليس هو إدراك وقوعها فقط إيجابًا أو سلبًا بل إدراك نفسها على وجه الإذعان كذلك ليس بشيء كما لا يخفى على أنك قد عرفت أن ليس لنا نسبةسوى الوقوع واللاوقوع، وهما النسبة التامة الخبرية، وأما النسبة التقييدية المغايرة لها فما لا ثبت له، وإلا لزم ازدياد أجزاء القضية وتصورات التصديق على ثلاثة، وقد يطلق على خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وهذا مصطلح الأصوليين من الأشاعرة، والخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير، وبإضافته إلى الله خرج خطاب من سواه، والمراد به ههنا إما الكلام النفسي لأن اللفظي ليس بحكم، بل هو دال عليه، صرّح به السيد السند قدس سره في حواشي العضد سواء فسر الخطاب بما يقع به التخاطب أي: من شانه التخاطب فيكون خطابًا في الأزل كما ذهب إليه الشيخ الأشعري من قدم الحكم والخطاب بناء على أزلية تعلقات الكلام وتنوعه في الأزل أمرًا ونهيًا وغيرهما أو فسر بالكلام الذي قصد منه إفهام من هو متهيّئ لفهمه، فيكون خطابًا فيما لا يزال كما ذهب إليه ابن القطان من أن الحكم والخطاب حادثان بناء على حدوث تعلقات الكلام وعدم تنوعه في الأزل، وهذا معنى ما قال: إن الحكم والخطاب حادثان، بل جميع أقسام الكلام يمتنع قدمه مع قدمه أو ماخوطب به أي: ماثبت بالخطاب، وهو الأثر المترتب عليه كوجوب الصلاة، وحينئذ يكون المراد بالحكم ما حكم به، ومعنى تعلقه بأفعال المكلفين تعلقه بفعل من أفعالهم لابجميع أفعالهم على ماتوهمه إضافة الجمع من الاستغراق، وإلا لم يوجد حكم أصلًا، إذ لا خطاب يتعلق بجميع الأفعال، فيشمل خواص النبي عليه السلام أيضًا، لا يقال: إذا كان المراد بالخطاب الكلام النفسي ولا شك أنه صفة أزلية واحدة فيتحقق خطاب واحد متعلق بجميع الأفعال، لأنا نقول: الكلام وإن كان صفة واحدة لكنه ليس خطابًا إلا باعتبار تعلقه، وهو متعدد بحسب التعلقات، فلا يكون خطاب واحد متعلقًا بالجميع، وخرج بقوله المتعلق بأفعال المكلفين الخطابات المتعلقة بأحوال ذاته وصفاته وتنزيهاته كقوله تعالى: ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱠ ومعنى الاقتضاء الطلب، وهو إما طلب الفعل مع المنع عن الترك وهو الإيجاب، أو طلب الترك مع المنع عن الفعل وهو التحريم، أو طلب الفعل بدونه وهو الندب، أو طلب الترك بدونه هو الكراهة، ومعنى التخيير عدم طلب الفعل والترك وهو الإباحة، وهذا القيد لإخراج خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين لكن لا بالاقتضاء والتخيير كالقصص المبينة لأفعالهم والأخبار المتعلقة بأعمالهم كقوله تعالى: ﱡﭐ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﱠ فإن قيل: إذا كان الخطاب في الأزل متعلقًا بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير كما قال الشيخ الأشعري يلزم طلب الفعل والترك من المعدوم وهو سفه، قلت: السفه إنما هو طلب الفعل من المعدوم حال عدمه، وأما طلبه منه على تقدير وجوده فلا كما إذا قدر الرجل ابنًا، فأمره بطلب الفعل حين الوجود، وسيجيء ما يتعلق بهذا البحث.
قوله: (كالوجوب والإباحة ونحوهما) من الندب والتحريم والكراهة، إن كان المراد بالخطاب ما خوطب به فمطابقة المثال ظاهرة، وإن كان المراد ما يقع به فالحكم حينئذ هوالإيجاب مثلًا لا الوجوب الذي هو أثر الإيجاب المترتب عليه بالفاء، يقال: أوجبه فوجب، فالتمثيل حينئذ مبني إما على المسامحة وإما على ما ذكره بعض المحققين من أن الإيجاب والوجوب واحد بالذات مختلف بالاعتبار، فإن الخطاب إذا نسب إلى الحاكم يكون إيجابًا، وإذا نسب إلى مافيه الحكم وهو الفعل يكون وجوبًا، والترتيب بالفاء أيضًا باعتبار هذين الاعتبارين على ما ذكره الشارح في التلويح.
قوله: (وهذا الأخير…إلخ) يعني ليس المراد بقوله الأحكام الشرعية مصطلح الأصوليين لأن المتبادر من الأفعال عند الإطلاق أفعال الجوارح المقابلة للاعتقاد، فلو كان المراد ههنا مصطلح الأصوليين لم يكن علم الكلام علمًا بالأحكام الشرعية لعدم تعلقه بما يتعلق بالأفعال بل بالاعتقاد، ولو تكلفنا وعممنا الفعل بناءً على أن الاعتقاد فعل القلب يلزم انحصار مسائل علم الكلام في العلم بالوجوب وأخواته من حيث يقصد به الاعتقاد، إذ يصير معنى قوله: “والعلم المتعلق بالأولى يسمى علم الشرائع والأحكام وبالثانية علم التوحيد” أن العلم المتعلق بالخطابات المتعلقة بالأفعال بالاقتضاء والتخيير من حيث إنه متعلق بكيفية العمل يسمى ويختص باسم علم الشرائع، والعلم المتعلق بتلك الخطابات من حيث تعلقه بالاعتقاد يسمى ويختص باسم علم التوحيد والصفات، فإن في التسمية معنى التخصيص، ولاشك في أن معنى تعلق العلم بتلك الأحكام في القرينة الأولى كون تلك الأحكام معلوماتٍ له كما هو الظاهر السابق إلى الفهم لا كونها بعضًا من معلوماته، وإلا لم يطابق قوله، لما أنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند ذكر الأحكام إلا إليها، فإنه يصير معناه حينئذ أن تلك الأحكام لما لم تكن مستفادة إلا من جهة الشرع ولم يسبق الفهم عند ذكر الأحكام إلى غيرها خص ذلك الاسم بالعلم المتعلق بمعلومات تكون تلك الأحكام بعضًا منها، ولا يخفى ركاكته، وإذا كان التعلق في القرينة الأولى من قبيل تعلق العلم بالمعلوم فكذا بالقرينة االثانية، فاندفع ماقيل: إنه يجوز أن يكون معنى التعلق في الثانية كونها بعضا من معلوماته، فيصير المعنى والعلم المتعلق بمعلومات تلك الخطابات بعضًا منها يسمى علم التوحيد، فلا يلزم حصر مسائل الكلام في تلك الخطابات على أن بيان الوجوب ونحوه في الكلام في غاية الندرة، وهو في مثل قولهم: النظر في معرفة الله واجب،ومعرفة الله واجبة، فالتعبير عنه بما يتعلق به في غاية السخافة.
قوله: (واستدراك قيد الشرعية…إلخ) لأن أخذ الخطاب المضاف إلى الله في تعريفه يشعر بكونه شرعيًّا، اللهم إلا أن يتكلف في دفع الاستدراك، فيحمل على تجريد الأول أي: لفظ الأحكام عن الإضافة إلى الله، ويقال: الخطابات الشرعية أو يقال في الثاني أي: لفظ الشرعية تأكيد لأنه تصريح بما علم ضمنًا، أو يجعل التعريف تعريفًا للحكم الشرعي على ما نقل عن أصحاب هذا التعريف، لا للحكم المطلق. قوله: (فالمراد) يعني إذا كانت إرادة المعنى الثالث تعسفًا فالمراد إما المعنى الأول؛ أعني: النسبة التامة الخبرية، وتوجيهه ظاهر إذ يصح حمل العلم في قوله: “والعلم المتعلق بالأولى يسمى علم الشرائع والأحكام وبالثانية علم التوحيد والصفات” على كل واحد من المعاني الثلاثة للعلم؛ أعني: التصديقات بالمسائل ونفس المسائل والملكة الحاصلة عنها بلا تكلف، فعلى الأول وهو الأظهر يكون من قبيل تعلق العلم بالمعلوم، وعلى الثاني يكون من قبيل تعلق الكل بالجزء، إذ النسبة جزء المسألة، وعلى الثالث من قبيل تعلق المسبب بالسبب بخلاف المعنى الثاني فإنه لا يتأتى فيه التوجيهات الثلاث بلا تكلف كما ستطلع عليه، نقل عنه ويؤيده قوله فيما سيجيء: “وسموا ما يفيد معرفة الأحكام” فإن المراد بالحكم هناك هو الأول قطعًا، إذ لا معنى لإفادة معرفة التصديق.
قوله: (أو الثاني…إلخ) يعني أن المراد إما المعنى الثاني وهو إدراك تلك النسبة، فحينئذ لا بد أن يجعل العلمان في قوله: “والعلم المتعلق بالأولى يسمى علم الشرائع والعلم المتعلق بالثانية إلخ” عبارة عن المسائل المتعلقة بالإدراكات المتعلقة بكيفية العمل يسمى علم الشرائع، والمسائل المتعلقة بالإدراكات المتعلقة بالاعتقاد يسمى علم التوحيد، فحينئذ يكون التعلق تعلق المعلوم بالعلم، أو يجعل العلمان عبارة عن الملكة، فإنه يطلق العلم على الملكة كما يقال فلان يعلم النحو فيصير المعنى الملكة الحاصلة من تلك الإدراكات إلخ. وحينئذ يكون التعلق تعلق المسبب بالسبب إذ الملكة إنما تحصل بسبب من أدلة تلك الإدراكات، وإنما قلنا: لا بد أن يجعل العلمان عبارة عن المسائل أو الملكة إذ في حملهما على التصديقات بالمسائل يحتاج معنى التعلق إلى التكلف بأن يقال: مجموع التصديقات المتعلقةبالتصديقات الشرعية العملية، بمعنى ما هي متألفة منها يسمى علم الشرائع، ومجموع التصديقات المتعلقة بالتصديقات الاعتقادية يسمى علم التوحيد، أو يقال: العلمان عبارة عن التصديق على مذهب الإمام، فيكون المعنى التصديقات المتعلقة بالأحكام العملية تعلق الكل الجزء يسمى علم الشرائع، والتصديقات المتعلقة بالأحكام الاعتقادية يسمى علم التوحيد والصفات، وهذا حاصل ما نقل عنه وجه الجعل هو عدم التكلف في معنى التعلق حينئذ، إذ لا يخفى أن جعل جملة التصديقات متعلقة بما هي متألفة منه؛ أعني: التصديقات المخصوصة أو جعل التصديق على مذهب الإمام متعلقًا بالحكم الذي هو جزء منه تكلف محض. اهـ
قوله: (وعلى التقديرين) أي: سواء كان المراد المعنى الأول أو الثاني معنى الشرعية ما يؤخذ من الشرع بأن لا يخالف القطعيات بالنسبة إلى فهم الآخذ لا ما يتوقف عليه بمعنى أنه لا يدرك لولا خطاب الشارع، وإلا لزم خروج أكثر المسائل الكلامية عن المقسم لأن وجوده وعلمه وتوحيده وغير ذلك لا يتوقف على الشرع لكن يجب أخذها أيضا منه لتصلح للاعتداد، إذ كثيرًا ما يعارض الوهم العقل فيوقعه في المهلكة كما وقع الفلاسفة في الإلهيات، بخلاف ما إذا كان مؤيدًا بالوحي المفيد للحق اليقين، فإنه لا مدخل للوهم فيه.
قوله: (إن أريد به مطلق التعلق…إلخ) أي: إن أريد به كون الشيء منسوبًا إلخ على أي: وجه كان فالأمر في صحة معنى التعلق في كلا الموضعين ظاهر، إذ يجوز حينئذ أن يعتبر التعلقان متغايرين فيكون تعلق الحكم بكلا المعنيين بكيفية العمل من قبيل تعلق العارض بالمعروض لكونها أحد طرفيه، وتعلقه بالاعتقاد من قبيل تعلق ذي الغاية بالغاية لأنه المقصود منها، فلا حاجة حينئذ إلى التأويل في قوله بالاعتقاد، وأما قول الفاضل المحشي من أنه على تقدير أن يكون المراد بالحكم إدراك النسبة يجب تأويل الاعتقاد بالمعتقدات وإن أريد مطلق التعلق، إذ لا معنى لتعلق الإدراك بالاعتقاد الذي هو الإدراك فليس بشيء إذ لا شك في صحة قولنا الإدراكات التي يقصد منها التصديق فقط لا العمل تسمي علم التوحيد والصفات، فإن غاية العلوم الغير الإلهية حصولها في نفسها كما حققه السيد السند قدس سره في حاشية شرح المطالع.
قوله: (وإنما يعتبر التعلق…إلخ) يعني إذا أريد مطلق التعلق فكما أنها تتعلق بكيفية العمل تتعلق بنفس العمل أيضًا، فلم لم يعتبر بالنسبة إلى نفس العمل للإشارة إلى نكتة وهي أن تعلقها بالعمل من حيث الكيفية، فإن الأحكام الفقهية إنما تتعلق بفعل المكلف من حيث الوجوب والندب ونحوهما بخلاف أكثر الأحكام الثانية؛ أعني: مايتعلق بالاعتقاد، فإن تعلقها بنفس الاعتقاد لا باعتبار كيفيته، وإنما قال: “عامة الأحكام” لأن بعض الأحكام متعلق بكيفية الاعتقاد مثل معرفة الله تعالى واجبة أي: الاعتقاد بوجوده وصفاته واجب، فيكون متعلقًا بكيفية الاعتقاد، وهذا حاصل ما نقل عنه بقوله يعني “إن أريد مطلق التعلق” يجوز أن يعتبر بالنسبة إلى نفس العمل وإلى كيفيته لكن الثاني أولى، إذ فيه إشارة إلى نكتة، وقد وقع في شرح المقاصد بدون لفظ الكيفية وعبارة هذا الكتاب أولى من عبارته اهـ ومما ينبغي أن يعلم أن المراد بالكيفية على هذا التوجيه العوارض الذاتية للعمل لا تصحيحه أو الإتيان به على الوجه المشروع، وإلا لم يصح قوله: “وتعلق عامة الأحكام الثانية إلخ” لأنها أيضًا متعلقة بتصحيح الاعتقاد والإتيان به على الوجه المشروع، وليس معنى قوله: “تعلقها بالعمل من حيث الكيفية” أن تعلقها به من حيث إنه مفيد بهذه الحيثية ومعتبر معها كما في قولهم الإنسان موضوع الطب من حيث الصحة والمرض حتى يرد أنه يلزم أن لا تكون الكيفية عبارة عن الأحوال المبينة في الفقه، بل قيدًا للموضوع وتتمةً له، بل معناه أن تعلقها به من حيث إنه تثبت له الكيفية وإنها من عوارضه لا من حيث ذاته ولا من جهة أخرى فتدبر.
قوله: (وإن أريدبه…إلخ) أي: وإن أريد بالتعلق التعلق المخصوص وهو تعلق الإسناد بطرفيه على تقدير أن يكون الحكم نفس النسبة فمعنى تعلقه بكيفية العمل أن الكيفية والعمل طرفان، أو تعلق التصديق بالقضية على تقدير أن يكون الحكم إدراك النسبة فمعنى تعلقه بكيفية العمل أنه إدراك الكيفية المثبتة للعمل، ففي قوله: “منها ما يتعلق بكيفية العمل” لا حاجة إلى التأويل، ولكن يجب التأويل في قوله: “منها ما يتعلق بالاعتقاد” إذ الاعتقاد ليس طرفًا للنسبة ولا قضية، وهو أن المراد بالاعتقاد المعتقدات أي: ما يتعلق به الاعتقاد في الجملة سواء كان بالذات كتعلقه بالنسبة أو بالواسطة كتعلقه بالطرفين، فإنه يتعلق بهما بواسطة النسبة كما بين في محله، فلا يرد ما ذكره المحشي المدقق من أن تعلق النسبة بالمعتقد بمعنى تعلق الإسناد بطرفيه ممنوع لأن المعتقد هو نفس النسبة أو مجموع الطرفين والنسبة لا كل واحد من الطرفين ولا كلاهما بدون النسبة كما لايخفى.
قوله: (فحينئذ فيه إشارة…إلخ) يعني إذا كان المراد تعلق الإسناد بالطرفين أو تعلق التصديق بالقضية فلا بد من ذكرهما لكن في اعتبار تعلقه بالكيفية المضافة إلى العمل كونها مسندًا ومثبتًا والعمل مسندًا إليه ومثبتًا له بناء على أنهم إذا عبروا عن الحكم الخبري بالنسبة التقييدية أضافوا المحكوم به إلى المحكوم عليه كما قالوا: معنى قولنا: “زيد أبوه قائم” زيد قائم الأب فتكون الكيفية محمولًا على العمل في الفقه، وهي من العوارض الذاتية له فيكون موضوعًا له إذ لامعنى لموضوع العلم إلا ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أي: يثبت له ويحمل عليه.
قوله: (وليس موضوعه العمل…إلخ) أي: ليس موضوع تلك المسألة العمل لا باعتبار ذاته ولا باعتبار نوعه ولا باعتبار عرضه الذاتي ولا باعتبار نوع عرضه الذاتي إذ ليس الوقت شيئًا منها، فلا يرد ما ذكره الفاضل المحشي من أن موضوع العلم أعم من موضوع المسألة، فلا يلزم من عدم كون موضوعها العمل عدم كون موضوعه العمل لأن معنى قوله ليس موضوعه العمل أنه ليس موضوعه العمل بوجه من الوجوه السابقة والحال أنه يجب أن يكون موضوع المسألة راجعًا إلى موضوع العلم بوجه من تلك الوجوه على ما بين في موضعه.
قوله: (كما أن قولهم النية…إلخ) قال الفاضل المحشي: النية فعل القلب فيكون موضوعه العمل، فلا حاجة إلى التأويل، أقول المراد بالعمل عمل الجوارح وإلا لزم أنيندرج الاعتفاد فيه، فيكون بعض مسائل الكلام وهو الذي يبحث فيه عن كيفية الاعتقاد، مثل قولهم: معرفة الله واجبة داخلًا في الفقه وليس كذلك، فحينئذ لا شك في احتياجه إلى التأويل.
قوله: (ثم إنه ينبغي…إلخ) جواب عن قولهم: “ولأنهم عدوا إلخ” يعني ينبغي أن يكون موضوع الغرائض قسمة التركة بين الورثة، إذ المبين فيه أحوال قسمتها بين الورثة والقسمة من أفعال الجوارح، فيكون موضوعه العمل أيضًا.
قوله: (وبالجملة…إلخ) ففي كل مسألة ليس موضوعها راجعًا إلى فعل المكلف يجب تأويلها حتى يرجع موضوعها إليه كمسألة المجنون والصبي فإنها راجعة إلى فعل الولي.
قوله: (هذا من قبيل العطف على معمولي عاملين…إلخ) يعني بإعادة الجار، فلا يرد ما قيل: إن الظاهر أن هذا من قبيل العطف على معمولي عاملين على مذهب من يجوزه مطلقًا، إذ المجرور ليس بمقدم لا في المعطوف ولا في المعطوف عليه، فإن المعطوف والمعطوف عليه مجموع الجار والمجرور، فلعل قوله: “وبالثانية إلخ” وقع من المحشي بدون الباء الجارة، وبجوز أن يكون لفظ العلم مرفوعًا خبر مبتدإ محذوف، أي: والعلم المتعلق بالثانية علم التوحيد والصفات، فيكون عطف الجملة على الجملة.
قوله: (والأحكام الشرعية النظرية…إلخ) أي: ما يكون القصد منه النظر والاعتقاد وهي مقابلة للعملية التي يكون القصد منها العمل.
قوله: (لأن حجية الإجماع من موضوعات أصول الفقه( قيل لا نسلم أن حجية الإجماع من مسائل أصول الفقه، بل هو من مسائل الكلام أورد فيه بطريق المبدئية وتكميل الصناعة، ولا يخفى أن الإجماع من موضوعات أصول الفقه، والحجية عرض ذاتي له يثبت له في الأصول، فجعل هذه المسألة من قبيل تكميل الصناعة لا معنى له، فلذا أعرض المحشي عن هذا الجواب إلى التزام أن المسألة مشتركة بين الأصوليين أي: أصول الدين وهو الكلام وأصول الفقه، لكن جهة البحث مغايرة لأنها من حيث إنها يتعلق بها إثبات العقائد الدينية مسألة الكلام، ومن حيث إنها يتعلق بها استنباط الأحكام مسألة أصول الفقه، فإن موضوعه الأدلة الأربعة من حيث استنباط الأحكام منها.
قوله: (يشير إلى أن له مباحث…إلخ) أي: يشير بإضافة الأشهر إلى المباحث إلى أن له مباحث أخرى، لكن ليس في تلك المرتبة من الشهرة، وهذا عند من يقول موضع الكلام أعم من الذات كالموجود مطلقًا أو ذات الله وذات المخلوقات أو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية على ما هو المختار، فإن مباحث الأمور العامة والجواهر والأعراض من الكلام، وليست في الشهرة بمثابة المباحث الإلهية، وأما عند من يقول: إن موضوعه ذات الله تعالى وصفاته فالوجه في صحة تلك الإشارة أن الصفة المطلقة أي: الغير المقيدة بقيد عندهم هي الصفات الذاتية الوجودية، ولذا زادوا لفظ التوحيد ولم يكتفوا بعلم الصفات مع أن التوحيد أيضًا من الصفات، فمباحث غير الصفات الذاتية الوجودية مثل مباحث الصفات السلبية والفعلية من الكلام ليس بمثابة تلك المباحث في الشهرة.
قوله: (ولذا) أي: ولا حل أن المراد من الصفات المطلقة الوجودية الذاتية لم يعدوا مباحث الأحوال أي: الصفات السلبية مثل أن الله ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم والأفعال وهي مباحث الخلق والتكوين والنبوة والإمامة من مباحث الصفات، بل جعلوا لكل منها مبحثًا على حدة، وإن أمكن أن يرجع الكل إلى صفة ما، فإن الأحوال راجعة إلى الصفات الغير الوجودية والأفعال إلى الصفات الوجودية الغير الذاتية والنبوة بمعنى بعث الأنياء والإمامة بمعنى نصب الإمام راجعتان إلى صفة الفعل، كذا نقل عنه.
