والكبيرةُ.
قال الشارح: (والكبيرة) قد اختلفت الروايات فيها، فروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها تسعة: الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وقذف المحصنة والزنا والفرار عن الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم، وزاد أبو هريرة: أكل الربا، وزاد علي رضي الله عنه: السرقة وشرب الخمر. وقيل: كل ما كان مفسدته مثل مفسدة شيء مما ذكر أو أكثر منه. وقيل: كل ما توعد عليه الشرع بخصوصه. وقيل: كل معصية أصر عليها العبد فهي كبيرة، وكل ما استغفر عنها فهي صغيرة.
قال الخيالي:
قوله: (الشرك بالله) إن أريد مطلق الكفر فالسحر مندرح فيه لأنه كفر بالإتفاق وإلا فسائر أنواع الكفر تبقي خارجة.
قال السيالكوتي:
قوله: (إن أريد به مطلق الكفر…إلخ) حاصله أن الانحصار في التسعة غير صحيح لأنه إن أريد بالشرك مطلق الكفر فالسحر داخل فيه، فيكون ثمانية وإلا أي وإن لم يرد مطلقه بل اعتقاد الشريك في وجوب الوجود أو في المعبودية فينفي أنواع من الكفر من اتخاذ الولد وإنكار النبوة وإثبات الحيز والجهة والجسمية خارجة عن الكبائر فلا ينحصر في التسعة أيضًا، ويمكن الجواب بأن الكفر إنما هو العمل بالسحر على ما ذكره الشارح في شرح الكشاف من أنه لا يروى خلاف في كون العمل به كفرًا، ويجوز أن يكون المراد بالسحر ههنا تعلمه وتعليمه على ما قطع بها الجمهور حيث قالوا الصحيح أنهما حرامان، ويؤيد ما ذكرنا أنه وقع في رواية أبي طالب المكي أن الكبيرة سبعة عشر، وبيّنها إلى أن قال: أربعة في اللسان هي شهادة الزور وقذف المحصنة واليمين الغموس والسحر حيث جعل السحر من الكبائر التي في اللسان وما في اللسان إلا تعلمها وتعليمها.
لا تُخرِجُ العبدَ المؤمنَ من الإيمانِ.
قال الشارح: وقال صاحب الكفاية: الحق أنهما اسمان إضافيان لا يعرفان بذاتيهما، فكل معصية إذا أضيف إلى ما فوقها فهي صغيرة، وإنأضيفت إلى ما دونها فهي كبيرة، والكبيرة المطلقة هي الكفر، إذ لا ذنب أكبر منه. وبالجملة المراد هاهنا أن الكبيرة التي هي غير الكفر (لاتخرج العبد المؤمن من الإيمان)، لبقاء التصديق الذي هو حقيقة الإيمان، خلافاً للمعتزلة حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، وهذا هو المنزلة بين المنزلتين، بناء على أن الأعمال عندهم جزء من حقيقة الإيمان.
قال الخيالي:
قوله: (أنهما اسمان إضافيان) هذا يخالف ظاهر قوله تعالى: ﱡﭐ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﱠ والتوجيه ما سيجيء من أن المراد بالكبائر جزئيات الكفر.
قال السيالكوتي:
قوله: (هذا مخالف لظاهر قوله تعالى…إلخ) فإنه يدل على أن الكبائر متميزة بالذات عن الصغائر إذ لو كانا أمرين إضافيين لم يتصور حينئذ اجتناب الكبائر إلا بترك جميع المنهيات سوى واحدة هي دون الكل، وليس ذلك في وسع البشر كذا في شرح المقاصد.
قوله: (والتوجيه ما سيجيء…إلخ) أي توجيه الآية ما سيجيء في الشرح من أن المراد بالكبائر جزئيات الكفر وجمعه باعتبار الأنواع المندرجة تحته أو بحسب أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما قيل من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد إلى آحاد، ويؤيده ما وقع في قراءة أخرى: ﱡﭐ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﱠ بصيغة المفرد، فقول المحشي: جزئيات الكفر يحتمل أن يكون المراد به أنواعه الحقيقية فيكون إشارة إلى الجواب الأول، ويحتمل أن يكون المراد به الأفراد الحاصلة بحسب تعلقاته بالمخاطبين فيكون إشارة إلى الجواب الثاني، ولا يخفى أن كلا التوجيهين في غاية البعد والبلاغة تقتضي أن يقال: إن تجتنبوا الكفر لوجازته وموافقته لعرف اللسان على أن الآية لا تنافي كونهما اسمين إضافيين، فإن أكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط، فمن عن له أمران منهيان ودعت نفسه إليهما بحيث لا يتمالك فكفهما عن أكبرهما كفر عنه ما ارتكبه لما استحقه من الثواب على اجتناب الأكبر، ولعل هذا متفاوت بحسب الأشخاص والأحوال، ولذا قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ولا تُدخِلُهُ في الكُفرِ.
قال الشارح: (ولا تدخله) أي العبد المؤمن (في الكفر) خلافاً للخوارج، فإنهم ذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة بل الصغيرة أيضاً كافر، وأنه لا واسطة بين الكفر والإيمان. لنا وجوه: الأول: ما سيجيء من أن حقيقة الإيمان هو التصديق القلبي، فلا يخرج المؤمن عن الاتصاف به إلا بما ينافيه، ومجرد الإقدام على الكبيرة لغلبة شهوة أو حمية أو أنفة أو كسل خصوصاً إذا اقترن به خوف العقاب ورجاء العفو والعزم على التوبة لا ينافيه. نعم إذا كان بطريق الاستحلال والاستخفاف كان كفراً لكونه علامة للتكذيب، ولا نزاع في أن من المعاصي ما جعله الشارع أمارة للتكذيب وعلم كونه كذلك بالأدلة الشرعية كسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات والتلفظ بكلمات الكفر ونحو ذلك مما يثبت بالأدلة أنه كفر.وبهذا ينحل ما قيل: إن الإيمان إذا كان عبارة عن التصديق والإقرار ينبغي أن يلا يصير المقر المصدق كافراً بشيء من أفعال الكفر وألفاظه ما لم يتحقق منه التكذيب أو الشك.
قال الخيالي:
قوله: (بطريق الاستحلال) أي على وجه يفهم منه عده حلالا فإن الكبيرة على هذا الوجه علامة عدم التصديق القلبي.
قال السيالكوتي:
قوله: (على وجه يفهم منه عده حلالًا) يعني أنه ليس المراد بالاستحلال عده حلالًا لأنه نفس تكذيب الشارع، والكلام فيما جعله الشارع علامة التكذيب.
قال الشارح: الثاني: الآيات والأحاديث الناطقة بإطلاق المؤمن على العاصي، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﱠ الآية، وهي كثيرة. الثالث: إجماع الأمة من عصر النبي عليه السلام إلى يومنا هذا بالصلاة على من مات من أهل القبلة من غير توبة والدعاء والاستغفار لهم مع العلم بارتكابهم الكبائر بعد الاتفاق على أن ذلك لا يجوز لغير المؤمن. واحتجت المعتزلة بوجهين: الأول: أن الأمة بعد اتفاقهم على أن مرتكب الكبيرة فاسق اختلفوا في أنه مؤمن وهو مذهب أهل السنة والجماعة أو كافر وهو قول الخوراج أو منافق وهو قول الحسن البصري، فأخذنا المتفق عليه وتركنا المختلف فيه، وقلنا: هو فاسق ليس بمؤمن ولا كافر ولا منافق. والجواب: أن هذا إحداث للقول المخالف لما أجمع عليه السلف من عدم المنزلة بين المنزلتين، فيكون باطلاً.
قال الخيالي:
قوله: (لما أجمع عليه السلف) لا يقال الإجماع مع مخالفة الحسن لأنا نقول النفاق كفر مضمر، وقيل المراد هوالإجماع المتقدم عليه وهو غلط وإلا لما خالفه الحسن.
