وعذابُ القبرِ للكافرينَ ولبعضِ عُصاةِ المؤمنينَ. وتنعيمُ أهلِ الطاعةِ في القبرِ، وسؤالُ منكرٍ ونكيرٍ. ثابتٌ بالدلائلِ السَّمعيةِ.
قال الشارح: (وعذاب القبر للكافرين ولبعض عصاة المؤمنين) خص البعض لأن منهم من لا يريد الله تعالى تعذيبه فلا يعذب. (وتنعيم أهل الطاعة في القبر بما يعلمه الله تعالى ويريده) وهذا أولى مما وقع في عامة الكتب من الاقتصار على إثبات عذاب القبر دون تنعيمه بناء على أن النصوص الواردة فيه أكثر وعلى أن عامة أهل القبور كفار وعصاة، فالتعذيب بالذكر أجدر، (وسؤال منكر ونكير) وهما ملكان يدخلان القبر فيسئلان العبد عن ربه وعن دينه وعن نبيه، قال السيد أبو شجاع: إن للصبيان سؤالاً وكذا للأنبياء عند البعض. (ثابت) كل من هذه الأمور (بالدلائل السمعية) لأنها أمور ممكنة أخبر بها الصادق على ما نطقت به النصوص. قال الله تعالى: ﱡﭐ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﱠ ، وقال الله تعالى: ﱡﭐ ﲯ ﲰ ﲱ ﱠ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه”
قال الخيالي:
قوله: (لأنها أمور ممكنة أخبر بها الصادق) إنما قيد بالإمكان لأن النقل الوارد في الممتنعات العقلية يجب تأويله لتقدم العقل على النقل فإن قوله تعالى: ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱠ لدلالته على الجلوس المحال على الله تعالى يجب تأويله بالاستيلاء ونحوه.
قوله: (ﱡﭐﲎ ﲏ ﲐ ﱠ ) عرضهم على النار إحراقهم من قولهم عرض الأسارى على السيف أي قتلوا به وقوله تعالى: ﱡﭐ ﲔ ﲕ ﲖ ﱠ دليل على العرض قبل ذلك اليوم.
قوله: (ﱡﭐ ﲯ ﲰ ﲱ ﱠ ) وجه الاستدلال أن الفاء للتعقيب من غير تراخ.
قال السيالكوتي:
قوله: (إنما قيدنا بالإمكان) الظاهر من إطلاق الإمكان ههنا، وبما ذكره في بحث الرؤية من عدم كفاية الإمكان الذهني في العمل بالظواهر أن المراد بالإمكان الإمكان الذاتي المفسر بحكم العقل بعد امتناعه لكن حينئذ لا بد من الاستدلال عليه إذ لا نسلم حكم العقل بذلك، غايته التوقف مع أن القوم لم يتعرضوا له، فالحق أن المراد بالإمكان الإمكان الذهني وأنه كاف في العمل بالظواهر على ما عرفت في بحث الرؤية، وحينئذ يكون المراد بقوله في الممتنعات العقلية الذهنية أي ما يحكم العقل بامتناعها، وعلى التوجيه الأول ما يقابل العادية فتذكر.
قوله: (لتقدم العقل على النقل) لأن العقل أصل النقل لكونه موقوفًا على إثبات الصانع وكونه عالمًا قادرًا، ففي إبطال العقل بالنقل إبطال الأصل بالفرع، وفي ذلك إبطال الأصل والفرع جميعًا.
قوله: (يجب تأويله بالاستيلاء والغلبة) كما في قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق…من غير سيف ودم مهراق
أي استوى وغلب عليه، فهو من قبيل التورية وهو أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد به البعيد، ووجوب التأويل على رأي من لم يقف على قوله تعالى: ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﱠ ، ويوصله بقوله: ﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫ ﱠ وأما على رأي من يقف عليه فلا يجب التأويل، بل يجب أن يفوض علمه إلى الله تعالى، وأن يصدق بأن كل ذلك من عند ربنا على ما روي عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قال: الاستواء معلوم وكيفيته مجهولة والبحث عنها بدعة، لكن على هذا المذهب أيضا النقل الوارد في الممتنعات العقلية ليس بدليل في حقنا لأن علمه مفوض إلى الله، وما علينا إلا أن نصدقه بأنه من عند الله تعالى.
قوله: (ونحوه) وهو ما ذكره صاحب الكشاف أنه لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يتبع الملك جعلوه كناية عن الملك ولما امتنع هذا المعنى الحقيقي صار مجازًا، وهذا كما يقال: استوى فلان على السرير إذا صار مالكًا وإن لم يجلس على السرير بل لم يكن له سرير أصلًا كقوله تعالى: ﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﱠ أي هو بخيل ﱡﭐ ﲾ ﲿ ﳀ ﱠ أي هو جواد من غير تصور يد ولاغل ولابسط يد.
قوله: (عرضهم على النار إحراقهم بها) العرض في اللغة (بيش آوردون) فتفسير العرض بالإحراق تفسير باللازم لأن الإحراق لازم لعرضهم على النار كما أن القتل لازم لعرضهم على السيف.
قوله: (وقوله تعالى: ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﱠ…إلخ) يعني وجه الاستدلال بهذه الآية أن عطف قوله: ويوم تقوم الساعة على قوله النار يعرضون عليها دليل على أن عرض النار قبل يوم القيامة، ولا شبهة في كونه بعد الموت لأن الآية في حق الموتى، وما ذلك إلا عذاب القبر إذ لا نعني به إلا العذاب الذي هو بعد الموت وقبل قيام الساعة.
قوله: (وجه الاستدلال أن الفاء…إلخ) يعني أن الفاء تدل على أن إدخال النار عقيب الإغراق متحقق بلا مهلة ومعلوم أن عذاب القيامة متراخ عنه زمانًا طويلًا، فقد ثبت عذاب بعد الموت قبل عذاب القيامة، وهو المراد بعذاب القبر، وأما ما قال المنكرون من أن أزمنة الدنيا في جنب أزمنة الآخرة أقل قليل فلقاتها استعمل الفاء فتأويل لا داعي إليه.