قوله: (على أن الإمامة) علاوة عن قوله فلان الصفة المطلقة أي: على أنا إن سلمنا أن الصفة تشمل الوجودية الذاتية وغيرها فالإمامة من المسائل الفقهية المتعلقة بكيفية العمل لأن مرجعها إلى أن نصب الإمام واجب على المسلمين فيكون راجعًا إلى عمل المكلف، ولا معنى لإرجاعه إلى صفة من صفاته تعالى وإن أمكن ذلك بناءً على أن أفعال العباد أفعال الله تعالى حقيقة، والحال أنها من مقاصد علم الكلام، قال الشارخ في آخر هذا الكتاب: إن مقاصد علم الكلام مباحث الذات والصفات والأفعال والنبوة والإمامة، فيصح أن مباحث التوحيد والصفات أشهر المباحث لأن مبحث الإمامة ليس مشهورًا مثلها، فاندفع ما قاله المحشي المدقق فيه أن كون الإمامة من الفقهيات لا دخل له في إثبات كون الصفات المطلقة عندهم هي الصفات الذاتية الوجودية على ما لا يخفى، فلا معنى لجعله علاوة ههنا لأنه ليس علاوة ههنا بالنظر إلى قوله: وإن رجع الكل إلى صفة ما حتى يكون علاوة لإثبات كون الصفة المطلقة الذاتية الوجودية، فإن قيل: إذا كانت مباحث الإمامة متعلقة بكيفية العمل فلم جعلت من مقاصده؟ وعلى تقدير جعلها من المقاصد فلم لم يجعل موضوعه أعم من الذات؟ قلت: جعلها من مقاصده لدفع خرافات أهل الأهواء والبطالين في نقض عقائد المسلمين والقدح في الخلفاء الراشدين، وأما عدم تعميم العقائد وموضوعه فلعدم كونها من مسائله في التحقيق لعدم تعلقها بالاعتقاد، وقال في شرح المقاصد: “إنه لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من الفروض الكفايات، إذ هي أمور كلية يتعلق بها مصالح دينية ودنيوية لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أنيقصد حصولها من كل واحد، ولاخفاء في أن ذلك من الأحكام العملية، ولكن لما شاعت بين الناس في بحث الإمامة اعتقادات فاسدة واختلافات باردة سيما من الروافض والخوارج ومال كل منهما إلى تعصبات تكاد تقضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام ونقض عقائد المسلمين والقدح في الخلفاء الراشدين مع القطع بأنه ليس للبحث عن أحوالهم وأفضليتهم كثير تعلق بأفعال المكلفين ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام، وربما أدرجوه في تعريفه حيث قالوا: هو العلم الباحث عن أحوال الصانع وصفاته والنبوة والإمامة والمعاد ومايتصل بذلك على قانون الإسلام اهـ كلامه، فعدم درج مباحثها بالنظر إلى الحقيقة ودرجها بالنظر إلى الظاهر لكونها من المقاصد، فاندفع ما قاله المحشي المدقق أن بين كون الإمامة من مقاصد الكلام وبين كونها من الفقهيات لا غير عندنا كما يدل عليه الحصر المستفاد من كلمة إنما، وقوله: إلا عند بعض الشيعة منافاة إذ هي في الأصل من المسائل الفقهية لا غير عندنا لكنها جعلت من مقاصد الكلام لما ذكرنا.
قوله: (إلا عند بعض الشيعة…إلخ) فإن مرجعها عندهم إلى نصب الإمام المتصف بالصفات المخصوصة واجب على الله فيكون عندهم من المسائل المتعلقة بالاعتقاد.
قال الباجوري:
قوله: (اعلم) إنما أمر بالعلم؛ لشدة الاعتناء بما سيذكره.
قوله: (إن الأحكام…إلخ) المراد بالأحكام هنا: إما النسب التي بين الموضوع والمحمول إيجابا أو سلبا، أو الإدراكات المتعلقة بالوقوع أو اللاوقوع، لا خطابات الله تعالى المتعلقة بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير؛ لأن الحكم يطلق على معان ثلاثة، المعنى الأول: نسبة أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا، والمراد بتلك النسبة: الوقوع أو اللاوقوع، بناء على أن أجزاء القضية ثلاثة فقط: الموضوع والمحمول والنسبة، وهو قول المتقدمين من المناطقة، وبه صرح في الشفا حيث قال: “القضية الحملية تتم بأمور ثلاثة: الموضوع والمحمول والنسبة” انتهى. فالنسبة بين زيد وقائم مثلا: الوقوع بعينه، وليس هناك نسبة أخرى هي مورد الإيجاب والسلب، فإن إثبات تلك النسبة من تدقيقات المتأخرين؛ ولذلك قال السعد في شرح الشمسية: الأجزاء في التحقيق أربعة، لكنه لم يتعرض للنسبة التي هي مورد الإيجاب والسلب لاندراجها تحت النسبة التي تربط الموضوع بالمحمول أ.ه. وعلى الأول فيتعلق بالنسبة علوم ثلاثة: اثنان تصوران، والآخر تصديق؛ لأنها قد تتصور باعتبار كونها تعلقا بين الطرفين، من غير اعتبار حصولها أو لا حصولها في نفس الأمر، وقد تتصور باعتبار حصولها أو لا حصولها في نفس الأمر، وحينئذ فإن تردد فهو شك، وإن أذعن بحصولها أو لا حصولها، فهو تصديق. والمعنى الثاني: إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها، وإن شئت قلت إدارك وقوع النسبة فقط، فيصح تفسيره بالتصديق والتكذيب معا. أي: إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها، وتفسيره بالتصديق فقط أي: إدراك وقوع النسبة، كما قاله السيد الشريف، بناء على أن الإذعان بأن النسبة ليست بواقعة، إذعان بأن نسبة السلب واقعة. والمعنى الثالث: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير. والمراد بالخطاب: إما الكلام النفسي لا اللفظي؛ لأنه ليس بحكم بل دال عليه، كما صرح به السيد السند في حواشي العضد؛ وإما المخاطب به، وهو الأثر المترتب على الخطاب: كوجوب الصلاة، فالوجوب أثر الإيجاب؛ ولذلك يقال: أوجبه فوجب، وذكر بعض المحققين أنهما متحدان بالذات، مختلفان بالاعتبار؛ فإنهما بمعنى الخطاب، لكن إن نسب الخطاب إلى الحاكم يكون إيجابا، وإذا نسب إلى الفعل يكون وجوبا، وهذا الأخير غير مراد هنا؛ لأن الشارح قسم الأحكام الشرعية إلى ما يتعلق بكيفية عمل، وإلى ما يتعلق بالاعتقاد، وهو لا يظهر فيه هذا التقسيم؛ لأن المتبادر من الأفعال عند الإطلاق، أفعال الجوارح المقابلة للاعتقاد، ولو تكلفنا وعممنا الفعل للاعتقاد؛ لكونه فعل القلب، يلزم عليه أمران: أحدهما انحصار مسائل الكلام في العلم بالوجوب وأخواته؛ لأنه يصير معنى قوله: “والعلم المتعلق بالأولى يسمى: علم الشرائع والأحكام، وبالثانية: علم التوحيد والصفات” أن العلم المتعلق بالخطابات المتعلقة بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير، من حيث إنه يتعلق بكيفية العمل، يسمى علم الشرائع والأحكام، والعلم المتعلق بتلك الخطابات، من حيث تعلقه بالاعتقاد، يسمى علم التوحيد والصفات، فتكون تلك الأحكام معلومات للعلم فيهما، لا بعض معلوماته، فاندفع ما قيل: إنه يجوز أن يكون معنى التعلق في الثانية: كونها بعضا من معلوماته، فلا يلزم حصر مسائل الكلام في تلك الخطابات، على أن بيان الوجوب ونحوه في الكلام في غاية الندرة؛ إذ الكثير والغالب فيه أن يقال: الله موجود وقديم وهكذا، وأما قولهم: معرفة الله واجبة والنظر واجب، فهو في غاية القلة، وثانيهما استدراك قيدالشرعية؛ لكونه معلوما من الأحكام، فإن أخذ الخطاب المضاف إلى الله تعالى في تعريف الحكم، الذي هو أحد الأحكام، يشعر بكونها شرعية، اللهم إلا أن يتكلف في دفع الاستدراك، فيرتكب التجريد في الأحكام؛ بأن يراد بها الخطابات لا بقيد الإضافة إلى الله، أو يقال الشرعية تأكيد؛ لأنه تصريح بما علم التزاما، أو يجعل التعريف بخطاب الله…إلخ، تعريفا للحكم الشرعي على ما نقل عن أصحاب هذا التعريف، وحينئذ فالشرعية محتاج إليها؛ لأنها جزء من المعرف، وإذا لم يصح إرادة المعنى الثالث، فالمراد: إما المعنى الأول، أو الثاني، وتوجيه الأول ظاهر؛ لأنه عليه يصح حمل العلم في قوله: “والعلم المتعلق بالأولى يسمى: علم الشرائع والأحكام، وبالثانية: علم التوحيد والصفات، على كل من معانيه الثلاثة التي هي: التصديقات والمسائل والملكات بلا تكلف. فعلى الأول: يكون من قبيل تعلق العلم بالمعلوم، وعلى الثاني: من قبيل تعلق الكل بالجزء؛ لأن النسبة جزء من المسألة، وعلى الثالث: من قبيل تعلق المسبب بمتعلق السبب؛ لأن النسبة يتعلق بهما الإدراك، الذي هو سبب للملكات، بخلاف الثاني؛ فإنه لا يصح فيه حمل العلم فيما ذكر على كل من معانيه الثلاثة بلا تكلف؛ لأنه لو حمل على التصديقات احتيج إلى التكلف بأن يقال: المراد بالعلم مجموع التصديقات، فيكون من باب تعلق الكل بالأجزاء، وإذا احتيج إلى التكلف في ذلك، فينبغي حمله على المسائل والملكات. فعلى الأول: يكون من قبيل تعلق المعلوم بالعلم، وعلى الثاني: من قبيل تعلق المسبب بالسبب؛ لأن الإدراك سبب في الملكة؛ فإنها إنما تحصل بمزاولته.
قوله: (الشرعية) أي: المأخوذة من الشرع، سواء أردنا بالأحكام: النسب التي بين الموضوع والمحمول، أو الإدراكات. فعلى التقديرين معنى الشرعية: ما يؤخذ من الشرع، لا ما يتوقف عليه، وإلا لزم خروج أكثر المسائل الكلامية عن المقسم؛ لأن وجوده تعالى ووحدته مثلا لا تتوقف على الشرع، لكن يجب أخذها منه ليعتد بها؛ إذ كثيرا ما يعارض الوهم العقل، فيوقعه في المهلكة كما وقع للفلاسفة. واحترز بالشرعية عن غيرها، سواء تعلقت بكيفية عمل: كالأحكام الطبية، أو تعلقت بالاعتقاد: كأحكام الفلاسفة.
قوله: (منها ما يتعلق…إلخ) أي: من الأحكام الشرعية أحكام تتعلق…إلخ. وفي قوله: “منها كذا ومنها كذا” دون أن يقول: إما كذا وإما كذا؛ إشارة إلى عدم انحصار الأحكام الشرعية في هذين القسمين، والمحكوم عليه في قوله: “منها ما يتعلق”كلمة “منها”، لا قوله “ما يتعلق” كما هو المشهور، فمن: اسم بمعنى بعض محكوم عليها؛ لأن المقصود بالإفادة حال أبعاض الأحكام؛ لا حال ما يتعلق، ولأنه إذا وقع الإسناد بين مجهول ومعلوم، جعل المعلوم محكوما عليه، والمجهول محكوما به، و”منها” معلوم و”ما يتعلق…إلخ” مجهول؛ لأنا نعلم أن “ما يتعلق…إلخ” بعض الأحكام الشرعية، ونجهل أن “بعضها يتعلق…إلخ”، ثمَّ إن كان المراد بالتعلق في ذلك، مطلق التعلق. أي: كون الشيء مرتبطا بشيء آخر، فالأمر ظاهر؛ لأنه لا يحتاج في صحة التعلق في الموضوعين؛ أعني: قوله: “منها ما يتعلق بكيفية العمل ومنها ما يتعلق بالاعتقاد” إلى ارتكاب مسامحة في العبارة: كتأويل الاعتقاد بالمعتقد، وعلى هذا يكون التعلق في قوله: “منها ما يتعلق بكيفية العمل” على كل من المعنيين الأولين للحكم، من قبيل تعلق العارض بالمعروض؛ لأن كلا من النسبة والإدراك عارض للكيفية وفي قوله: “ومنها ما يتعلق بالاعتقاد” على كل من المعنيين الأولين للحكم، من قبيل تعلق ذي الغاية بالغاية، فالحكم هو ذو الغاية، والاعتقاد هو الغاية؛ لأنه المقصود منه، فإن العلوم الغير الآلية يعتبر حصولها لأجل أنفسها، كما حققه السيد السند في حاشية المطالع، حيث قال: “العلوم إما أن لا تكون آلة لتحصيل شيء، بل كانت مقصودة بذاتها فتسمى غير آلية؛ وإما أن تكون آلة له غير مقصودة في أنفسها، فتسمى آلية”، ثم قال: “وغاية العلوم الآلية حصول غيرها. أي: وغاية العلوم غير الآلية أنفسها، فعلم من ذلك أنه لا حاجة إلى تأويل الاعتقاد بالمعتقد، على إرادة مطلق التعلق، خلافا لما قاله الفاضل المحشي من أنه على تقدير أن يراد بالحكم الإدراك يجب تأويله، الاعتقاد بالمعتقد، وإن كان المراد بالتعلق في ذلك التعلق الخاص، وهو تعلق الإسناد بطرفيه على المعنى الأول للحكم، أو تعلق التصديق بالقضية على المعنى الثاني للحكم، ففي قوله: “منها ما يتعلق بكيفية العمل” لا حاجة إلى التأويل، لأن الكيفية أحد طرفي النسبة وجزء القضية، كما في قولك: الصلاة واجبة. وفي قوله: “ومنها ما يتعلق بالاعتقاد” يجب التأويل؛ لأن الاعتقاد ليس أحد طرفي النسبة ولا جزء القضية، فيؤول بالمعتقد في الجملة، وهو أحد طرفي النسبة وجزء القضية. وإنما قلنا في الجملة؛ لأنه معتقد بواسطة النسبة، كما بين في محله، فلا يرد ما ذكره المحشي المدقق من أن كون تعلق النسبة بالمعتقد، بمعنى تعلق الإسناد بطرفيه، ممنوع؛ لأن المعتقد هو نفس النسبة، وإذا كان المراد التعلق الخاص، وهو تعلق الإسناد بطرفيه أو التصديق بالقضية، كان فيه إشارة إلى أن موضوع علم الفقه هو العمل؛ لأن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارض الذاتية، والفقه يبحث فيه عن عوارض العمل: من الحل والحرمة ونحوهما، المعبر عنها بالكيفية، فإن قيل: إن موضوعه أعم من العمل؛ لأن قولنا: الوقت سبب لوجوب الصلاة، من مسائله، وليس موضوعه العمل، بل موضوعه الوقت، ولأنهم قد جعلوا الفرائض بابًا من الفقه، وموضوعه التركة ومستحقوها، فيكون موضوع الفقه أعم من العمل؛ لأن موضوع مسائل العلم، وموضوع أبوابه، يرجعان إلى موضوعه. أجيب بأن ذلك القول راجعا إلى بيان حال العمل؛ بتأويل أن يقال: الصلاة تجب بسبب الوقت، كما أن قولهم: “النية في الوضوء واجبة” في قوة قولنا: “الوضوء تجب فيه النية” فلابد فيه من التأويل، وإن كانت النية فعل القلب؛ لأن المراد بالعمل عمل الجوارح، وإلا لزم أن يندرج فيه الاعتقاد، مثل قولهم: “معرفة الله واجبة” داخلا في الفقه، وليس كذلك، فاندفع ما قال الفاضل المحشي من أن النية فعل القلب، فيكون موضوع القول المذكور عملا، فلا حاجة إلى التأويل. وليس موضوع الفرائض التركة ومستحقوها كما قيل، بل موضوعه قسمة التركة بين المستحقين، كما أشار إليه ابن عرفه بأنه علم يبحث فيه عن كيفية قسمة تركة الميت بين الورثة، وقسمة التركة بين الورثة عمل، فانحصر موضوع الفقه في العمل، وبالجملة: تعميم موضوع الفقه، مما لم يقل به أحد معتد به.
قوله: (بكيفية العمل) أي: بصفة العمل التي تذكر في جواب السؤال عنه بكيف، كأن يقال: كيف الصلاة؟ فيقال: واجبة مثلا، وإنما يعتبر هنا التعلق بنفس العمل، كما اعتبر التعلق فيما بعد بنفس الاعتقاد؛ لأن تعلق الأحكام الأولى بالعمل من حيث الكيفية، فإن الأحكام الفقهية إنما تتعلق بفعل المكلف من حيث: الوجوب والندب ونحوهما، وتعلق عامة الأحكام الثانية ليس كذلك، فإن أكثرها يتعلق بنفس الاعتقاد، لا باعتبار كيفية، وإنما قلنا عامة الأحكام الثانية؛ لأن بعضها يتعلق بكيفية الاعتقاد، مثل قولهم: “معرفة الله واجبة” كما تقدم.
قوله: (وتسمى…إلخ) أنث الفعل نظرا إلى معنى “ما” الواقعة على أحكام.
وقوله: (فرعية) نسبة إلى الفرع، من نسبة الشيء إلى نفسه مبالغة، فإنها فرع عن الأحكام الأصلية، أو من نسبة الخاص إلى العام. فالأول: إن نظر إلى خصوص هذا الفرع، والثاني: إن نظر إلى مطلق فرع.
وقوله: (وعملية) نسبة للعمل؛ لتعلقها بكيفية العمل، أو لأن المقصود منها العمل، وهذه التسمية تسمية لنفس الأحكام المتعلقة بكيفية العمل، وأما التسمية المذكورة في قوله: “والعلم المتعلق بالأولى…إلخ” فتسمية للعلم المتعلق بها، فقد سمى الأحكام المتعلقة بكيفية العمل والعلم المتعلق بها.
قوله: (ومنها ما يتعلق…إلخ) أي: ومن الأحكام الشرعية أحكام تتعلق…إلخ، وقد تقدم الكلام في التعلق، فارجع إليه إن شئت.
قوله: (بالاعتقاد) أي: بنفس الاعتقاد، أو المعتقد على ما تقدم.
قوله: (وتسمى…إلخ) أنث الفعل نظرا إلى معنى “ما” الواقعة على أحكام، كما مر.
وقوله: (أصلية) نسبة للأصل، من نسبة الشيء إلى نفسه مبالغة، فإنها أصل للأحكام الفرعية، أو من نسبة الخاص إلى العام، على ما سبق نظيره.
وقوله: (واعتقادية) نسبة للاعتقاد؛ لتعلقها به، وهذه التسمية تسمية لنفس الأحكام المتعلقة بالاعتقاد، وأما التسمية المذكورة في قوله: “وبالثانية…إلخ” فتسمية للعلم المتعلق بها، فقد سمى الأحكام المتعلقة بالاعتقاد والعلم المتعلق بها، كما سمى الأحكام المتعلقة بالاعتقاد والعلم المتعلق بها.
قوله: (والعلم المتعلق…إلخ) قد علمت أنه على المعنى الأول للحكم، يصح حمل العلم هنا على كل من معانيه الثلاثة التي هي: التصديق والمسائل والملكة بلا تكلف، وعلى المعنى الثاني للحكم، يصح حمله على المسائل وعلى الملكة بلا تكلف، ولو حمل على التصديق احتيج إلى التكلف، وقد تقدم توضيح ذلك.
قوله: (بالأولى) أي: التي هي الأحكام الشرعية الفرعية العملية المشار لها بقوله: “منها ما يتعلق بكيفية العمل”.
قوله: (يسمى علم الشرائع والأحكام) أي: يسمى بالعلم المضاف للشرائع والأحكام، وعطف الأحكام على الشرائع من عطف التفسير.
وقوله: (لما أنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع) تعليل لتسمية العلم المتعلق بالأولى بالعلم المضاف للشرائع.
وقوله: (ولا يسبق الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها) تعليل لتسمية العلم المتعلق بالأولى بالعلم المضاف للأحكام، ففي كلامه لف ونشر مرتب، وكان الأولى أن يقول: “لما أنه لا يستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند إطلاق علم الأحكام إلا إليه” بتذكير الضمائر العائدة على العلم، مع زيادة العلم؛ لأنه بصدد توجيه تسمية العلم المتعلق بالأولى بعلم الشرائع والأحكام، لا بصدد توجيه تسمية الأحكام بالشرائع والأحكام؛ حتى يكون صنيعه مناسبا لذلك. وأتى بالحصر في قوله: “لما أنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع” لأنه لو لم يأت به بأن قال: لأنها تستفاد من الشرع لورد عليه أن الأحكام الثانية قد تستفاد من الشرع، كما أنها قد تستفاد من العقل؛ فعبر بالحصر لدفع ورود ذلك. وما زائدة لتأكيد التعليل المستفاد من اللام. والضمير عائد للأحكام الشرعية الفرعية العملية. والمراد بجهة الشرع: الأدلة الشرعية، وإنما كان لا يسبق الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها؛ لتداولها بهذا المعنى بين القضاة وغيرهم.
قوله: (وبالثانية…إلخ) هذا من قبيل العطف على معمولي عاملين مختلفين، والمجرور مقدم، وهو جائز بهذا الشرط عند بعضهم، كذا قال العلامة الخيالي، وقال العصام هذا، من قبيل العطف على معمولي عاملين مختلفين على مذهب من جوزه مطلقا، لا على مذهب من جوزه بشرط أن يكون المعمول الأول مجرورا، كما في قولهم: في الدار زيد والحجرة عمرو؛ لأن المعمول الأول هنا مجموع الجار والمجرور، وهو في محل نصب لا المجرور فقط، فلعل قوله: “وبالثانية…إلخ” وقعت عند الخيالي بدون الجار، وأجاب العلامة عبد الحكيم بأن المعمول الأول هو المجرور فقط؛ لأنه معطوف على المجرور السابق بإعادة الجار، وهذا مبني على أنه من عطف المفردات، ويجوز جعله من عطف الجمل، كأن يجعل لفظ العلم خبرا لمبتدأ محذوف، والتقدير: والعلم المتعلق بالثانية علم التوحيد والصفات، فإن قيل: كون الإجماع حجة من الأحكام الأصلية الاعتقادية، كما قال في التلويح، وبه يظهر أنه ليس العلم المتعلق بالثانية على الإطلاق علم التوحيد والصفات؛ لأن حجية الإجماع من أصول الفقه. أجيب: بأن هذه المسألة مشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين؛ فهي من حيث إنها يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من مسائل أصول الفقه، ومن حيث الاحتجاج بها لإثبات العقائد الدينية من مسائل أصول الدين، بناء على أن موضوع الكلام هو المعلوم، من حيث إنه يتعلق به إثبات العقائد الدينية، لا على أن موضوعه ذات الله وصفاته فقط، أو ذات الله وصفاته وذوات الممكنات؛ لأن الإجماع من موضوعه على الأول دون الثاني.
