وفي إرسالِ الرُّسُلِ حِكمَةٌ.
قال الشارح: (وفي إرسال الرسل) جمع رسول، فعول من الرسالة، وهي سفارة العبد بين الله تعالى وبين ذوي الألباب من خليقته ليزيح بها عللهم فيما قصرت عنه عقولهم من مصالح الدنيا والآخرة، وقد عرفت معنى الرسول والنبي في صدر الكتاب (حكمة) أي: مصلحة وعاقبة حميدة. وفي هذا إشارة إلى أن الإرسال واجب لا بمعنى الوجوب على الله تعالى، بل بمعنى أن قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحكم والمصالح.
وليس بممتنع كما زعمت السمنية والبراهمة، ولا بممكن يستوي طرفاه كما ذهب إليه بعض المتكلمين.
قال الخيالي:
قوله: (بمعنى أن قضية الحكمة تقتضيه) أي: ترجح جانب الوقوع وتخرجه عن حد المساواة كاستقامة أحد الطرفين مع قربه وأمنه ويرد عليه ما سبق من احتمال الحكمة الخفية في الترك فلا ترجيح والحق أن كلام المتن مستغن عن هذا التوجيه.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي ترجيح جانب…إلخ) يعني ليس المراد باقتضاء الحكمة أنها تقتضيه بحيث لا يمكن تركه، بل المراد أن الحكمة ترجيح جانب وقوع الإرسال وتخرجه عن حد المساواة مع جواز الترك في نفسه، وهذا الوجوب هو الوجوب العادي بمعنى أن يفعله البتة وإن كان تركه جائزًا في نفسه كعلمنا بأن جبل أحد لم ينقلب ذهبًا مع جوازه، وليس من الوجوب الذي زعمته المعتزلة بحيث يكون تركها موجبًا للسفه والعبث.
قوله: (كاستقامة أحد الطريقين…إلخ) فإن الاستقامة والأمن يرجحان وقوع سلوك الطريق المنصف بهما ويخرجانه عن أن يكون مساويًا للطريق الغير المنصف بهما مع جواز ترك سلوك المستقيم واختيار الغير مستقيم، فإن للمختار أن يختار أيهما شاء.
قوله: (يرد عليه ماسبق…إلخ) يعني ترجيح الحكمة جانب الوقوع إنما يتم إذا لم يكن في جانب ترك الإرسال حكمة خفية لا نطلع عليها، وأما إذا كانت فلا يرجح الوقوع على الترك.
قوله: (والحق أن عبارة…إلخ) يعني أن عبارة المتن مستغن عن أن يقال: بأن مراده أن إرسال الرسل واجب عليه تعالى وأنه مقتضى حكمته، إذ معناه الصحيح في إرسال الرسل حكمة وعاقبة حميدة.
وقد أرسلَ الله تعالى رُسُلاً مِنَ البشرِ إلى البشرِ مبشرينَ ومُنذرينَ. ومُبيّنينَ للناسِ ما يَحتاجونَ إليهِ من أُمورِ الدُّنيا والدينِ.
قال الشارح: ثم أشار إلى وقوع الإرسال وفائدته وطريق ثبوته وتعيين بعض من ثبت رسالته فقال: (وقد أرسل الله رسلاً من البشر إلى البشر مبشرين) لأهل الإيمان والطاعة بالجنة والثواب (ومنذرين) لأهل الكفر والعصيان بالنار والعقاب، فإن ذلك مما لا طريق للعقل إليه وإن كان فبأنظار دقيقة لا يتيسر إلا لواحد بعد واحد. (ومبينين للناس ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا والدين) فإنه تعالى خلق الجنة والنار وأعد فيهما الثواب والعقاب وتفاصيل أحوالهما وطريق الوصول إلى الأول والاحتراز عن الثاني مما لا يستقل به العقل، وكذا خلق الأجسام النافعة والضارة ولم يجعل للعقول والحواس الاستقلال بمعرفتهما وكذا جعل القضايا منها ما هي ممكنات لا طريق إلى الجزم بأحد جانبيه ومنها ما هي واجبات أو ممتنعات لا يظهر للعقل إلا بعد نظر دائم وبحث كامل بحيث لو اشتغل الإنسان به لتعطل أكثر مصالحه فكان من فضل الله تعالى ورحمته إرسال الرسل لبيان ذلك كما قال تعالى: ﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ.