قال السيالكوتي:
قوله: (لا يقال لا إجماع مع مخالفة الحسن…إلخ) فإنه قال: مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر بل منافق، فقد أثبت المنزلة بين المنزلتين.
قوله: (قوله لأنا نقول…إلخ) يعني أن الحسن إنما أثبت المنزلة بين الكفر المجاهر والإيمان لا بين مطلق الكفر والإيمان، فإن النفاق كفر مضمر داخل في مطلق الكفر، فيكون نفي المنزلة بين الكفر المطلق والإيمان مجمعًا عليه.
قوله: (وقيل إن المراد) أي قيل في جواب السؤال المذكور: إن المراد بإجماع السلف إجماع السلف المقدم على الحسن ومخالفته لا يضر في إجماع المقدم عليه.
قوله: (وهو غلط) أي ماقاله صاحب القيل غلط، لأنه لو كان المراد به إجماع المقدم على الحسن لما خالفه الحسن، فإن مخالفة الإجماع كفر مع خالفه على مازعم هذا المجيب.
قال الشارح: والثاني: أنه ليس بمؤمن لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﱠ جعل المؤمن مقابلاً للفاسق، وقوله عليه السلام: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”، وقوله عليه الصلاة والسلام: “لا إيمان لمن لا أمانة له”، ولا كافر لما تواتر من أن الأمة كانوا لا يقتلونه ولا يجرون عليه أحكام المرتدين ويدفنونه في مقابر المسلمين. والجواب: أن المراد بالفاسق في الآية هو الكافر، فإن الكفر من أعظم الفسوق، والحديث وارد على سبيل التغليظ والمبالغة في الزجر عن المعاصي بدليل الآيات والأحاديث الدالة على أن الفاسق مؤمن، حتى قال عليه السلام لأبي ذر لما بالغ في السؤال: “وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر”.
قال الخيالي:
قوله: (و الحديث وارد على سبيل التغليظ) لا يقال فحينئذ يلزم الكذب في أخبار الشارع لأنا نقول المراد بالايمان هو الايمان الكامل لكن ترك إظهار القيد تغليظا ومبالغة وفيه دلالة على أنه لا ينبغي أن يصدر مثله عن المؤمنين.
قوله: (على رغم أنف أبي ذر) رغم الأنف وصوله إلى الرغام بالفتح وهو التراب وهو مذلة صاحبه يقال فعلت على رغم أنفه أي على خلاف مراده لأجل إذلاله والجار في الحديث متعلق بمحذوف أي قلت هذا على رغم أنفه.
قال السيالكوتي:
قوله: (لأن المراد بالإيمان) يعني أن المراد به الإيمان الكامل لصرف المطلق إلى الكامل لكنه ترك إظهار القيد مبالغة في النهي وإشعارًا إلى أنه لا ينبغي أن يصدر مثله عن المؤمن المطلق، وقيل: إنه إذا كان الحديث واردًا على التغليظ لا يكون على حقيقته، بل كان كناية عن نقصان إيمانه الذاتي، كأنه التحق بالعدم.
قال الشارح: واحتجت الخوارج بالنصوص الظاهرة في أن الفاسق كافر، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﱠ ، وكقوله عليه السلام: “من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر” وفي أن العذاب مختص بالكافر، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱠ إلى غير ذلك.
قال الخيالي:
قوله: (ﱡﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﱠ) وجه هذا الاستدلال أن كلمة من عامة تتناول الفاسق والجواب أن الحكم بالشيء هو التصديق به ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله وأيضا كلمة ما ههنا للجنس فيعم النفي ولا نزاع في كفر من لم يحكم بشيء مما نزل الله تعالى.
قوله: (ﱡﭐ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﱠ) وجه الاستدلال أن ضمير الفصل حصر الفسق في الكافر والجواب أن هذا الحصر ادعائي للمبالغة وإلا فالفاسق يتناول الكافر بعد الإيمان وقبله إجماعا.
قوله: (و من ترك صلاة متعمدا فقد كفر) الجواب أنه محمول على الترك مستحلا وعلى كفران النعمة.
قوله: (ﱡﭐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﱠ) وجه الاستدلال أن تعريف المسند إليه يحصره على المسند أعني الكون على المكذب على ما تقرر والجواب أنه ادعائي لأن شارب الخمر معذب وليس بمكذب وقس عليه نظائره.
قال السيالكوتي:
قوله: (وجه الاستدلال أن كلمة من…إلخ) يعني أن كلمة من في الآية عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل اله تعالى.
قوله: (والجواب أن الحكم…إلخ) يعنب أن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم وإن كان عامًّا شاملًا لفعل القلب والجوارح لكن المراد عمل القلب وهو التصديق، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى.
قوله: (وأيضا…إلخ) جواب آخر يعني أن الظاهر وإن كان نفي العموم لأن كلمة ما من ألفاظ العموم لكنه مصروف عن الظاهر، والمراد عموم النفي بحمل ما على الجنس ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله غير مصدق، فلا نزاع في كفره، وفي المواقف أن المراد بما أنزل الله تعالى التوراة بقرينة سابق الآية.
قوله: (وجه الاستدلال أن ضمير الفصل…إلخ) يعني أن ضمير الفصل يفيد قصر المسند على المسند إليه، فيكون الفاسق مقصورًا على الكافر فيكون كل فاسق كافرًا.
قوله: (والجواب أن هذا الحصر ادعائي…إلخ) يعني أن المراد هم الكاملون في الفسق إلا أنه ترك إظهار القيد وجعل مطلق الكفر مقصورًا عليهم ادعاء مبالغة في كونهم فاسقين، وإلا أي وإن لم يكن الأمر كذلك بل كان الحصر حقيقيًّا لزم أن يكون الفسق مقصورًا على من كفر بعد الإيمان وليس كذلك، فإن الفاسق يتناول من كفر بعد الإيمان وقبل الإيمان إجماعًا بين الفريقين.
قوله: (الجواب أنه محمول) يعني أنه مصروف عن الظاهر بحمل الترك على سبيل الاستحلال وعده حلالًا، ولا نزاع في كفر مستحله أو بحمل الكفر على المعنى اللغوي وهو الستر، أي من ترك الصلاة فهو ساتر لنعمة الله غير شاكر له، ويقال: يحتمل أن يكون المعنى من ترك الصلاة متعمدًا فهو مشارك للكفار في عدم حرمة دمه وماله، وقال الإمام حجة الإسلام: من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر أي قارب الكفر، كما يقال: من قارب دخول البلد دخله.
قوله: (وجه الاستدلال…إلخ) يعني أن تعريف المسند إليه سواء كان للجنس أو الاستغراق يفيد حصره على المسند كما في قوله عليه السلام: الأئمة من قريش والكرم في العرب، فيفيد حصر العذاب على المسند أعني الكون على العذاب، فلو لم يكن كل فاسق كافرًا لم يصح حصر العذاب على الكفار، إذ كون العاصي معذبًا من ضروريات الدين.
قوله: (والجواب أنه ادعائي) يعني أن المراد حصر الفرد الكامل من العذاب على المكذب بقرينة أن شارب الخمر معذب مع عدم كونه مكذبًا إلا أنه ترك إظهار القيد وجعل المطلق منحصرًا ادعاءً بجعل غيره بمنزلة العدم مبالغة في ذلك.
قوله: (وقس عليه نظائره) يعني أن المراد في قوله: ﱡﭐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱠ *الخزي الكامل الموعود للكفار والحصر ادعائي مبالغة، وكذا في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ.
والله تعالى لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ بهِ.
قال الشارح: والجواب: أنها متروكة الظاهر للنصوص الناطقة على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر والإجماع المنعقد على ذلك على ما مر، والخوارج خوارج عما انعقد عليه الإجماع، فلا اعتداد بهم. (والله لا يغفر أن يشرك به) بإجماع المسلمين لكنهم اختلفوا في أنه هل يجوز عقلاً أم لا؟
قال الخيالي:
قوله: (و الله لا يغفر أن يشرك به) أي أن يكفر به وإنما عبر عن الكفر بالشرك لأن كفار العرب كانوا مشركين.