قوله: (علم التوحيد والصفات) عطف الصفات على التوحيد، من عطف العام على الخاص كما تقدم.
وقوله: (لِمَا أن ذلك…إلخ) تعليل؛ لتأكيد تسمية العلم المتعلق بالثانية، بعلم التوحيد والصفات، و”ما” زائدة، وأشهر مقاصده التعليل المستفاد من اللام، واسم الإشارة عائد لما ذكر من التوحيد والصفات، وهو على حذف مضاف، أي: مبحثهما ومقصدهما؛ ليصح الإخبار بقوله: “أشهر مباحثه وأشهر مقاصده” وأتى هنا باسم الإشارة، الذي يشار به للبعيد، وفي العلة السابقة بالضمير؛ تنبيها على التفاوت بين متعلق العلمين.
قوله: (أشهر مباحثه) أي: أكثر شهرة من باقي مباحثه، والمباحث: جمع مبحث، وهو محل البحث الذي هو إثبات المحمول للموضوع، وفي إضافة “أشهر” إلى “مباحثه” إشارة إلى أن له مباحث أخرى، دون مبحث التوحيد والصفات في الشهرة، وهذا ظاهر عند من يقول بأن موضوعه أعم من ذات الله وصفاته، كالموجود مطلقا، أو ذات الله وذوات المخلوقات، أو المعلوم؛ من حيث إنه يتعلق به إثبات العقائد الدينية وهو المختار، فإن مباحث غير التوحيد والصفات: كالجواهر والأعراض والأمور العامة، ليست في الشهرة بمثابة مبحث التوحيد والصفات، وأما عند من يقول بأن موضوعه ذات الله وصفاته، فوجه ذلك أن المراد بالصفات عند الإطلاق الصفات الذاتية الوجودية، وهي صفات المعاني فقط. فمباحث غير التوحيد والصفات المذكورة: كمباحث الأحوال والأفعال والصفات السلبية والنبوة والإمامة، ليست في الشهرة كمبحث التوحيد والصفات. على أن الإمامة إنما هي من الفقهيات، فلو عممنا الصفات للوجودية الذاتية وغيرها، فمباحث الإمامة التي هي من الفقهيات، ليست في الشهرة كمبحث التوحيد والصفات، و إنما كانت مباحث الإمامة من الفقهيات؛ لأنها ترجع إلى عمل المكلف، بأن يقال نصب الإمام واجب على المسلمين، خلافا لبعص الشيعة القائلين بأنه واجب على الله، فتكون من الاعتقاد. فإن قيل جعل الإمامة من مقاصد الكلام ينافي جعلها من الفقهيات، أجيب: بأنها إنما جعلت من مقاصد الكلام، مع كونها من الفقهيات حقيقة، لدفع ما شاع في مبحث الإمامة من الاعتقادات الفاسدة والاختلافات الباردة، سيما من الروافض والخوارج. بقي أن يقال: إن قوله: “أشهر مباحث” يقتضي مساواة مبحث الكلام لمبحث التوحيد، أو بقية الصفات، مع أن مبحث الكلام أشهر مباحث هذا الفن! ويجاب بمنع اقتضائه المساواة؛ لأن الاشتراك في الأشهرية لا ينافي أن بعض المشترك في الأشهرية أشهر من البعض الآخر؛ إذ الأشهرية مقولة بالتشكيك، ولو سلم اقتضاؤه المساواة في الأشهرية، فالمساواة منظور فيها إلى وقت التسمية بعلم التوحيد والصفات، فلا ينافي أنه بعد ذلك اشتهر مبحث الكلام اشتهارا زائدا على جميع ما عداه من المباحث.
قوله: (وأشرف مقاصده) أي: مسائله المقصودة منه، وهو راجع لكل من التوحيد والصفات كالذي قبله، فإن قيل مقتضى قوله: “وأشرف مقاصده” أن مسألة التوحيد ومسائل الصفات أشرف من مسألة إثبات الصانع؛ لأنها من جملة المقاصد المفضل عليها. أجيب بالتزام ذلك؛ لأن كلا من التوحيد والصفات يفيد اتصاف الصانع بالكمال، وأيضا التوحيد فيه نجاة من الشرك، بخلاف إثبات الصانع فليس فيه ما ذكر.
قال الشارح: وقد كان الأوائل من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، لصفاء عقائدهم ببركة صحبة النبي عليه السلام وقرب العهد بزمانه، ولقلة الوقائع والاختلافات، وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات، مستغنين عن تدوين العلمين وترتيبهما أبواباً وفصولاً، وتقرير مباحثهما فروعاً وأصولاً إلى أن حدثت الفتن بين المسلمين، وغلب البغي على أئمة الدين، وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء، وكثرت الفتاوى والواقعات والرجوع إلى العلماء في المهمات، فاشتغلوا بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول، وترتيب الأبواب والفصول، وتكثير المسائل بأدلتها وإيراد الشبه بأجوبتها، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات، وتبيين المذاهب والاختلافات.
قال الخيالي:
قوله: (و قد كانت الأوائل) تمهيد لبيان شرف العلم وغايته مع الإشارة إلى دفع ما يقال من أن تدوين هذا العلم لم يكن في عهد النبي عليه السلام ولا في عهد الصحابة والتابعين ولو كان له شرف وعاقبة حميدة لما أهملوه.
قوله: (لصفاء عقائدهم ببركة صحبة النبي عليه السلام) هذا مع ما عطف عليه متعلق بقوله “مستغنين” قدّم عليه؛ للاهتمام أو للاختصاص أي: هذه الأمور بسبب استغنائهم لا ما توهم من عدم الشرف والعاقبة الحميدة، ألا يرى أنه لما ظهرت الفتن في زمن مالك رحمه الله دوّن في الفقه مع أنه من التابعين.
قال السيالكوتي:
قوله: (ولا في عهد الصحابة والتابعين) هذا إنما يصح إذا لم يكن أبو حنيفة رحمه الله من التابعين كما تشعر به عبارة فتاوى السراجية، وإلا فقد صنف الفقه الأكبر في الكلام.
قوله: (لما أهملوه) لأنهم الواضعون للأحكام الشرعية، وكانت عادتهم في ذلك إرشاد المسترشدين، فلو كان لتدوين الأحكام الشرعية شرف وعاقبة حميدة لفعلوه كذا نقل عنه، ومحصل الدفع أنهم قد وضعوها ولكن لم يدونها لأن الإرشاد يحصل في ذلك الزمان بدون التدوين لقلة الوقائع والاختلافات.
قوله: (مع ما عطف عليه) وهو قوله: “وقرب العهد ولقلة الوائع وتمكنهم”.
قوله: (للاهتمام) أي: للاهتمام بغير الاختصاص مثل العناية بالدليل الذي هو الأصل، ومثل ورود الحكم ابتداءً مدللًا، فإنه لا يتطرق إليه الشبه حينئذ في أول الأمر، بخلاف ما إذا ذكر الحكم أولًا فإنه يتطرق إليه الشبهة من أول الأمر، ومثل كون الغرض متعلقًا بالسبب لا بالحكم وأمثال ذلك، كذا نقل عنه مثل إزالة توهم كونه دعوى بلا دليل.
قوله: (لا ما توهم…إلخ) إشارة إلى أن الاختصاص أمر إضافي بالقياس إلى ما يتوهم لا أمر حقيقي بمعنى أنه ليس لعدم التدوين وجه سوى ما ذكر أصلًا.
قوله: (مع أنه من التابعين) فيه أن مالكًا رحمه الله ممن تبعهم على ما قال في التقريب في تمثيل رواية الأكابر عن الأصاغر أو تابعي عن تابعه كالزهري والأنصاري عن مالك.
قال الباجوري:
قوله: (وقد كانت…إلخ) تمهيد؛ لبيان شرف العلم وغايته المشار له بقوله فيما يأتي: “وبالجملة هو أشرف العلوم…إلخ” وفي هذا التمهيد إشارة إلى رد ما قد يقال: لا نسلم أن لهذا العلم شرفا وعاقبة حميدة؛ إذ لو كان له شرف وعاقبة حميدة، لما أهمله الأوائل من الصحابة والتابعين؛ لأن عادتهم في ذلك إرشاد المسترشدين، والإرشاد يكون بالتدوين. ومحصل الرد: أنهم كانوا مستغنيين عن التدوين؛ لصفاء عقائدهم، وقلة الوقائع في زمانهم، وتمكنهم من المراجعة، وغير ذلك مما سيأتي.
قوله: (الأوائل) جمع أول.
وقوله: (من الصحابة والتابعين) بيان للمراد من الأوائل، وإلا فهو صادق بغيرهم من الأمم الماضية.
قوله: (رضي الله عنهم أجمعين) دعاء بالرضا لكل من الصحابة والتابعين؛ لأن لهم فضلا علينا، لكونهم هم الواسطة في إيصال الأحكام الشرعية إلينا.
قوله: (لصفاء عقائدهم) أي: لخلوصها من الكدر، فلا يطرقها شك ولا وهم، وهو مع ما عطف عليه من قوله: “ولقلة الوقائع والاختلافات وتمكنهم…إلخ” علة لقوله: “مستغنين عن تدوين العلمين…إلخ”، لكن قوله: “لصفاء عقائدهم” علة للاستغناء عن تدوين علم التوحيد والصفات، وقوله: “ولقلة الوقائع والاختلافات” علة للاستغناء عن تدوين علم الشرائع والأحكام. وقوله: “وتمكنهم…إلخ” علة للاستغناء عن تدوين العلمين، وإنما قدمت العلة على المعلول؛ للاهتمام بالعلة، فكأنها المقصودة بالذات، أو للاختصاص الإضافي، لا الحقيقي، فكأنه قال: سبب الاستغناء عن التدوين هذه العلل، لا ما يتوهم من عدم الشرف والعاقبة الحميدة، وهذا لا ينافي أن يكون الاستغناء عن التدوين لعلل أخرى: كالنهي عن تدوين غير القرآن؛ خوف الاشتباه، ففي صحيح مسلم: “لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه” ولمَّا أُمِنَ الاشتباه في زمن أتباع التابعين، دونوا أولا الأحاديث النبوية، ثم دونوا أقوال الصحابة والتابعين، ثم دونوا الفقه وأصوله والعقائد.
قوله: (ببركة صحبة النبي) راجع لصفاء العقائد بالنظر للصحابة.
وقوله: (وقرب العهد بزمانه) راجع لصفاء العقائد بالنظر للتابعين. والمراد بالبركة هنا: نور معنوي ينشأ عن صحبة النبي، وقرب العهد من زمانه، فيقوم بقلوبهم ويترتب عليه صفاء عقائدهم، وظهر بهذا التقرير، مغايرة البركة لصفاء العقائد، وبه يندفع ما يقال: إن البركة هي صفاء عقائدهم، فكان المناسب أن يقول: بصحبة النبي وقرب العهد من زمانه. والمراد بالعهد العلم، ويلزم من قرب علمهم من زمانه قربهم منه، وعلم مما ذكر أن قوله: “وقرب العهد” عطف على صحبة النبي، فتكون البركة مسلطة عليه، كما هو الظاهر، ويحتمل أنه عطف على بركة صحبة النبي، وعليه فالقرب سبب لصفاء عقائدهم، بواسطة ما يترتب عليه من تنوير القلوب؛ لأنه إذا نارت قلوبهم، صفا ما يحل فيها من العقائد.
قوله: (ولقلة الوقائع) أي: الحوادث التي تقع لهم.
وقوله: (الاختلافات) أي: وقلة الاختلافات في الأجوبة عن تلك الوقائع، وعطفها على ما قبلها، من عطف اللازم على الملزوم.
قوله: (وتمكنهم…إلخ) أي: ولتمكنهم…إلخ، والضمير للأوائل باعتبار بعضهم.
وقوله: (من المراجعة) أي: فيما يحتاج إليها، والمفاعلة ليست على بابها؛ لأن المراد بها أصل الفعل: وهو الرجوع، ويحتمل أن المراد المفاعلة من الجانبين؛ لأن السائلين يرجعون إلى الثقات بالسؤال، والثقاة يرجعون إلى السائلين بالجواب، وهذا الاحتمال بعيد من صنيع الشارح.
وقوله: (إلى الثقاة) أي: الأكابر من الأوائل الذين يعتمد عليهم في أقوالهم وأفعالهم.
قوله: (مستغنين) خبر كان في قوله: “وقد كانت الأوائل…إلخ”.
وقوله: (عن تدوين العلمين) أي: علم الشرائع والأحكام، وعلم التوحيد والصفات، ومعنى تدوينهما: جعلهما في ديوان باعتبار النقوش الدالة عليهما؛ لأن المراد من الديوان الورق، ولا يدون فيه إلا النقوش.
قوله: (وترتيبهما…إلخ) عطف تفسير؛ لأن الترتيب وما عطف عليه من تقدير المقاصد يرجع للتدوين، كذا قال بعضهم، واستظهر شيخنا أن الترتيب وما عطف عليه من تقرير المقاصد، قدر زائد على التدوين، فالعطف من قبيل عطف المغاير، كما هو ظاهر كلام الشارح.
قوله: (أبوابا وفصولا) تمييزان محولان عن المضاف، والأصل: ترتيب أبوابهما وفصولهما، كأن يقدم باب الطهارة على باب الصلاة، ويقدم فصل الوضوء على فصل الغسل.
قوله: (وتقرير مقاصدهما) أي: جعل مقاصدهما في قرار، وهو اللفظ، ولا يخفى أن تقرير المقاصد متقدم في الخارج على ترتيب الأبواب والفصول، فكان الأنسب تقديم قوله: “وتقرير…إلخ” على قوله: “وترتيبهما…إلخ” وقضية كلامه أن لكل من العلمين وسائل ومقاصد، فمن وسائلهما التعاريف: كتعريف الوضوء والصلاة، وكتعريف الواجب والمستحيل، ومقاصدهما الأحكام: كثبوت الوجوب للوضوء، وثبوت القدرة لله تعالى.
قوله: (فروعا وأصولا) حالان من مقاصدهما.
وقوله: (فروعا) راجع لعلم الشرائع والأحكام.
قوله: (أصولا) راجع لعلم التوحيد والصفات، هذا إن كان المراد بالفروع الأحكام الفرعية: وهي المتعلقة بكيفية عمل، وبالأصول الأحكام الأصلية: وهي المتعلقة بالاعتقاد، فإن كان المراد بالفروع الأحكام الجزئية، وبالأصول القضايا الكلية، كان قوله: “فروعا وأصولا” راجعا لكل من علم الشرائع والأحكام.
قوله: (إلى أن حدثت الفتن) متعلق بقوله: “مستغنين” أي: مستغنين استغناء مستمرا إلى أن حدثت الفتن في زمان من بعدهم، بل وفي زمن بعضهم ولذا احتاج بعضهم إلى التدوين، فدون الإمام مالك الفقه، وقد قيل إنه من التابعين؛ بناء على أن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، التي اجتمع بها الإمام مالك، صحابية، وهو وهم. والحق أنها لم يثبت بها صحبة، فالإمام مالك من أتباع التابعين، لكن من كبار أتباع التابعين.
قوله: (والبغي على أئمة الدين) أي: الجور عليهم؛ ليميلوا إلى الباطل، وفي كلامه تقدير مضاف، أي: أئمة أهل الدين.
قوله: (وظهر اختلاف الآراء…إلخ) هذا يناسب علم التوحيد والصفات، والآراء: جمع رأي، وهو ما يراه الشخص ويعتقده، كرأي الفلاسفة قدمَ العالم، ورأي أهل السنة حدوثه ورأي المعتزلة أن كلام الله مخلوق، ورأي أهل السنة أنه قديم.
قوله: (والميل إلى البدع) أي: الأمور المحدثات في الدين، التي لم تكن عليها الصحابة والتابعون.
وقوله: (والأهواء) أي: الأمور التي تهواها النفس من غير أن يكون لها سند.
قوله: (وكثرت الفتاوى…إلخ) هذا يناسب علم الشرائع والأحكام، والفتاوى: جمع فتوى، وهي الحكم الذي يفتي به الفقيه. والواقعات: جمع واقعة، وهي الحادثة التي تقع بين الناس، وعطف الواقعات على الفتاوى، من عطف السبب على المسبب، وقدمها عليها؛ رعاية السجع. قوله: (والرجوع إلى العلماء في المهمات) أي: في الأمور التي يهتم بها.
قوله: (فاشتغلوا…إلخ) أي: فبسبب ذلك اشتغلوا…إلخ، والضمير لأئمة الدين.
قوله: (بالنظر والاستدلال) هذا يناسب علم التوحيد والصفات. والنظر: ترتيب أمور معلومة؛ للتأدي بها إلى مجهول، والاستدلال: إقامة الدليل، وهو يرجع إلى معنى النظر، ففيه تكرار، لكنه مغتفر في الخطبة؛ لأنها من مقام الإطناب، وقال بعضهم: المراد بالنظر هنا، ما يؤدي إلى تحصيل التصور، وبالاستدلال هنا ما يؤدي إلى تحصيل التصديق، وعليه لا تكرار في كلامه.
قوله: (والاجتهاد والاستنباط) هذا يناسب علم الشرائع والأحكام. والاجتهاد: بذل المجهود في طلب المقصود، والاستنباط: استخراج الأحكام من الأدلة الشرعية كالكتاب والسنة، وهو يرجع إلى معنى الاجتهاد، ففيه تكرار، لكنه مغتفر في الخطبة؛ لأنها من مقام الإطناب كما تقدم، وقال بعضهم: المراد بالاجتهاد هنا بذل الجهد أي: الطاقة في تحصيل القواعد، وبالاستنباط هنا استخراج الأحكام الجزئية، وعليه لا تكرار في كلامه.
قوله: (وتمهيد القواعد والأصول) أي: تحصيلهما على وجه سهل، والمراد بالأصول هنا الأدلة، فليست تفسيرا للقواعد.
قوله: (وترتيب الأبواب والفصول) كأن يقدم باب الطهارة على باب الصلاة، ويقدم فصل الوضوء على فصل الغسل.
قوله: (وتكثير المسائل بأدلتها) أي: مع أدلتها، فالباء بمعنى “مع”.
وكذا يقال في قوله: (وإيراد الشبه بأجوبتها) فالباء بمعنى “مع” أيضا، والشبه: جمع شبة، وهي ما يظن دليلا وليس بدليل، وإنما ذكرت “بأجوبتها” ليزول إشكالها.
قوله: (وتعيين الأوضاع والاصطلاحات) أي: بأن يقال المعنى الموضوع له كذا، والمعنى المصطلح عليه كذا، والأوضاع: جمع وضع، وهو جعل اللفظ دليلا على المعنى، والمراد به هنا المعنى الموضوع له. والاصطلاحات: جمع اصطلاح، وهو اتفاق طائفة على وضع لفظ لمعنى، بحيث متى أطلق انصرف إليه، والمراد به هنا المعنى المصطلح عليه، وعطف الاصطلاحات على الأوضاع للتفسير.
قوله: (وتبيين المذاهب والاختلافات) أي: كأن يقال مذهب أهل السنة كذا، ومذهب المعتزلة كذا، وكأن يقال: قال فلان كذا وقال فلان كذا، وعطف الاختلافات على المذاهب من عطف المرادف.
قال الشارح: وسمُّوا ما يفيد معرفة الأحكام العملية عن أدلتها التفصيلية بالفقه، ومعرفةَ أحوال الأدلة إجمالاً في إفادتها الأحكام بأصول الفقه، ومعرفةَ العقائدعن أدلتها بالكلام؛ لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا، ولأنَّ مسألة الكلام كان أشهر مباحثه وأكثرها نزاعاً وجدالاً، حتى إنَّ بعضَ المتغلبة قتل كثيراً من أهل الحق لعدم قولهم بخلق القرآن، ولأنه يورث القدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم، كالمنطق للفلسفة، ولأنه أوَّلُ ما يجب من العلوم التي إنما تعلم وتتعلم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم لذلك.
قال الخيالي:
قوله: (وسموا ما يفيد معرفة الأحكام) فإن قلت: الفقه نفس معرفة الأحكام لا ما يفيدها، قلت: المعرف ههنا هو المسائل المدللة، فإن من طالعها ووقف على أدلتها حصل له معرفة الأحكام عن أدلتها، ولك أن تقول الفقه هو علم الأحكام الكلية لا معرفة الأحكام الجزئية، فإنّ علم وجوب الصلاة مطلقا يفيد معرفة وجوب صلاة زيد وعمرو مثلا، وقد يقال التغاير الاعتباري كافٍ في الإفادة كما يقال علم زيد يفيده صفة كمال، وأما جعل المعرف بمعنى ملكة الاستنباط أو الاستحضار، فسياق الكلام- أعني: قوله عن تدوين العلمين وتمهيد القواعد وترتيب الأبواب- يأبى عنه، لكن يرد على أول الأجوبة لزوم فقاهة المقلد وليس بفقيه إجماعا، وغاية ما يقال: إنه كما أجمع القوم على عدم فقاهة المقلد كذلك أجمعوا على أن الفقه من العلوم المدونة، والتوفيق بين هذين الإجماعين إنما يتأتى بأن يجعل للفقه معنيان، وعدم حصول أحدهما في المقلد لا ينافي حصول الآخر فيه.
قوله: (عن أدلتها) متعلق بالمعرفة وكونها عن الأدلة مشعر بالاستدلال بملاحظة الحيثية، فإن الحاصل من الدليل من حيث هو دليل لا يكون إلا استدلاليا فيخرج علم جبرائيل والرسول عليهما السلام فإنه بالحدس لا بتجشم الاكتساب، فإن قلت: للرسول علم اجتهادي ببعض الأحكام فلا يخرج علمه بهذا القيد. قلت: تعريف الأحكام للاستغراق فلا إشكال.
قوله: (ومعرفة أحوال الأدلة) الظاهر أنه معطوف على معرفة الأحكام، ففيه مثل ما مر من الكلام، وإن التزم العطف على الموصول يرتفع الإشكال، وقس عليه قوله: “ومعرفة العقائد”.
قوله: (كالمنطق للفلسفة) عدّ في المواقف كونه بإزاء المنطق وجها آخر مغايرا لكونه مورثا للقدرة على الكلام،وجمعهما الشارح نظرا إلى أن كونه بازاء المنطق باعتبار أنه يفيد قوة على الكلام كما أن المنطق يفيد قوة على النطق فيؤول إلى كونه مورث القدرة.