قال الشارح: وقال عليه السلام: “قوله تعالى: ﱡﭐ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱠ نزلت في عذاب القبر، إذا قيل له: من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد عليه السلام”، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: “إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان عيناهما، يقال لأحدهما: منكر، والآخر: نكير..” إلى آخر الحديث، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: “القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران”. وبالجملة الأحاديث الواردة في هذا المعنى وفي كثير من أحوال الآخرة متواترة المعنى وإن لم يبلغ آحادها حد التواتر. وأنكر عذاب القبر بعض المعتزلة والروافض، لأن الميت جماد لا حياة له ولاإدراك،تعذيبه محال. والجواب: أنه يجوز أن يخلق الله تعالى في جميع الأجزاء أو في بعضها نوعاً من الحياة قدر ما يدرك ألم العذاب أو لذة التنعيم، وهذا لا يستلزم إعادة الروح إلى بدنه ولا أن يتحرك ويضطرب أو يرى أثر العذاب عليه، حتى أن الغريق في الماء أو المأكول في بطون الحيوانات أو المصلوب في الهواء يعذب وإن لم نطلع عليه. ومن تأمل في عجائب ملكه تعالى وملكوته وغرائب قدرته وجبروته لم يستبعد أمثال ذلك، فضلاً عن الاستحالة.
قال الخيالي:
قوله: (جماد لا حياة له…إلخ) جوز بعضهم تعذيب غير الحي ولا شك أنه سفسطة وأما تعذيب المأكول بخلق نوع الحياة في بطن الآكل فواضح الإمكان كدودة في الجوف وفي خلال البدن فإنها تتألم وتتلذذ بلا شعور منا.
قال السيالكوتي:
قوله: (جوز بعضهم تعذيب غير الحي…إلخ) ذهب الصالحي من المعتزلة وابن جوز الطبري من الكرامية إلى جواز تعذيب غير الحي، وهو سفسطة ظاهرة لأن الجماد لا حس له فكيف يتصور تعذيبه، قال الفاضل المحشي: قد روي رواية مشهورة أن بعض الأشجار قد تكلم وصدق محمدًا عليه الصلاة والسلام وأن بعض الأحجار قد صار باكيًا حتى انقطع ماؤه عنه خوفًا من أن يكون وقود جهنم حين ما سمع قوله تعالى: ﱡﭐ ﳎ ﳏ ﳐﱠ الآية والله تعالى قادر أن يخلق في الأحجار والأشجار إدراكا يكون سببًا لتلذذها وتألمها انتهى كلامه. ولايخفى عليك أن ليس المراد بالحي ههنا ما يعاد فيه الروح ويصدر عنه الأفعال الاختيارية بل ما يردرك الألم واللذة، فإذا خلق الله تعالى فيه إدراكا يكون سببًا لإدراك الألم واللذة يكون حيًّا لا جمادًا، ولذا قال الشارح في الجواب: إنه يجوز أن يخلق الله في جميع الأجزاء أو بعضها نوعًا من الحياة قدر ما يدرك الألم واللذة.
قوله: (وأما تعذيب المأكول…إلخ) دفع لما قيل: إن تعذيب من أكله السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها أيضًا سفسطة. *وحاصل الدفع أنه واضح الإمكان فإن الدودة في الجوف أو في خلال البدن يتألم ويتلذذ مع عدم شعورنا بذلك.
والبعثُ حقٌّ.
قال الشارح: واعلم أنه لما كان أحوال القبر مما هو متوسط بين أمر الدنيا والآخرة، ودليل الكل أنها أمور ممكنة أخبر بها الصادق ونطق بها الكتاب والسنة، فتكون ثابتة، وصرح بحقيقة كل منها تحقيقاً وتوكيداً واعتناءًا بشأنه فقال: (والبعث) وهو أن يبعث الله تعالى الموتى من القبور بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها (حق) لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖﱠ إلى غير ذلك من النصوص القاطعة الناطقة بحشر الأجساد. وأنكره الفلاسفة بناء على امتناع إعادة المعدوم بعينه، وهو مع أنه لا دليل لهم عليه يعتد به غير مضر بالمقصود، لأن مرادنا أن الله تعالى يجمع الأجزاء الأصلية للإنسان ويعيد روحه إليه، سواء سمي ذلك إعادة المعدوم بعينه أو لم يسم. وبهذا سقط ما قالوا: إنه لو أكل إنسان إنساناً بحيث صار جزءاً منه، فتلك الأجزاء إما أن تعاد فيهما وهو محال، أو في أحدهما فلا يكون الآخر معاداً بجميع أجزائه، وذلك لأن المعاد إنما هو الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره، والأجزاء المأكولة فضلة من الآكل لا أصلية.
قال الخيالي:
قوله: (لا دليل لهم يعتد به) قالوا إن أعيد الوقت الأول أيضا فهو مبدأ لا معاد وإلا فلا إعادة بعينه لأن الوقت من جملة العوارض، وأجيب أولا بأن إعادة العين بالمشخصات المعتبرة في الوجود ولا نسلم أن الوقت منها وإلا يلزم تبدل الاشخاص بحسب الأوقات، لا يقال يحتمل أن يراد أن وقت الحدوث مشخص خارجي، لأنا نقول هذا مع أنه كلام على السند مدفوع بأن المعتبر في الوجود ما لا يتصور هو بدونه وما لا يضر عدمه في البقاء لا يضر في الإعادة أيضا وثانيا بأن المبدأ هو الموجود في وقت المبدأ والوقت ههنا معاد فرضا، وقالوا أيضا لو أعيد المعدوم بعينه لتخلل العدم بين الشيء ونفسه هذا خلف، وأجيب بمنع الاستحالة فإنه في التحقيق تخلل العدم بين زماني الوجود ولا استحالة فيه، وقد يجاب بتجويز التمييز في الوقتين بالعوارض الغير المشخصة مع بقاء المشخصات بعينها فيكون التخلل بين المتغايرين من وجه وأيضا لو تم ذلك لامتنع بقاء شخص ما زمانا وإلا لتخلل الزمان بين الشيء ونفسه، وفيه بحث إذ الاختلاف في غير المشخصات لا يدفع التخلل بين المشخصات ونفسها وبين ذات الشخص وأن دفعه بين الشخص المأخوذ مع جميع العوارض ونفسه ثم لا يخفى أن معنى التخلل يقطع الاتصال والوقوع في الخلال فلا تخلل في الشخص الباقي.
