وأفضلُ البشرِ بعدَ نبينا أبو بكرٍ الصديقُ رضي الله عنهُ.
قال الشارح: (وأفضل البشر بعد نبينا) والأحسن أن يقال: بعد الأنبياء، لكنه أراد البعدية الزمانية، وليس بعد نبينا نبي، ومع ذلك لا بد من تخصيص عيسى عليه السلام إذ لو أريد كل بشر يوجد بعد نبينا انتقض بعيسى عليه السلام، ولو أريد كل بشر يولد بعد لم يفد التفضيل على الصحابة، ولو أريد كل بشر هو موجود على وجه الأرض لم يفد التفضيل على التابعين ومن عبدهم، ولو أريد كل بشر يوجد على وجه الأرض في الجملة انتقض بعيسى عليه السلام.(أبو بكر الصديق) الذي صدق النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة من غير تلعثم وتردد وفي المعراج بلا تردد.
قال الخيالي:
قوله: (و الأحسن أن يقال بعد الأنبياء) قال عليه السلام “والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر رضي الله تعالى عنه” ومثل هذا السوق لإثبات أفضلية المذكور وبه يظهر أن أبا بكر أفضل من سائر الأمم أيضا.
قوله: (أراد البعدية الزمانية) يرد عليه أنه إن أراد بعد موت نبينا لم يفد التفضيل على من مات قبله عليه السلام وإن أريد بعد بعثة نبيينا ينبغي أن يخصص النبي عليه السلام وعلى كلا التقديرين لم يفد التفضيل على سائر الأمم.
قوله: (لا بد من تخصيص عيسى عليه السلام) وكذا إدريس والخضر وإلياس عليهم السلام إذ قد ذهب العظماء من العلماء إلى أن أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء الخضرو إلياس في الأرض وعيسى وإدريس في السماء.
قوله: (لم يفد التفضيل على التابعين) أي: صراحة وإلا فالصحابة أفضل منهم والأفضل من الأفضل أفضل ولذا قال سابقا والأحسن.
قال السيالكوتي:
قوله: (ومثل هذا السوق…إلخ) هذا دفع ما يقال: إن منطوق الحديث نفي أفضلية أحد على أبي بكر لا نفي المساواة فلا يثبت أفضليته، وحاصل الدفع أن مثل هذا الكلام إنما يقال في العرف لإثبات الأفضلية، وإن كان المنطوق لا يفي بذلك فإنك إذا قلت: لا رجل أفضل من زيد، يفهم منه إثبات أفضلية زيد قطعًا.
قوله: (يرد عليه أنه إن أريد بعد موت…إلخ) يعني إذا أريد البعدية الزمانية، فإن أريد بالزمان زمان موت النبي عليه السلام لم يفد التفضيل صريحًا على من مات قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد بعثته، وإن أريد زمان بعثة النبي قيد منطوقه تفضيله على النبي فلا بد من تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى كلا التقديرين سواء أريد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد بعثته لا يفيد التفضيل صريحًا على سائر الأمم، وفائدة التقييد يفيده صريحًا، ومنطوقه ظاهر لا حاجة إلى البيان.
قوله: (كذا إدريس والخضر وإلياس…إلخ) وإنما اكتفى الشارح بذكر عيسى؛ لأن حياته ونزوله إلى الأرض واستقراره عليه قد ثبت بأحاديث صحيحة بحيث لم يبق فيه شبهة، ولم يختلف فيه أحد بخلاف الثلاثة الباقية.
ثم عمرُ الفاروقُ، ثم عثمانُ ذو النورينِ، ثم عليٌّ المُرتضى.
قال الشارح: (ثم عمر الفاروق) الذي فرق بين الحق والباطل في القضايا والخصومات. (ثم عثمان ذي النورين) لأن النبي عليه السلام زوجهرقية ولما ماتت رقية زوجه أم كلثوم ولما ماتت قال: لو كان عندي ثالثة لزوجتكها. (ثم علي المرتضى) من عباد الله وخلص أصحاب رسول الله. على هذا وجدنا السلف، والظاهر أنه لو لم يكن لهم دليل على ذلك لما حكموا بذلك، وأما نحن فقد وجدنا دلائل الجانبين متعارضة ولم نجد هذه المسألة مما يتعلق به شيء من الأعمال أو يكون التوقف فيه مخلاً بشيء من الواجبات فيهما، وكأن السلف كانوا متوقفين في تفضيل عثمان على علي رضي الله عنهما حيث جعلوا من علامات السنة والجماعة تفضيل الشيخين ومحبة الختنين، والإنصاف أنه إن أريد بالأفضلية كثرة الثواب فللتوقف جهة، وإن أريد كثرة ما يعده ذوو العقول من الفضائل فلا.