قوله: (فأطلق عليه هذا الاسم) أي: أولا؛ إذ لو لم يقيد به لضاع. إما قيد الأول في الأول أو ذكر وجه التخصيص في الثاني؛ إذ لا شركة في كونه أول ما يجب حتى يختص للتمييز، وأما احتمال تسمية الغير به لغير هذا الوجه فقائم في سائر الوجوه أيضا، مع أنه لم يتعرض لوجه التخصيص في غيره.
قال السيالكوتي:
قوله: (فإن قلت الفقه نفس تعرفة الأحكام) حيث عرفوه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وقال أبو حنيفة الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها.
قوله: (قلت المعرف ههنا المسائل) يعني أن العلم قد يطلق على التصديق بالمسائل، وقد يطلق على نفس المسائل، فالمعرف بالتعريف المشهور هو علم الفقه بمعنى التصديق بالمسائل، والمعرف ههنا أي: في عبارة الشارح هو علم الفقه بمعنى نفس المسائل، فالمعنى وسموا المسائل المدللة التي تفيد العلم بالأحكام العملية عن أدلتها التفصيلية بالفقه، وإنما قيد المسائل بالمدللة لأنها المفيدة للعلم بالأحكام عن أدلتها التفصيلية لا بالمسائل نفسها، ومعنى إفادتها للعلم المذكور أن من طالع تلك المسائل ووقف على دلائلها حصل له معرفة أحكام تلك المسائل عن دلائلها وهذا القدر كاف لصحة الإفادة كما يقال: خبر الرسول يفيد العلم الاستدلالي يعني أن من طالع خبر الرسول مع دليل صدقه وهو أن هذا خبر من ثبت صدقه بالمعجزات وكل خبر هذا شأنه فهو صادق حصل له العلم بحكم ذلك الخبر، علمًا استدلاليًّا نقل عنه، فحينئذ يراد بالأحكام المعنى الأول من المعاني الثلاثة انتهى. يعني النسبة الخبرية إما عدم إرادة إدراك النسبة وهو عبارة عن التصديق، وقد عرفت آنفًا أنه بهذا المعنى نفس المعرفة فظاهر، وإما عدم إرادة خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير فلاستدراك قيد العملية، لكنه على تقدير الحمل على المعنى الأول لا بد من قيد الشرعية ليخرج معرفة الأحكام العملية الغير الشرعية عن أدلتها كمسائل الحكمة العملية، اللهم إلا أن يراد بالأدلة الأدلة السمعية.
قوله: (ولك أن تقول…إلخ) أي: لك أن تقول في الجواب عن السؤال المذكور أن المراد بما في قوله: “ما يفيد إلخ” معرفة الأحكام الكلية مثل الصلاة واجبة والصوم واجب لأنها الفقه والمراد بالأحكام الأحكام الجزئية المخصوصة بشخص شخص مثل الصلاة واجبة على زيد بقرينة إضافة المعرفة إليها، فإن المعرفة تستعمل في الجزيئات، فالمعنى سموا العلم بالأحكام الكلية المفيدة للعلم بالأحكام الجزئية بالفقه، ولا خفاء في صحته ومطابقته لما هو المشهور، قال الفاضل المحشي: وهذا التوجيه وإن كان صحيحًا في نفسه لكن لا يناسب ما ذكره فيما بعد من قوله: ومعرفة أحوال الأدلة إجمالًا إلخ كما لا يخفى، أقول: وسيأتي لك ما يدفعه في بيان ذلك القول فلا نذكره، بقي فيه إشكال وهو أن المأخوذ من الأدلة التفصيلية هي الأحكام الكلية لا الجزئية، قال المحشي المدقق: ويمكن دفعه باعتبار أن الأحكام الكلية إذا كانت مأخوذة منها تكون جزئيات تلك الأحكام أيضًا مأخوذة منها بالواسطة، وأجيب بأنه يمكن أن يكون قوله: “عن أدلتها” حالًا من ضمير يفيد، فالمعنى سموا العلم بالأحكام الكلية المفيدة لمعرفة الأحكام الجزئية حال كون العلم بتلك الأحكام الكلية مأخوذًا عن أدلتها التفصيلية فقهًا، فلا إشكال، بقي شيء وهو أن هذا التوجيه يخرج التعريف عن الفساد ولكن أي فائدة في اعتبار إفادة تلك الأحكام الكلية للأحكام الجزئية في التعريف؟ فتدبر.
قوله: (وقد يقال التغاير الاعتباري كاف…إلخ) بأن يقال العلم بالمعنى المذكور له تعلقان تعلق بالعلم وتعلق بالمعلوم، فهو باعتبار تعلقه بالعالم وقيامه به مفيد لنفسه من حيث تعلقه بالمعلوم وصيرورته آلة لملاحظته ومآله إفادة الاعتبار الأول للاعتبار الثاني، فإن قيام العلم سبب المعلومية كما يقال علمزيد يفيده صفة كمال، فإنه من حيث قيامه بزيد مفيد لنفسه من حيث إنه أمر يخرج به علمه عن القوة إلى الفعل ويليق به، ومحصله إفادة قيامه به لخروجه عن القوة إلى الفعل مع اللياقة، قال المحشي المدقق: فذات التصديقات من غير اعتبار حصولها في النفوس الإنسانية مفيدة، ومن حيث حصولها فيها مفادة انتهى كلامه* وفيه أن الحصول في الذهن معتبر في حقيقة العلم، فالتصديقات مع قطع النظر عن حصولها في النفوص الإنسانية لا تكون علومًا وأيضًا لا معنى لإفادتها مع قطع النظر عن حصولها فيها، ثم لا يخفى أن اعتبار التغاير الاعتباري تكلف لا يليق بمقام التعريف نقل عنه، والأحسن أن يقال: إن المفيد هو العلم بجميع تلك الأحكام، والمفاد هو علم كل واحد من تلك الأحكام، والفرق بينهما ذاتي لتغاير الكل والجزء بالذات، ومعنى الإفادة استلزام معلومية الكل معلومية الجزء انتهى، وفيه مامر في التوجيه الثاني.
قوله: (وأما جعل المعرف) أي: أما جعل المعرف بقوله: “ما يفيد معرفة الأحكام إلخ” ملكة استنباط المسائل عن أدلتها واستحضارها بلا تجشم كسب جديد، فإن العلم كما يطلق على المسائل والتصديقات بها كذلك يطلق على الملكة الحاصلة منها كما صرح به الشارح في شرح التلخيص وجعل كون التعريف للملكة أرجح، فمما يأباه قوله تدوين العلمين وترتيب الأبواب والفصول لأن التدوين والترتيب لا يضافان إلى الملكة عرفًا بخلاف العلم، فإن تدوين معلومه يعد تدوينه عرفًا نقل عنه، وأما الجواب الثاني والثالث فيلائمه السياق لأن تدوين المعلوم يعد تدوين العلم عرفًا، يقال: كتبت علم فلان وسمعته، وأما تدوين الملكة فمما يأباه الذوق السليم اهـ ولذا قال في شرح التلخيص في بيان قوله: وينحصر في ثمانية أبواب ظاهر هذا الكلام يقتضي أن يكون العلم عبارة عن نفس الأصول والقواعد إلخ فاندفع ماقال الفاضل الجلبي: إنه يجوز أن يعد تدوين المعلومات التي تحصل بممارسة علومها الملكة تدوين الملكة كما يعد تدوين المعلومات تدوين العلوم انتهى، ويرد على قوله: كتبت علم فلان وسمعته أنه يجوز أن يكون المراد من العلم ههنا المعلوم.
قوله: (لكن يرد على أول الأجوبة لزوم فقاهة المقلد…إلخ) فإن المقلد أي: غير المجتهد إذا طالع المسائل مع الدلائل يحصل له العلم بأحكام تلك المسائل عن أدلتها فيكون فقيهًا مع أن الإجماع على أن الفقيه هو المجتهد، قال في شرح المختصر العضدي: أورد على حد الفقه أنه إذا كان المراد بالأحكام البعض لم يطرد لدخول المقلد إذا عرف بعض الأحكام عن الأدلة التفصيلية بالاستدلال لأنا لا نريد به العامي بل من لم يبلغ درجة الاجتهاد وقد يكون عالمًا يمكنه ذلك أي: العلم ببعض الأحكام عن الأدلة التفصيلية مع أنه ليس بفقيه إجماعًا، قال سيد المحققين في حاشيته: فإن الفقيه عندهم هو المجتهد لا غيره فلا يكون علمه فقها اهـ كلامهما، فاندفع ما قاله الفاضل المحشي، وفيه نظر لأن الفقه على أول الأجوبة هو المسائل المدللة المفيدة لمعرفة الأحكام عن أدلتها التفصيلية، وأما المقلد فهو الذي حصل له المعرفة المفادة بلا دليل فلا يلزم فقاهة المقلد على أن من طالع المسائل المدللة ووقف على أدلتها التفصيلية لا يكون مقلدًا بل متعلمًا مجتهدًا في تحصيل المعرفة بتلك المسائل، ووجه الدفع ظاهر، فإن قيل هذا الإيراد كما يرد على الجواب الأول يرد على الجواب الثاني والثالث أيضًا، فإن المقلد إذا كان له علم بالأحكام الكلية المفيدة لمعرفة الأحكام الجزئية عن أدلتها على تقدير الجواب الثاني أو لمعرفة نفس تلك الأحكام الكلية عن أدلتها على تقدير الجواب الثالث يلزم أن يكون فقيهًا مع أنه ليس بفقيه إجماعًا لأن الفقيه مختص بالمجتهد عندهم، قلت: يندفع عنهما بجعل المعرفة بمعنى اليقين وجعل الأدلة بمعنى الأمارات؛ أعني: الأدلة الظنية، فالمعنى الفقه العلم بالأحكام الكلية المفيدة لليقين بالأحكام الجزئية أو بنفس تلك الأحكام عن الأدلة الظنية، ولا شك أن تحصيل اليقين بالأحكام عن الأدلة الظنية مختص بالمجتهد، ولا يوجد في غيره وذلك لأن المجتهد إذا نظر في دليل ظني وحصل له ظن بحكم يجب عليه العمل بذلك الحكم قطعًا، وكلما وجب العمل به عليه قطعًا يكون معلومًا عنده قطعًا فإذا حصل للمجتهدظن بحكم يكون معلومًا عنده قطعًا، أما الأولى فلانعقاد الإجماع على أن الحكم المظنون الذي أدى إليه رأي المجتهد يجب له العمل عليه قطعًا، وكثرت الأخبار في ذلك حتى صارت متواترة المعنى، وأما الثانية فلأن وجوب العمل بطريق القطع فرع العلم بطريق القطع حتى لو لم يكن معلومًا لم يجب العمل به، والحاصل أن الحكم الظني من حيث استفادته من الدليل الظني ظني لكن وجوب العمل والاتباع عليه قطعًا أوصله إلى العلم بثبوته قطعًا، فاندفع ما قيل الدليل الموجب إذا كان ظنيًّا كيف يكون العلم الحاصل به يقينًا لأنه من حيث استفادته من الدليل الظني ظني وكونه يقينيًّا مستفاد من خارج، فثبت أن تحصيل اليقين من الأمارات خاص بالمجتهد لانعقاد الإجماع بوجوب العمل في حقه بخلاف المقلد، فإن يظنه لا يفضي إلى علم لعدم انعقاد الإجماع بوجوب العمل في حقه، بل انعقد على خلافه، فلا يلزم كون المقلد فقيهًا بهذا المعنى، وهذا التوجيه؛ أعني: حمل المعرفة على اليقين والأدلة على الأمارات لا يتأتى في الجواب الأول إذ يصير المعنى وسموا المسائل المدللة المفيدة لليقين بالأحكام عن الأدلة الظنية بالفقه ولا خفاء في عدم صحته لأن مطالعة المسائل مع الدلائل لا يفيد اليقين بالأحكام عن الأمارات وإن كان المطالع المجتهد، ألا يرى أنه لو أدى رأيه في الزمان الثاني إلى خلاف ما أدى إليه رأيه أولًا ثم طالع المسائل التي أدى إليه رأيه أولًا مع دليل لا يفيد له وجوب العمل، فلا يفيد له اليقين بحكمه بخلاف تصديق المجتهد بحكم، فإنه يفيد اليقين به عن أمارته ما دام ذلك التصديق باقيًا، وأما إذا أدى رأيه إلى خلافه فلا يبقى ذلك التصديق، هذا تحقيق ما نقل عنه من قوله: وأما على باقي الأجوبة فيندفع بجعل المعرفة بمعنى اليقين والأدلة بمعنى الأمارات وتحصيل اليقين من الأمارات إنما هو شأن المجتهد لا غير، وهذا التوجيه لا يتأتى في الجواب الأول كما لايخفي اهـ وبما ذكرنا من وجه عدم تأتي هذا والتوجيه في الجواب الأول اندفع ما قيل هذا الكلام مبني على عدم تقييد المسائل باليقينية الحاصلة من الأمارات، وإلا فلا سؤال ولا جواب كما لا يخفى لأن مطالعة المسائل ليست مفيدة لليقين بالأحكام سواء كانت يقينية أو غير يقينية بل المفيد له هو تصديق المجتهد بالحكم من الدليل، فإنه ما دام باقيًا فاليقين باق وإذا زال زال اليقين كما ذكرنا فتدبر، فإنه دقيق، ولهذه المباحث زيادة تفصيل وإن أردت استيفاءها فعليك بحاشية السيد الشريف على شرح المختصر العضدي من مباحث الاجتهاد وتعريف الفقه.
قوله: (غاية ما يقال…إلخ) جواب عن الإيراد السابق بقوله: “لكن يرد إلخ” وحاصله أنا لا نعلم أن المقلد ليس بفقيه بهذا المعنى بل ذلك باعتبار معنى آخر للفقه غير ممكن حصوله للمقلد ما دام مغايرًا.
قوله: (والتوفيق بين هذين الإجماعين) يعني أن بين الإجماعين تنافيًا لأن الإجماع على أن الفقه من العلوم المدونة يستلزم أن يكون المقلد الغير المجتهد العالم بتلك المسائل المدونة فقيها إذ لا معنى للفقيه إلا العالم بالفقه، والفقه هو المسائل المدونة والإجماع على عدم فقاهة غير المجتهد ينافيه، فوجب التوفيق بينهما، ولايحصل ذلك إلا بأن يجعل للفقه معنيان: أحدهما ما يمكن حصوله للمقلد، وهو العلم بالمسائل المدونة فباعتبار حصوله له يكون فقيهًا، والثاني ما لا يمكن حصوله وهو العلم بمعنى اليقين بالأحكام عن الأمارات فباعتبار عدم حصوله له لايكون فقيهًا.
قوله: (بملاحظة الحيثية…إلخ) فإن قيد الحيثية مأخوذة في تعريف الأمور التي تختلف باختلاف الاعتبارات إلا أنه كثيرًا ما يحذف من اللفظ لوضوحه على ماصرح به الشارح في “التلويح” في بحث الحقيقة والمجاز.
قوله: (فإنه بالحدس) يعني أن علم جبرائيل والرسول بالمسائل المكتسبة عن الدلائل المرتبة بدون حركة فكرية، فإن قلت: لم لم يخرج بهذا القيد علم الله تعالى بالمسائل الفقهية؟ قلت: لأنه غير داخل لأن المراد بالعلم العلم الحادث.
قوله: (للرسول علم اجتهادي) هذا الاعتراض إنما يرد على مذهب من يجوز الاجتهاد لرسول في بعض الأحكام لكن فيه اختلاف، والقائلون بالجواز اختلفوا، فمنهم من قال بالوجوب عليه عند الحاجة، ومنهم من نفاه واختلفوا أيضًا فجوز البعض حمله على الخطأ والسهو ومنعه آخرون قائلين بأنهم معصومون عن الخطإ والسهو في الاجتهاد، وهذا في أمور الدين، وأما في أمور الدنيا فيجوز الخطأ والسهو.
قوله: (تعريف الأحكام…إلخ) يعني أن المراد بالأحكام جميعها، فالمعنى سمو العلم بجميع الأحكام عن أدلتها بطريق الاستدلال بالفقه، فلا إشكال بعلم الرسول لأن علمه بطريق الاستدلال في بعض الأحكام، والمراد بجميع الأحكامِ الأحكامُ الحاصلة له يعني أن علمه بجميع الأحكام الحاصلة له حاصل بالاستدلال، فلا يرد أن العلم بالجميع محال لأن المسائل تتزايد يومًا فيومًا، وأنه يخرج عن التعريف مثل فقه إمام مالك رضي الله عنه لثبوت لا أدري في حقه حين سئل عن أربعين وأجاب عن أربعة.
قوله: (ففيه مثل ما مر من الكلام…إلخ) أي: من السؤال والأجوبة السابقة في قوله: ما يفيد معرفة الأحكام، أقول: تحرير السؤال والجواب موقوف على حل العبارة، فأقول: قوله إجمالًا إما تمييز عن نسبة المعرفة إلى الأحوال، أو حال عنها أي: معرفة أحوال الأدلة بطريق الإجمال أي: على وجه كلي بأن يكون في ضمن القواعد الكلية غير متعلقة بدليل دليل أو حال عن الأدلة أي: معرفة أحوال الأدلة حال كونها مجملة غير مبسوطة بحكم حكم، وعلى الأول المراد بالأدلة الأدلة التفصيلية التي نيطت بالأحكام إذ لو أريد الأدلة الإجمالية لم يكن لتقييد المعرفة بقوله إجمالًا فائدة، إذ ليس لنا معرفة بأحوال الأدلة الإجمالية على وجه جزئي. وقوله: في إفادتها متعلق بالأحوال حال عنه، ولو قال من حيث إفادتها لكان أظهر، فالمعنى سموا معرفة أحوال الأدلة بطريق الإجمال أو الأدلة الإجمالية من حيث إفادتها الأحكام بأصول الفقه، فقوله: إجمالًا لإخراج معرفة أحوال الأدلة تفصيلًا مثل العلم بأحوال صلوا وزكوا، وقوله: في إفادتها الأحكام لإخراج العلم بأحوال الأدلة إجمالًا لكن ليست من حيث إفادتها الأحكام مثل العلم بكونها قديمًا أو حادثًا بسيطًا أو مركبًا وكونها جملة اسمية أو فعلية إلى غير ذلك، والمراد بمعرفة تلك الأحوال العلم بثبوتها للأدلة إما لنفسها كقولنا: الكتاب يثبت الحكم، وإما لنوعها كقولنا: الأمر للوجوب، أو لعرضها كقولنا: العام يفيد القطع، أو لنوع عرضها كقولنا: العام الذي خص منه البعض يفيد الظن.فالعلم بهذه الأحكام الكلية يسمى أصول الفقه، و إنما اختار هذا التعريف إشارة إلى أن موضوع أصول الفقه الأدلة من حيث إفادتها الأحكام، وإن تلك الأحوال أعراض ذاتية مثبة لها في ذلك العلم، إذا تقرر هذا فاعلم أنه إذا كان قوله معرفة أحوال الأدلة معطوفًا على قوله معرفة الأحكام يرد عليه أن أصول الفقه نفس معرفة تلك الأحوال، ولذا عرفوه بالعلم بالقواعد الكلية ليتوصل بها إلى استنباط الأحكام لا ما يفيدها، ويمكن الجواب بأن المعرف بالتعريف المذكور هو العلم بمعنى التصديق بالمسائل، والمعرف ههنا نفس المسائل، فالمعنى سموا المسائل التي تفيد معرفةأحوال الأدلة الإجمالية بأصول الفقه، ولا شك في صحته، فإن من طالع مثلًا الأمر للوجوب والنهي للتحريم والعام يفيدالقطع إلى غير ذلك يحصل له العلم بأحوال الأدلة الإجمالية، وهذا على تقدير أن يكون قوله إجمالًا متعلقًا بالأدلة، أو يقال: المراد بما يفيد العلم العلم بالأحوال الكلية للأدلةالإجمالية مثل العلم بأن الأمر للوجوب، وبقوله معرفة أحوال الأدلة العلم بالأحوال الجزئية للأدلة التفصيلية مثل العلم بأن صلوا وزكوا للوجوب، ولا شك أن العلم بأن الأمر للوجوب يفيد العلم بأن صلوا وزكوا وغير ذلك للوجوب لاشتمالها عليها، فالمعنى سموا العلم بالأحوال الكلية للأدلة الإجمالية المفيدة لمعرفة الأحوال الجزئية للأدلة التفصيلية بطريق الإجمال أي: في ضمن القضايا الكلية بأصول الفقه، وهذا على تقدير أن يكون قوله إجمالًا متعلقًا بالمعرفة، ويمكن الجواب بأن التغاير الاعتباري كاف وهو ظاهر، ويمكن أن يراد بها الملكة المفيدة لمعرفة أحوال الأدلة الإجمالية لكن الترتيب والتدوين يأبى عنه.
قوله: (وقس عليه قوله ومعرفة العقائد) يعني يرد عليه الإعتراض السابق من أن الكلام نفس معرفة العقائد، ولذا عرفوه بأنه العلم بالعقائد الدينية من أدلتها التفصيلية اليقينية لا ما يفيدها، والجواب بأن المعرف ههنا هو المسائل المدللة، والمعنى سموا المسائل المدللة التي تفيد معرفة العقائد الدينية عن أدلتها بالكلام، ولا شك في صحته، فإن من طالع المسائل الكلامية ووقف على أدلتها حصل له معرفة العقائد الإسلامية عن أدلتها، أو يقال التغاير الاعتباري كاف في صحة الإفادة، وقال الفاضل المحشي: وأما الجواب الثاني فلا يجري ههنا لأن العقائد الإسلامية أكثرها شخصية لأن موضوعها ذات الله تعالى مثل الله تعالى عالم وواحد وموجود وقديم، ومحمد نبي صادق وغير ذلك، فلا يتصور فيها أن يقال: العلم بالعقائد الكلية يفيد العلم بالعقائد الجزئية، أقول: قد يقال: ما ذكرتم من فروع العقائد والقواعد الكلية أن مبدأ العالم عالم وقدير وواحد، ويؤيده قول المصنف رحمة الله تعالى عليه: والمحدث للعالم هو الله تعالى الواحد القديم الحي العليم إلخ. فالعلم بهذه القواعد الكلية يفيد العلم بالعقائد الجزئية مثلًا أن ذات الله تعالى أي: الجزئي الحقيقي عالم وواحد وقادر بناء على أنه مبدأ له، وكذلك القاعدة من ادعى النبوة وأظهر المعجزة فإنه يجب التصديق به، وهذه القاعدة تفيد العلم بأن محمدًا عليه السلام يجب التصديق به، وقس على ذلك بواقيه، وفيه نظر، والأولى أن يقال: قوله: محمد نبي صادق يجب تأويله بأن الله تعالى أرسله بالحق وصدقه بالمعجزات لما تقرر من أن موضوع المسألةيجب رجوعه إلى موضوع العلم، هذا والحق أنه ما يقال تكلف لأنه لا يجري في المسائل السمعية ككونه سميعًا وبصيرًا ومتكلمًا، فإنه ما ورد السمع إلا في ذاته تعالى، والقول بعدم كونها من المسائل مكابرة، ولذا جزم المحقق الدواني في تعليقاته على الحواشي الشريفة على شرح مختصر الأصول في بحث تعريف أصول الفقه أن مسائل الكلام ليست بقواعد لعدم كونها كلية، وأما ما قيل من أن موضوعها وإن كان جزئيًّا حقيقيًّا لكنه لايتصور إلا بوجه كلي فيكون قضايا كلية موضوعها منحصر في فرد فهو غلى تقدير تسليمه لا يفيد فيما نحن فيه لأنه لا يتحقق حينئذ عقائد جزئية يستفاد منها.