قوله: (لأن مرادنا…إلخ) وذهب البعض إلى إعادة الأجزاء الأصلية بعد إعدامها لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊﱠ وأجيب بأن هلاك الشيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه والمطلوب بالجواهر الفردة انضمام بعضها إلى بعض ليحصل الجسم والمطلوب بالمركبات خواصها آثارها فالتقرير إهلاك للكل.
قوله: (والأجزاء المأكولة فضلة في الآكل لا أصلية) فإن قيل يحتمل أن يتولد من الجزء الأصلي للمأكول نفطة يتولد منها شخص آخر قلنا لعل الله تعالى يحفطه من أن يصير جزءا لبدن آخر فضلا عن أن يصير نطفة وجزءا أصليا والفساد في الوقوع لا في الجواز.
قال السيالكوتي:
قوله: (قالوا إن أعيد الوقت الأول…إلخ) أي قال النافون لإعادة المعدوم بعينه: إنه لو أعيد فإن أعيد وقته الأول أيضًا في وقت الحدوث فيكون ذلك المعدوم مبدأ لا معادًا لأن المعاد هو الواقع في الوقت الثاني من وقت الحدزث، وهذا قد وجد في وقت الحدوث فيكون مبدأ، وإلا أي وإن لم يعد الوقت الأول فلا يكون إعادة للمعدوم بعينه لأن الوقت من جملة العوارض المشخصة للشيء، فإنا نعلم بالضرورة أن الموجود مع قيد كونه في هذا الزمان غير الموجود مع قيد كونه قبل هذا الزمان.
قوله: (أجيب أولًا بأن إعادة…إلخ) هذا جواب باختيار الشق الثاني يعني أنا نختار أنه لا يعاد الوقت الأول قولك فلا يكون إعادة المعدوم بعينه، قلنا: لا نسلم ذلك لأن معنى إعادة المعدوم بعينه إعادة العين بالمشخصات المعتبرة في وجوده الخارجي، ولا نسلم أن الوقت من المشخصات المعتبرة في الوجود الخارجي، فإن زيدًا الموجود في هذه الساعة هو بعينه الموجود قبلها، وما ذكرت من أنا نعلم بالضرورة أن الموجود مع قيد كونه في هذا الزمان غير الموجود مع قيد كونه قبل هذا الزمان فهو أمر وهمي، والتغاير الذي يحكم به الضرورة إنما هو بحسب الذهن والاعتبار دون الخارج وإلا أي وإن كان الوقت من المشخصات يلزم تبدل الأشخاص، لا يقال إنما يلزم التبدل لو كان كل وقت مع باقي المشخصات علة لتشخص مغاير لما سبقه، وهو ممنوع، لم لا يجوز أن يكون كل وقت مع باقي المشخصات علة لتشخص كان حاصلًا في الوقت السابق مع المشخصات الأخر؟ وتوارد العلل المستقلة على سبيل البدل جائز لأنا نقول: فحينئذ يحصل إعادة المعدوم بعينه من غير اعادة الوقت الأول لأن الشخص الحاصل في الوقت الثاني هو الحاصل في الأول بلا تفاوت.
قوله: (لا يقال يحتمل أن يراد…إلخ) يعني إنما يلزم تبدل الأشخاص بحسب الأوقات لو جعل المستدل مطلق الوقت من جملة المشخصات لكن يحتمل أن يكون مراده بقوله إن الوقت من جملة المشخصات أن وقت الحدوث من جملة المشخصات، فحينئذ لا يلزم تبدل الأشخاص بحسب تبدل الأوقات لعدم تبدل وقت الحدوث.
قوله: (لأنا نقول هذا مع أنه كلام على السند…إلخ) يعني أن هذا الكلام مع كونه كلامًا على السند أعني قوله: ولا يلزم تبدل الأشخاص إلخ وعدم إفادته المعلل لبقاء المنع المجرد أعني لا نسلم أن الوقت من المشخصات الخارجية بحاله مدفع بأنه لا يجوز أن يكون وقت الحدوث من جملة المشخصات المعتبرة في الوجود لأن المعتبر في الوجود الخارجي ما لا يتصور الوجود بدونه ووقت الحدوث ليس كذلك، فإن الشيء موجود في الزمان الثاني مع انتفاء وقت الحدوث بل وقت الحدوث من جملة معدات الوجود الحادث، فلا يكون من جملة مشخصاته، فلا يضر عدمه في الإعادة كما لا يضر عدمه في حالة البقاء.
قوله: (وثانيًا بأن المبدأ هو الموجود…إلخ) أي أجيب ثانيًا بأن إلخ وحاصله اختيار الشق الأول وهو أن الوقت معاد أيضًا، ولا نسلم أنه لو كان معادًا لزم أن يكون مبدأً لا معادًا لأن المبدأ هو الموجود في الوقت البدأ وهو الذي لم يسبقه حدوث آخر، والمفروض أن الوقت ههنا معاد ومسبوق بحدوث آخر، وهذا الأمر غير متحقق في المعاد ضرورة أنه مع وقته مسبوق بحدوثه الأول، وإنما قال فرضًا لأن إعادة الوقت حين البعث غير واقع، فإن حشر جميع الأموات في وقت واحد مع أن أوقات ابتدائها متخالفة محال، ولأن إعادة الوقت بعينه محال لأنه يستلزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه ضرورة أن الوقت السابق بعينه الوقت اللاحق ولا يمكن الجواب بأنه في الحقيقة تخلل العدم بين زمان الوجود لأنه يستلزم أن يكون للزمان زمان، فخلاصة الجواب الثاني أنا لا نسلم على تقدير إعادة الوقت يلزم أن يكون مبدأ لأن المفروض أن الوقت أيضًا معاد، ولا يخفى أنه لو قرر دليل امتناع إعادة المعدوم بأنه إما أن يعاد الوقت الأول وهو محال، أو لا يعاد، فلا إعادة للمعدوم بعينه لم يتم الجواب الثاني.