قال الخيالي:
قوله: (على هذا وجدنا السلف) أي: أكثر أهل السنة وقد ذهب البعض إلى تفضيل علي على عثمان والبعض الآخر إلى توقف فيما بينهما.
قوله: (فللتوقف جهة) لأن قرب الدرجة وكثرة الثواب أمر لا يعلم إلا بإخبار من الله تعالى ورسوله والأخبار متعارضة وأما كثرة الفضائل فبما يعلم بتتبع الأحوال وقد تواتر في حق علي ما يدل على كثرة عموم مناقبه ووفور فضائله واتصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي أكثر أهل السنة والجماعة…إلخ) إنما فسر السلف بأكثر أهل السنة لئلا ينافي قول الشارح فيما بعد، وكأن السلف كانوا متوقفين في تفضيل عثمان.
قوله: (اذ لا يعلم إلا بالأخبار من الله تعالى) وليس الاختصاص بكثير أسباب الثواب موجبًا لزيادته قطعًا؛ لأن الثواب تفضل من الله تعالى، فله أن يعاقب المطيع ويثيب غيره.
قوله: (وأما كثرة الفضائل فمما يعلم…إلخ) هذا مخالف لما قال الآمدي: إنه قد يراد بالتفضيل اختصاص أحد الشخصين عن الآخر إما بأصل فضيلة لا وجود لها في الآخر وإما بزيادته فيها ككونه أعلم مثلًا، وذلك أيضًا غير مقطوع به فيما بين الصحابة إذما من فضيلة تبين اختصاصها بواحد منهم إلا ويمكن مشاركة غيره له، وبتقدير عدم المشاركة فقد يمكن بيان اختصاص الآخر بفضيلة أخرى، ولا سبيل إلى الترجيح؛ لكثرة الفضائل لاحتمال أن يكون الفضيلة الواحدة أرجح من فضائل كثيرة إما لزيادة شرفها في نفسها أو لزيادة كميتها، فلا جزم بالأفضلية بهذا المعنى أيضًا.
والخلافَةُ ثابتَةٌ على هذا الترتيبِ أيضًا.
قال الشارح: (وخلافتهم) أي: نيابته عن الرسول في إقامة الدين بحيث يجب على كافة الأمم الاتباع (على هذا الترتيب) أيضاً، يعني أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ثم لعمر ثم لعمان ثم لعلي رضي الله عنهم، وذلك لأن الصحابة قد اجتمعوا يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة واستقر رأيهم بعد المشاورة والمنازعة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وأجمعوا على ذلك وتابعه على رضي الله عنه على رؤوس الأشهاد بعد توقف كان منه، ولو لم تكن الخلافة حقاً له لما اتفق عليه الصحابة ولنازعه علي رضي الله عنه كما نازع معاوية ولاحتج عليهم لو كان في حقه نص كما زعمت الشيعة.
قال الخيالي:
قوله: (قد اجتمعوا يوم توفي) بضم التاء على صيغة المجهول والمشهور أن أبا بكر رضي الله عنه خطب حين وفاته عليه السلام وقال لا بد لهذا الدين ممن يقوم به فقالوا نعم لكن ننظر في هذا الأمر وبكروا إلى سقيفة بني ساعدة أي: أتوا بكرة.
قال السيالكوتي:
قوله: (والمشهور أن أبا بكر رضي الله عنه خطب…إلخ) يعني أن ما ذكره الشارح من أن اجتماع الصحابة كان في يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مخالف لما هو المشهور أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خطب في ذلك اليوم وأن الاجتماع كان في اليوم الثاني من وفاته وقت الصبح.
قوله: (سقيفة بني ساعدة) في الصحاح السقيفة الصفة، ومنه سقيفة بني ساعدة.