قوله: (عد في المواقف) وجهه السيد الشريف بأنه كما أن للفلاسفة علمًا نافعًا في علومهم سموه بالمنطق كذلك لنا علم نافع في علومنا سميناه كلامًا، ولا يخفى أنه إن اعتبر الاشتراك في جهة النفع وهو كما أن المنطق مورث للنطق في علومهم كذلك الكلام مورث لنا قوة الكلام في علومنا، فمآل الوجهين واحد وإن لم يعتبر الاشتراك في تلك الجهة فلا، فهو لا يصير وجهًا موجهًا لتسميته باسم يكون بإزاءالمنطق؛ أعني: الكلام كما سيجيء، فلذا جمعهما الشارح وجعلهما وجهًا واحدًا، ولقد أحسن غاية الحسن.
قوله: (باعتبار…إلخ) لأنه لو لم يعتبر إزاء القوة للكلام لا يكون لقوله: بإزاء المنطق وجه موجه إذ الاشتراك في أنهما نافعان وإن كان نفع الكلام بطريق الرياسة ونفع المنطق بطريق الخدمة أو في استمداد العلوم، فإن الكلام يستمد به باعتبار المبادئ، والمنطق باعتبار ما يعرضها ليس مختصًّا بالكلام بل ذلك أقوى في النحو والصرف، فإن نفعهما بطريق الخدمة والاستمداد منهما أيضًا باعتبار ما يعرض المبادئ، فهما أولى بهذه التسمية.
قوله: (لضاع إما قيد الأول) يعني لو لم يقيد الإطلاق بقوله أولا لضاع أما قيد الأول في قوله أول ما يجب إلخ أو ضاع ذكر وجه التخصيص في الثاني؛ أعني: قوله ثم خص به لأنه إن كان سبب إطلاق لفظ الكلام عليه كونه مما يجب أن يعلم ويتعلم بالكلام لكان ذكر قيد الأول ضائعًا لا حاجة إليه، ولظهوره تركه المحشي، وان كان هو كونه أول ما يجب أن يعلم ويتعلم بالكلام لكان ذكر وجه التخصيص ضائعًا، إذ لا شركة لغير الكلام في كونه أول ما يجب حتى يذكر وجه التخصيص، فقوله إذ لا شركة دليل لقوله: أو ذكر وجه التخصيص، لا لمجموع قوله: إما قيد الأول أو ذكر وجه التخصيص، فلا يرد ما قاله المحشي المدقق فيه أن المدعى لزوم ضياع أحد الأمرين والدليل إنما يفيد لزوم ضياع وجه التخصيص، بخلاف ما إذا قيد الإطلاق بقوله أولًا فإنه يكون ذكر كل من الأمرين في موقعه ويصير المعنى أطلق اسم الكلام عليه أولًا لأنه أول مايجب أن يعلم ويتعلم بالكلامولم يطلق على غيره ثانيًا مع تحقيق وجه الإطلاق وهو كونه مما يجب أن يعلم ويتعلم بالكلام تمييزًا له عما عداه، فقول الشارح ثم خص به على هذا كأنه جواب سؤال يقال ما ذكرته إنما يدل على تخصيص الاسم به أولًا وابتداء دون التخصيص مطلقًا بأن لا يسمى به غيره أصلًا، فما وجه التخصيص به بحيث لم يطلق على غيره أصلًا؟ فأجاب بما سمعت، ثم اعلم أنه نقل عنه هذا تعليل لمعنى الفعل الذي في حرف التفسير انتهى، هذه الحاشية منوطة على قوله: إذ لو لم يقيد به يعني أنه تعليل للفعل المستفاد من حرف التفسير أي: فسر الإطلاق بالإطلاق أولًا، إذ لو لم يفيد به إلخ والمحشي المدقق جعلها منوطة على قوله إذ لا شركه، فقال أي: فسر الإطلاق بالإطلاق أولًا، إذ لا شركة إلخ، ثم اعترض عليه ولا يخفى أنه بناء الفاسد على الفاسد.
قوله: (وأما احتمال تسمية الغير به…إلخ) جواب سؤال مقدر كأنه قيل: إن إطلاق اسم الكلام عليه باعتبار كونه أول ما يجب، ولا يلزم استدراك ذكر وجه التخصيص لأنه يجوز أن يكون لدفع احتمال أن يسمى غير الكلام بهذا الاسم لغير هذا الوجه، فأجاب بأن هذا الاحتمال قائم في باقي الوجوه المذكورة أيضًا، فوجب التعرض فيها مثل أن يقال أو لأنه يورث قدرة على الكلام، ثم خص به ولم يطلق على غيره تمييزًا مع أنه لم يتعرض في غير هذا الوجه، فعلم أن ذكر وجه التخصيص لدفع احتمال تسمية الغير بهذا الوجه، وهو إنما يصح لو قدر أولًا.
قال الباجوري:
قوله: (وسَمَّوا) أي: أئمة الدين الذين اشتغلوا بالنظر والاستدلال إلى آخر ما تقدم.
قوله: (ما يفيد معرفة الأحكام…إلخ) المراد بالأحكام هنا المعنى الأول فيما تقدم، وهو النسب، ولابد من تقييدها بالشرعية؛ احترازا عن الأحكام العملية الغير الشرعية كمسائل الحكمة العملية، وهي مسائل الطب، اللهم إلا أن يراد بالأدلة الأدلة السمعية، واستشكل قوله: “ما يفيد معرفة الأحكام…إلخ” بأن الفقه نفس معرفة الأحكام، لا ما يفيدها، ولذا عرفوه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وأجيب بأجوبة، الأول: أن الفقه يطلق على معرفة الأحكام الشرعية، وهذا هو المعروف في قولهم: “العلم بالأحكام…إلخ”، ويطلق أيضا على المسائل المدللة، أي: التي تذكر معها أدلتها، وهذا هو المعرَّف ههنا، فالمعنى: وسمَّوْا المسائل المدللة التي تفيد معرفة الأحكام…إلخ، فإن من طالعها ووقف على أدلتها، حصل له معرفة الأحكام عن أدلتها، وإنما قيدت المسائل بالمدللة؛ لأنها هي التي تفيد معرفة الأحكام عن الأدلة التفصيلية، لا المسائل نفسها، ويرد على هذا الجواب: أن المقلد إذا طالع المسائل المذكورة، حصل له معرفة الأحكام عن أدلتها، لا على وجه الاستنباط، فيكون فقيها، مع أنه ليس بفقيه إجماعا؛ لأنه لم يستنبط الأحكام من الأدلة حتى يكون فقيها. وغاية ما يقال في رفع ذلك: إن الفقه له معنيان: أحدهما المسائل المدللة التي تفيد معرفة الأحكام عن أدلتها التفصيلية، والآخر العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وعدم حصول أحدهما في المقلد، لا ينافي حصول الآخر فيه، وحينئذ فلا تنافي بين الإجماع على أن الفقه من العلوم المدونة، المستلزم أن يكون المقلد المطلع على تلك المسائل المدونة فقيها، والإجماع على عدم فقاهة المقلد؛ لأنه يوفق بين الإجماعين بحمل الأول على المعنى الأول للفقه، والثاني على الثاني، فلا يحصل التوفيق بينهما، إلا بأن يجعل للفقه معنيان. الثاني: أن الفقه هو العلم بالأحكام الكلية، كقولهم: الصلاة واجبة، الصوم واجب، لا معرفة الأحكام الجزئية، كقولهم: صلاة زيد واجبة، وصوم عمرو واجب، ولا شك أن العلم بالأحكام الكلية، يفيد معرفة الأحكام الجزئية، فإن علم وجوب الصلاة مطلقا، ووجوب الصوم كذلك، يفيد معرفة وجوب صلاة زيد، وصوم عمرو مثلا، فالمعنى: وسموا العلم بالأحكام الكلية، الذي يفيد معرفة الأحكام…إلخ، واستشكل هذا الجواب، بأن المأخوذ من الأدلة التفصيلية الأحكام الكلية، لا الجزئية، وأجيب: بأنه يمكن أن يكون قوله: “عن أدلتها” حالا من قوله: “ما يفيد” فيكون مرتبطا بالأحكام الكلية، لا الجزئية، على أن الجزئية مأخوذة من الأدلة بواسطة الكلية، كما قاله المحشي المدقق. الثالث: أن التغاير الاعتباري كافٍ في الإفادة، فالمعرفة باعتبار تعلقها بالمجتهد، مفيدة لنفسها باعتبار تعلقها بالأحكام كما يقال: علم زيد يفيد صفة كماله، فإن العلم باعتبار قيامه بزيد، مفيد بنفسه باعتبار خروجه عن القوة إلى الفعل؛ لأنه كان حاصلا بالقوة قبل وجوده، ثم صار حاصلا بالفعل. وأما الجواب بجعل المعرف بمعنى ملكة استنباط المسائل عن أدلتها واستحضارها من غير اكتساب جديد، كما صرح به الشارح في شرح التلخيص وجعله راجحا، فمما يأباه سياق الكلام، أعنى قوله: “عن تدوين العلمين وتمهيد القواعد وترتيب الأبوابـ”؛ لأن ذلك لا يناسب الملكة، وأما الأجوبة السابقة فيلائمها السياق؛ لأن تدوين المعلوم يعد تدوينا للعلم عرفا، وأما تدوين الملكة، فمما يأباه الذوق السليم، فاندفع ما قيل: إنه يجوز أن يعد تدوين المعلومات، التي يحصل بمما رستها الملكة، تدوينا للملكة، كما يعد تدوين المعلومات تدوينا للعلوم، وبحث بعضهم في ذلك بأن كلام الشارح لم يشعر بأن التسمية بإزاء المدوّن والممهّد والمرتب، وما المانع من أن يكون التدوين والتمهيد والترتيب للمسائل، والتسمية للملكة المذكورة.
قوله: (عن أدلتها التفصيلية) متعلق بمحذوف صفة للمعرفة، والتقدير: معرفة الأحكام الناشئة عن أدلتها التفصيلية، ولابد من انضمام الأدلة الإجمالية، كقولهم: الأمر للوجوب، إلى الأدلة التفصيلية: كأقيموا الصلاة مثلا، وطريق ذلك أن يحمل موضوع الدليل الإجمالي على الدليل التفصيلي، فتجعل القضية الحاصلة من ذلك صغرى، ويجعل الدليل الإجمالي كبرى، فيحصل قياس من الشكل الأول. ونظمه هكذا: أقيموا الصلاة أمر، والأمر للوجوب؛ ينتج أقيموا الصلاة للوجوب، وخرج بقولنا “عن أدلتها التفصيلية” علم جبريل؛ فإنه يتلقاه عن الله تعالى، وليس ناشئا عن الأدلة. وخرج أيضا علم الرسول؛ فإنه حصل بالوحي، لا بالدليل، فإن قيل: للرسول علم اجتهادي، على القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في بعض الأحكام، فلا يخرج علمه بهذا القيد، أجيب بأن “ال” في الأحكام للاستغراق، فالمراد بالأحكام جميعها، وحينئذ فلا إشكال بعلم الرسول؛ لأن علمه عن الأدلة في بعض الأحكام، لا جميع الأحكام، ويرد على اعتبار الجميع: أن العلم بالجميع محال؛ لأن المسائل تتزايد يوما فيوما، وأن كل واحد من الأئمة الأربعة ثبت عنه “لا أدري”؛ لأن كلا منهم سئل عن مسائل، أجاب عن بعضها، وقال في باقيها “لا أدري”. ويجاب بأن المراد جميع الأحكام الحاصلة عنده عن الأدلة التفصيلية، وعلم مما تقرر إنه لا حاجة في إخراج علم جبريل وعلم الرسول، إلى اعتبار الحيثية، بأن يقال من حيث كونها أدلة، فيكون مشعرا بالاستدلال، وإن درج على ذلك العلامة الخيالي؛ لأن قوله: “عن أدلتها التفصيلية” يغني عن ذلك؛ إذ علم جبريل وعلم الرسول، ليس عن الأدلة بل مع الأدلة.
قوله: (بالفقه( متعلق بسَمَّوْا، وهو مفعول ثان له.
قوله: (ومعرفة أحوال الأدلة…إلخ) الظاهر أنه عطف على معرفة الأحكام، فالتقدير: وسموا ما يفيد معرفة أحوال الأدلة…إلخ، وحينئذ يجري فيه مثل ما مر: إشكالا وجوابا، فالإشكال: أن أصول الفقه نفس معرفة أحوال الأدلة…إلخ، لا ما يفيدها؛ ولذا عرفوه بأنه العلم بالقواعد الكلية، ليتوصل بها إلى استنباط الأحكام. والجواب أن أصول الفقه يطلق على معرفة أحوال الأدلة…إلخ، وهذا هو المعرف في قولهم: العلم بالقواعد الكلية…إلخ، ويطلق أيضا على المسائل التي تفيد معرفة أحوال الأدلة…إلخ وهذا هو المعرف ههنا. فالمعنى: وسموا المسائل التي تفيد معرفة أحوال الأدلة…إلخ، فإن من طالع تلك المسائل، كقولهم: العام يفيد القطع، والذي خص منه البعض يفيد الظن، يحصل له معرفة أحوال الأدلة، أو أن أصول الفقه هو العلم بالأحوال الكلية، كالعلم بأن الأمر للوجوب، لا معرفة الأحوال الجزئية، كمعرفة أن “صلوا” للوجوب، ولا شك أن العلم بالأحوال الكلية، يفيد معرفة الأحوال الجزئية. فإن علم أن الأمر للوجوب، يفيد معرفة أن “صلوا” للوجوب مثلا، فالمعنى: وسموا العلم بالأحوال الكلية التي تفيد معرفة الأحوال الجزئية…إلخ، وهذا على تقدير أن يكون قوله: “إجمالا” متعلق بالمعرفة، لا بالأدلة، وإنما كانت المعرفة إجمالا؛ لأنها في ضمن القضايا الكلية، فهي بطريق الإجمال، أو أن التغاير الاعتباري كافٍ، وهو ظاهر، وأما الجواب بجعل العرف بمعنى الملكة، فمما يأباه التدوين والترتيب، وقد تقدم البحث في ذلك، وإن التزم أن العطف على الموصول، يرتفع الإشكال. والمراد بأحوال الأدلة، كونها عامة أو خاصة، مجملة أو مبينة، ونحو ذلك.
وقوله: (إجمالا) متعلق بالمعرفة كما تقدم، أو بالأدلة أي: حال كونها مجملة، كقولهم: الأمر للوجوب.
قوله: (في إفادتها الأحكام) متعلق بالأحوال، ولو قال من حيث إفادتها الأحكام، كان أظهر؛ لكن لما كان المقصود من الأحوال إنما هو إفادتها الأحكام ظرفها فيها.
قوله: (بأصول الفقه) متعلق بسموا، كما مر في نظيره.
قوله: (ومعرفة العقائد…إلخ) الظاهر أنه عطف على معرفة الأحكام، على قياس ما سبق، فالتقدير: وسموا ما يفيد معرفة العقائد…إلخ، وحينئذ يجري فيه مثل ما سبق: إشكالا وجوابا، فالإشكال أن الكلام نفس معرفة العقائد، لا ما يفيدها؛ ولذا عرفوه بأنه العلم بالعقائد الدينية عن أدلتها التفصيلية، والجواب أن الكلام يطلق على معرفة العقائد، وهذا هو المعرف في قولهم: العلم بالعقائد…إلخ، ويطلق أيضا على المسائل المدللة، وهذا هو المعرف ههنا، فالمعنى: وسموا المسائل المدللة التي تفيد معرفة العقائد…إلخ، فإن من طالعها ووقف على أدلتها، حصل له معرفة العقائد عن أدلتها، أو أن الكلام هو العلم بالعقائد الكلية، لا معرفة العقائد الجزئية، ولا شك أن العلم بالعقائد الكلية، يفيد معرفة العقائد الجزئية، أو أن التغاير الاعتباري كاف وهو ظاهر. وأما الجواب بجعل المعرف بمعنى الملكة، فمما يأباه التدوين والترتيب، لكن تقدم البحث فيه. وإن التزم العطف على الموصول يرتفع الإشكال، وقال الفاضل المحشي: الجواب الثاني لا يجري ههنا؛ لأن العقائد شخصية، كقولهم: الله عالم واحد قدير، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي صادق وغير ذلك، فلا يتصور فيها أن يقال العلم بالعقائد الكلية، يفيد معرفة العقائد الجزئية. قال العلامة عبد الحكيم: قد يقال ما ذكره الفاضل المحشي من فروع العقائد الكلية، كقولهم: مُبْدِأ العالم عالم واحد مدبر، ومن ادعى النبوة وأظهر المعجزة نبي صادق وغير ذلك، فالعلم بهذه العقائد الكلية، يفيد معرفة العقائد الجزئية، إلى أن قال: والحق أن هذا تكلف؛ لأنه لا يجري في المسائل السمعية، ككونه سميعا وبصيرا، أو متكلما، فإنه لم يرد السمع إلا في ذاته تعالى؛ ولهذا جزم الجلال الدواني، في تعليقاته على الحواشي الشريفة في بحث تعريف أصول الفقه، بأن مسائل الكلام ليست بقواعد؛ لعدم كونها كلية.
قوله: (عن أدلتها) متعلق بمحذوف صفة لمعرفة، أي: معرفة العقائد الناشئة عن أدلتها، وهذا الوصف وصف كاشف؛ لأن المعرفة لا تكون إلا عن الأدلة.
قوله: (بالكلام) متعلق بسموا كما سبق. ولما كان بصدد التكلم على علم الكلام؛ علل تسميته بالكلام بالأوجه الثمانية التي سيذكرها، دون التسمية بالفقه والتسمية بأصول الفقه.
قوله: (لأن عنوان مباحثه…إلخ) على هذا الوجه ،تكون التسمية من قبيل تسمية الشيء بصدر أسماء أجزائه؛ لأن كل جزء من أجزائه يترجمونه بقولهم: الكلام في كذا، فمجموع ذلك اسم لكل جزء، فأخذ الصدر وسمى به العلم، والمراد بعنوان مباحثه: ترجمتها التي تفتتح بها، والمراد بالمباحث: القضايا؛ لأنها محل البحث.
قوله: (كان قولهم…إلخ) في تعبيره بكان إشارة إلى أن ذلك لم يستمر؛ لأنه إنما كان في كتب المتقدمين، وعدل عنه المتأخرون إلى قولهم: البحث في كذا، ونحو ذلك.
قوله: (الكلام في كذا أو كذا) أي: فكانوا يقولون: الكلام في الوجود، الكلام في الوحدانية، وهكذا. وأشار بقوله: “كذا وكذا” إلى تعدد الترجمة، لا أنه يقع في الترجمة عاطف ومعطوف.
قوله: (ولأن مسألة…إلخ) على هذا الوجه، تكون التسمية من قبيل تسمية الكل باسم الجزء؛ لأن مسألة الكلام جزء من علم الكلام.
قوله: (الكلام) “ال” للعهد، والمعهود: كلام الله.
قوله: (كانت أشهر مباحثه) أي: أكثرها شهرة.
وقوله: (وأكثرها نزاعا) أي: بين أهل السنة وغيرهم.
وقوله: (وجدالا) أي: بين من ذكر، والجدال: مقابلة الحجة بالحجة.
قوله: (حتى إن…إلخ) غاية في النزاع والجدال. أي: حتى آل النزاع والجدال في مسألة الكلام، إلى أن…إلخ.
وقوله: (بعض المتغلبة) أي: بعض من تغلب من الولاة على أهل الحق؛ بإكراههم على القول بخلق القرآن، الموهم أن الصفة القائمة بذاته تعالى مخلوقة؛ لأنه يطلق عليها القرآن، كما يطلق على الكلام الذي نقرؤه. وليس المراد بالمتغلبة ما هو المتبادر من لفظ المتغلبة، وهو من تغلب على السلطنة بغير حق؛ لأن المحنة بذلك كانت في زمن العباسية، وكانوا متولين للخلافة باتفاق أهل الحل والعقد. وأول من أظهر هذه المحنة من الخلفاء العباسية المأمون، بعد وفاة الإمام الشافعي بنحو سبع سنين، فدعا الناس إليها، فأجابه بعضهم كرها، وأبى بعضهم فسجن منهم أبا مُسْهِر الغسَّاني إلى أن مات، ثم لما ولي أخوه المعتصم، اشتدت المحنة، وطلب الإمام أحمد، وكان في سجن المأمون، فحمل إليه وعقد له مجلسا للمناظرة، فلم يزل معهم في جدال نحو ثلاثة أيام، فأمر أن يضرب بالسياط فضرب حتى غشي عليه، فحمل إلى منزله وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرا. ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشافعي في المنام: “بشر أحمد بالجنة على بلوى تصيبه في خلق القرآن” فأرسل له كتابا ببغداد، فلما قرأه بكى ودفع لحامله قميصه الذي يلي جسده، فلما أتى الشافعي غسله وادهن بمائه، ثم لما وُلي ابنه الواثق هارون بالغ في المحنة، وقتل أحمد بن نصر الخزاعي بسبب ذلك، ووجه رأسه إلى المشرق فدار إلى القبلة فأجلس رجلا بيده عود، كلما دار إلى القبلة وجهه للمشرق. ويذكر أنه رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني، إلا إني كنت مهموما، فقيل له: لمه ولِمَ؟ فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر علي مرتين، فأعرض عني؛ فغمني ذلك، فلما مر علي الثالثة، قلت: يا رسول الله ألست على الحق؟ فقال: بلى، فقلت: فما بالك تعرض عني؟ فقال: حياء منك؛ إذ قتلك رجل من أهل بيتي. وذكر الدميري حكاية تدل على أن الواثق رجع عن ذلك، وهي أن شيخا حضره فناظره ابن أبي دُأَد، وقال له ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: المسألة لي، قال: سل؟ قال: ما تقول في القرآن؟ قال: هو مخلوق. قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده، أم لم يعلموه؟ فقال: لم يعلموه. فقال: سبحان الله. شيء يجهله النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده تعلمه أنت يا لكع ابن لكع، فخجل ثم قال: أقلني والمسألة بحالها، قال: قد فعلت. قال: علموه، ولم يدعوا الناس إليه. فقال له: ألا وسعك ما وسعهم من السكوت! فلما سمع ذلك الواثق جعل ثوبه في فيه من الضحك على ابن أبي دُأَد وسقط من عينه، وأمر الحاجب أن يطلق الشيخ، ويعطيه أربعمائة دينار، ثم لما ولى المتوكل جعفر بن المعتصم رفع المحنة، وأمر بإحضار الإمام أحمد، وأعطاه مالا كثيرا فلم يقبله، وأجرى على عياله أربعة آلاف درهم في كل شهر، فلم يرض.