قوله: (وقالوا أيضًا لو أعيد المعدوم…إلخ) أي قال النافون أيضًا: إن إعادة المعدوم بعينه محال لأنه يستلزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه ضرورة أن الموجود سابقًا بعينه الموجود لاحقًا بلا تفاوت، وتخلل العدم بين الشيء ونفسه محال لأنه يستدعي طرفين متغايرين وإلا لزم تقدم الشيء بالوجود على نفسه، فلا بد أن يكون الموجود بعد العدم غير الموجود قبله حتى يتصور التخلل بينهما، فلا يكون المعاد هو المبدأ بعينه.
قوله: (وأجيب بمنع الاستحالة…إلخ) أي لا نسلم أن التخلل ههنا محال لأن معنى التخلل أنه كان موجودًا في زمان ثم زال عنه الوجود في زمان آخر ثم اتصف بالوجود في الزمان الثالث، وهو في الحقيقة تخلل العدم وقطع الاتصال بين زمان الوجود، ولا اسستالة فيه لوجود الطرفين المتغايرين بالذات، إنما المحال تخلل العدم بين ذات الشيء ونفسه بمعنى قطع الاتصال بين الشيء ونفسه بأن يكون الشيء موجودًا ولم يكن نفسه موجودًا ثم يوجد نفسه، وههنا ليس كذلك فإن الشيء وجد مع نفسه في الزمان الأول ثم اتصف مع نفسه بالعدم في الزمان الآخر، ثم اتصف مع نفسه بالوجود في الزمان الثالث، فلم يتحقق قطع الاتصال بين الشيء ونفسه في زمان من الأزمنة، وهل هذا إلا كلبس شخص ثوبًا معينًا ثم خلعه ثم لبسه، ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الوقت ليس من المشخصات المعتبرة في الوجود، وإلا فلا بد من إعادته، فلا يوجد الزمانان.
قوله: (وقد يجاب بتجويز التميز بين الوقتين…إلخ) أي وقد يجاب بمنع استحالة تخلل العدم بين الشخص المعدوم ونفسه لأن التخلل المحال هو أن يكون بين الشيء الواحد من جميع الوجوه ونفسه وهو غير لازم لجواز أن يكون الشخص المعدوم متميزًا عن نفسه في الوقتين أي وقت الإبداء والإعادة بالعوارض الغير الداخلة في تشخصه مع بقاء مشخصاته في كلا الحالين، فيكون إعادة المعدوم بعينه لبقاء المشخصات والتخلل بين الأمرين المتغايرين من وجه، فإن التشخص المأخوذ مع الأمور العارضة له في وقت الإبداء غير المأخوذ مع الأمور العارضة له في وقت الإعادة، والفرق بين هذا الجواب والجواب السابق وإن كان في كليهما منع استحالة التخلل أن حاصل هذا الجواب أن التخلل حاصل بين الشخص ونفسه لكن باعتبارين مختلفين، وهو ليس بمحال، وحاصل الجواب السابق أن التخلل ليس بين الشخص ونفسه بل بين الزمانين المتغايرين بالذات وأيضًا هذا الجواب غير مبني على عدم كون الوقت من المشخصات بخلاف السابق وذلك ظاهر.
قوله: (وأيضا لو تم ذلك…إلخ) جواب بالنقض الاجمالي يعني لو تم ما ذكرتم من أن إعادة المعدوم تستلزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه لامتنع بقاء شخص من الأشخاص زمانًا وإلا لتخلل زمان البقاء بين الشيء ونفسه لأنه موجود في طرفيه مع أن بقاء الأشخاص متحقق.
قوله: (وفيه بحث…إلخ) أي فيما ذكر من الجواب الثاني والثالث بحث، أما في الثاني فلأن الاختلاف بين الشخص المبدأ والمعاد بالعوارض الغير المشخصة لا يدفع لزوم تخلل العدم بين المشخصات ونفسها وبين ذات الشخص ونفسه، وأن دفع ذلك الاختلاف لزوم التخلل بين الشخص المأخوذ مع تلك العوارض ونفسه، لكن المقصود أن إعادة الشخص المعدوم بعينه لا يستلزم تخلل العدم بين ذلك الشخص ونفسه، وهو غير لازم من التميز بالعوارض غير المشخصة، وذلك ظاهر، وأما في الثالث فلأن معنى التخلل إنما يتصور بقطع الاتصال بين الشيئين والوقوع في خلالهما، فلا يتصور تخلل زمان البقاء بين الشيء ونفسه في الشخص الباقي لعدم حصول قطع الاتصال بذلك الزمان بين ذلك الشخص ونفسه بخلاف إعادة المعدوم بعينه، فإنه يستلزم تخلل العدم وقطع الاتصال بين الشيء ونفسه ضرورة انعدامه، نعم إنه يحصل به التخلل بين طرفي الزمان وهو لا يضر في بقاء ذلك الشخص، فقوله: إذ الاختلاف إلخ. رد على قوله: وقد يجاب إلخ. وقوله ثم لا يخفى إلخ رد على قوله: وأيضًا لو تم ذلك إلخ.
قوله: (ذهب بعضهم إلى إعادة…إلخ) يلزمهم أن يقولوا بانعدام جميع ما سوى الله تعالى، وهو مخالف لظاهر قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱠ.
قوله: (وأجيب بأن الهلاك…إلخ) وكذا مثله يسمى فناء عرفًا، فلا يتم الاستدلال بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱠ على الإعدام أيضًا.