قال الخيالي:
قوله: (ﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ) فإنه عليه السلام بين أمر الدين والدنيا لكل من آمن وكفر لكن من كفر لم يهتد بهدايته ولم ينتفع برحمته به وقد يوجه كونه عليه السلام رحمة للكافرين بأنهم أمنوا بدعائه عن الخسف والمسخ وأنت خبير بأنه لا يناسب سوق هذا المقام.
قال السيالكوتي:
قوله: (بأنه لا يناسب سوق هذا المقام…إلخ) لأن سوق هذا المقام يقتضي أن يكون إرسال الرسل رحمة باعتبار بيان أمور الدين والدنيا حيث لا يفي بها العقل على ما يدل عليه قول الشارح، فكان من فضل الله ورحمته إرسال الرسل لا أنه رحمة باعتبار أنهم آمنوا عن الخسف والمسخ، وهو ظاهر.
وأيَّدَهم بالمعجزاتِ الناقِضَاتِ للعادَاتِ.
قال الشارح: (وأيدهم) أي: الأنبياء (بالمعجزات الناقضات للعادات) جمع معجزة وهي أمر يظهر بخلاف العادة على يدي مدعي النبوة عند تحدي المنكرين على وجه يعجز المنكرين عن الإتيان بمثله، وذلك لأنه لولا التأييد بالمعجزة لما وجب قبول قوله، ولما بان الصادق في دعوى الرسالة عن الكاذب وعند ظهور المعجزة يحصل الجزم بصدقه بطريق جرى العادة بأن الله تعالى يخلق العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة وإن كان عدم خلق العلم ممكناً في نفسه وذلك كما إذا ادعى أحد بمحضر من الجماعة أنه رسول هذا الملك إليهم، ثم قال للملك: إن كنت صادقاً فخالف عادتك وقم من مكانك ثلاث مرات ففعل يحصل للجماعة علم ضروري عادي بصدقه في مقالته، وإن كان الكذب ممكناً في نفسه فإن الإمكان الذاتي معنى التجويز العقلي لا ينافي حصول العلم القطعي كعلمنا بأن جبل أحد لم ينقلب ذهباً مع إمكانه في نفسه فكذا ها هنا يحصل العلم بصدقه بموجب العادة لأنها أحد طرق العلم القطعي كالحس،ولا يقدح في ذلك العلم احتمال كون المعجزة من غير الله أو كونها لا لغرض التصديق الكاذب إلى غير ذلك من الاحتمالات كما لا يقد في العلم الضروري الحس بحرارة النار إمكان عدم الحرارة للنار بمعنى أنه لو قدر عدمها لم يلزم منه محال.
قال الخيالي:
قوله: (وهي أمر يظهر…إلخ) قيل لا بد من قيد موافقة الدعوى احترازا عن مثل نطق الجماد بأنه مفتر كذاب وأجيب بأن ذكر التحدي مشعر به لأنه طلب المعارضة في شاهد دعواه ولا شهادة بدون الموافقة وقد مر في صدر الكتاب ما يتعلق بهذا البحث فتذكره.
قال السيالكوتي:
قوله: (قيل لا بد من قيد يوافقه…إلخ) يعني لا بد من زيادة قيد آخر في تعريف المعجزة؛ وهو أن يكون موافقًا للدعوى ليكون مانعًا عن دخول الخارق الذي لا يكون موافقًا له كنطق الجماد بأنه مفتر كذاب، فإن ادعى أحد النبوة وقال: معجزتي أن أنطق هذا الجماد، فنطق الجماد بأنه مفتر كذاب فإنه يصدق أنه أمر خارق للعادة يظهر على يد مدعي النبوة عند تحدي المنكرين مع أنه ليس بمعجزة لأنه لم يعلم به صدقه، بل ازداد اعتقاد كذبه لأن المكذب نفس الخارق بخلاف ما إذا قال معجزتي أن أحيي هذا الميت فأحياه ثم نطق أنه مفتر كذاب فإنه معجزة؛ لأن معجزته هو إحياؤه، وهو غير مكذب لدعواه، والحي بعد الموت يتكلم باختياره ما يشاء، وأما في الصورة الأولى وإن كان المعجزة هو النطق مطلقًا لكن ذلك لا يتحقق إلا في ضمن هذا الكلام، فيكون الكلام الصادر عن الجماد معجزة وهو مكذب له فلا يكون معجزة.