قوله: (كثيرا من أهل الحق) لو قال بعض أهل الحق لأجاد؛ لأن كون العباسية قتلوا كثيرا من أهل الحق غير معروف.
قوله: (ولأنه يورث قدرة على الكلام…إلخ) على هذا الوجه، تكون التسمية بالكلام من قبيل تسمية السبب باسم مسببه بواسطة؛ إذ الكلام مسبب عن القدرة المسببة عن علم الكلام، فإن من اشتغل بعلم الكلام، وإقامة الأدلة على مسائله، ودفع الشبه عنها، كان له قدرة على الكلام…إلخ.
قوله: (في تحقيق الشرعيات) أي: إثبات الأحكام الشرعية بالأدلة.
وقوله: (وإلزام الخصوم) أي: إلزامهم بأن يقولوا بالحكم الشرعي الذي وقع النزاع فيه؛ بسبب ما أقيم عليه من الأدلة، ورفع شبههم التي تمسكوا بها.
قوله: (كالمنطق للفلسفة) أي: فإنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق مسائل الفلسفة، وإلزام الخصوم، وعد في المواقف كونه بإزاء المنطق، وجها آخر مغايرا لكونه مورثا للقدرة على الكلام. ووجهه السيد الشريف بأنه كما للفلاسفة علما نافعا في علومهم سموه بالمنطق، كذلك لنا علم نافع في علومنا سميناه بالكلام، ولا يخفى أن جهة الاشتراك هي النفع، وهو أن كلا يورث قدرة على الكلام في تحقيق العلوم وإلزام الخصوم، فمآل الوجهين واحد؛ ولذلك جمعها الشارح وجعلهما وجها واحدا، ولقد أحسن غاية الحسن.
قوله: (ولأنه أول ما يجب…إلخ) على هذا الوجه، تكون التسمية بالكلام من قبيل تسمية الشيء باسم آلته، من حيث إفادته واستفادته، وإنما كان أول ما يحب…إلخ؛ لأن من جملته مباحث النظر، الذي هو أول واجب على المكلف، فيكون علم التوحيد أول ما يجب…إلخ.
قوله: (من العلوم التي تُعَلَّم وتُتعَلّم بالكلام) أي: غالبا، فلا ينافي أنها قد تعلم وتتعلم بالتأمل ومطالعة الكتب. وقوله: “تعلم” أي: للغير، فهو بضم التاء وفتح اللام المشددة.
وقوله: (وتتعلم) أي: من الغير فهو بضم التاء الأولى وفتح الثانية، وحاصله: أن إفادتها للغير واستفادتها من الغير، إنما يكونان بالكلام.
قوله: (فأطلق عليه…إلخ) لما كانت التسمية بالاسم لا يلزم منها إطلاق الاسم على المسمى، نبه عليه بقوله: “فأطلق عليه…إلخ” وإنما نبه على ذلك في هذا الوجه، دون بقية الوجوه؛ لأجل التوسل إلى قوله: “ثم خص به…إلخ”، ولابد من تقييد الإطلاق بقولنا أولا وابتداء؛ ليظهر التعليل بقوله “لذلك” الراجع لكونه “أول ما يجب…إلخ” كما هو المتبادر منه، وليحتاج لقوله: “ثم خص به…إلخ”، فيكون قوله “لذلك” علة للإطلاق “أولا وابتداء”،
قال الشارح: ثم خص به، ولم يطلق على غيره تمييزاً. ولأنه إنما يتحقق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين وغيره قد يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب. ولأنه أكثر العلوم خلافاً ونِزَاعاً، فيشتدُّ افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم. ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم، كما يقال للأقوى من الكلامين: هذا هو الكلام، ولأنه لابتنائه على الأدلة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية أشدُّ العلوم تأثيراً في القلب وتغلغلاً فيه، فسمي بالكلام المشتق من الكَلِم وهو الجرح، وهذا هو كلام القدماء.
قال الخيالي:
قوله: (وهذا هو كلام القدماء) أي: ما يفيد معرفة العقائد من غير خلط الفلسفيات هو كلامهم، والتسمية بالكلام لما وقعت منهم ذكر وجه التسمية عقيب ذكر كلام السلف.
قال السيالكوتي:
قوله: (والتسمية بالكلام لما وقعت منهم) جواب سؤال كأنه قيل: لم وسط وجه التسمية بين ذكر كلام المتقدمين وكلام المتأخرين ولم يذكر بعدهما مع أن الظاهر أن يتأخر عنهما؟ أجاب بقوله: “والتسمية إلخ” كذا نقل عنه، وحاصله أن وضع اسم الكلام لتلك المسائل إنما كان من المتقدمين، فذكر وجه التسمية بعد ذكر كلامهم أولى بخلاف المتأخرين، فإنهم تبعوهم في تلك التسمية.
قال الباجوري:
وقوله: “ثم خص به…إلخ”؛ دفعا لما يقال: ما ذكرت، إنما يدل على تخصيص الاسم به، أولا وابتداء، فما وجه تخصيصه ثانيا؟ ووجه الدفع: أنه خص به للتمييز، ولو لم يقيد الإطلاق بقولنا “أولا وابتداء” لضاع إما قيد الأول في وجه التسمية، أو ضاع ذكر وجه التخصيص في قوله: “ثم خص…إلخ”؛ لأنه إن كانت علة الإطلاق، كونه مما يجب أن يعلم ويتعلم بالكلام، مع قطع النظر عن كونه أول ما يجب…إلخ، ضاع قيد الأول في وجه التسمية، وإن كانت علة الإطلاق، كونه أول ما يجب…إلخ، كان ذكر وجه التخصيص ضائعا؛ لأنه لا شركة لغير التوحيد في كونه أول ما يجب…إلخ، حتى يذكر وجه التخصيص. لا يقال: لا يلزم كون ذكر وجه التخصيص ضائعا حينئذ؛ لأنه يجوز أن يكون لدفع احتمال أن يسمى غير التوحيد بالكلام لغير هذا الوجه؛ لأنا نقول هذا الاحتمال قائم في سائر الوجوه أيضا، مع أنه لم يتعرض لوجه التخصيص في غيره؛ إذ لم يقل بعد قوله: “ولأنه يورث قدرة على الكلام…إلخ” ثم خص ولم يطلق على غيره؛ تمييزا وهكذا.
قوله: (ثم خص به…إلخ) أي: ثم قصر هذا الاسم عليه…إلخ، فالباء داخلة على المقصور عليه، وإن كان خلاف الكثير والغالب.
وقوله: (ولم يطلق على غيره) كالتفسير للتخصيص.
وقوله: (تمييز) أي: لأجل تميزه عن غيره؛ إذ لو أطلق على غيره لحصل التباس عند الإطلاق، والعلة في الحقيقة قصد التمييز، لا نفس التمييز؛ لأن العلة يجب أن تكون سابقة على المعلول، والتمييز متأخر عن التخصيص، وأما قصد التميير فهو سابق على التخصيص.
قوله: (ولأنه إنما يتحقق…إلخ) على هذا الوجه، تكون التسمية بالكلام، من قبيل تسمية المسبب من حيث تحققه باسم السبب.
وقوله: (بالمباحثة) أي: من المتناظرين، أو من المعلم والمتعلم، وما ذكره من أنه إنما يتحقق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين، مبني على الغالب، وإلا فقد يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب.
وقوله: (وغيره قد يتحقق…إلخ) أي: وقد لا يتحقق إلا بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين، لكن الغالب فيه أنه يتحقق بغير ذلك، فـ”قد” في كلامه ليست للتقليل، بل للتحقيق، والحاصل: أن الغالب في علم الكلام، أنه لا يتحقق إلا بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين، وقد يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب، وأن الغالب في غيره أنه يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب، وقد لا يتحقق إلا بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين.
قوله: (ولأنه أكثر العلوم…إلخ) على هذا الوجه، تكون التسمية من قبيل تسمية الشيء باسم ما يفتقر إليه،
وقوله: (خلافا ونزاعا) أي: بين أهل السنة وغيرهم: كالمعتزلة وسائر الفرق الضالة.
قوله: (فيشتد افتقاره…إلخ) أي: فيكون احتياجه إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم، أكثر من احتياج غيره إلى ذلك.
وقوله: (ولأنه لقوة أدلته…إلخ) على هذا الوجه، تكون التسمية بالكلام من قبيل تسمية الشيء باسم الكلي الذي انحصر فيه ادعاءً؛ إذ الكلام كلي تحته أفراد، لكنه كأنه انحصر في علم الكلام؛ لقوة أدلته ووجه قوة أدلته علة لقوله: “صار…إلخ” ففيه تقديم العلة والمعلول.
قوله: (كما للأقوى…إلخ) تشبيه في انحصار الكلي في بعض أفراده ادعاءً.
وقوله: (هذا هو الكلام) أي: دون ما يقابله؛ لأنه كالعدم بالنسبة إليه.
قوله: (ولأنه لابتنائه…إلخ) على هذا الوجه، تكون التسمية بالكلام من قبيل تسمية المشبه باسم المشبه به؛ لأن هذا الفن يشبه الجراحة في التأثير، فلذلك سمي بالكلام المشتق من الكلم: وهو الجرح، كما ذكره الشارح.
قوله: (على الأدلة القطعية) أي: المفيدة للقطع، وهي الأدلة العقلية، وهذا بالنظر لغالب مسائله لا جـميعها؛ لأن من جملتها مسألة السمع والبصر والكلام، ودليها سمعي لا عقلي.
وقوله: (المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية) أي: كالكتاب والسنة والإجماع، وإنما قال “أكثرها”؛ لأن بعضها يؤيد بدليل سمعي، كما في مسألة الجوهر الفرد، فإنه لم يرد به سمع أصلا ولا يخفى أن قوله: “لابتنائه…إلخ” علة لقوله: “أشد العلوم…إلخ” ففيه تقديم العلة على المعلول.
وقوله: (تأثيرا في القلب) أي: فينفعل به القلب انفعالا قويا، ويتكيف به تكيفا شديدا.
وقوله: (وتغلغلا فيه) بغينين معجمتين، أي: دخولا فيه وتمكنا حتى صار كآلة بجحة، والقلب هنا بمعنى النفس.
قوله: (فسمي بالكلام…إلخ) تفريع على هذا الوجه.
وقوله: (المشتق) أي: المأخوذ.
وقوله: (من الكلم) بفتح الكاف وسكون اللام.
وقوله: (وهو الجرح) الضمير للكلم.
قوله: (وهذا هو كلام القدماء) اسم الإشارة راجع لما يفيد معرفة العقائد الدينية من غير خلط الفلسفيات، كما هو المتبادر مما تقدم، والمراد بالقدماء: المتقدمون من علماء الكلام، وأما كلام المتأخرين فهو ما يفيد معرفة العقائد الدينية المخلوطة بالفلسفة، كما سيأتي قريبا، فإن قيل: لمَ وَسَّط وجوه التسمية بالكلام بين ذكر كلام القدماء وذكر كلام المتأخرين، ولم يذكرها بعدهما لتكون راجعة إليهما؟ أجيب: بأنه ذكرها عقب ذكر كلام القدماء ولم يذكرها بعد كلام المتأخرين أيضا؛ لأن التسمية وقعت من القدماء بخلاف المتأخرين، فإن التسمية وقعت منهم تبعا للقدماء، وأجاب بعضهم أيضا: بأن هذه الوجوه مختصة بالقدماء؛ فلذلك ذكرت عقب كلامهم، بخلاف المتأخرين فإن التسمية عندهم ليست لهذه الوجوه؛ بل لأن مسائل الكلام جزء المسمى، الذي هو مجموع مسائل الكلام ومسائل الفلسفة، فتكون التسمية بالكلام على هذا من باب تسمية الكل باسم الجزء.
قال الشارح: ومعظمُ خلافياته مع الفرق الإسلامية خصوصاً المعتزلة، لأنهم أول فرقةٍ أسسوا قواعد الخلاف لما ورد به ظاهر السنة وجرى عليه جماعة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في باب العقائد، وذلك أن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري رحمه الله يقرر أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ويثبت المنزلة بين المنزلتين، فقال الحسن: قد اعتزل عنَّا، فسموا المعتزلة، وهم سموا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد، لقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي على الله ونفي الصفات القديمة عنه.
قال الخيالي:
قوله: (يثبت المنزلة بين المنزلتين) أي: الواسطة بين الإيمان والكفر لا بين الجنة والنار فإن الفاسق مخلد في النار عندهم، وقال بعض السلف: الأعراف واسطة بين الجنة والنار، وأهلها من استوى حسناته مع سيئاته على ما ورد في الحديث الصحيح لكن مآلهم إلى الجنة، فلا تكون دار الخلد، وقيل: أهلها أطفال المشركين، وقيل: الذين ماتوا في زمان فترة من الرسل.
قوله: (فقال الحسن البصري قد اعتزل عنا) إن قلت: سيجيء أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر عند الحسن فلا اعتزال عن مذهبه، قلت: الكافر ينصرف عند الإطلاق إلى المجاهر، والمنافق كافر غير مجاهر، فلا منزلة بين المنزلتين عنده.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي الواسطة بين الإيمان والكفر) هذا القول منهم بناء على جعلهم الأعمال أي: الإتيان بالواجبات وترك المنهيات جزءًا من حقيقة الإيمان والكفر عبارة عن التكذيب، فمرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن لعدم جزئه؛ أعني: ترك المنهيات وليس بكافر لكونه مصدقًا ومقرًّا بما جاء به النبي عليه السلام، فيكون واسطة بين الإيمان والكفر عندهم وهي الفسق.
قوله: (لا بين الجنة والنار…إلخ) رد لما وقع في كلام البعض غالطًا في مذهبهم من عباراتهم من أنهم يثبتون الواسطة بين الجنة والنار ليكون محلًّا لمرتكب الكبيرة لأنه ليس بمؤمن ليكون محله الجنة ولا كافر ليكون محله النار يعني ليس المراد بإثبات المنزلة بين المزلتين إثبات الواسطة بين الجنة والنار ليكون مقرًّا للفاسق كما هو الظاهر من عباراتهم لأن الفاسق عندهم مخلد في النار إن مات بلا توبة كما هو المشهور من مذهبهم، فهم لايثبتون لمرتكب الكبيرة مقرًّا يكون واسطة بين الجنة والنار، فاندفع ما قاله الفاضل المحشي أن كون الفاسق مخلدًا في النار عندهم لا ينافي أن يقولوا بالواسطة بين الجنة والنار لجواز أن يكون أهلها غير الفاسق أو لفاسق لكن يدخل فيها الفاسق أولا حتى يحكم الله تعالى بما يشاء لأن مقصود المحشي ليس الاستدلال على أنه لا يمكن لهم القول بالواسطة بل دفع مايتوهم ذلك البعض.
قوله: (وقال بعض السلف) الواو للحال أي: والحال أن بعض السلف أيضًا يقول بثبوت الواسطة بين الجنة والنار لإثباتهم الأعراف، فلا وجه لتخصيص واصل بن عطاء بهذا الإثبات وجعله سببًا للاعتزال.
قوله: (لكن مآلهم إلى لجنة) قال القاضي في تفسير قوله تعالى: ﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳﱠ أي: رجال من الموحدين قصروا في العمل فيحسبون بين الجنة والنار حتى يقضي الله تعالى بينهم بما يشاء.
قوله: (زمان فترة بين الرسل) أي: زمان تفقد النبي أو عدم وصول دعوته إليهم، فإنهم معذورون لعدم اطلاعهم على المأمور به والمنهي عنه، وقالت المعتزلة: إنهم معذبون بترك الواجبات لأن العقل كاف في معرفة حسن الأشياء وقبحها، ويرد عليهم قوله تعالى: ﱡﭐ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﱠ
قوله: (الكافر ينصرف إلى الكافر المجاهر) حاصله أن الحسن رضي الله تعالى عنه إنما يثبت الواسطة بين الإيمان ونوع الكفر وهو الكفر بطريق الجهر، والمعتزلة بثبوت الواسطة بين الإيمان ومطلق الكفر، فيكون اعتزالًا عن مذهبه لأنه لا يثبت المنزلة بين المنزلتين لأن الفاسق عنده منافق داخل في الكافر لأن النفاق نوع من الكفر، فإن قيل: لِمَ لَمْ يحمل قول المعتزلة على ما قاله الحسن البصري رحمه الله تعالى بأن يكون المراد بقولهم: مرتكب الكبيرة ليس بكافر أنه ليس بكافر مجاهر؟ قلت: هو مناف لدليلهم الآتي لإثباتها حيث قالوا: إن أهل الملة في أسماء أهل الكبائر على أقوال، فالخوارج يسمونهم كافرين والمرجئة مؤمنين والحسن البصري وأتباعه منافقين، فأخذنا المتفق عليه وهو الفسق، وتركنا المختلف فيه، فإنه في الحقيقة إثبات أمر مغاير للإيمان والكفر والنفاق ونقل عن بعض المتأخرين من المعتزلة أنها لا تنفي الإيمان بمعنى التصديق وإجراء الأحكام على الفاسق بل تنفيه بمعنى استحقاق غاية المدح، وهو الذي يسمونه بالإيمان الكامل وينفونه عن الفاسق، فحينئذ لا يكون الواسطة بين الإيمان المطلق والكفر بل بين نوع الإيمان والكفر، وكان هذا رجوع منه عن مذهبهم وإعراض عنه، قيل يمكن حمل قول الحسن: إنه ليس بمؤمن ولا كافر بل هو منافق على أنه ليس بمؤمن بالإيمان الكامل بل هو منافق في الأعمال، فالإيمان المنفي هو الإيمان الكامل الذي كان العمل جزءًا منه، فلا منزلة بين المنزلتين، أقول: هذا التوجيه مخالف لما نقل عنه من الاستدلال عليه، فإنه قال: إن أقدام الشخص على المعصية المفضية إلى العذاب يدل على أنه كاذب في دعوى تصديقه بما جاء به النبي عليه السلام، فإن من اعتقد من العقلاء أن في الجحر حية لا يدخل يده في ذلك الحجر، فإن أدخل يده فيه علم أنه كان لا يعتقده، فإن هذا الدليل يدل على أنه يقول: إنه منافق في التصديق، ولذا رجع الحسن عن هذا المذهب على ما نقله في البداية.
قال الباجوري:
قوله: (ومعظم خلافياته) مبتدأ.
وقوله: (مع الفرق الإسلامية) خبر، والضمير راجع لكلام القدماء، والخلافيات: هي المسائل الخلافية، فمعظمها مع الفرق الإسلامية، أي: الخلاف في معظمها مع أهل الإسلام، لا مع أهل الكفر كالفلاسفة، وقيد بالمعظم؛ لأن القدماء ردوا على الفلاسفة في مسائل، كما في مسألة حدوث العالم، ومسألة المعاد، ونحو ذلك. والفرق الإسلامية كثيرة، وكبارها ثمانية: الفرقة الناجية، وهي أهل السنة والجماعة، والمعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والبخارية، والجبرية، والمشبهة، قاله ابن الغرس.
قوله: (خصوصا المعتزلة) أي: أخصهم بمزيد الخلاف معهم خصوصا.
وقوله: (لأنهم…إلخ) علة لقوله خصوصا المعتزلة.
وقوله: (أول فرقة أسسوا…إلخ) لم يقل أول فرقة خالفوا…إلخ؛ لأنهم مسبوقون بالخوارج، إلا أن الخوارج لم يؤسسوا قواعد الخلاف، فهم مسبوقون بالخوارج في المخالفة، لا في التأسيس، كما قاله ابن الغرس.
قوله: (لما ورد…إلخ) متعلق بالخلاف بمعنى المخالفة،
وقوله: (ظاهر السنة) أي: الطريقة المحمدية الشاملة للكتاب، فإنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف، لما ورد به ظاهر الكتاب أيضا، كما في قولهم بنفي رؤيته تعالى في الآخرة، المخالف لظاهر قوله تعالى:ﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱠ مؤولين له بأن معناه منتظرة نعم ربها، وكما في قولهم بأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، المخالف لظاهر قوله تعالى: ﱡﭐ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﱠ مؤولين له بأن معناه: والله خلقكم وما تعملون في،ه وفهم بعضهم أن المراد بالسنة: الأحاديث الشريفة، وأجاب عن عدم ذكر الشارح للقرآن؛ بأن السنة مبينة للقرآن فهما شيء واحد.
قوله: (وجرى عليه…إلخ) عطف على “ورد به…إلخ”.
وقوله: (جماعة الصحابة) أي: جماعة: هي الصحابة، وفي بعض النسخ جماعة من الصحابة، ووجهها ابن الغرس: بأن بعض الصحابة قد يخالف الجمهور في بعض المسائل.
قوله: (في باب العقائد) متعلق بأسسوا، أو يحتمل غير ذلك.
قوله: (وذلك أن رئيسهم واصل ابن عطاء…إلخ) ملخص قصته: أن رجلا دخل على الحسن، فقال: يا إمام الدين ظهر في هذا الزمان جماعة يكفرون صاحب الكبيرة -يريد الخوارج وآخرون يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة -يريد المرجئة- فما نعتقده من ذلك؟ فأطرق الحسن مفكرا، فقبل أن يجيب، قال واصل: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا ولا كافر مطلقا، ثم قام إلى أسطوانة في المسجد يقرر مذهبه، فقال الحسن قد اعتزل عنا، ونقل عن كتاب الغرر: أنه لما قال واصل بالمنزلة بين المنزلتين، قال عمرو بن عبيد: القول قولك وإني اعتزلت مذهب الحسن، فكل من واصل وعمرو اعتزل مذهب الحسن، وكلاهما بصري.