قوله: (فالتفريق إهلاك للكل) أي للأجسام والأجزاء لخروجهما من صفاتهما المطلوبة منهما، وقال حجة الإسلام في الإحياء: الممكن في حد ذاته هالك دائمًا لا أنه يهلك، ويدل على ذلك إتيان الجملة الاسمية الدالة على الاستمرار، وقال في مشكاة الأنوار: ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة فرأوا بعين البصيرة أنه ليس في الوجود إلا الله وأن كل شيء هالك دائمًا لا أنه يصير هالكًا في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلًا وأبدًا.
قوله: (لعل الله تعالى يحفظه…إلخ) قيل على أنه يجوز أن يكون الأجزاء الأصلية التي هي الإنسان في الحقيقة يقبضها الملك بإذن الله تعالى عند حضور الموت فلا يتعلق بها الأكل ولا يخلط بالتراب ولا يحصل منها الثمار والنبات والحبوب، أقول: فيه أنه مجرد احتمال لم يقم عليه شاهد بل مخالف لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖﱠ فإنه صريح في أن المحشور هي الأجزاء الرميمة المخلوطة بالتراب، ويؤيده ما قال المفسرون في آية نزلت في أبي بن خلف خاصم النبي عليه السلام وأتاه بعظم قد رم وبلي، ففته بيده فقال: يا محمد أترى الله تعالى يحيي هذا بعد ما رم؟ فقال: نعم يبعثك ويدخلك النار، وقد يقال: ولو سلم تولد المولود من الأجزاء الاصلية للمأكول، ولا دليل قطعيًّا على كونها أجزاء أصلية للمولود لجواز أن يكون الأجزاء الصلية الأجزاء الترابية التي ينشرها الملك على الجرم المنوي كما ورد في الحديث الصحيح.
قوله: (والفساد في الوقوع لا في الجواز) يعني لا اعتبار للاحتمال العقلي لأن الخصم في مقام الاستدلال على امتناع البعث، فلا يفيده الاحتمال العقلي.
قال الشارح: فإن قيل: هذا قول بالتناسخ، لأن البدن الثاني ليس هو الأول، لما ورد في الحديث من أن أهل الجنة جرد مرد مكحلون، وأن الجهنمي ضرسه مثل جبل أحد، ومن هاهنا قال من قال: ما من مذهب إلا وللتناسخ فيه قدم راسخ. قلنا: إنما يلزم التناسخ لو لم يكن البدن الثاني مخلوقاً من الأجزاء الأصلية للبدن الأول، وإن سمي مثل ذلك تناسخاً كان نزاعاً في مجرد الاسم، ولا دليل على استحالة إعادة الروح إلى مثل هذا البدن، بل الأدلة قائمة على حقيته سواء سمي تناسخاً أم لا.
قال الخيالي:
قوله: (وأن الجهنمي ضرسه مثل أحد) قيل ذلك بالانتفاخ لا بضم زائد وإلا لزم تعذيبه بلا شركة في المعصية وفيه بحث لأن العذاب للروح المتعلق به.
قوله: (قولنا إنما يلزم التناسخ…إلخ) حاصل الجواب أن التناسخ مغايرة البدنين بحسب ذوات الأجزاء والتغاير ههنا في الهيئة والتركيب وقد يتوهم أن حاصله منع التغاير بناء على أن البدن الثاني مخلوق من أجزاء البدن الأول فيكون عين الأول فيعترض بأن قوله تعالى: ﱡﭐ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﱠ يدل على تغاير الجلدين مع اتحاد أجزائهما بناء على تغاير الهيئة والتركيب، وأنت خببر بأن دعوى اتحاد إلا جزاء غير مسموعة فتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (لأن العذاب للروح المتعلق به) لأنه المدرك للذة والألم سواء كان ذلك جسمًا لطيفًا ساريًا فيه على ما هو مذهب أكثر المتكلمين أو جوهرًا مجردًا على ما هو مذهب المحققين، أو غير ذلك، ولو سلم أن الألم للأجزاء فيجوز أن يحفظ الله تلك الأجزاء الزائدة عن التعذيب.
قوله: (حاصل الجواب) إن التناسخ تعلق النفس ببدن آخر لا يكون مخلوقًا من أجزاء البدن الأول، وهو غير لازم، وأما تعلقه بالبدن المؤلف من الأجزاء الأصلية للبدن الأول بعينها مع مغايرته له في الهيئة والتركيب فليس بتناسخ، فإن الشخص يتبدل من أول عمره إلى آخره هيئة وتركيبًا ولا تناسخ.
قوله: (وانت خبير بأن دعوى…إلخ) يعني أن ما يدعيه المعترض من اتحاد أجزاء الجلدين غير مسموعة لا بد له من دليل، لم لا يجوز أن يكون أجزاء الجلد الثاني غير أجزاء الجلد الأول؟ نقل عنه ولعل المدعي يبني دعواه على أن مغايرة أجزاء الثاني للأول يستلزم التعذيب بلا معصية، وقد عرفت جوابه انتهى كلامه. قال الفاضل المحشي: وأما نفي تعلق الالم بالجلد فغير معقول إذ القوة اللامسة تكون في الجلد فهو محل الألم قطعًا، وفيه أنه إن أراد بكونه محل الألم أنه يتألم فهو ظاهر الفساد إذ لا ألم في الجلد الذي لا حياة فيه وان أراد أنه آلة وواسطة لتألم الروح فهو مسلم لكنه لا يقدح في كونه مركبًا من الأجزاء الزائدة لعدم كونه معذبًا، قال الفاضل الجلبي: يرد عليه أن منع اتحاد أجزاء الجلدين ميل إلى التناسخ ورجوع عن طريق الحق لأن المراد بالأجزاء في كلام المعترض الأجزاء الأصلية، وفيه أن التناسخ هو أن يكون البدن الثاني مغايرًا للأول بحسب الأجزاء الأصلية لا أن يكون جلده مغايرًا لجلده.