قال السيالكوتي:
قوله: (انما عبر عن الكفر…إلخ) أي إنما عبر المصنف عن الكفر بالشرك لما سيذكره الشارح من ملاحظة الآية الدالة على ثبوته، وإنما عبر في الآية لأن كفار العرب كانوا مشركين وتفصيل فرق الكفرة على ما ذكره في شرح المقاصد أن الكافر إن أظهر الإيمان فهو منافق، وإن طرأ كفره بعد الإيمان فهو المرتد، وإن قال بالشريك في الألوهية فهو المشرك، وإن تدين ببعض الأديان والكتب المنسوخة فهو الكتابي، وإن ذهب إلى قدم الدهر وإسناد الحوادث إليه فهو الدهري، وإن كان لا يثبت الباري فهو المعطل، وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي عليه السلام يبطن عقائد هي كفر بالاتفاق فهو الزنديق.
قال الشارح: فذهب بعضهم إلى أنه يجوز عقلاً وإنما علم عدمه بدليل السمع، وبعضهم إلى أنه يمتنع عقلاً لأن قضية الحكمة التفرقة بين المسيء والمحسين والكفر نهاية في الجناية لا يحتمل الإباحة ورفع الحرمة أصلاً، فلا يحتمل العفو ورفع الغرامة. وأيضاً الكافر يعتقده حقاً ولا يطلب له عفو أو مغفرة فلم يكن العفو عنه حكمة. وأيضاً هو اعتقاد الأبد فيوجب جزاء الأبد، هذا بخلاف سائر الذنوب.
قال الخيالي:
قوله: (و بعضهم إلى أنه ممتنع عقلا) أي ذهب بعض المسلمين إلى امتناع المغفرة عقلا بناء على هذه الأدلة وهم المعتزلة فلا يرد ما قيل من أن هذا قول بإيجاب الحكمة تعذيبه وهو قول المعتزلة وقد أبطله أولا.
وقوله: (لا يحتمل الإباحة) قول بالقبح العقلي فينافي قولهم يجوز للشرع أن يحسن القبح ويقبح الحسن على أنه يجوز أن يكون عدم احتمال الإباحة لمنافاتها الحكمة، نعم يرد أن يمنع كون التفرقة قضية الحكمة لجواز أن يكون عدم التفرقة متضمنا لحكمة خفية، ولو سلم فيجوز التفرقة بوجه آخر غير تعذيب المسيء مثل إثابة المحسن دونه، ثم نهاية الكرم يقتضي العفو عن نهاية الجناية.
وقوله: (فيوجب جزاء الأبد) دعوى بلا دليل.
قال السيالكوتي:
قوله: (فلا يرد ما قيل…إلخ) أي إذا كان ضمير بعضهم راجعًا إلى المسلمين مطلقًا، ومنهم المعتزلة، فلا يرد ما قيل: إن قوله: إن قضية الحكمة تقتضي إلخ. قول بايجاب حكم الله تعذيب المشرك، والإيجاب بمقتضى الحكمة قول المعتزلة دون أهل السنة والجماعة، وإن قوله: لا يحتمل الإباحة قول بالقبح العقلي مع أن مذهب أهل السنة أن الحسن والقبح شرعيان، ويجوز للشرع أن يحسن القبيح ويقبح الحسن، وإنما قلنا: إنه لا يرد لأن القائلين بالامتناع العقلي هم المعتزلة، وهم يقولون بمقتضى الحكمة والحسن والقبح العقليين، ومنشأ الاعتراض توهم أن هذا الخلاف بين أهل السنة والجماعة والغفلة عن أن المسلمين الذي هو مرجع الضمير شامل للمعتزلة أيضًا لأنهم أيضًا من أهل القبلة.
قوله: (على أنه يجوز على أن يكون…إلخ) علاوة عن قوله: فلا يرد أي على أن قوله: وقوله: لايحتمل الإباحة قول بالقبيح العقلي غير مسلم لأنه يجوز أن يكون عدم الإباحة لمنافاتها مقتضى الحكمة لا للقبيح العقلي الذي هو استحقاق الذم في العاجل والعقاب في الآجل، فلا يستلزم القول بالقبح العقلي.
قوله: (نعم يرد أن يمنع…إلخ) نعم يرد على الدلائل الثلاث للمعتزلة منوعًا، أما على الأول فلأنا لا نسلم أن مقتضى الحكمة التفرقة بين المسيء والمحسن لجواز أن يكون في عدم التفرقة بينهما حكمة أخرى خفية لا نطلع عليها، وعلى تقدير التسليم فيجوز أن يكون التفرقة بينهما بوجه آخر غير الوجه الذي ذكرتم من تعذيب المسيء مثل إثابة المحسن دون المسيء وكوقوعه في النار قبل وقوع المؤمن العاصي وخروجه بعد خروجه بمدة طويلة في الغاية، وكمنعه عن رؤية الله تعالى في الجنة، وانحطاط درجته انحطاطًا تامًّا، وأيضًا لم لا تكفي التفرقة الدنيوية كإباحة دم الكافر وماله واسترقاقه وضرب الجزية عليه، وأما على الثاني فلأنا لا نسلم أن الكفر لكونهما نهاية في الجناية لايحتمل العفو، فإن نهاية الكرم تقتضي العفو عن نهاية الجناية، والجواب بأن قضية الحكمة تقتضي التفرقة، فلا يجوز العفو رجوع إلى الدليل الأول، وقد سبق تزييفه، وأما على الثالث فلأنا لا نسلم أن اعتقاد الأبد يوجب الجزاء الأبد ولا بد لإثباته من دليل، وعلى تقدير تسليم إيجاب الجزاء لا نسلم إيجابه جزاء الأبد، فقوله: يوجب جزاء الأبد دعوى بلا دليل في الحقيقة.
ويغفِرُ ما دونَ ذلكَ لمن يشاءُ مِنَ الصغائِرِ والكبائِرِ.
قال الشارح: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من الصغائر والكبائر) مع التوبة أو بدونها، خلافاً للمعتزلة، وفي تقرير الحكم ملاحظة للآية الدالةعلى ثبوته، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.والمعتزلة يخصونها بالصغائر وبالكبائر المقرونة بالتوبة، وتمسكوا بوجهين: الأول: الآيات والأحاديث الواردة في وعيد العصاة. والجواب: أنها على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب، وقد كثرت النصوص في العفو فيخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد. وزعم بعضهم أن الخلف في الوعيد كرم، فيجوز من الله تعالى، والمحققون على خلافه، كيف وهو تبديل للقول، وقد قال الله تعالى: ﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﱠ.
قال الخيالي:
قوله: (والمعتزلة يخصصونها) قد يظن أن الضمير للآيات والأحاديث فيعترض بأنه لا يصح التخصيص بالكبائر المقرونة بالتوبة في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﱠ الآية؛ إذ المغفرة بالتوبة يعم المشرك بل كل عاص مع أن التعليق بالمشيئة يفيد البعضية وأيضا هى واجبة عندهم فلا يظهر للتعليق فائدة وكذا لا يصح التخصيص بالصغائر لأن مغفرة الصغائر عامة والصحيح أن الضمير للمغفرة ولهم أن يقولوا كلمة ما في هذه الآ ية مخصوصة بالصغائر جمعا بين الأدلة ولا نسلم عموم مغفرة الصغائر إذ لا يجب مغفرة صغيرة غير التائب بل يغفرها إن شاء.
قوله: (إنما تدل على الوقوع) إنما استطرد ذكره ههنا ردا لتمسكهم بهذه الآيات في الوجوب أيضا والجواب ههنا قوله وقد كثرت النصوص إلخ.
قوله: (وزعم بعضهم أن الخلف…إلخ) هذا هو مذهب الأشاعرة ومن يحذو حذوهم وفيه جواب آخر.