قوله: (اعتزل عن مجلس الحسن البصري) أي: تنحى وتباعد عنه، والحسن البصري من كبار التابعين، بل هو أفضل التابعين مطلقا، على ما ذهب إليه أهل البصرة، أو بعد أويس القرني على ما ذهب إليه أهل الكوفة، وتوفي في رجب سنة عشر ومائة.
قوله: (يقرر أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر) أي: لأن الإيمان عندهم التصديق القلبي مع العمل، والكفر هو التكذيب. فمرتكب الكبيرة ليس بمؤمن؛ لعدم العمل والذي هو جزء من الإيمان، وليس بكافر؛ لعدم التكذيب.
وقوله: (ويثبت المنزلة بين المنزلتين) أي: الواسطة بين الإيمان والكفر، وهي الفسق، وليس المراد بالمنزلة بين المنزلتين الواسطة بين الجنة والنار ليكون مقر الفاسق، كما وقع في كلام بعضهم؛ لأن الفاسق مخلد في النار عندهم إن مات بلا توبة، والقول بالواسطة بين الجنة والنار لبعض السلف، فإنهم يقولون الأعراف واسطة بين الجنة والنار، وأهلها من استوت حسناته مع سيئاته، على ما ورد في الحديث الصحيح، لكن مآلهم إلى الجنة، فليست الأعراف دار خلد لهم. قال القاضي في تفسير قوله تعالى: ﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳﱠ أي: رجال من الموحدين قصروا في العمل، فيحبسون بين الجنة والنار، حتى يقضي الله بينهم بما شاء. وقيل: الذين ماتوا زمن الفترة من الرسل.
قوله: (فقال الحسن قد اعتزل عنا) أي: تباعد عن مجلسنا وعن مذهبنا، فصار يقرر غير قواعدنا، فإن قيل: سيجئ إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر عند الحسن، فلا اعتزال عن مذهبه، أجيب: بأن الحسن لا يثبت المنزلة بين المنزلتين؛ لأن الكافر ينصرف عند الإطلاق إلى المجاهر، والمنافق كافر وغير مجاهر، فقوله: “إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر” أي: مجاهر، فلا ينافي أنه كافر غير مجاهر، فالمقابلة في كلامه بين الإيمان وبين أحد قسمي الكفر، لا بين الإيمان ومطلق الكفر، فلا منزلة بين المنزلتين عنده. وقد حكي عنه أنه رجع عن هذه المقالة، وقال إن مرتكب الكبيرة مؤمن عاصٍ، كما قاله الجمهور. لا يقال يمكن حمل كلامه على ذلك؛ بأن يقال الإيمان المنفي في كلامه الإيمان الكامل، والكفر المنفي في كلامه الكفر ظاهرا وباطنا، فقوله: “إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن” أي: إيمانا كاملا، فلا ينافي إنه مؤمن عاص ولا كافر، أي: لا ظاهرا ولا باطنا؛ لأنا نقول يخالف الحمل المذكور ما نقل عنه في الاستدلال على كلامه، بأن إقدام الشخص على المعصية المفضية إلى العذاب، يدل على أنه كاذب في دعوى التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فإن من اعتقد من العقلاء أن في هذا الجحر حية، لا يدخل يده في ذلك الجحر، فإن أدخل يده فيه، علمنا أنه كان كاذبا في دعوى الاعتقاد.
قوله: (فسموا المعتزلة) أي: فبسبب ذلك سموا المعتزلة، فسبب تسميتهم بالمعتزلة، قول الحسن البصري “قد اعتزل عنا”، وقيل: سببها أن قتادة لما جلس مجلس الحسن، وقع بينه وبين عمرو بن عبيد نفْرة، فاعتزل عمرو عن قتادة، واجتمع عليه جماعة من أصحاب الحسن، وكان قتادة يقول: ما فعلت المعتزلة؟
قوله: (وهم سموا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد) المراد بكونهم أصحاب العدل: أنهم عدلوا في قولهم، حيث قالوا بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي على الله تعالى، بخلاف أهل السنة، فإنهم لم يقولوا بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي. والمراد بكونهم أصحاب التوحيد أنهم وحدوا، حيث قالوا: القديم واحد وهو الذات العلية فقط، دون الصفات، بخلاف أهل السنة، فإنهم لم يقولوا القديم واحد، بل الذات والصفات، ففي تسميتهم أنفسهم بذلك؛ إشارة إلى أن أهل السنة ليسوا أصحاب عدل وتوحيد، بل أصحاب جور وتشريك، ويرد عليهم: بأنهم هم أصحاب الجور والتشريك؛ لأنهم نفَوْا عن الله صفاته الذاتية، وهذا جور شديد، ولأنهم يقولون بأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، فهذا تشريك. فهم أهل الجور والتشريك؛ وأما أهل السنة فهم أهل العدل والتوحيد، كما ينادي على ذلك القول السديد.
قوله: (لقولهم بوجوب…إلخ) راجع لتسميتهم أنفسهم أصحاب العدل.
وقوله: (ونفي الصفات القديمة عنه) راجع لتسميتهم أنفسهم أصحاب التوحيد، ففيه لف ونشر مرتب، وكان الأولى أن يقول: “لقولهم بوجوب الأصلح على الله”؛ لأنه أشد انتظاما بما نقله من مناظرة الأشعري.
قوله: (ثواب المطيع) الثواب هو المنفعة الدائمة المقرونة بالتعظيم.
وقوله: (وعقاب العاصي) العقاب هو المضرة الدائمة المقرونة بالاستخفاف.
وقوله: (على الله) متعلق بالوجوب.
قوله: (ونفي الصفات القديمة) أي: الوجودية؛ لأنها التي تنصرف إليها الصفات متى أطلقت، فلا يرد أن الصفات القديمة شاملة لصفات السلوب، وإنما ينفون صفات الثبوت.
وقوله: (عنه) متعلق بالنفي.
قال الشارح: ثم إنهم توغلوا في علم الكلام وتشبَّثوا بأذيال الفلاسفة في كثير من الأصول، وشاع مذهبهم فيما بين الناس إلى أن قال الشيخ أبو الحسن الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي: ما تقول في ثلاثة أخوة، مات أحدهم مطيعاً والآخر عاصياً والثالث صغيراً ؟فقال: إن الأول يثاب بالجنة، والثاني يعاقب بالنار، والثالث لا يثاب ولا يعاقب. قال الأشعري: فإن قال الثالث: يا ربُّ أمتني صغيراً وما أبقيتني إلى أن أكبر فأومن بك وأطيعك فأدخل الجنة !! ماذا يقول الرب تعالى. فقال: يقول الرب: إني كنتُ أعلم أنك لو كبرتَ لعصيتَ فدخلتَ النار، فكان الأصلح لك أن تموت صغيراً. قال الأشعري: فإن قال الثاني: يا رب لمَ لمْ تمتني صغيراً لئلا أعصي فلا أدخل النار ؟! فماذا يقول الرب ؟ فبهت الجبائي.
قال الخيالي:
قوله: (لا يثاب ولا يعاقب) لا يقال: لا واسطة بين الجنة والنار عندهم، فعدم الثواب والعقاب في الجنة والنار ينافي كونهما داري ثواب وعقاب؛ لأنا نقول معنى كونهما داري ثواب وعقاب أنهما محل للثواب والعقاب لا أن كل من دخلهما يثاب ويعاقب، ولو سلم فهو بالنسبة إلى أهل الثواب والعقاب وهم المكلفون عندهم، وقد نص المعتزلة بأن الأطفال المشركين خدام أهل الجنة بلا ثواب، فالمراد بقوله: “فادخل الجنة” دخولها مثابا بها ومستحقا لها كما يدل عليه السياق، ولذا فرع على الإيمان والإطاعة، ونسب الدخول إلى نفسه، وقس عليه قوله: “فدخلت النار”.
قوله: (فكان الأصلح لك ان تموت صغيرا) ذهب معتزلة البصرة إلى وجوب الأصلح في الدين بمعني الأنفع، وقالوا: تركه بخل أو سفه يجب تنزيه الله تعالى عن ذلك، فالجبائي اعتبر في الأنفع جانب علم الله تعالى، فأوجب ما علم الله تعالى نفعه فلزمه ما لزمه، وبعضهم لا يعتبر فيه ذلك، وزعم أن من علم الله تعالى منه الكفر على تقدير التكليف يجب تعريضه للثواب فلزمه ترك الواجب فيمن مات صغيرا وذهب معتزلة بغداد إلى وجوب الأصلح في الدين والدنيا معا لكن بمعنى الأوفق في الحكمة والتدبير ولا يرد عليهم شيء.
قال السيالكوتي:
قوله: (ينافي كونهما داري ثواب وعقاب) يعني أن إضافة الدار إلى كل من الثواب والعقاب بمعنى اللام وأصل اللام الاختصاص فيفيد أنهما موضوعان للثواب والعقاب، وهو ينافي تحقق عدم الثواب والعقاب فيهما .
قوله: (ولو سلم) أي: لو سلم أن معنى كونهما داري ثواب وعقاب أن كل من يدخلهما يثاب ويعاقب فهو بالنسبة إلى مستحقيهما، وهم عند المعتزلة المكلفون بناء على مذهبهم من أن ترتب الثواب والعقاب على الأعمال على سبيل الوجوب، أما عندنا فهو ترتب عادي فيجوز أن يثاب بلا طاعة وأن يعاقب بلا معصية على ما سيجيء تفصيله.
قوله: (فالمراد بقوله فأدخل…إلخ) لأن الدخول بدون الثواب متحقق عندهم في الصغار.
قوله: (كما يدل على السياق) من وجوب الثواب للمطيع والعقاب للعاصي.
قوله: (ونسب الدخول إلى نفسه…إلخ) أي: نفس الصغير إشارة إلى أنه يدخل الجنة بالاختيار بحيث يجب على الله تعالى إدخاله.
قوله: (وقس عليه قوله فدخلت) أي: دخولًا معاقًبا بها مستحقًّا لها لأن الكلام فيه ولتفرعه على الكفر والعصيان، ولذا نسبه إلى نفس ذلك الصغير أي: دخلت دخولًا باختياره.
قوله: (ذهب معتزلة بصرة) المقصود من هذا الكلام دفع ما قيل: إن الأشعري قد أطال الكلام على نفسه في بهت الجبائي، إذ يكيفيه أن يقول إن المناسب بحق الكافر المعذب أن لا يخلق أو يسلب عنه العقل ولا حاجة إلى ذكر حال الصغير وغيره، وحاصل الدفع أن مقصود الأشعري إبطال مذهب معتزلة بصرة وإسكاته على مذهبه ومذهب غيره ولايخفى أنه إنما يتم في مادة الصغير والعاصي، وأما ذكر مادة المطيع فهو لإرخاء العنان وطلب البيان.
قوله: (قالوا تركه بخل أو سفه) لأنه إن علم الله تعالى بما هو أنفع للعبد في دينه وتركه يكون بخلًا وإن لم يعلم يكون سفهًا يجب تنزيه الله تعالى عنهما، كذا نقل عنه، وفيه تأمل، والأولى أن يقال: تركه بخل أو جهل.
قوله: (فأوجب…إلخ) أي: أوجب الجبائي على الله تعالى أن يعطي العبد ما علم نفعه في دينه.
قوله: (فلزمه ما لزم) أي: لزمه أمر عظيم لا يمكن أن يعبر عنه معينًا، وهو السكوت في مادة العاصي لأن الواجب على الله تعالى على حسب علمه في حقه أن لا يخلقه أو يميته صغيرًا أو يسلب عنه عقله، قال الفاضل الإسفرايني في دفع إلزام الأشعري عن الجبائي بأن له أن يقول الأصلح واجب على الله تعالى إذا لم يوجب تركه حفظ أصلح آخر فوقه بالنسبة إلى شخص آخر، فلعله كان إماتة الأخ الكافر موجبة لكفر أبويه أو أخيه ولكمال الجزع على موته، فكان الأصلح لهم حياته، فلما حفظ هذا الأصلح وجب فوت الأصلح له، ولعله يوجد في في نسله صلحاء وكان الأصلح لهم إيجادهم، فلرعاية الأصلح لكثيرين فات الأصلح له، أقول هذا الجواب غير تام على مذهبه إذ هو يقول بوجوب إعطاء ما هو الأصلح للعبد على الله تعالى فترك الأصلح في حقه لأجل أصلح شخص آخر ظلم في حقه يجب تنزيه الله تعالى عنه، نعم يتم هذا الجواب عنه إذا كان المراد بالأصلح الأوفق للحكمة، فإن الحكمة تقتضي أن ترك الخير الكثير للشر القليل قبيح في حقه تعالى، وقيل أيضًا في دفعه بأن الجبائي لا يقول بأن الإبقاء وإيصال الأنفع واجب عليه تعالى حتى يرد عليه ما ذكر، بل الواجب عنده اللطف والتمكين والإقدار عليه كإعطاء العقل والقدرة وإرسال الرسل، وهذا حاصل في حق العاصي، ولا يخفى أن وجوب اللطف على الله تعالى عند المعتزلة أمر آخر سوى وجوب الأصلح، فكأن المجيب خلط أحدهما بالآخر، قال في المواقف: وأما المعتزلة فأوجبوا على الله تعالى بناء على أصلهم أمورًا الأول اللطف وفسروه بأنه الفعل الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية كبعثه الأنبياء، والثاني الثواب على الطاعة، والثالث العقاب على المعصية، والرابع الأصلح للعبد.
قوله: (وبعضهم) أي: بعض معتزلة بصرة لم يعتبر جانب علم الله تعالى بل قالوا يجب على الله تعالى أن يعرضه للثواب والدخول في أعلى المنزلتين وإن علم أنه يكفر عند كونه مكلفًا، فلا يلزم عليهم من مات عاصيًا لأن ما هو الواجب على الله تعالى هو تعريضه للثواب وإبلاغه إلى مبلغ الرجال وتكليفه، وهو حاصل في حقه، والكفر إنما حصل له بقدرته ولا مدخل لقدرة الله تعالى فيه على ما قالوا، لكن يلزمهم ترك الواجب فيمن مات صغيرًا لعدم التكليف في حقه، فإن قيل يرد عليهم من مات كافرًا ولم تصل إليه دعوة نبي قط، فإنه ترك في حقه ما هو الواجب عليه تعالى، قلت: تعريض الثواب عندهم ليس بموقوف على إرسال الرسل، فإنهم قالوا: العقل كاف في معرفة الله تعالى وحسن الأشياء وقبحها، ومدار التكليف عليه وإرسال الرسل لطف يقرب العبد إلى الطاعة، نعم يرد عليهم من مات مجنونًا.
قوله: (بمعنى الأوفق) يعني ما تقتضيه حكمته الأزلية وتدبير نظام العالم يجب على الله تعالى فعله وقبح تركه سواء كان فيه نفع العبد في الدنيا أو في الدين أو في كليهما أو لم يكن، فحينئذ لم يرد عليهم شيء مما ذكر كما لا يخفى.
قال الباجوري:
قوله: (ثم إنهم) أي: المعتزلة.
وقوله: (توغلوا في علم الكلام) أي: تعمقوا فيه ودخلوا دخولا تاما.
وقوله: (وتشبثوا) أي: تعلقوا.
وقوله: (بأذيال الفلاسفة) أي: بأقوالهم، فالأذيال مستعارة للأقوال على سبيل الاستعارة التصريحية، ويحتمل أن يكون في الكلام استعارة بالكناية وتخييل، فيكون قد شبه الفلاسفة بالثياب، وطوى لفظ المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الأذيال.
قوله: (في كثير من الأصول) أي: المسائل الأصلية، كقولهم بنفي الصفات، المأخوذ من قول الفلاسفة القديم واحد من كل وجه، وكقولهم بوجوب الأصلح على الله، المأخوذ من قول الفلاسفة: الله فاعل بطريق الوجوب، لا بطريق الاختيار وهكذا. وفي قوله: “في كثير” إشارة إلى أنهم لم يتشبثوا بأذيال الفلاسفة في بعض الأصول، وهو كذلك.
قوله: (وشاع مذهبهم فيما بين الناس) كلمة “فيما” زائدة، أي: شاع مذهبهم بين الناس.
قوله: (إلى أن قال الشيخ…إلخ) أي: شاع مذهبهم فيما بين الناس شيوعا مستمرا إلى أن قال الشيخ…إلخ، وقضيته أن الشيوع انقطع بعد ذلك، وليس كذلك، إلا أن يقال المراد: وشاع مذهبهم من غير نزاع وجدال إلى أن قال الشيخ…إلخ.
قوله: (أبو الحسن) هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي.
وقوله: (الأشعري) نسبة إلى الأشعر، وهو أبو قبيلة من اليمن سمّي به؛ لأنه ولد وعلى بدنه شعر. ولد سنة ست وستين ومائتين، وتوفي سنة ثلاثمائة وأربعة وعشرين، وهو مالكي المذهب، وقيل شافعي المذهب.
قوله: (لأستاذه) متعلق بقال.
وقوله: (أبي علي الجبائي) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام، بتخفيف اللام، ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين، وتوفي سنة ثلاث وثلاثمائة، والجبائي نسبة إلى جُبَّا بضم الجيم وفتح الباء المشددة مقصورا؛ قرية من قرى البصرة.
قوله: (ما تقول في ثلاثة أخوة…إلخ) أي: ما الحكم الذي تقوله في ثلاثة أخوة…إلخ، والأخوة ليست بقيد؛ إذ ما ذكره يجري في كل ثلاثة، مات أحدهم مطيعا…إلخ، سواء كانوا أخوة أو لا، وغرضه بهذا السؤال: رد مذهب المعتزلة في قولهم بوجوب الأصلح على الله تعالى، وقد وقع خلاف بينهم في ذلك، فذهب معتزلة البصرة إلى أنه يجب على الله فعل الأصلح في الدين بمعنى الأنفع في الدين، وقالوا: تركه بخل إن علم الله الأنفع في الدين ولم يفعله، وسفه إن لم يعلمه، يجب تنزيه الله عن ذلك، ثم إن بعضهم كالجبائي، اعتبر في الأنفع جانب علم الله، فأوجب على الله أن يفعل ما علم أنه الأنفع في الدين، فلزمه ما لزمه، وهو ترك الواجب في من مات عاصيا، دون من مات صغيرا؛ لأن الأنفع في الدين بالنظر لعلم الله فيمن مات عاصيا، أن يميته صغيرا وهو واجب على الله، بحسب زعمهم، وقد تركه؛ ولذلك بهت الجبائي في الثاني، وبعضهم لم يعتبر في الأنفع جانب علم الله، وزعم أن من علم الله منه الكفر، على تقدير التكليف يجب تعويضه للثواب، أي: إيصاله إلى حد الثواب بالبلوغ والعقل، فاعتبر جانب الأنفع بحسب الظاهر لنا، ولو علم الله أن يكفر عند كونه مكلفا ، فلزمه ترك الواجب فيمن مات صغيرا، دون من مات عاصيا؛ لأنه كان الأنفع في الدين لمن مات صغيرا بحسب الظاهر لنا تعريضه للتكليف، وهو واجب على الله بحسب زعمهم وقد تركه، وذهب معتزلة بغداد إلى وجوب الأصلح في الدين والدنيا معا، لكن بمعنى: الأوفق للحكمة وتدبير نظام العالم، فيجب على الله أن يفعل ما تقتضيه الحكمة الأزلية وتدبير نظام العالم، وهؤلاء لا يرد عليهم شيء من المذكورات؛ لأنهم لا يلزمهم ترك الواجب على الله بالنسبة لكل واحد من الأخوة المذكورة. فإن الواجب في حق كل منهم ما هو إلا وفق للحكمة الأزلية ولتدبير نظام العالم، وما فعله الله بكل منهم هو الأوفق لما ذكر، لكنهم يلزمهم ما هو أشد قبحا وشناعة، وسيأتي بيانه في محله، فإن قيل: قد تبين أن اللازم للجبائي ترك الواجب بالنسبة لمن مات عاصيا، فلم أطال الأشعري بذكر من مات مطيعا ومن مات صغيرا، مع أنه كان يكفيه في إبطال مذهب الجبائي الاقتصار على من مات عاصيا وإلزامه بترك الواجب بالنسبة له؟ أجيب بأن مقصود الأشعري إبطال ما ذهبت إليه معتزلة البصرة بقسميها، وإبكات الجبائي بالنظر لمذهبه ومذهب غيره، وهو إنما يتم بذكر من مات صغيرا ومن مات عاصيا، وأما ذكر من مات مطيعا فهو لإرخاء العنان وطلب البيان.
قوله: (مات أحدهم مطيعا) أي: مؤمنا.
وقوله: (والآخر عاصيا) أي: كافرا.
وقوله: (والثالث صغيرا) أي: غير مكلف.
قوله: (فقال) أي: أبو علي.
وقوله: (والثاني) أي: الذي مات عاصيا.
وقوله: (يعاقب بالنار) الأولى أن يقول: “بالجحيم”؛ لأنه الذي يقابل الجنة الجحيم، لا النار التي يعذب بها.
قوله: (والثالث) أي: الذي مات صغيرا.
وقوله: (لا يثاب ولا يعاقب) أي: لأنه لم يفعل طاعة حتى يثاب عليها، ولا معصية حتى يعاقب عليها. لا يقال لا واسطة بين الجنة والنار عندهم، فيكون في الجنة من غير ثواب وعدم الثواب فيها ينافي كونها دار ثواب، كما أن عدم العقاب في النار ينافي كونها دار عقاب؛ لأنا نقول معنى كونهما داري ثواب وعقاب إنهما محل للثواب والعقاب، فإذا كان هناك ثواب لا يكون إلا في الجنة، أو عقاب لا يكون إلا في النار، لا أن كل من دخلهما يثاب ويعاقب، وهذا لا ينافي أن بعض الأفراد، كالصغير يدخل الجنة ولا يثاب، أو أن بعض الأفراد يدخل النار ولا يعاقب، بالنظر للجواز العقلي لا الجواز الشرعي؛ لأن الأدلة الشرعية دلت قطعا على أن كل من دخل النار عوقب، ولو سلم أن معنى كونهما داري ثواب وعقاب أن كل من دخلهما يثاب ويعاقب فهو بالنسبة إلى أهل الثواب والعقاب وهم المكلفون عندهم، بناء على مذهبهم من أن ترتب الثواب والعقاب على الأعمال بطريقة الوجوب، أما عندنا فهو ترتب عادي، فيجوز أن يثاب بلا عمل، ويعاقب بلا معصية على ما سيجيء تفصيله.
قوله: (فقال الأشعري) أي: للجبائي معترضا عليه.