والوَزنُ حقٌّ.
قال الشارح: (والوزن حق) لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲈ ﲉ ﲊﱠ. والميزان عبارة عما يعرف به كيفية مقادير الأعمال، والعقل قاصر عن إدراك كيفيته.وأنكره المعتزلة، لأن الأعمال أعراض، وإن أمكن إعادتها لم يمكن وزنها، ولأنهما معلومة لله تعالى فوزنها عبث. والجواب: أنه قد ورد في الحديث أن كتب الأعمال هي التي توزن، فلا إشكال. وعلى تقدير تسليم كون أفعال الله تعالى معللة بالأغراض لعل في الوزن حكمة لا نطلع عليها، وعدم اطلاعنا على الحكمة لا يوجب العبث.
قال الخيالي:
قوله: (أن كتب الأعمال هي التي توزن) وقيل بل تجعل الحسنات أجساما نورانية والسيئات أجساما ظلمانية.
والكتابُ حقٌّ. والسؤالُ حقٌّ، والحوضُ حقٌّ.
قال الشارح: (والكتاب) المثبت فيه طاعات العباد ومعاصيهم يؤتى للمؤمنين بأيمانهم وللكفار بشمائلهم ووراء ظهورهم، (حق) لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱠ. وسكت المصنف عن ذكر الحساب اكتفاء بالكتاب، وأنكره المعتزلة زعماً منهم أنه عبث، والجواب ما مر. (والسؤال حق) لقوله تعالى: ﱡﭐﱇ ﱈ ﱠ ، ولقوله عليه السلام: “الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك. قال تعالى: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين. (والحوض حق) لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱶ ﱷ ﱸ ﱠ ، ولقوله عليه السلام: “حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء، وماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه أكثر من نجوم السماء، من يشرب منها فلا يظمأ أبداً”، والأحاديث فيه كثيرة.
قال الخيالي:
قوله: (لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱶ ﱷ ﱸ ﱠ) يشير إلى أن الكوثر هو الحوض والأصح أنه غيره فإنه في الجنة والحوض في الموقف.
قوله: (و ريحه أطيب من المسك…إلخ) ويجوز أن يكون له طعم لذيذ فيتلذذ بريحه وطعمه عند الشرب الثاني إن وقع.
قوله: (من شرب منه فلا يظمأ أبدا) ويجوز أن لا يشربه إلا من قدر له عدم دخول النار أو لا يعذب بالظمأ من شربه وإن دخل النار.
قال السيالكوتي:
قوله: (والأصح أنه غيره فإنه في الجنة…إلخ) سواء كان نهرًا على ما في رواية أو حوضًا على مافي رواية أخرى *قال البيضاوي روي أنه عليه
السلام قال: الكوثر نهر في الجنة وعدنيه ربي فيه خير كثير ماؤه أحلى من العسل وأبيض من اللبن وألين من الزبد وأبرد من الثلج، وقيل: هو حوض فيها.
قوله: (والحوض في الموقف) على ما روي من أن الصحابة قالوا: يارسول الله أين نطلبك؟ قال: على الصراط، فإن لم تجدوا فعلى الميزان فإن لم تجدوا فعلى الحوض، فإنه يدل على أن الحوض في المحشر، قال الإمام الزاهدي في تفسيره: روي في الأخبار أن الكوثر حوض على ظهر الملك يأتي به حيث يأتي النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كان في الموقف يأتي به في الموقف، وإذا دخل في الجنة يأتي به في الجنة، فعلى هذا كونه في الجنة لا ينافي كونه في الموقف أيضًا.
قوله: (ويجوز أن يكون له طعم…إلخ) إشارة إلى دفع توهم وهو أن هذا الحديث يدل على أن لا يشرب ماء الحوض غير مرة أخرى لأن الشرب إنما يكون لدفع الظمأ، وحاصل الدفع أن وقوع الشرب الثاني غير معلوم، وعلى تقدير التسليم يجوز أن يكون للتنعم لا لدفع الظمأ.
قوله: (ويجوز أن لا يشربه إلا من قدر له…إلخ) دفع توهم وهو أن يقال: إن المبتلى بالجحيم من المؤمنين لو شرب منه يجب أن لا يظمأ مع أن الظمأ لازم للإحراق بالنار، وفي قوله: إلا من قدر له السلامة إشارة إلى أن الشرب قبل ورود النار، وقيل: إن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة عن النار.
قوله: (أو لا يعذب بالظمأ…إلخ) أي من شرب منه وقدر له دخول النار لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك، فإن ظاهر الأحاديث يدل على أن جميع الأمة يشربون منه إلا من ارتد عن الإسلام عياذًا بالله، ولا نسلم أن الظمأ لازم للتعذيب بالنار.
والصِّرَاطُ حقٌّ.
قال الشارح: (والصراط حق) وهو جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف، يعبره أهل الجنة ويزل به أقدام أهل النار. وأنكره أكثر المعتزلة، لأنه لا يمكن العبور عليه، وإن أمكن فهو تعذيب للمؤمنين. والجواب: أن الله تعالى قادر على أن يمكن من العبور عليه ويسهله على المؤمنين، حتى أن منهم من يجوزه كالبرق الخاطف ومنهم كالريح الهابة ومنهم كالجواد إلى غير ذلك مما ورد في الحديث.
قال الخيالي:
قوله: (أدق من الشعر وأحد من السيف) هكذا ورد في الحديث الصحيح المشهور أن الميزان قبل الصراط وما روى من أن الصحابة قالوا
يا رسول الله أين نطلبك يوم الحشر فقال عليه السلام على الصراط فإن لم تجدوا على الميزان فإن لم تجدوا فعلى الحوض فوجهه أن الطلب في المظان المرتبة يجوز بأن يستأنف من كل طرف على أنه رواية غريبة فلا يعارض المشهور.