قوله: (و هو تبديل للقول) بل كذب منتف بالإجماع وأقول لعل مرادهم أن الكريم إذا أخبر بالوعيد فاللائق بشأنه أن يبني أخباره على المشيئة وإن لم يصرح بذلك بخلاف الوعد فلا كذب ولا تبديل.
قال السيالكوتي:
قوله: (قد يظن أن الضمير…إلخ) أي قد يظن أن الضمير المنصوب في يخصصونها راجع إلى الآيات والأحاديث والمعنى، والمعتزلة يخصصون الآيات والأحاديث بالصغائر والكبائر المقرونة بالتوبة، فيعترض عليه بأن هذا التخصيص مع كونه عدولًا عن الظاهر بلا دليل مما لا يكاد يصح في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﱠ أما أنه لا يصح تخصيصه بالكبائر المقرونة بالتوبة فلأن المغفرة بالتوبة يعم الشرك أيضًا، فيلزم تساوي ما نفي عنه المغفرة وما أثبت له، بل المغفرة بالتوبة يعم كل عاص، والتعليق بالمشيئة ينافيه، فإنه يفيد أن المغفور بعض العصاة، وأيضًا لا يصح التخصيص بالكبائر المقرونة بالتوبة لأن المغفرة بالتوبة واجبة عندهم عقلًا بناء على أنها حسنة ومن أتى بالحسنةوجب مجازاته عليها، فلا تظهر لتعليقها بالمشيئة فائدة، وأما أنه لا يصح التخصيص بالصغائر فلأن مغفرة الصغائر عامة للجميع، فلا معنى للتعليق بالمشيئة المفيدة للبعضية.
قوله: (والصحيح أن الضمير للمغفرة…إلخ) أي ما ظن أن الضمير للآيات والأحاديث غلط، والصحيح أن الضمير المنصوب في يخصصونها للمغفرة، فالمعنى والمعتزلة يخصصون المغفرة للعصاة بالصغائر والكبائر المقرونة بالتوبة، يعني أن مغفرة الله إنما يتحقق بالنسبة إلى الصغائر والكبائر المقرونة بالتوبة دون الكبائر الغير المقرونة بها، ولا يخصصون الآية المذكورة بالصغائر والكبائر المقرونة بالتوبة حتى يرد أنه لا يصح بل هي على عمومها، والمعنى يغفر ما دون الشرك من الصغائر والكبائر لمن يشاء، وهو التائب ومرتكب الصغائر دون من لا يشاء، وهو مرتكب الكبائر الغير التائب، فلا إشكال، فما قيل: إنه لا فائدة في إرجاع الضمير إلى المغفرة لأنه لا بد من تخصيص الآيات والأحاديث فيرد عليهم الاعتراض المذكور كلام لا طائل تحته لأنه لا حاجة لهم إلى تخصيص جميع الآيات والأحاديث، بل الآيات الواردة بدون التعليق بالمشيئة يخصصونها بالصغائر والكبائر المقرونة بالتوبة كقوله تعالى: ﱡﭐ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱠ ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﱠ و ﱡﭐ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﱠ و ﱡﭐﱞ ﱟ ﱠ ونحو ذلك، والآيات الواردة بالتعليق يتركونها على عمومها ويقولون: إن من يتعلق به المشيئة هو أصحاب الصغائر والكبائر المقرونة بالتوبة كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻﱠ أي يعذب الكفار وأصحاب الكبائر الذين ماتوا قبل التوبة ويغفر لأصحاب الصغائر والكبائر التائبين، فالحاصل أنهم يخصصون المغفرة بالصغائر والكبائر المقرونة بالتوبة سواء يخصصون الآيات بها أو لا تأمل، فإنه من مزالق الأقدام.
قوله: (ولهم أن يقولوا…إلخ) جواب للاعتراض المذكور أي على تقدير أن يكون تقدير الضمير للآيات والأحاديث للمعتزلة أن يقولوا: إن كلمة ما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﱠ مخصصوصة بالصغائر جمعًا بين أدلة الوعيد وهذه الآية، ولا نسلم ما ذكرتم من عموم مغفرة الصغائر، إذ لا يجب على الله مغفرة صغيرة غير التائب، بل يغفرها إن شاء ويعذبها إن شاء، فيصح التعليق بالمشيئة، هذا لكن ما ذكره مخالف لما ذكره السيد الشريف قدس سره في شرح المواقف من أنه لا استحقاق بالصغائر عندهم أصلًا، ولما ذكره المحقق الدواني في شرحه للعقائد العضدية، وأما الصغائر فيعفو عنها عندهم قبل التوبة وبعدها، ولهذا نفوا الشفاعة لدفع العذاب، فإن قيل يجوز أن يكون المراد بقول المحقق الدواني وأما الصغائر فيعفو عنها عندهم صغائر المجتنب عن الكبائر، فلا ينافي قول المحشي، قلت: لا يصح تفريع نفي الشفاعة لدفع العذاب عليه.
قوله: (إنما استطرد ذكره ههنا…إلخ) أي إنما استطرد الشارح ذكر نفي الوجوب في جواب استدلال المعتزلة على نفي وقوع مغفرة أهل الكبائر الذين لم يتوبوا ردًّا لتمسك المعتزلة بهذه الآيات الوادة في وعيد العصاة في وجوب عقاب العاصي، وإلا فلا دليل له هنا لأن المتنازع فيه ههنا هو وقوع المغفرة للعصاة وعدمها لا وجوبهما.
قوله: (والجواب ههنا…إلخ) أي جواب المعتزلة عن استدلالهم بتلك الآيات في مقام نفي وقوع مغفرة العصاة.
قوله: (وقد كثرت النصوص…إلخ) وحاصل الجواب أن النصوص كثيرة في العفو مثل قوله تعالى: ﱡﭐ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ولامعنى للعفو بالنسبة إلى الصغائر والكبائر المقرونة بالتوبة لأنه ترك عقوبة المستحق ولا استحقاق فيهما عندهم، فيكون بالنسبة إلى أهل الكبائر الذين لم يتوبوا، فتعارض أدلة المغفرة والوعيد وتاريخ النزول مجهولة فحكمنا بأنها مقرونة فيصير البعض مخصصًا للبعض، فخصص المذنب المغفور من بين عمومات الوعيد جمعًا بين الأدلة.
قوله: (وفيه جواب…إلخ) يحتمل أن يكون معناه أن في قوله: وزعم بعضهم جوابًا آخر للمعتزلة، وحاصل الجواب أن ورود عمومات الوعيد لا يستلزم الوقوع البتة لجواز الخلف، فإن الخلف في الوعيد كرم، ويحتمل أن يكون معناه أن في هذا المقام جوابًا آخر، ويكون إشارة إلى ما ذكره الشارح في شرح المقاصد من أن القول بالإحباط وبطلان استحقاق الثواب بالمعصية فاسد، فكيف كان ترك عقابهم بالنار خلفًا مذموما ولم يكن ترك ثوابهم بالجنة كذلك؟ مع أنهم داخلون في عمومات الوعد بالثواب ودخول الجنة على ما مر.
قوله: (بل كذب منتف بالإجماع) لأنه أخبر عما يكون أحوالهم في المستقبل، فلو لم يقع لزم الكذب في كلامه تعالي، وهو باطل بالإجماع.
قوله: (أقول لعل مرادهم…إلخ) أي لعل مراد ذلك البعض بقولهم: إن الخلف في الوعيد كرم أن الكريم إذا أخبر بالوعيد فاللائق بحاله ومقتضى كرمه أن ببتني أخباره على المشيئة، فجميع العمومات الواردة في الوعيد متعلقة بالمشيئة وإن لم يصرح بها زجرًا للعاصين ومنعا لهم، فلا يلزم الكذب والتبديل، بخلاف وعد الكريم فإنه يجب أن يكون قطعيًّا لأن جواز التخلف فيه لؤم لا يليق بشأنه، فلا يجوز تعليقه بالمشيئة.
ويجوزُ العِقابُ على الصغيرةِ.