وقوله: (فإن قال الثالث) أي: الذي مات صغيرا.
وقوله: (أكبر) بفتح الباء من باب علم.
وقوله: (فأدخل الجنة) أي: أدخلها مثابا مستحقا لها على الإيمان والطاعة، كما يدل عليه السياق؛ إذ الكلام في وجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي، ولذا فرعه على الإيمان والطاعة ونسب الدخول إلى نفسه، فليس المراد أصل دخول الجنة؛ لأن الدخول بدون الثواب في الصغار متحقق عند المعتزلة، فقد نصوا على أن أطفال المشركين خدام أهل الجنة بلا ثواب، وفي العبارة حذف: وهو فماذا يقول الرب؟ وهو موجود في بعض النسخ.
قوله: (فقال) أي: أبو علي.
وقوله: (يقول الرب) أي: لذلك الصغير.
وقوله: (إني كنت أعلم منك…إلخ) أي: فقد علم منه الكفر على تقدير التكليف.
وقوله: (فدخلت النار) أي: دخلتها معاقبا مستحقا لها على المعصية، كما يدل عليه السياق؛ إذ الكلام في وجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي، ولذا فرعه على العصيان.
وقوله: (فكان الأصلح أن تموت صغيرا) أي: فكان الأنفع لك في الدين، بالنظر لجانب علمي، أن تموت صغيرا. فما فعلت لك هو الأصلح في حقك.
قوله: (قال الأشعري) أي: معترضا على الجبائي.
وقوله: (فإن قال الثاني) أي: الذي مات عاصيا.
وقوله: (لِمَ لمْ تمتني صغيرا) أي: مثلا، فالاقتصار على ذلك؛ لكونه فردا من أفراد الأصلح، التي منها أن لا يخلقه الله أو أن يسلب عقله حيث بلغ، أو يخلق فيه قدرة الطاعة، فليس الأصلح منحصرا فيما ذكره.
وقوله: (فلا أدخل النار) مفرع على النفي، ويوجد في بعض النسخ فماذا يقول الرب؟
قوله: (فبهت الجبائي) بالبناء للمجهول، أو من باب علم ونصر وكرم، أي: تحير وسكت حيث أفحمه الأشعري بهدم قاعدة وجوب الأصلح عليه تعالى، فإنه ألزمه أن الله لم يفعل ما هو الأصلح للثاني. قال العصام: للجبائي أن يقول للأشعري في دفع إلزامه المذكور محل وجوب الأصلح، إذا لم يوجب تركه حفظ أصلح آخر فوقه، بالنسبة إلى شخص آخر، ولعله كانت إماتة الأخ العاصي في حال صغره موجبة لكفر أحد أبويه؛ لكمال الجزع على موته، فكان الأصلح لأحد الأبوين حياته، فوجب ترك الأصلح له؛ لأجل حفظ الأصلح لأحد أبويه. قال العلامة عبد الحكيم: هذا الجواب غير تام على مذهب الجبائي؛ إذ هو يقول بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله فترك الأصلح في حقه لأجل الأصلح في حق غيره ظلم وجور يجب تنزيه الله عنه .أ.ه.
قال الشارح: وترك الأشعري مذهبه واشتغل هو ومن تبعه بإبطال رأي المعتزلة وإثبات ما ورد به السنة ومضى عليه الجماعة، فسموا أهل السنة والجماعة. ثم لما نقلت الفلسفةُ إلى العربية وخاض فيها الإسلاميون حاولوا الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه الشريعة، فخَلَطُوا بالكلام كثيراً من الفلسفة ليتحققوا مقاصدها، فيتمكنوا من إبطالها، وهلمَّ جرَّا، إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبيعيات والإلهيات، وخاضوا في الرياضيات، حتى كاد لا يتميز عن الفلسفة لولا اشتماله على السمعيات، وهذا هو كلام المتأخرين.
قال الخيالي:
قوله: (فسموا أهل السنة والجماعة) وهم الأشاعرة هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار وفي ديار ما وراء النهر أهل السنة والجماعة هم الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي، وماتريد قرية من قرى سمرقند وبين الطائفتين اختلاف في بعض المسائل كمسألة التكوين وغيرها.
قال السيالكوتي:
قوله: (أبو منصور الماتريدي) هو تلميذ أبي نصر العياض تلميذ أبي بكر الجرجاني تلميذ محمد ابن الحسن الشيباني من أصحاب الإمام الأعظم أبي حنيفة الكوفي رحمه الله، كذا في شرح المقاصد.
قوله: (كمسئلة التكوين وغيرها) من مسألة الاستثناء في الإيمان ومسألة إيمان المقلد على ما سيجيء.
قال الباجوري:
قوله: (وترك الأشعري مذهبه) أي: مذهب الجبائي في هذه المسألة وغيرها من المسائل الخلافية،
وقوله: (واشتغل هو ومن تبعه) أي: الآخذين عنه في زمنه والذين جآؤا من بعدهم.
وقوله: (إبطال رأي المعتزلة) أي: في جميع المسائل التي خالفوا فيها.
وقوله: (وإثبات ما ورد به السنة) أي: الطريقة المحمدية الشاملة للكتاب كما تقدم، لكن كان الأولى أن يقول: “ظاهر السنة”،
وقوله: (ومضى عليه الجماعة) أي: جماعة الصحابة والتابعين،
وقوله: (والعمل بها) أي: بالسنة.
قوله: (فسُمُّوا أهل السنة والجماعة) أي: لإثباتهم لما وردت به السنة ومضى عليه الجماعة، والضمير في سُمُّوا للأشعري ومن تبعه، فالمسمى بذلك هم الأشاعرة، وهذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأطراف، وأما في ديار ما وراء النهر أي: نهر بلخ، فأهل السنة والجماعة هم الماتريدية: أصحاب أبي منصور الماتريدي؛ نسبة لماتريد: قرية من قرى سمرقند، وبين الطائفتين اختلاف في بعض المسائل: كمسألة التكوين وغيرها كمسألة الاستثناء في الإيمان، ومسألة إيمان المقلد على ما سيجيء. ويحتمل أن الضمير في سُمّوا لمن اشتغل بحفظ ما وردت به السنة، ومضى عليه الجماعة لا بقيد من تقدم، فيشمل الماتريدية ويكون فيه استخدام، وفيه بعد ظاهر.
قوله: (ثم لما نقلت الفلسفة…إلخ) ثم للترتيب الإخباري لا الحقيقي؛ لأن نقل الفلسفة إلى العربية سابق على أبي الحسن الأشعري، فإنه كان في زمن المأمون وقد كانت الفلسفة باللغة اليونانية فنقلوها إلى اللغة العربية، والفلسفة: هي علم الحكمة، وعرفوها بأنها علم يبحث فيه عن أحوال الموجودات الخارجية، على ما هي عليه في نفس الأمر، بقدر الطاقة البشرية، وقسموها إلى علوم ثلاثة: العلم الطبيعي، والعلم الإلهي، والعلم الرياضي، وسيأتي قريبا تعريفها.
قوله: (وخاض فيه الإسلاميون) أي: اشتغل بها وتناولها أهل الإسلام، وفي الكلام استعارة بالكناية وتخييل، حيث شبه الفلسفة ببحر بجامع الاتساع، وطوى اللفظ المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الخوض.
قوله: (حاولوا الرد على الفلاسفة) أي: قصدوا الرد عليهم وهذا جواب لَمَّا في قوله: “لما نقلت الفلسفة…إلخ”.
قوله: (فيما خالفوا فيه الشريعة) أي: كقولهم بقدم العالم، ونفى العلم بالجزئيات، ونفى المعاد الجسماني وغير ذلك مما يكفروا به أو يضلوا به.
قوله: (فخلطوا بالكلام كثيرا من الفلسفة) أي: خلطوا بمسائل علم الكلام كثيرا من مسائل الفلسفة حيث اضطروا إلى ذلك في محاولة الرد المذكور.
قوله: (ليتحققوا مقاصدها) علة لقوله فخلطوا…إلخ، أي: ليتيقونا المسائل المقصودة منها،
وقوله: (فيتمكنوا من إبطالها) أي: من إبطال الفلسفة، فإنه لايتم إبطال شيء بدون الوصول إلى مقاصده.
قوله: (وهلم جرا إلى أن أدرجوا…إلخ) أي: واستمروا على الخلط شيئا فشيئا إلى أن أدرجوا…إلخ، هذا هو المراد منه، وإن أردت زيادة الكلام في هلم جرا فعليك برسالة العلامة ابن هشام فيها.
قوله: (معظم الطبيعيات) أي: مباحث العلم الطبيعي: وهو علم يبحث فيه عن أحوال الموجودات المحتاجة إلى المادة الجسمية في الخارج والذهن كالأفلاك والعناصر ومما يقولون فيه إن الأفلاك قديمة.
قوله: (والإلهيات) أي: مباحث العلم الإلهي وهو علم يبحث فيه عن أحوال المجردات عن المادة الجسمية في الذهن والخارج ومما يقولون فيه إن المولى فاعل بلا اختيار.
قوله: (وخاضوا في الرياضيات) أي: مباحث العلم الرياضي وهو علم يتعلق بأحوال المعلومات المجردة عن المادة في الذهن فقط، وأنواعه أربعة: الهندسة والهيئة والحساب والموسيقى أي: الأنغام والألحان، وضبطه بعض المحققين بكسر السين بلا ياء بعدها، وإنما لم يجعل المعظم مسلطا على الرياضيات؛ إشارة إلى أن ما ذكروه من الرياضيات قليل، بالنسبة إلى ما ذكروه من الطبيعيات والإلهيات، وإنما خاضوا في الرياضيات حيث ذكروا شيئا من الهندسة، وشيئا مما يتعلق بالهيئة، وشيئا مما يتعلق بالعدد بحسب ما اقتضاه الحال.
قوله: (حتى كاد لا يتميز عن الفلسفة) أي: حتى قرب من عدم تميزه عن الفلسفة بالنسبة إلى غير المحصلين المَهَرة.
وقوله: (لولا اشتماله على السمعيات) أي: لولا اشتماله على السمعيات لم يتميز أصلا، فالجواب محذوف دل عليه ما قبله، والمراد بالسمعيات الأمور التي تتوقف على السمع: كالحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار.
قوله: (وهذا هو كلام المتأخرين) أي: الكلام المدرج فيه الفلسفة هو كلام المتأخرين، بخلاف كلام المتقدمين كما تقدم، فالفرق بين كلام المتقدمين وكلام المتأخرين أن الأول غير مخلوط بالفلسفة، والثاني مخلوط بها.
قال الشارح: وبالجملة هو أشرف العلوم، لكونه أساس الأحكام الشرعية ورئيس العلوم الدينية، وكون معلوماته العقائد الإسلامية، وغايته الفوز بالسعادات الدينية والدنيوية، وبراهينه الحجج القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية. وما نقل عن بعض السلف من الطعن فيه والمنع عنه فإنما هو للمتعصِّب في الدين والقاصر عن تحصيل اليقين، والقاصد إفساد عقائد المسلمين، والخائض فيما لا يفتقر إليه من غوامض المتفلسفين. وإلا فكيف يتصور المنع عمَّا هو مِن أصل الواجبات وأساس المشروعات.
قال الباجوري:
قوله: (وبالجملة) أي: وأقول قولا ملتبسا بالإجمال، أي: شاملا لكلام القدماء وكلام المتأخرين.
وقوله: (هو أشرف العلوم) أي: علم الكلام مطلقا، أي: لا بقيد كونه كلام المتأخرين أشرف سائر العلوم، وقد بين أشرفيته بالجهات الخمسة التي ذكرها، وبحث فيه بأن جهات شرف العلوم ثلاثة: شرف الموضوع والغاية وقطعية الحجج، فالشارح ترك شرف الموضوع، ولا وجه لتركه، وزاد كونه أساسا للأحكام الشرعية، ورئيسا للعلوم الدينية، وكون معلوماته العقائد الدينية، وهذه الثلاثة لم تعد من جهات الشرف فيما تلقته العقول بالقبول، لكنه زاد ذلك؛ لبيان أنه أشرف من العلوم التي وجد فيها الشرف بالجهات الثلاثة.
قوله: (لكونه أساس الأحكام الشرعية) أي: لكونه أصل الأحكام الشرعية من حيث الاعتداد، فلا يعتد بها إلا بعد هذا العلم كما تقدم توضحيه.
وقوله: (رئيس العلوم الدينية) أي: أعظم العلوم المنسوبة للدين: كعلم التفسير والحديث والفقه.
وقوله: (وكون معلوماته العقائد الإسلامية) أي: كون مسائله التي تعلم به العقائد، أي: النسب المعتقدة الإسلامية، أي: التي يعتقدها أهل الإسلام.
وقوله: (وغايته الفوز…إلخ) أي: وكون ثمرته المترتبة عليه الظفر بالسعادة الدينية كدخول الجنة، والدنيوية كالأمن على النفس والمال؛ إذ من اعتقد عقيدة مكفرة قتل، وربما سلب ماله.
وقوله: (وبراهينه الحجج القطعية) أي: وكون أدلته التي تقام على مسائله الأدلة القطعية، فالحجج بمعنى الأدلة ولو ظنية، لكن وصفها وصفا مخصصا بالقطعية؛ احترازا عن الظنية. والبراهين: هي الأدلة القطعية، لكن المراد منها هنا مطلق الأدلة؛ ليكون للإخبار بكون براهينه الحجج القطعية فائدة، إذ البراهين بمعناها الحقيقي لا تكون إلا حججا قطعية.
وقوله: (المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية) نعت للحجج.
قوله: (وما نقل عن السلف…إلخ) هذا جواب عما يقال: كيف يكون أشرف العلوم مع أنه نقل عن السلف الطعن فيه والمنع منه؟ فقد نقل عن أبي يوسف أنه قال: “لا تجوز الصلاة خلف المتكلم وإن تكلم بحق لأنه ذو بدعة”، ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال: “رأيي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد وينادى عليهم في العشائر هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واشتغل في علم الأوائل” إلى غير ذلك مما نقل، فلو كان أشرف العلوم ما طعنوا فيه ومنعوا منه! وحاصل الجواب: أن ما نقل عن السف من الطعن فيه والمنع منه؛ إنما هو لأمور عارضة: كالتعصب في الدين والقصور عن تحصيل اليقين وقصد إفساد عقائد المسلمين والخوض في غوامض الفلسفة وشبهها، ولا يخفى أن ذلك لا يظهر إلا بالنسبة لكلام المتأخرين دون كلام القدماء؛ لأن الأول هو المخلوط بالفلسفة دون الثاني، وعليه فالمراد بالسلف الذين نقل عنهم الطعن في علم الكلام والمنع عنه، الموجودون بعد تدوين المتأخرين المدرجين للفلسفة في علم الكلام، ولاشك أنهم سلف بالنسبة لمن بعدهم.
قوله: (من الطعن فيه والمنع عنه) بيان لما نقل عن السلف، والمراد بالطعن فيه الذم فيه، وبالمنع عنه النهي عن الاشتغال به.
قوله: (فإنما هو) أي: ما نقل عن السلف من الطعن فيه والمنع عنه.
وقوله: (للمتعصب في الدين) أي: المتكلم فيه على وجه التعصب بأن يقصد بالاشتغال به ترويج كلامه، ولو كان باطلا؛ لاتباعه هوى نفسه. وقوله: (والقاصر عن تحصيل اليقين) أي: العاجز عن تحصيل الجزم المطابق للواقع بالأدلة؛ لأنه لا فائدة في اشتغاله به، وربما تشوشت عقيدته بالنظر في شبه أهل الأهواء.
وقوله: (والقاصد إفساد عقائد المسلمين) أي: المريد إفساد عقائدهم الحقة، بأن يتوصل بالنظر في علم الكلام إلى معرفة أصول أهل الضلال، فيوجهها ويقررها عند العامة، فيشككهم في اعتقاداتهم، ويحملهم بذلك على سيّء الاعتقاد، ولا يخفى أن قصد الإفساد إنما يكون من المتعصب، فهو يغني عن قوله: “والقاصد إفساد عقائد المسلمين”.
وقوله: (والخائض فيما لايفتقر إليه من غوامض المتفلسفين) أي: المشتغل بما لا يحتاج إليه في العقائد الشرعية من دقائق شبههم؛ لأنها ربما أدته إلى القدح في العقائد. فإن لم يكن، فقد أشغلته عما لا بد منه من أمور الدين.
قوله: (وإلا فكيف يتصورالمنع…إلخ) أي: وإلا نقل أن ما نقل عن السلف من الطعن فيه والمنع منه، بالنسبة لمن ذكر، فلا يصح؛ لأنه كيف يتصور المنع…إلخ.
وقوله: (والاستفهام إنكاري بمعنى النفي) أي: لأنه لا يتصور المنع…إلخ.
وقوله: (عما هو أصل الواجبات) أي: لأن الواجبات مبنية عليه؛ إذ أول واجب على المكلف معرفة الله أو النظر الموصل إليها، ولا يحصل ذلك إلا بعلم الكلام،
وقوله: (وأساس المشروعات) أي: أساس الأحكام المشروعة واجبة كانت أو لا، وقد تقدم وجه كونه أساسا لها.
قال الشارح: ثمَّ لما كان مبنى الكلام على الاستدلال بوجود المحدثات على وجود الصانع وتوحيده وصفاته وأفعاله، ثمَّ منها إلى سائر السمعيات ناسب تصدير الكلام بالتنبيه على وجود ما يُشاهد من الأعيان والأعراض، وتحققِ العلم بها ليتوسل بذلك إلى معرفة ما هو المقصود الأهم.
قال الباجوري:
قوله: (ثم لما كان مبنى الكلام على الاستدلال…إلخ) كان الأحسن والأوضح أن يقول، كما قال العصام، ولما كان مبنى الكلام على ثبوت حقائق الأشياء وتحقق العلم بها؛ إذ لو لم تثبت ولم يتحقق العلم بها لم يكن لدعوى الحشر ووجود الجنة والنار وإرسال الرسل إلى غير ذلك معنى، فالشروع في مقاصد الكلام فرع إبطال قول السوفسطائية. صدَّر الكتاب بقوله: “قال أهل الحق…إلخ”؛ لأنه سيأتي للمصنف في أثناء الكتاب ذكر حدوث العالم من حيث إثبات الصانع وصفاته به، فلو كان قصد الشارح بما قاله هنا ما قاله الشارح، للزم عليه التكرار في كلام المصنف، وعلى كل فهو جواب عما يقال: المقصود من علم الكلام بيان ما يجب لله وما يستحيل عليه وما يجوز في حقه، وبيان مثل ذلك في حق الرسل، فكان المناسب أن يصدر الكتاب بشيء من ذلك، فلم صدره بغيره؟
قوله: (بوجود المحدثات) أي: بالمحدثات من جهة وجودها، لكن لما كان الوجود جهة الدلالة، كان كأنه الدليل. والمراد وجودها بعد عدم، الذي هو معنى الحدوث، فكلام الشارح مبني على أن جهة الدلالة الحدوث وهو أحد أقوال أربعة؛ لأنهم اختلفوا في جهة الدلالة، هل هي الحدوث؟ أو الإمكان؟ أو الحدوث والإمكان؟ أو الإمكان بشرط الحدوث؟
قوله: (على وجود الصانع) أي: على وجوب وجود الصانع، وكذا يقال فيما بعده.
وقوله: (وتوحيده) أي: وحدته، لا اعتقادها.
وقوله: (وصفاته) أي: ما عدا السمع والبصر والكلام ولوازمها، فلا يستدل عليها بوجود المحدثات؛ لأن أدلتها سمعية، وعطف صفاته على توحيده من عطف العام على الخاص كما تقدم.
وقوله: (وأفعاله) أي: وجواز أفعاله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة.
قوله: (ثم منها إلى سائر السمعيات) أي: ثم ينتقل من المذكورات التي هي: وجود الصانع وتوحيده وصفاته وأفعاله، إلى جميع السمعيات: كالحشر والنشر والصراط والجنة والنار إلى غير ذلك. وظاهر كلامه: أنه ينتقل من نفس المذكورات إلى نفس السمعيات، مع أنه ينتقل من الاستدلال على المذكورات إلى الاستدلال على السمعيات، لكن بالأدلة السمعية، لا بوجود المحدثات كما توهم.
قوله: (ناسب) جواب لمَّا.
وقوله: (تصدير الكتاب) أي: بالنسبة للمقصود منه، وإلا فقد صدره بالخطبة المشتملة على البسملة والحمدلة وغيرهما.
وقوله: (بالتنبيه) أي: بذي التنبيه؛ لأن المصدر به الكتاب ليس نفس التنبيه، بل ذو التنبيه وهو الكلام المنبه به.
وقوله: (على وجود ما يشاء من الأعيان والأعراض) قد نبه على ذلك بقوله: “حقائق الأشياء ثابتة”.
وقوله: (وتحقق العلم بها) قد نبه على ذلك بقوله: “والعلم بها متحقق”، واعترض بأن المصنف إنما نبه على وجود حقائق الأشياء وعلى تحقق العلم بها، لا على وجود ما يشاهد من الأعيان والأعراض وتحقق العلم بها، وأجيب: بتقدير مضاف في كلامه أولا وآخرا، والتقدير: على وجود حقائق ما يشاهد من الأعيان والأعراض وتحقق العلم بحقائقها، وكل من الاعتراض والجواب مبني على أن المراد بحقائق الأشياء ماهياتها الكلية كما هو ظاهر كلامهم، وأما على ما قاله عبد الحكيم من أن المراد بها الماهيات الجزئية الموجودة في الخارج، فلا اعتراض ولا جواب.
قوله: (من الأعيان والأعراض) بيان لما يشاهد، والمراد بالأعيان: الجواهر القائمة بنفسها، والمراد بالأعراض: الأمور التي تعرض للأعيان.
قوله: (وتحقق العلم بها) عطف على وجود ما يشاهد، والضمير راجع “لما” المبينة بالأعيان والأعراض.
قوله: (ليتوسل بذلك) علة لقوله “ناسب تصدير الكتاب… إلخ”، واسم الإشارة راجع للتنبيه بمعنى المنبه به.
قوله: (إلى معرفة ما هو المقصود الأهم) أي: الذي هو وجود الصانع وتوحيده…إلخ، فيتوسل بوجود حقائق الأشياء وتحقق العلم بها إلى معرفة وجود الله وبقية صفاته، وقضية صنيعه أن المقصود الأهم نفس الصفات، لا معرفتها، حيث أضاف المعرفة إلى ما هو المقصود الأهم، مع أن المقصود الأهم معرفة الصفات، لا نفسها، فلو قال: إلى ما هو المقصود الأهم من معرفة ما ذكر، لكان أولى.