قال السيالكوتي:
قوله: (فوجهه أن الطلب…إلخ) نقل عنه فيجوز أن يكون الميزان بين الحوض والصراط، فطلبه عليه السلام يجوز أن يطلب أولًا في الحوض ثم في الميزان ثم في الصراط، وبأن يطلب في الصراط ثم في الميزان ثم في الحوض، وذكره عليه السلام هذا الطريق الثاني إشارة إلى أن الصراط أقوى المظان، فإن الاحتياج إليه أكثر فالطلب فيه أولى وأجدر انتهى كلامه. وبهذا اندفع ما قال الفاضل المحشي: إن الاستئناف من كل طرف وإن جاز عقلًا لكن التركيب يأبى عنه إذ لا يحسن أن يقال: فإن لم تجدوا في الموقف المتأخر تأخرًا زمانيًّا فاطلبوا في الموقف المتقدم تقدمًا زمانيًّا، بل المناسب أن يقال: إن لم تجدوا في الموقف المتقدم فاطلبوا في الموقف المتأخر، ووجه الدفع أنه يحسن الأمر بالطلب في المتأخر للإشارة إلى أن الطلب فيه أقدم وأجدر.
الجنةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ. وهما مخلوقتانِ الآن، موجودتَانِ.
قال الشارح: (والجنة حق والنار حق) لأن الآيات والأحاديث الواردة في شأنهما أشهر من أن تخفى وأكثر من أن تحصى. وتمسك المنكرون بأن الجنة موصوفة بأن عرضها كعرض السماوات والأرض، وهذا في عالم العناصر محال وفي عالم الأفلاك إدخال عالم في عالم أو عالم آخر خارج عنه مستلزم لجواز الخرق والالتئام، وهو باطل. قلنا: هذا مبني على أصلكم الفاسد، وقد تكلمنا عليه في موضعه. (وهما) أي الجنة والنار (مخلوقتان) الآن (موجودتان) تكرير وتوكيد. وزعم أكثر المعتزلة أنها إنما تخلقان يوم الجزاء. ولنا قصة آدم عليه السلام وحواء وإسكانهما الجنة، والآيات الظاهرة في إعدادهما مثل: “أعدت للمتقين” و”أعدت للكافرين”، إذ لا ضرورة في العدول عنالظاهر. فإن عورض بمثل قوله تعالى: ﱡﭐ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂﱠ. قلنا: يحتمل الحال والاستمرار، ولو سلم فقصة آدم تبقى سالمة عن المعارض.
قال الخيالي:
قوله: (وإسكانهما الجنة) والقول بأن تلك الجنة كانت بستانا من بساتين الدنيا مخالف لإجماع المسلمين وقد يتوهم أنه مردود بقوله تعالى:
ﱡﭐﱁ ﱂ ﱃ ﱄﱠ إذ الهبوط انتقال من المكان العالي إلى السافل، ويرد عليه أنه يحتمل أن يكون ذلك البستان على موضع مرتفع كقلة الجبل.
قوله: (ﱡﲺ ﲻﱠ) أي نخلقها لأجلهم فإن قلت يحتمل يجعل للذين مفعولا ثانيا لنجعل فيصير الحاصل جعلها كائنة لهم لأنفسها، قلت يمكن أن يقال المتبادر من جعل الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها وهذا المعنى لازم لوجود الجنة وأما الحمل على التمكن بالفعل فعدول عن الظاهر.
قال السيالكوتي:
قوله: (والقول بأن تلك الجنة…إلخ) يعني ما قيل: إنه كان بستانًا في أرض فلسطين كورة في الشام أو قرية بالعراق أو كان بين فارس وكرمان خلقه لله تعالى امتحانًا لآدم عليه السلام.
قوله: (يرد عليه أنه…إلخ) وأيضًا يجوز أن يكون الهبوط عبارة عن الانتقال من الأعلى إلى الأسفل بحسب الرتبة على ماقال ذلك القائل: إنه انتقل من ذلك البستان إلى أرض الهند كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰﱠ
قوله: (أي نخلقها لأجلهم…إلخ) توجيه للمعارضة يعني أن اللام في للذين للأجل، والجعل تامة بمعنى الخلق، فالمعنى يخلقها الله في المستقبل لأجل الذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا فلم تكن موجودة الآن.
قوله: (فإن قلت يحتمل أن يجعل…إلخ) يعني أن المعارضة المذكورة إنما تتم لو كان الجعل تامة واللام للأجل لكن يحتمل أن يكون الجعل متعديًا إلى مفعولين ويكون قوله: للذين مفعولًا ثانيًا له، فيصير معنى الآية نجعل الجنة كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل، فغير الحاصل أي ما تدل الآية على عدم حصوله الآن جعل الجنة كائنة وحاصلة لهم لا أن نفس الجنة غير كائنة لهم الآن، فلا معارضة، وفي بعض النسخ بدل قوله: فغير الحاصل جعلها كائنة لهم فيصير الحاصل نجعلها كائنة لهم والمقصود واحد.
قوله: (قلت يمكن أن يقال…إلخ) يعني أن المنع في غاية القوة لكن يمكن أن يقال في دفعه: إن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكين زيد وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل، فمعنى نجعلها للذين نمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها، ولا يخفي ركاكته لأن التمكن من التمكين فيها لازم لوجود الجنة غير منفك عنه على ما يدل عليه قوله تعالى: ﱡﭐ ﱋ ﱌ ﱠ فلا يمكن أن يكون نفس الجنة حاصلة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال.
قوله: (وأما الحمل على التمكين بالفعل فعدول عن الظاهر) يعني حمل الجعل في الآية على التمكين بالفعل والتمكين من التمكن فيها وإن كان لازمًا لوجود الجنة لكن التمكن فيها بالفعل غير لازم له بل يكون فيما سيجيء فعدول عن الظاهر المتبادر من قولهم: جعلت الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها لا جعل زيد متمكنًا فيها بالفعل.