قال الشارح: الثاني: أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريراً له على الذنب وإغراء للغير عليه، وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل.والجواب: أن مجرد جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلاً عن العلم، كيف والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد، وكفى به زاجراً. (ويجوز العقاب على الصغيرة) سواء اجتنبت مرتكبها الكبيرة أم لا لدخولها تحت قوله تعالى: ﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﱠ ، ولقوله تعالى: ﱡﭐ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﱠ والإحصاء إنما يكون بالسؤال والمجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
قال الخيالي:
قوله: (و يجوز العقاب على الصغيرة) أي من غير قطع بالوقوع وعدمه لعدم قيام الدليل وما ذكره الشارح من الأدلة فلإثبات الجزء الأول من الدعوى مع أن الخصم لا ينكره فتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (و يجوز العقاب على الصغيرة…إلخ) أي من غير قطع بالوقوع وعدمه إشارة إلى أن المراد بالجواز في عبارة المصنف هو الجواز الوقوعي بمعنى عدم الجزم بالوقوع وعدم الجزم بعدم الوقوع، فإنه المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة لا الجواز العقلي فإنهم متفقون على ذلك على ما صرح به الشارح بقوله: لا بمعنى أنه يمتنع عقلًا.
قوله: (لعدم قيام الدليل) يعني أنا حكمنا بالجواز الوقوعي ولم نجزم بالقطع بالوقوع أو عدمه لأن المسألة شرعية لا يستقل العقل بإثباتها، وما وجدنا دليلًا شرعيًّا يدل على تعيين أحد الجانبين من الوقوع أو اللاوقوع، فحكمنا بسبب أنه فاعل مختار*يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد* أنه يجوز أن يغفر ويجوز أن يؤاخذ، فلا يرد ما يتوهم أن غاية عدم وجدان الدليل التوقف لا الجزم بالجواز، إذ لا بد له أيضًا من دليل لأن دليل الاختيار كاف للجواز، وإنما التوقف في دليل يعين أحد الجانبين من الوقوع أو اللاوقوع.
قوله: (وما ذكره الشارح من الأدلة…إلخ) يريد أن المدعى مركب من جزأين؛ أحدهما أنه لا قطع بالوقوع، والثاني أنه لا قطع بعدم الوقوع، والأدلة التي أوردها الشارح إنما تثبت الجزء الأول من الدعوى دون الثاني مع أن الخصم أعني المعتزلة لا ينكر الجزء الأول إذ هو أيضًا قائل بأنه: لا قطع بوقوع العقاب، وإنما تخالفنا في الجزء الثاني حيث يدعي القطع بعدم وقوع العقاب، ونحن نتردد فيه أيضًا، فقد ترك الشارح ما يعنيه واشتغل بما لا يعنيه هذا، لكن إثبات أن أدلة الشارح إنما تثبت الجزء الأول فيه دقة؛ ولذا أمر المحشي بالتأمل، فاستمع لما يتلى عليك من مواهب الفياض أن الدليل الأول أعني قوله تعالى: ﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﱠ إنما يدل على أن لا قطع بوقوع العقاب على الصغيرة، إذ لو كان كذلك لذكره الله تعالى في جنب الكفر في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﱠ لكن لا يدل أن لا قطع بعدم الوقوع، إذ للخصم أن يقول: يجوز أن يكون من شاء الله تعالى في حقهم المغفرة أصحاب الصغائر المجتنبين، وكذا الآية الثانية إنما تدل على أن إحصاء الصغائر والكبائر متحقق، والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة، ولا شك أن المجازاة غير واقعة على كل ما يحصى، فلا يكون وقوع العقاب قطعيًا على الصغائر، فثبت الجزء الأول من المدعي، وإنما قلنا: إن المجازاة غير واقعة على كل ما يحصي، إذ لو كان كذلك لزم أن الصغائر والكبائر بعد التوبة أيضًا موجبًا للعقاب، وهو باطل بالإجماع، ولبطل تكفير الحسنات السيئات مع أنه ثابت بقوله تعالى: ﱡﭐ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﱠ وأيضًا يلزم حينئذ أن تكون المجازاة على الصغائر قطعًا، فيثبت بالآية خلاف المدعى فعلم أن المجازاة على ما يحصي إنما هو على تقدير ثبوت الاستحقاق بعد مقابلة الحسنات بالسيئات، فحينئذ للخصم أن يقول: إن مجتنب الكبائر لا يبقى له استحقاق الصغائر لتكفيرها الاجتناب، فلا يثبت الجزء الثاني من المدعى، هذا ما وجدته في تحقيق كلام المحشي، وللفضلاء ههنا كلام لا يفيد شيئا سوى الملال، إذ كله أبحاث منشؤها سوء الظن وعدم الاعتقاد بما قال.
قال الشارح: وذهب بعض المعتزلة على أنه إذا اجتنب الكبائر لم يجز تعذيبه لا بمعنى أن يمتنع عقلاً بل بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لقيام الأدلة السمعية على أنه لا يقع، لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﱠ. وأجيب: بأن الكبيرة المطلقة هي الكفر، لأنه الكامل، وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر، وإن كان الكل ملة واحدةٍ في الحكم، أو إلى أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما تمهد من قاعدة أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد بالآحاد، كقولنا: ركب القوم دوابهم ولبسوا ثيابهم.
قال الخيالي:
قوله: (وأجيب بأن الكبيرة المطلقة هي الكفر) حاصله أن التفكير مقيد بالمشيئة فلا قطع بالوقوع إذ المراد بالكبائر أنواع الكفر وأشخاصها ومغفرة ما عدا الكفر غير متعينة بالإجماع ولو لم يحمل الكبيرة على الكفر لبقي التقييد بلا دليل والتعليق بالاجتناب بلا فائدة لأنه يجوز مغفرة الصغائر بدونه.
قال السيالكوتي:
قوله: (حاصله أن التفكير…إلخ) أي حاصل الجواب؛ أن تكفير السيئات في الآية عند الاجتناب مقيد بالمشيئة، والمراد بقوله: ﱡﭐ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﱠ إن نشأ فلا يدل على قطع وقوع مغفرة صغائر المجتنب، وإنما كان مقيدًا بالمشيئة لْأن المراد بالكبائر أنواع الكفر أو أشخاصها المتعلقة بأفراد المخاطبين؛ لأنه الكامل، فينصرف عند الإطلاق إليه، فيكون ما عدا الكفر من الصغائر والكبائر داخلًا في السيئات، فلو لم يقيد بالمشيئة لصار مقتضى الآية أن تكفير ما عدا الكفر من الصغائر والكبائر متعينة، إذ يصير معنى الآية إن تجتنبوا الكفر نكفر عنكم سيئاتكم التي هي ما عدا الكفر من الصغائر والكبائر، وهو مخالف للإجماع المنعقد على أن تكفير ما عدا الكفر غير متعينة، بل هي إما مقيدة بالمشيئة كما هو رأي أهل السنة، أو بالتوبة كما هو مذهب المعتزلة، والمراد بالإجماع؛ إجماع الفريقين من أهل السنة والاعتزال، وإلا فالمرجئة يدعون القطع بتكفير ما عدا الكفر.