قال الشارح: وكيف يتصور في حق أصحاب رسول الله الاتفاق على الباطل وترك العمل بالنص الوارد.ثم إن أبا بكر رضي الله لما أيس من حياته دعا عثمان رضي الله عنه وأملى عليه كتاب عهده لعمر رضي الله عنه، فما كتب عثمان ختم الصحيفة وأخرجها إلى الناس وأمرهم أنيبايعوا لمن في الصحيفة فبايعوا حتى مرت بعلي فقال: بايعنا لمن كان فيها وإن كان عمر رضي الله عنه. وبالجملة وقع الاتفاق على خلافته، ثم استشهد عمر رضي الله عنه وترك الخلافة شورى بين ستة: عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ثم فوض الأمر خمستهم إلى عبد الرحمن بن عوف ورضوا بحكمه، فاختار عثمان وبايعه بمحضر من الصحابة فبايعوه وانقادوا لأوامره ونواهيه وصلوا معه الجمع والأعياد، فكان إجماعاً. ثم استشهد وترك الأمر مهملاً فاجتمع كبار المهاجرين والأنصار على علي رضي الله عنه والتمسوا منه قبول الخلافة وبايعوه لما كان أفضل أهل عصره وأولاهم بالخلافة، وما وقع من المخالفات والمحاربات لم يكن عن نزاع في خلافته بل عن خطأ في الاجتهاد، وما وقع من الاختلاف بين الشيعة وأهل السنة في هذه المسألة وادعاء كل من الفريقين النص في باب الإمامة وإيراد الأسئلة والأجوبة من الجانبين فمذكور في المطولات.
قال الخيالي:
قوله: (بل عن خطأ في الاجتهاد) فإن معاوية وأحزابه بغوا عن طاعته مع اعترافهم أنه افضل أهل زمانه وأنه الأحق بالإمامة منه بشبهة هي ترك القصاص عن قتلة عثمان رضي الله عنه.
قال السيالكوتي:
قوله: (بشبهة هي ترك القصاص عن قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه) متعلق بقوله: بغوا؛ يعني أن معاوية وأحزابه بغوا عن طاعته بشبهة هي ترك القصاص عن قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه، وظن أن تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمة وتعرض الدماء للسفك، وظن علي رضي الله عنه أن تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطرار أمر الإمامة لا يكون أصوب في بدايتها، فرأى التأخير أصوب به حتمًا.
والخلافةُ ثلاثونَ سنةً، ثم بعدَها مُلكٌ وإمارةٌ.
قال الشارح: (والخلافة ثلاثون سنة ثم بعدها ملك وأمارة) لقوله عليه السلام: “الخلاقة بعيد ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً عضوصاً”.
وقد استشهد علي رضي الله عنه على رأس ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعاوية ومن بعده لا يكونون خلفاء بل كانوا ملوكاً وأمراء، وهذا مشكل، لأن أهل الحل والعقد من الأمة قد كانوا متفقين على خلافة الخلفاء العباسية وبعض المروانية كعمر بن عبد العزيز مثلاً، ولعل المراد أن الخلافة الكاملة التي لا يشوبها شيء من المخالفة وميل عن المتابعة تكون ثلاثين سنة وبعدها قد تكون وقد لا تكون.
قال الخيالي:
قوله: (و لعل المراد أن الخلافة الكاملة) ويحتمل أن يراد أن الخلافة على الولاء تكون ثلاثين سنة.
قال السيالكوتي:
قوله: (ويحتمل أن يراد…إلخ) أي يحتمل أن يراد بالخلافة الواقعة في الحديث الخلافة على الولاء وهو أن لا يقع فيها فتور إمارة سواء كانت كاملة لا يشوبها شيء من المخالفة أو لا، فبين جواب الشارح والمحشي فرق ظاهر، فما ذكره الفاضل المحشي “هذا المعنى ليس مغايرًا لما ذكره الشارح” وهم، وهذا الجواب أولى من جواب الشارح؛ لأنه يشكل عليه بخلافة عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما، فإنه خالف معهما أهل البغي فكيف يصح أن الخلافة التي لا يشوبها شيء من المخالفة ثلاثون سنة، وأيضًا حصر الخلافة الكاملة في ثلاثين لا يقتضي أن يكون بعدها ملكًا وإمارة بل خلافة غير كاملة.