قوله: (وأجيب بأن ذكر التحدي…إلخ) يعني أن ذلك القيد مذكور التزامًا؛ لأن ذكر التحدي يستلزمه، فإن التحدي هو طلب المعارضة في شاهد دعواه، ولا شهادة بدون أن يكون الخارق موافقًا للدعوى.
قوله: (وقد مر في صدر الكتاب…إلخ) إشارة إلى جواب آخر ذكره فيما قبل وهو أن الله تعالى لا يخلق الخارق بحيث يعجز عن الإتيان بمثله على يد الكاذب بحكم العادة، فلا نقض بالفرضيات المحضة.
وأولُ الأنبياءِ آدمُ عليه السلامُ وآخرهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح: (وأول الأنبياء آدم عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم) أما نبوة آدم عليه السلام فبالكتاب الدال عل أنه قد أمر ونهى مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا بالسنة والإجماع فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفراً.
قال الخيالي:
قوله: (على أنه قد أمر ونهى) أما الأمر فهو قوله تعالى: ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ وأما النهي فهو قوله تعالى: ﱡﭐ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﱠ هذا ولكن ذكر في المواقف والمقاصد أن هذا الأمر والنهي كان قبل البعثة لأنه في الجنة ولا أمة له هناك، نعم يرد أن يقال لم لا يكفي أن يكون حواء أمة مسلمة له في الجنة.
قوله: (لمن يكن في زمنه نبي آخر) فيكون الأمر بلا واسطة فيكون وحيا وفيه تأمل لأنه قد أمرت أم موسى عليه السلام بلا واسطة بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱠ وأم عيسى عليه السلام كذلك بقوله تعالى: ﱡﭐ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﱠ والحق أن الأمر بلا واسطة إنما يستلزم النبوة إذا كان لأجل التبليغ وأمر آدم كذلك.
قال السيالكوتي:
قوله: (على أنه أمر أو نهي…إلخ) أي أمر ونهي بأمر ونهي غير مقصورين على نفسه حيث كانا لتبليغهما إلى حواء أيضًا، فلا يرد أن ما قيل: أن النبي عليه السلام عل ما عرفت في صدر الكتاب إنسان بعثه الله تعالى لتبليغ الأحكام، فالأمر والنهي بلا واسطة لا يستلزمان النبوة لجواز أن يقصرا على نفسه، ولا يكونا للتبليغ.
قوله: (لم لا يكفي…إلخ) قيل في دفع هذا المنع: إن الجنة ليست دار التكليف، فنفي الأمة لنفي دار التكليف لا لأنه ليس هناك إنسان يصلح أن يكون أمة وفيه أنه لا معنى للتكليف إلا الأمر والنهي، وقد تحققا في مادة آدم وحواء في الجنة، وترتب جزاء ارتكاب المنهي عنه أيضًا فتكون دار التكليف بالنسبة إليهما.