قوله: (ولو لم تحمل الكبيرة…إلخ) دفع وهم، كأنه قيل: إذا كان التكفير مقيدًا بالمشيئة، فلا حاجة إلى أن يتكلف وتحمل الكبيرة على الكفر، إذ يصير المعنى إن تجتنبوا الكبائر نكفر الصغائر إن نشأ، فلا يكون وقوع مغفرتها قطعيًّا، وحاصل الدفع أنه لو لم تحمل الكبيرة على الكفر لزم المحذوران؛ أحدهما بقاء تقييد التكفير بالمشيئة بلا دليل، والثاني بقاء تعليق تكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر لا فائدة لأنه حينئذ يكون المفهوم من الآية أن جواز مغفرة الصغائر إنما هو على تقدير الاجتناب عن الكبائر، وليس كذلك؛ لأنه تجوز مغفرة الصغائر بدون الاجتناب أيضًا لعموم قوله تعالى: ﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﱠ هذا هو التحقيق الحق الذي وجده الخاطر الكليل، والذهن العليل، وللفاضل ههنا كلام يتعجب منه ذوو الأفهام، مبناه أن قوله: ولو لم يحمل الخ إثبات لحمل الكبائر على الكفر، وهو باطل؛ لأن قوله: لأنه تجوز مغفرة الصغائر بدونه مما لا يكاد يصح على هذا التوجيه، على أن المجيب مانع يكفيه الاحتمال العقلي ولا حاجة إلى الإثبات، وسند منعه ما ذكرنا من أن المطلق ينصرف إلى الكامل، وبعضهم ادعى إثباته بأن هذه الآية محتملة وآية الغفران المعارضة لها، أعني قوله تعالى: ﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﱠ محكمة، فيجب تخصيص المحتملة، ففيه أن تعارضهما ممنوع؛ لأن معنى الآية المحكمة أنه يغفر ما دون الكفر من الصغائر والكبائر لمن يشاء، ويجوز أن يكون من يشاء الله المغفرة في حقهم أصحاب الصغائر وأصحاب الكبائر المقرونة بالتوبة، ووجوب الوقوع لا ينافي المشيئة، غاية ما في الباب أن تكون الآية المحتملة مبنيًّا للآية المحكمة.
والعفوُ عن الكبيرةِ إذا لم يَكن عنِ استحلالٍ، والاستحلالُ كُفرٌ. والشفاعَةُ ثابتةٌ للرسلِ والأخيارِ في حقّ أهلِ الكبائرِ ِ بالمستفيضِ من الأخبارِ.
قال الشارح: (والعفو عن الكبيرة) هذا مذكور فيما سبق إلا أنه أعاده ليعلم أن ترك المؤاخذة على الذنب يطلق عليه لفظ العفو كما يطلق على لفظ المغفرة، وليتعلق بقوله: (إذا لم تكن عن استحلال، والاستحلال كفر) لما فيه من التكذيب المنافي للتصديق، وبهذا تؤول النصوص الدالة على تخليد العصاة في النار أو على سلب اسم الإيمان عنهم. (والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر) بالمستفيض من الأخبار، خلافاً للمعتزلة. وهذا مبني على ما سبق من جواز العفو والمغفرة بدون الشفاعة، فبالشفاعة أولى. وعندهم لما لم يجز لم تجز.
قال الخيالي:
قوله: (والشفاعة) أي: المقبولة (ثابتة) لا يقال مرتكب المكروه يستحق حرمان الشفاعة كما نص عليه في التلويح فيحرم أهل الكبائر بالطريق الأولى لأنا نقول لا نسلم الملازمة لأن جزاء الأدنى لا يلزم أن يكون جزاء الأعلى الذي له جزاء آخر عظيم ولو سلم فلعل المراد حرمان الشفيعية أو حرمان الشفاعة لرفع الدرجة أو لعدم الدخول في النار أو في بعض مواقف المحشر على أن الاستحقاق لا يستلزم الوقوع.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي المقبولة) لأن الشفاعة الغير المقبولة لا نزاع في وقوعه.
قوله: (لا يقال إن مرتكب المكروه) يعني أن مرتكب المكروه كراهة التحريم يستحق حرمان الشفاعة كما نص في التلويح في تعريف الفقه، وفي بحث الأحكام، فاستحقاق أهل الكبائر لحرمان الشفاعة بالطريق الأولى؛ لكونه فوق مرتكب المكروه.
قوله: (لا نسلم الملازمة) أي لا نسلم أنه لو استحق مرتكب المكروه حرمان الشفاعة يلزم استحقاق مرتكب الكبيرة؛ لأن جزاء الأدنى وهو مرتكب المكروه لا يكون جزاء الأعلى وهو مرتكب الكبيرة، فإن له جزاء آخر عظيمًا مثل التعذيب بالنار ولو سلم ذلك، فلعل المراد بالشفاعة في قوله: يستحق حرمان الشفاعة؛ المصدر المبني للفاعل، أعني كونه شفيعًا، فالمعنى أن مرتكب المكروه يستحق حرمان كونه شفيعًا لآخر، فيجوز أن يكون مشفوعًا ولو سلم ذلك، فالمراد حرمان كونه مشفوعًا لرفع الدرجة أو في بعض مواقف المحشر؛ مثل السؤال والحساب، فيجوز أن يكون لرفع العذاب أو في بعض آخر؛ مثل الصراط، على أن استحقاق الحرمان لا يستلزم الوقوع، كما أن استحقاق العذاب لا ينافي العفو، هذا لكن قوله عليه السلام: (من ترك سنتي لم ينل شفاعتي) يدل على وقوع حرمان الشفاعة في حق تاركه، إلا أن يقال: إنه وعيد يجوز الخلف فيه.
قال الشارح: لنا قوله تعالى: ﱡﭐ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱠ فإن أسلوب هذا الكلام يدل على ثبوت الشفاعة في الجملة، وإلا لكان لنفي نفعها عن الكافرين عند القصد إلى تقبيح حالهم وتحقيق باسهم معنى، لأن مثل هذا المقام يقتضي أن يوسموا بما يخصهم لا يما يعمهم وغيرهم، وليس المراد أن تعليق الحكم بالكافر يدل على نفيه عما عداه حتى يرد عليه أنه إنما يقوم حجة على من يقول بمفهوم المخالفة. وقوله عليه السلام: “شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي” وهو مشهور، بل الأحاديث الدالة على الشفاعة متواترة المعنى.
قال الخيالي:
قوله: (ﱡﳡ ﳢﱠ) أي: لذنوبهم وهي تعم الكبائر.
قوله: (يدل على ثبوت الشفاعة) وعلى أنها ليست لرفعة الدرجة لأن عدم تلك الشفاعة لا يقتضي تقبيح الحال وتحقيق اليأس لكن لا يدل على أنها في حق أهل الكبائر.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي لذنوبهم) بقرينة ذكر الذنب سابقًا.
قوله: (وهي تعم الكبائر) أي الذنوب تعم الكبائر، فيلزم ثبوت الشفاعة للكبائر، وهذا دفع لما قيل: إن هذا إنما يكون برهانًا إذا ثبت عموم الذنب للصغائر والكبائر، وأما إذا خص بالصغائر بقرينة قوله تعالى: ﱡﭐ ﳟ ﳠ ﱠ فإن ذنبه عليه السلام صغيرة قطعًا. فلا يكون برهانًا وإن كان إلزامًا للمعتزلة؛ لعدم استحقاق العذاب بالصغائر عندهم حتى يحتاج إلى الشفاعة والاستغفار، وحاصل الدفع أن الذنب في أصل الوضع شامل لهما، وكون ذنبه عليه السلام خاصًا لا يفيد تخصيص الذنب للأمة، وذلك ظاهر.
قوله: (وعلى أنها ليست لرفع الدرجة…إلخ) أي تدل الآية بمقتضى الأسلوب على أن تلك الشفاعة التي نفي عن الكفار خاصة ليست لرفع الدرجة؛ لأن عدم الشفاعة التي لرفع الدرجة لا يقتضي تقبيح الحال وتحقيق اليأس، مع أن الآية سيقت لنفي الشفاعة التي يقتضي عدمها تقبيح حالهم وتحقيق بأسهم.
قوله: (لكن لا تدل على أنها…إلخ) يعني أن هذه الآية بمقتضى الأسلوب إنما تدل على ثبوت أصل الشفاعة، لكن لا تدل على أنها في حق أهل الكبائر، وقيل: بل تدل لأن جهة نفي النفع هي الكفر، فإذا انتفى ثبت النفع بها مطلقًا ولأنها المحل للخلاف، فإذا ثبت أصل الشفاعة ثبت أصل المدعى، أقول فيه بحث أما في الأول؛ فلأن حصر جهة نفي النفع في الكفر غير معلوم من الآية، وترتبه عليه لا يدل على الحصر، فيجوز أن يكون في أهل الكبائر أمر آخر، وأما في الثاني؛ فلأن المراد أنه لا يدل عليه دلالة تحقيقية لا أنه لا يدل دلالة التزامية مبنية على مذهب الخصم.