والمسلمونَ لا بدَّ لهم من إمامٍ ليقومَ بتنفيذِ أحكامِهِم، وإقامَةِ حُدودِهِم، وسَدّ ثُغورِهِم، وتجهيزِ جيوشِهِم، وأخذِ صدقاتِهِم، وقهرِ المُتَغَلبَةِ والمُتلَصّصَةِ، وقطاعِ الطريقِ، وإقامَةِ الجُمَعِ والأعيادِ، وقطعِ المنازعاتِ الواقعةِ بينَ العبادِ، وقبولِ الشهاداتِ القائمةِ على الحقوقِ، وتزويجِ الصِّغَارِ والصَّغَائِرِ الذينَ لا أولياءَ لهم، وقِسمةِ الغنائمِ.
قال الشارح: ثم الإجماع على أن نصب الإمام واجب وإنما الخلاف في أنه هل يجب على الله تعالى أو على الخلق بدليل سمعي أو عقلي.والمذهب أنه يجب على الخلق سمعاً، لقوله عليه السلام: “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية” ولأن الأمة قد جعلوا أهم المهمات بعد وفاة النبي عليه السلام نصب الإمام حتى قدموه على الدفن، وكذا بعد موت كل إمام، ولأن كثيراً من الواجبات الشرعية يتوقف عليه كما أشار إليه بقوله: (والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق وإقامة الجمع والأعياد وقطع المنازعات الواقعة بين العباد وقبول الشهادات القائمة على الحقوق وتزويج الصغار والصغائر الذين لا أولياء لهم وقسمة الغنائم) ونحو ذلك من الأمور التي لا يتولاها آحاد الأمة.
قال الخيالي:
قوله: (لقوله عليه السلام من مات ولم يعرف إمام زمانه… الحديث) فإن وجوب المعرفة يقتضي وجوب الحصول وهذه الأدلة لمطلق الوجوب وأما أنه لا يجب علينا عقلا ولا على الله تعالى أصلا فلبطلان قاعدة الوجوب على الله والحسن والقبح العقليين وأيضا لو وجب على الله لما خلا الزمان عن الإمام والميتة بكسر الميم بتاء النوع كالجلسة ومعنى النسبة إلى الجاهلين كونها على طريق أهل الجهالة وخصلتهم وقد يقال المراد ههنا بالإمام هو النبي قال الله تعالى لإبراهيم ﱡﲜ ﲝ ﲞ ﲟﱠ وذلك بالنبوة.
قال السيالكوتي:
قوله: (فإن وجوب المعرفة يقتضي…إلخ) فيه بحث لأن بظاهره يدل على وجوب تحصيل المعرفة إن وجد الإمام لا على وجوب نصبه.
قوله: (وهذه الأدلة) أي قوله: لقوله عليه الصلاة والسلام، وقوله: لأن الأمة قد جعلوا إلخ. وقوله: لأن كثيرًا من الواجبات.
قوله: (فلبطلان قاعدة الوجوب) متعلق بقوله: لا على الله أصلًا، وقوله: والحسن والقبح العقليين متعلق بقوله: لا يجب علينا عقلًا.
قوله: (وقد يقال المراد بالإمام…إلخ) أي المراد بالإمام في الحديث هو النبي عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟﱠ أي نبيًا، فالمعنى من مات ولم يعرف نبي زمانه فقد مات ميتة جاهلية، فلا إشكال.
قال الشارح: فإن قيل: لم لا يجوز الاكتفاء بذي شوكة في كل ناحية ؟ ومن أين يجب نصب من له الرياسة العامة ؟قلنا: لأنه يؤدي إلى منازعات ومخاصمات مفضية إلى اختلال أمر الدين والدنيا كما يشاهد في زماننا هذا.فإن قيل: فليكتف بذي شوكة له الرياسة العامة إماماً كانأو غير إمام، فإن انتظام الأمر يحصل بذلك كما في عهد الأتراك. قلنا: نعم يحصل بعض النظام من أمر الدنيا ولكن يختل أمر الدين، وهو المقصود الأهم والعمدة العظمى. فإن قيل: فعلى ما ذكر من أن مدة الخلافة ثلاثون سنة يكون الزمان بعد الخلفاء الراشدين خالياً عن الإمام فتعصي الأمة كلهم وتكون ميتتهم ميتة جاهلية. قلنا: قد سبق أن المراد الخلافة الكاملة، ولو سلم فلعل بعدها دور الخلافة ينقضي دون دور الإمامة بناء على أن الإمام أعم، لكن هذا الاصطلاح مما لم نجده للقوم، بل من الشيعة من يزعم أن الخليفة أعم ولهذا يقولون بخلافة الأئمة الثلاثة دون إمامتهم، وأما بعد الخلفاء العباسية فالأمر مشكل.