قوله: (وفيه تأمل) أي في كون الأمر بلا واسطة مستلزمًا للوحي المستلزم للنبوة تأمل لأنه قد أمر لام موسى بلا واسطة بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱠ على ما يدل عليه صدره وهو قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱠ ، وكذلك أمر أم عيسى بلا واسطة بقوله تعالى: ﱡﭐ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﱠ على ما يدل عليه ما قبله وهو قوله تعالى: ﱡﭐ ﳀ ﳁ ﳂ ﱠ أي جبرائيل ﱡﭐ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﱠ و يمكن دفعه بأن المراد أن الأمر من الله تعالى بلا واسطة النبي عليه الصلاة والسلام بالكلام المنظوم في اليقظة يستلزم الوحي المستلزم للنبوة كما في حق آدم عليه الصلاة والسلام على ما يدل عليه قوله تعالى: ﱡﭐ ﲤ ﲥ ﲦ ﱠ الآية، فإن هذا وحي ظاهر مختص بالنبي لم يثبت لغيره، وتحقق الأمر بهذه الحيثية في حقهما غير معلوم، أما في حق أم موسى؛ فلأنه يجوز أن يكون بإلهام أو في المنام، فإن الإيحاء يطلق في اللغة على إلقاء المعنى في الروع في اليقظة وعلى إسماع الكلام في المنام أيضًا، فلا يكون بالكلام المسموع في اليقظة، ولو سلم فيجوز أن يكون على لسان نبي في زمنه نبي، وأما في حق أم عيسى عليه السلام فلأنه يجوز أن لا يكون الأمر من الله تعالى، أما إذا كان القائل عيسى عليه السلام وقوله: ﱡﭐ ﳀ ﳁ ﳂ ﱠ ؛ أي فناداها من أسفل مكانها فظاهر، وأما إذا كان جبرائيل عليه السلام فيجوز أن يكون من قبل نفسه لا من الله تعالى.
قوله: (والحق أن الأمر بلا واسطة…إلخ) أي الحق أن الأمر بلا واسطة النبي مستلزم للنبوة إذا كان لأجل التبليغ إلى الغير؛ لأنه مشير بتحقق معنى النبوة وهو سفارة العبد بين الله وبين خليقته من ذوي الألباب لتبليغ الأحكام، وأمر آدم عليه السلام كذلك؛ لأن حواء مشاركة له في ذلك الأمر والنهي مع أن الخطاب لآدم فقط على ما يدل عليه قوله تعالى: ﱡﭐﲤ ﲥ ﲦ ﱠ الآية، وبهذا اندفع ما أورده في الأربعين لو كان آدم رسولًا قبل الواقعة لكان رسولًا من غير مرسل إليه؛ لأنه لم يكن في الجنة سوى آدم وحواء وكان الخطاب لهما بلا واسطة آدم عليه السلام لقوله تعالى: ﱡﭐﲯ ﲰ ﱠ الآية، والملائكة رسل الله تعالى فلا يحتاجون إلى رسول آخر؛ لأن الخطاب لآدم وحده، وإدخال حواء في النهي من باب تغليب المخاطب على الغائب على ما يدل عليه قوله تعالى: ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ الآية.
قال الشارح: وأما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ادعى النبوة وأظهر المعجزة، أما دعوى النبوة فقد علم بالتواتر، وأما إظهار المعجزة فلوجهين: أحدهما: أنه أظهر كلام الله تعالى وتحدى به البلغاء مع كمال بلاغتهم فعجزوا عن معارضة أقصر سورة منه مع تهالكهم على ذلك، حتى خاطروا بمهجتهم وأعرضوا عن المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف، ولم ينقل عن أحد منهم مع توفر الدواعي الإتيان بشيء مما يدانيه، فدل ذلك قطعاً على أنه من عند الله تعالى وعلم به صدق دعوى النبي علماً عادياً لا يقدح فيه شيء من الاحتمالات العقلية على ما هو شأن سائر العلوم العادية. وثانيهما أنه نقل عنه من الأمور الخارقة للعادة ما بلغ القدر المشترك منه، أعني ظهور المعجزة حد التواتر، وإن كانت تفاصيلها آحاداً كشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم، فإن كلاً منهما ثبت بالتواتر وإن كان تفاصيلها آحاداً، وهي مذكورة في كتاب السير. وقد يستدل أرباب البصائر على نبوته بوجهين: أحدهما: ما تواتر من أحواله قبل النبوة وحال الدعوة وبعد تمامها وأخلاقه العظيمة وأحكامه الحكيمة وإقدامه حيث تحجم الأبطال ووثوقه بعصمة الله تعالى في جميع الأحوال وثباته على حاله لدى الأهوال بحيث لم يجد أعداؤه مع شدة عداوتهم وحرصهم على الطعن فيه مطعناً ولا إلى القد فيه سبباً، فإن العقل يجزم بامتناع اجتماع هذه الأمور في غير الأنبياء، وأن يجمع الله هذه الكمالات في حق من يعلم أنه يفري عليه ثم يمهله ثلاثاً وعشرين سنةً ثم يظهر دينه على سائر الأديان وينصره على أعدائه ويحيى آثاره بعد موته إلى يوم القيامة.