قال الشارح: واحتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى: ﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﱠ وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱠ. والجواب بعد تسليم دلالتها على العموم في الأشخاص والأزمان والأحوال أنه يجب تخصيصها بالكفار جمعاً بين الأدلة. ولما كان أصل العفو والشفاعة ثابتاً بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع قالت المعتزلة بالعفو عن الصغائر مطلقاً، وعن الكبائر بعد التوبة وبالشفاعة لزيادة الثواب، وكلاهما فاسد، أما الأول فلأن التائب ومرتكب الصغيرة المجتنب عن الكبيرة لا يستحقان العذاب عندهم، فلا معنى للعفو. وأما الثاني فلأن النصوص دالة على الشفاعة بمعنى طلب العفو عن الجناية.
قال الخيالي:
قوله: (ﱡﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﱠ) ظاهر الآية ينفي أصل الشفاعة ولو لزيادة الثواب ثم إنه يحتمل أن يكون الضمير للنفس الثانية فالمعنى إن جاءت شفاعة الشفيع لم يقبل منها فلعلها تقبل بطريق آخر.
قوله: (بعد تسليم دلالتها على العموم في الأشخاص) يشير إلى منع الدلالة على عموم الاشخاص واعتراض عليه بأن النفس نكرة في سياق النفي عامة والضمير راجع إليها فيعم أيضا ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا ضرورة في رجوع الضمير إليها من حيث عمومها فإن النكرة المنفية خاصة بحسب الوضع وعمومها عقلي ضروري فإذا قلت لا رجل في الدار وإنما هو على السطح ليس يلزم منه أن يكون جميع العالم على السطح نعم لو قيل الضمير للنكرة ووقوعها في سياق النفي كوقوعها فيه فيعم أيضا لم يبعد جدا.
قوله: (يجب تخصيصها بالكفار) إن قلت كيف تخص بهم وقد سلم عموم الأشخاص قلت المسلم هو الدلالة على العموم لا إرادته.
قوله: (فلا معنى للعفو) عدم المعنى بالنسبة إلى صغيرة غير المجتنب عن كبيرة ممنوع وإلى صغيرة المجتنب غير مفيد فتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (ظاهر الآية ينفي أصل الشفاعة) يعني أن هذه الآية ليست للمعتزلة من كل وجه، بل عليهم من وجه؛ لأن ظاهرها ينفي الشفاعة مطلقًا مع أنهم قائلون بالشفاعة لزيادة الثواب، فإن صرفوها عن الظاهر وحملوها على نفي الشفاعة لرفع العذاب، فنقول أنها لا تبقى حجة.
قوله: (ثم أنه لا يحتمل…إلخ) ثم أن الآية لا تدل على نفي الشفاعة أيضًا على الإطلاق، لأنه يحتمل أن يكون الضمير في قوله: منها للنفس الثانية العاصية، فيكون معنى قوله تعالى: ﱡﭐﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﱠ أنها إن جاءت للنفس العاصية في حقها شفاعة الشفيع لم تقبل منها، فلعل الشفاعة تقبل في حقها بوجه آخر بأن يجيء الشفيع بشفاعته، وما قيل: إن هذا التوجيه خلاف الظاهر بعيد عن المقام، فليس بشيء لأن الموجه مانع يكفيه الاحتمال العقلي، وهو ظاهر.
قوله: (يشير إلى منع الدلالة على عموم الأشخاص…إلخ) وسند المنع جواز كون الكلام لسلب العموم لا لعموم السلب، كذا في شرح المقاصد.
قوله: (واعترض عليه بأن النفس…إلخ) يعني أنه لا معنى لمنع الدلالة على العموم؛ لأن النفس في قوله تعالى: ﱡﭐ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﱠ الخ… نكرة في سياق النفي عامة، والضمير في قوله منها راجع إليها، فيعم الضمير أيضًا لعموم مرجعه، فيدل على العموم في الأشخاص.
قوله: (ويمكن أن يجاب…إلخ) يعني إنما يلزم من عموم المرجع الذي هو النكرة عموم الضمير لو كان الضمير راجعًا إليها من حيث عمومها، لكن لا ضرورة في رجوع الضمير إليها كذلك، فإن النكرة المنفية خاصة بحسب الوضع؛ لأنها موضوعة للفرد المبهم، ولذا لا يعم في الإثبات، وعمومها بعد النفي عارض عقلي ضرورة أن انتفاء الفرد المبهم لا يكون إلا بانتفاء جميع الأفراد، فيجوز أن يكون الضمير راجعًا إلى النكرة بحسب معناه الوضعي، فلا يلزم العموم إلا نرى أنه إذا قيل: لا رجل في الدار وإنما هو على السطح، ليس يلزم منه أن يكون جميع أجزاء العالم على السطح مع أن الضمير ههنا أيضًا راجع إلى النكرة الواقعة في سياق النفي، وليس إرجاع الضمير إلى النكرة المنفية بحسب معناه الوضعي من الاستخدام كما توهم الفاضل الجلبي؛ لأنه لا بد في الاستخدام من المعنيين، ولم تستعمل النكرة ههنا في المعنيين بل هي مستعملة في كلا الموضعين في معنى واحد وهو الفرد المبهم، إلا أنه عرض له العموم بواسطة أمر خارج وهو النفي كما نص الشارح في التلويح، وقد صرح بذلك المحققون من شارحي مختصر ابن الحاجب ( قال الفاضل المحشي : كون النكرة المنفية خاصة بحسب الوضع مخالف لكتب أصول الفقه، فإن النكرة المنفية عامة بحسب الوضع، قال صدر الشريعة في التوضيح: إن العام لفظ وضع لكثير غير محصور مستغرق لجميع ما يصلح له، ثم عد النكرة المنفية من العام نحو لا يأكل رأسًا ليس بشيء؛ لأن مراد المحشي أنها خاصة بحسب الوضع الشخصي، وهو لا ينافي كونها عامة بحسب الوضعي النوعي المجازي ضرورة أن دلالتها بواسطة قرينة، وهي الوقوع في سياق النفي، والوضع في تعريف العام أعم من الشخصي والنوعي، فيشمل النكرة المنفية أيضًا، صرح بذلك الشارح في التلويح، فارجع إليه فإنه كاشف عن التوضيح.
قوله: (نعم لو قيل…إلخ) أي نعم، لو قيل في دفع منع الدلالة أيضًا على عموم الأشخاص: إن الضمير راجع إلى النكرة، فوقوع الضمير في سياق النفي كوقوع النكرة فيه، فيكون قوله تعالى: ﱡﭐﳇ ﳈ ﱠ كأن يقال: لا يقبل من نفس شفاعة، فيعم ذلك الضمير كما يعم النكرة لم يبعد جدًا، ولعل هذا هو مراد المعترض إلا أن عبارته لا تساعده، قبل وجه البعد في الجملة أن الضمير الراجع إلى النكرة لا يجب أن يكون نكرة، فإنه اختلف بين النحاة أن الضمير الراجع إلى النكرة معرفة أو نكرة، وإن كان المشهور أنه نكرة.
قوله: (عدم المعنى بالنسبة إلى صغيرة…إلخ) يعنى عدم معنى العفو بالنسبة إلى صغيرة غير المجتنب عن الكبيرة ممنوع؛ لأنه إذا لم يجتنب الكبيرة كان مستحقًا للعذاب على الصغيرة أيضًا، فتركه يكون تركًا للعقوبة المستحقة، فيستحق العفو بالنسبة إليه، وعدم معنى العفو بالنسبة إلى صغيرة المجتنب عن الكبيرة غير مفيد في بيان ما قالت المعتزلة، فبيان الشارح غير تام وما قاله الفاضل المحشي من: إن كلام الشارح مبني على ما هو المشهور من أنه لا استحقاق بالصغائر مطلقًا عندهم على ما قال في شرح المواقف، ففيه أن قيد المجتنب عن الكبيرة مستدرك حينئذ، وهو ظاهر.