قال الخيالي:
قوله: (فتعصي الأمة كلهم) لأن ترك الواجب معصية والمعصية ضلالة والأمة لا تجتمع على ضلالة وقد يجاب عنه بأنه إنما يلزم المعصية لو تركوه عن قدرة واختيار لا عن عجز واضطرار فلا إشكال أصلا.
قال السيالكوتي:
قوله: (والمعصية ضلالة) أي إنما كان عصيان الأمة كلهم باطلًا؛ لأنه ضلالة، والأمة لا تجتمع على الضلالة لقوله عليه السلام: “لا تجتمع أمتي على الضلالة”.
قوله: (وقد يجاب بأنه إنما يلزم المعصية…إلخ) حاصله تخصيص الحديث بأن المراد من مات ولم يترك فيه نصب الإمام لعجز واضطرار بدليل أن الضرورات تبيح المحظورات، وبهذا الحديث يندفع الإشكال بعد الخلفاء الراشدين العباسية أيضًا.
ثم ينبغي أن يكونَ الإمامُ ظاهرًا لا مُختفيًا ولا مُنتظرًا. ويكونَ من قريشٍ، ولا يجوزُ من غيرِهم، ولا يَختَصُّ ببني هاشمٍ وأولادِ عليٍّ رضي الله عنه. ولا يُشتَرَطُ في الإمامِ أن يكونَ معصومًا.
قال الشارح: (ثم ينبغي أن يكون الإمام ظاهراً) ليرجع إليه فيقوم بالمصالح ليحصل ما هو الغرض من نصب الإمام، (لا مختفياً) من أعين الناس خوفاً من الأعداء وما للظلمة من الاستيلاء، (ولا منتظراً) خروجه عند صلاح لزمان وانقطاع مواد الشر والفساد وانحلال نظام أهل الظلم والعناد، لا كما زعمت الشيعة خصوصاً الإمامية منهم أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي رضي الله عنه ثم ابنه الحسن ثم أخوه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق ثم ابنه موسى الكاظم ثم ابنه محمد القائم المنتظر المهدي وقد اختفى خوفاً من أعدائه وسيظهر فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ولا امتناع في طول عمره وامتداد أيامه كعيسى والخضر عليهما السلام وغيرهما. وأنت خبير بأن اختفاء الإمام وعدمه سواء في عدم حصول الأغراض المطلوبة من وجود الإمام، وأن خوفه من الأعداء لا يوجب الاختفاء بحيث لا يوجد منه إلا الاسم، بل غاية الأمر أن يوجب إخفاء دعوى الإمام كما في حق آبائه الذين كانوا ظاهرين على الناس ولا يدعون الإمامة. وأيضاً عند فساد الزمان واختلاف الآراء واستيلاء الظلمة احتياج الناس إلى الإمام أشد وانقيادهم له أسهل.
(ويكون من قريش ولا يجوز من غيرهم، ولا يختص ببني هاشم) وأولاد علي رضي الله عنه. يعني يشترط أن يكون الإمام قرشياً لقوله عليه السلام: “الأئمة من قريش” وهذا وإن كان خبر واحد لكن لما رواه أبو بكر رضي الله عنه محتجاً به على الأنصار ولم ينكره أحد قصار مجمعاً عليه لم يخالف فيه إلا الخوارج وبعض المعتزلة. ولا يشترط أن يكون هاشمياً أو علوياً لما ثبت بالدليل من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مع أنهم لم يكونوا من بين هاشم وإن كانوا من قريش فإن قريشاً اسم لأولاد النضر بن كنانة وهاشم هو أبو عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لويء بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، فالعلوية والعباسية من بني هاشم، لأن العباس وأبا طالب ابنا عبد المطلب وأبو بكر قرشي لأنه ابن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن لويء، وكذا عمر لأنه ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وكذا عثمان لأنه ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. (ولا يشترط) في الإمام (أن يكون معصوماً) لما مر من الدليل على إمامة أبي بكر مع عدم القطع بعصمته. وأيضاً الاشتراط هو المحتاج إلى الدليل، وأما في عدم الاشتراط فيكفي عدم دليل الاشتراط.