قال الشارح: قالوا: لو كانتا موجودتين الآن لما جاز هلاك أكل الجنة، لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱍ ﱎ ﱠ لكن اللازم باطل لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊﱠ. قلنا: لا خفاء في أنه لا يمكن دوام أكل الجنة بعينه، وإنما المراد بالدوام بأنه إذا فني منه شيء جيء ببدله، وهذا لا ينافي الهلاك لحظة، على أن الهلاك لا يستلزم الفناء، بل يكفي الخروج عن الانتفاع به، ولو سلم فيجوز أن يكون المراد أن كل شيء ممكن فهو هالك في حد ذاته، بمعنى أن الوجود الإمكاني بالنظر إلى الوجود الواجبي بمنزلة العدم.
قال الخيالي:
قوله: (ﱡﭐ ﱍ ﱎ ﱠ) الأكل بضمتين كل ما يؤكل ويرد على هذا الاستدلال أنه مشترك الالزام إذ المراد بالشيء هو الموجود المطلق لا الموجود في وقت النزول فقط ومثله قوله تعالى: ﱡﭐ ﳔ ﳕ ﳖﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﱠ.
قوله: (وإنما المراد الدوام بأن…إلخ) يعني أن المراد هو الدوام التجددي العرفي فإن نوع الثمار يعد دائما بحسب العرف وإن انقطع في بعض الأوقات، ولك أن تقول هلاك كل شخص بعد وجود مثله فلا ينقطع النوع أصلا.
قوله: (بل يكفي الخروج عن الانتفاع به) أي المقصود منه فلا يرد عليه أن ما لا يفنى يدل على وجود الصانع وهي من أعظم المنافع.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد على هذا الاستدلال…إلخ) أي يرد على هذا الاستدلال أنه مشترك الإلزام بين الفريقين القائلين بوجودهما الآن والمنكرين له، إذ
المراد بالشيء الموجود مطلقًا سواء كان الآن أو في المستقبل، ومعنى الآية كل ما وجد في وقت من الأوقات يصير هالكًا بعد وجوده، فيصح أن يقال: لو وجدتا لوجب هلاك أكل الجنة تحقيقًا لعموم قوله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊﱠ لكن هلاكه باطل لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱍ ﱎ ﱠ فوجودها في الاستقبال باطل.
قوله: (لا الموجود وقت النزول) أي ليس المراد بالشيء الموجود وقت نزول الآية وقبل الحشر أعني الدنيا حتى يكون ما يوجد في الآخرة خارجًا عن عموم الآية، قال الفاضل المحشي: لعل المراد بالشيء في الآية الموجود في الدنيا، فإنها دار الفناء دون الموجود في الآخرة فإنها دار البقاء وهذا الاحتمال كاف في عدم كونه مشترك الإلزام انتهى. وفيه أنه إن أراد أن معنى الشيء الموجود في الدنيا فهو ظاهر البطلان، وإن أراد أن المراد ههنا ذلك بقرينة كونه محكومًا عليه بالهلاك وهو إنما يكون في الدنيا دار الفناء كما هو ظاهر كلامه فنقول: إنه تخصيص بالقرينة الخارجية أيضًا، فنحن أيضًا نخصصه بغير الجنة والنار بقرينة قوله: أعدت للمتقين وأعدت للكافرين وأكلها دائم، فلا يتم الاستدلال.
قوله: (مثل قوله تعالى: ﱡﭐ ﱊ ﱋ ﱌﱠ…إلخ) فإن معناه كل ما يوجد في وقت من الأوقات فهو خالق له وعالم به لا أنه خالق الأشياء الموجودة في وقت نزول الآية وعالم بها.
قوله: (يعني أن المراد هو الدوام التجددي…إلخ) يعني حاصل جواب الشارح أن المراد بالدوام الدوام العرفي، وهو عدم طريان العدم زمانًا يعتد به، وهذا لا ينافي طريان العدم وانقطاعه لحظة، وإنما حمل الشارح الدوام على الدوام العرفي لا الحقيقي على ما بينه المحشي لأنه الدوام المجمع عليه في بقاء الجنة والنار، وأما الدوام الحقيقي فأثبته بعضهم ونفاه آخرون، قال في شرح المقاصد: الدوام المجمع عليه هو أنه لا انقطاع لبقائهما أي الجنة والنار، ولا أنهما بحيث يبقيان على العدم زمانًا يعتد به كما في دوام المأكول، فإنه على التجدد والانقطاع قطعًا.
قوله: (ولك أن تقول…إلخ) أي لك أن تقول في الجواب: إن المراد بالدوام المعنى الحقيقي، وهو عدم طريان العدم مطلقًا، والمراد بدوام أكلها دوام نوع الأكل، وبالهلاك في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﱠ هلاك الأشخاص، ويجوز أن لا ينقطع النوع أصلًا مع هلاك الأشخاص بأن يكون هلاك كل شخص معين من الأكل بعدد وجود مثله، وهذا الجواب مبني على ما ذهب إليه الأكثرون من أن الجنة والنار لا يطرأ عليهما العدم ولو لحظة، وأما على ما قيل من جريان العدم عليهما لحظة، فلا يتم لأنه يستلزم انقطاع النوع جزمًا، فلذا تركه الشارح.
قوله: (أي المقصود منه) واللائق بحاله كما يقال هلك الطعام إذا لم يبق قابلًا للأكل، وإن صلح لمنفعة أخرى.
باقيتانِ لا تَفنيانِ ولا يَفنَى أهلُهُما.
قال الشارح: (باقيتان لا تفنيان ولا يفنى أهلهما) أي دائمتان لا يطرأ عليهما عدم مستمر، لقوله تعالى: في حق الفريقين: ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮﱠ وأما ما قيل من أنهما تهلكان ولو لحظة تحقيقاً لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊﱠ فلا ينافي البقاء بهذا المعنى، على أنك قد عرفت أنه لا دلالة في الآية على الفناء. وذهبت الجهمية إلى أنهما تفنيان ويفنى أهلهما، وهو قول باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع، ليس عليه شبهة فضلاً عن حجة.