قوله: (فتأمل) لعل وجه التأمل أن غير المجتنب يستحق الخلود في النار عندهم، فلا يتحقق المغفرة والعفو بالنسبة إليه أيضًا، وما قيل من: إنه يجوز أن يكون بتخفيف العذاب، فيدفعه أن العذاب عندهم مضرة خالصة لا يشوبها ما يخالفها، ولذا جعلوا جزاء الكافر بعينه جزاء مركب الكبيرة.
وأهلُ الكبائرِ مِن المؤمنينَ لا يُخلَّدونَ في النَّارِ.
قال الشارح: (وأهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار) وإن ماتوا من غير توبة، لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﱠ ونفس الإيمان عمل خير لايمكن أن يرى جزاءه قبل دخول النار ثم يدخل النار فيخلد، لأنه باطل بالإجماع، فتعين الخروج من النار. ولقوله تعالى: ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ ، ولقوله تعالى: ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﱠ إلى غير ذلك من النصوص الدالة على كون المؤمن من أهل الجنة مع ما سبق من الأدلة القاطعة على أن العبد لا يخرج بالمعصية عن الإيمان.
قال الخيالي:
قوله: (لأنه باطل بالإجماع) لأن جزاء الإيمان هو الجنة والخروج عن الجنة باطل بالإجماع فتعين الخروج عن النار وفيه منع ظاهر لجواز أن يراه في خلال العذاب بالتخفيف ونحوه.
قوله: (ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﱠ) مبنى هذا الاستدلال على أن العمل الصالح لا يتناول التروك ثم إنه لا يدل على عدم خلود من لا عمل له غير الإيمان لكنه يبطل مذهب الاعتزال.
قال السيالكوتي:
قوله: (فيه منع ظاهر لجواز…إلخ) فيه أن جزاء الإيمان هو الجنة لا مجرد التخفيف لقوله عليه الصلاة والسلام: ( يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان) هو أيضًا تخفيف العذاب خلاف مذهبهم على ما مر.
قوله: (ومبني هذا الاستدلال على أن العمل…إلخ) لأنه على تقدير تناول العمل لترك المنهيات يكون معنى الآية ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﱠ من إتيان الأوامر وترك المنهيات{كانت لهم جنات الفردوس نزلا} فلا يدخل مرتكب الكبيرة في حكم الآية؛ لأنه غير تارك للمنهيات بخلاف ما إذا لم يتناولها، فالعامل بالصالحات يجوز أن يرتكب كبيرة بل كبائر، فيدخل مرتكب الكبيرة العامل بالصالحات تحت الحكم فيتم الاستدلال.
قوله: (ثم إنه لا يدل على عدم خلود من لا عمل…إلخ) يعني أن الاستدلال بالآية على تقدير عدم التناول أيضًا غير تام؛ لأنه لا يدل على عدم خلود مرتكب الكبائر الذي لا عمل له غير الإيمان؛ لترتب الحكم بدخول الجنة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لكنه يبطل مذهب الاعتزال أعني خلود جميع أهل الكبائر في النار.
قال الشارح: وأيضاً الخلود في النار من أعظم العقوبات وقد جعل جزاء الكفر الذي هو أعظم الجنايات فلو جوزي به غير الكافر كان زيادة على قدر الجناية، فلا يكون عدلاً. وذهبت المعتزلة إلى أن من أدخل النار فهو خالد فيها لأنه إما كافر أو صاحب كبيرة مات بلا توبة؛ إذ المعصوم والتائب وصاحب الصغيرة إذا اجتنب الكبائر ليسوا من أهل النار على ما سبق من أصولهم، والكافر مخلد بالإجماع وكذا صاحب الكبيرة بلا توبة، لوجهين: أحدهما: أنه يستحق العذاب وهو مضرة خالصة دائمة فينافي استحقاق الثواب الذي هو منفعة خالصة دائمة.
والجواب: منع قيد الدوام، بل منع الاستحقاق بالمعنى الذي قصدوه وهو الاستيجاب، وإنما الثواب فضل منه والعذاب عدل، فإن شاء عفا وإن شاء عذبه مدة ثم يدخله الجنة.
قال الخيالي:
قوله: (وقد جعل جزاء للكفر) أي على الإطلاق من غير تقييد بالشدة ونحوها فلا يرد جواز التفاوت بالشدة والضعف حتى لا يزيد الجزاء على الجناية وهذا الدليل إلزامي وإلا فتصرفه تعالى في ملكه لا يوصف بالظلم.
قوله: (مضرة خالصة) قالوا لولا الخلوص لم ينفصل عن مضار الدنيا ولا يخفى ضعفه لجواز الإنفصال بوجه آخر فيمكن منع هذا القيد أيضا لكنه غير مفيد ههنا.
قال السيالكوتي:
قوله: (فلا يرد جواز التفاوت…إلخ) أي لا يرد أنه يجوز أن يكون عذاب الكافر شديدًا بالنسبة إلى عذاب مرتكب الكبيرة ،وإن كانا مخلدين في النار فلا يزيد الجزاء على الجناية
قوله: (وهذا الدليل إلزامي…إلخ) أي مبني على مذهب المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقليين، والا فعند أهل السنة تصرفه تعالى لا يوصف بالظلم؛ لأن الظلم قد يقال على التصرف في ملك الغير، وهذا المعنى محال في حقه تعالى؛ لأن الكل ملكه، وعلى وضع الشيء في غير محله والله أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، وكل ما وضعه في موضع يكون ذلك أحسن المواضع وإن خفي وجه حسنه علينا، ولا يخفى أنه إذا كان الدليل إلزاميا فلا حاجة إلى دفع الإيراد السابق، إلى قوله: على الإطلاق من غير تقييد بالشدة والضعف؛ لأنهم لا يقولون بالتفاوت في العذاب، وإلا لم تكن مضرة خالصة.
قوله: (قالوا لولا الخلوص…إلخ) أي لولا الخلوص عن شوائب النفع لم ينفصل عن مضار الدنيا، فإنها مضار من وجه دون آخر، فيجب أن تكون منافع الآخرة ومضارها خالصين عن الغير.
قوله: (فيمكن منعه…إلخ) أي يمكن منع قيد الخلوص أيضًا، لكن هذا المنع غير مفيد ههنا؛ لأن النزاع في دوام أهل الكبائر في النار وخلودهم ومنع الخلوص لا يستلزم نفي الدوام، لا يقال منع الدوام موقوف على منع الخلوص؛ لأنه إذا كانت المضرة منقطعة لم تكن خالصة لأنا نقول: ذلك ممنوع لجواز أن لا يخلق الله تعالى في المعاقب العلم بذلك الانقطاع، فلا يحصل له فرح، كذا في شرح المواقف.
قال الشارح: الثاني: النصوص الدالة على الخلود، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉﱠ وقوله تعالى: ﱡﭐ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﱠ وقوله تعالى: ﱡﭐ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﱠ. والجواب: أن قاتل المؤمن لكونه مؤمناً لا يكون إلا الكافر، وكذا من تعدى جميع الحدود وكذا من أحاطت به خطيئته وشملته من كل جانب. ولو سلم فالخلود قد يستعمل في المكث الطويل كقولهم: سجن مخلد، ولو سلم فمعارض بالنصوص الدالة على عدم الخلود كما مر.
قال الخيالي:
قوله: (قد يستعمل في المكث الطويل) لكن خلود الكفار بمعنى الدوام بالإجماع بل هو من ضروريات الدين بخلاف خلود أهل الكبيرة.
قال السيالكوتي:
قوله: (لكن خلوده…إلخ) استدراك لدفع توهم أنه إذا كان الخلود بمعنى المكث الطويل، فيجوز أن يكون خلود الكفار أيضًا بذلك المعنى، فلا يكون دوام الكفار في النار قطعيًا ووجه الدفع ظاهر.