قال الخيالي:
قوله: (مع عدم القطع بعصمته) يرد عليه أن الشرط هو العصمة لا العلم بالمعصية وعدم القطع إنما ينافي الثاني لا الأول على أن عدم قطعنا غير مفيد و عدم قطع أهل البيعة غير معلوم.
قال الشارح: احتج المخالف بقوله تعالى: ﱡﭐﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ وغير المعصوم ظالم فلا يناله عهد الإمامة. والجواب: المنع فإن الظالم من ارتكب معصية مسقطة للعدالة مع عدم التوبة والإصلاح فغير المعصوم لا يلزم أن يكون ظالماً. وحقيقة العصمة أن لا يخلق الله تعالى في العبد الذنب مع بقاء قدرته واختياره، وهذا معنى قولهم: هي لطف من الله تعالى يحمله على فعل الخير ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتداء.
قال الخيالي:
قوله: (فغير المعصوم لا يلزم أن يكون ظالما) إن قلت حقيقة العصمة كما ذكره عدم خلق الله الذنب وعدم العدم وجود فكيف لا يكون غير المعصوم ظالما، قلت معنى قوله حقيقة العصمة كذا أن مآلها وغايتها ذلك وأما تعريفها فهي ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها وقد يعبر عن تلك الملكة باللطف لحصولها بمحض لطف الله وفضل منه ولا يخفى أن من ليس له تلك الملكة لا يلزم أن يكون عاصيا بالفعل، ثم إن الظلم المطلق أخص من المعصية لأنه التعدي على الغير، وقد يجاب أيضا بجواز أن يراد بالعهد في الآية عهد النبوة على ما هو رأي أكثر المفسرين.
قال السيالكوتي:
قوله: (إن قلت حقيقة العصمة على ما ذكر…إلخ) يعني أن العصمة على ما ذكره الشارح عدم خلق الله الذنب، وعدم خلق الذنب يقتضي وجود الذنب فيكون غير المعصوم مذنبًا، فكيف لا يكون ظالمًا وأنت تعلم أن هذا الاعتراض مما لا ورود له؟ لأن الظلم على ما قرره المجيب أخص من المعصية؛ لأنه المعصية المسقطة للعدالة مع عدم التوبة، فلا يلزم من كون غير المعصوم عاصيًا مذنبًا أن يكون ظالمًا اللهم إلا أن يرجع هذا الاعتراض إلى منع كون الظلم أخص من المعصية بناء على ما اشتهر من أن الظلم وضع شيء في غير محله.
قوله: (قلت معنى قوله حقيقة العصمة…إلخ) يعني التعريف الذي ذكره الشارح ههنا تعريف بالغاية، وأما تعريفها الحقيقي على ما ذكره في شرح المقاصد فهو أنها ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها، وليس يلزم أن من ليس له تلك الملكة أن يكون عاصيًا بالفعل؛ لجواز أن يكون له ملكة الاجتناب مع عدم صدور الذنب عنه دائمًا، فغير المعصوم لا يلزم أن يكون عاصيًا حتى يكون ظالمًا، ولا يخفى عليك أن حمل قوله: حقيقة العصمة أن لا يخلق الله تعالى الخ على أن العصمة ومآلها ذلك ينافيه إتيان لفظ الحقيقة، والحق أن العصمة كالشجاعة تقال على الملكة التي هي مبدأ الآثار وعلى نفس الآثار أيضًا، والشارح بين في شرح المقاصد المعنى الأول وفي هذا الشرح المعنى الثاني فلا تدافع بين كلاميه.
قوله: (ثم إن الظلم…إلخ) جواب ثان عن الاعتراض؛ يعني على تقدير أن يكون حقيقة العصمة عدم خلق الذنب، لا يلزم أن يكون غير المعصوم ظالمًا؛ لأن عدم العصمة إنما يستلزم المعصية، والظلم أخص من المعصية؛ لأنه التعدي على الغير، فليس كل معصية ظلمًا حتى يكون غير المعصوم ظالمًا، وإنما قيد الظلم بالمطلق؛ لأن الظلم المقيد بقيد نفسه يكون بمعنى التعدي على نفسه كما في وصف المؤدي بالظلم على نفسه.
قوله: (وقد يجاب…إلخ) أي وقد يجاب عن احتجاج المخالف بقوله تعالى: ﱡﭐﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ أن المراد بالعهد عهد النبوة على ما هو رأي أكثر المفسرين بقرينة قوله تعالى: ﱡﭐ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟﱠ فإن إمامته بالنبوة لا بالرئاسة الكاملة، فمن قال: إن هذا الجواب خلاف الظاهر فقد عدل عن الظاهر.
ولا أن يكونَ أفضل من أهلِ زمانِهِ.
قال الشارح: ولهذا قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: العصمة لا تزيل المحنة. وبهذا يظهر فساد قول من قال: إنها خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه، كيف ولو كان الذنب ممتنعاً لما صح تكليفه بترك الذنب ولما كن مثاباً عليه!! (ولا أن يكون أفضل أهل زمانه) لأن المساوي في الفضيلة بل المفضول الأقل علماً وعملاً ربما كان أعرف بمصالح الإمامة ومفاسدها وأقدر على القيام بمواجبها، خصوصاً إذا كان نصب المفضول أدفع للشر وأبعد عن إثارة الفتنة، ولهذا جعل عمر رضي الله عنه الإمامة شورى بين ستة مع القطع بأن بعضهم أفضل من البعض.
قال الخيالي:
قوله: (لا تزيل المحنة) أي: التكليف سمي بهذا إذ به يمتحن الله تعالى عباده ويبلوهم أيهم أحسن عملا.
ويُشتَرَطُ أن يكونَ من أهلِ الولايةِ المطلقةِ الكاملةِ.
قال الشارح: فإن قيل: كيف صح جعل الإمامة شورى بين الستة مع أنه لا يجوز نصب إمامين في زمان واحد ؟قلنا: غير الجائز هو نصب إمامين مستقلين يجب طاعة كل منهما على الانفراد لما يلزم من ذلك من امتثال أحكام متضادة، وأما في الشورى فالكل بمنزلة إمام واحد. (ويشترط أن يكون من أهل الولاية المطلقة الكاملة) أي: مسلماً حراً ذكراً عاقلاً بالغاً، إذ ما جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، والعبد مشغول بخدمة المولى مستحقر في أعين الناس، والنساء ناقصات عقل ودين، والصبي والمجنون قاصران عن تدبير الأمور والتصرف في مصالح الجمهور.
قال الخيالي:
قوله: (قلنا غير الجائز هو نصب…إلخ) وقد يجاب أيضا بأن معنى جعل الإمامة شورى أن يتشاوروا فينصبوا واحدا منهم ولا تتجاوزهم الإمامة ولا النصب ولا التعيين وحينئذ لا إشكال أصلا.
قال السيالكوتي:
قوله: (وقد يجاب بأن معنى جعل الإمامة شورى…إلخ) يعني أن هذا الاعتراض إنما يرد لو كان معنى قوله: جعل الإمامة شورى أنه جعل
إقامة أمر الإمامة ذات مشورة بين ستة وليس كذلك، بل معناه أنه تعين الإمامة ذات مشورة بين ستة ويؤيد ما في تبصرة الأدلة فوض إليهم لينظروا فنصبوا للإمامة أصلحهم بذلك، لكن كلام الكشاف حيث قال في تفسير شورى: لا ينفردون بأمر اجتمعوا عليه يدل على أنه جعل الخلافة مشتركة بينهم، ولذا مال إليه الشارح.
سائِسًا قادرًا على تنفيذِ الأحكامِ، وحفظِ حدودِ دارِ الإسلام، واستخلاصِ حَقّ المظلومِ من الظالمِ، ولا يَنعزِلُ الإمامُ بالفسقِ والجَوْرِ.
قال الشارح: (سائساً) أي: مالكاً للتصرف في أمور المسلمين بقوة رأيه ورويته ومعونة بأسه وشوكته. (قادراً) بعمله وعدلة وكفايته وشجاعته (على تنفيذ الأحكام وحفظ حدود دار الإسلام وإنصاف المظلوم من الظالم) إذ الإخلال بهذه الأمور مخل بالغرض من نصب الإمام. (ولا ينعزل الإمام بالفسق) أي: بالخروج عن طاعة الله تعالى، (والجور) أي: الظلم على عباد الله تعالى، لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين والسلف قد كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم.
ولأن العصمة ليست بشرط للإمامة ابتداء فبقاءً أولى. وعن الشافعي رحمه الله أن الإمام ينعزل بالفسق والجور وكذا كل قاض وأمير، وأصل المسألة أن الفاسق ليس من أهل الولاية عند الشافعي رحمه الله، لأنه لا ينظر لنفسه فيكف ينظر لغيره، وعند أبي حنيفة رحمه الله هو من أهل الولاية حتى يصح للأب الفاسق تزويج ابنته الصغيرة، والمسطور في كتب الشافعية أن القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام، والفرق أن في انعزاله ووجوب نصب غيره إثارة الفتنة لما له من الشوكة بخلاف القاضي، وفي رواية النوادر عن العلماء الثلاثة أنه لا يجوز قضاء الفاسق، وقال بعض المشايخ: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يرض بقضائه بدونها، وفي فتاوى قاضي خان: أجمعوا على أنه إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى وأنه إذا أخذ القاضي القضاء بالرشوة لا يصير قاضياً ولو قضى لا ينفذ قضاؤه.
قال الخيالي:
قوله: (ولا ينعزل الإمام بالفسق) لا يقال، بل ينعزل لقوله تعالى: ﱡﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ فإن النيل بمعنى الوصول وهو آني ابتداء وزماني بقاء لأنا نقول الوصول بمعنى المصدر أمر آني لا بقاء له وإنما الباقي هو الوصول بمعنى الحاصل بالمصدر ومدلول الفعل حقيقة هو الأول على أن صيغ الأفعال للحدوث فليتأمل.
قوله: (ولأن العصمة ليست بشرط ابتداء) يرد عليه أنه إن أريد بالعصمة ملكة الاجتناب فلا تقريب إذ المطلوب أن لا يشترط عدم الفسق وإن أريد عدم الفسق فعدم اشتراطه ابتداء ممنوع حيث قالوا يشترط العدالة في الإمامة لأن الفاسق لا يصلح لأمر الدين ولا يوثق بـأوامره.
قال السيالكوتي:
قوله: (وهو أمر آني ابتداء زماني بقاء هذا الدفع) ما يقال: أن الآية إنما تدل على نفي الوصول وهو أمر آني لا بقاء له فيدل على نفي حصول عهد الإمامة للظالمين ولا يدل على نفي بقائه له حتى يدل انعزال الإمام بالفسق، وحاصل الدفع أن الوصول آني ابتداء زماني بقاء، فإن الشيء إذا وصل بشيء يكون حدوث ذلك الوصول في الآن ويكون ذلك الوصول باقيًا إلى زمان الانفكاك بينهما، فيكون مفهوم الآية لا يصل عهدي الظالمين ابتداء وبقاء فيدل على الانعزال قطعًا.
قوله: (لأنا نقول: الوصول…إلخ) حاصل الجواب أن مدلول الفعل المعنى المصدري، والمعنى المصدري للوصول أمر آني، والباقي إنما هو الكيفية الحاصلة من المعنى المصدري المسمى بالحاصل بالمصدر وليس ذلك مدلول الفعل فلا تدل الآية على نفي وصول الإمامة للفاسق ابتداء.
قوله: (على أن صيغ الأفعال) أي على أنا لو سلمنا أنه مدلول الفعل الحاصل بالمصدر لكن جميع صيغ الأفعال موضوعة للحدوث، فيكون مفهوم الآية لا يحدث وصول العهد للظالمين فلا يدل على الانعزال أيضًا.
قوله: (يرد عليه أن أريد بالعصمة…إلخ) إن أريد بالعصمة في قوله: ولأن العصمة ليست بشرط إلخ. ملكة الاجتناب فسلمنا أنه ليس بشرط ابتداء، لكن التقريب؛ أعني استلزام الدليل للمدعي غير تام إذ المطابق أنه لا يشترط عدم الفسق في بقاء الإمامة ولا يلزم من عدم اشتراطه في الإمامة ابتداء، وقوله: قالوا الخ تأييد لاشتراط عدم الفسق.