قال الخيالي:
قوله: (وقد يستدل أرباب البصائر) مبنى الاستدلال الأول على دعوى النبوة وإظهار المعجزة على التعيين أوالإجمال ومبنى الاستدلال الثاني على أنه مكمل بالفتح على وجه لا يتصور في غير النبي عليه السلام ومبني الاستدلال الثالث على أنه مكمل بالكسر على ذلك الوجه أيضا ليس في هذين الوجهين ملاحظة التحدي وإظهار المعجزة.
قال السيالكوتي:
قوله: (مبنى الاستدلال الأول) وهو قوله: أما نبوة محمد عليه الصلاة والسلام إلى قوله: وقد يستدل أرباب البصائر على إظهار المعجزة على
التعيين وهو كلام الله تعالى الذي أشار إليه بقوله: أحدهما أو على سبيل الإجمال وهو سائر معجزاته التي أشار إليه بقوله، وثانيهما أنه نقل عنه الخ، ومبنى الاستدلال الثاني وهو قوله: قد يستدل أحدهما ما تواتر من أحواله، ومبنى الاستدلال الثالث وهو قوله: وثانيهما أنه ادعى ذلك الأمر العظيم…إلخ
قال الشارح: وثانيهما: أنه ادعى ذلك الأمر العظيم بين أظهر قوم لا كتاب لهم ولا حكمة معهم، وبين لهم الكتاب والحكمة وعلمهم الأحكام والشرائع وأتم مكارم الأخلاق وأكمل كثيراً من الناس في الفضائل العلمية والعملية ونور العالم بالإيمان والعلم الصالح، وأظهر الله دينه على الدين كله كما وعده، ولا معنى للنبوة والرسالة سوى ذلك. وإذا ثبتت نبوته وقد دل كلامه وكلام الله تعالى المنزل عليه على أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى كافة الناس بل على الجن والإنس ثبت أنه آخر الأنبياء وأن نبوته لا تختص بالعرب كما زعم بعض النصارى. فإن قيل: قد روي في الحديث نزول عيسى عليه السلام بعده. قلنا: نعم لكنه يتابع محمداً عليه السلام، لأن شريعته قد نسخت فلا يكون إليه وحي ولا نصب أحكام، بل يكون خليفة رسول الله عليه السلام، ثم الأصح أنه يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل فإمامته أولى.
قال الخيالي:
قوله: (لكنه يتابع محمدا عليه السلام) وما روي من أن عيسى عليه السلام يضع الجزية أي يرفعها عن الكفار ولا يقبل منهم إلا الإسلام مع أنه يجب قبول الجزية في شريعتنا فوجهه أنه عليه السلام بين انتهاء شريعة هذا الحكم وقت نزول عيسى عليه السلام فالانتهاء حينئذ من شريعتنا على أنه يحتمل أن يكون من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته كما في سقوط نصيب مؤلفة القلوب.
قال السيالكوتي:
قوله: (وما روي من أن عيسى عليه السلام…إلخ) يعني أما يورد من أن عيسى عليه السلام يرفع الجزية عن الكفار ولا يقبل منهم إلا الإسلام مع أن قبول الجزية في شريعتنا يدل على نسخ شريعة محمد عليه السلام وانتهاء نبوته فلا يكون خاتم النبيين، فوجه دفع ذلك الإيراد أن النبي عليه السلام بين إنهاء حكم وجوب قبول الجزية إلى وقت نزول عيسى عليه السلام، فإن الانتهاء يكون من شريعة نبينا فلا نسخ.
قوله: (على أنه…إلخ) أي على أنا نقول: يجوزأن يكون رفع الجزية من قبيل انتهاء الحكم انتهاء علته، فإن علة قبول الجزية الاحتياج إلى المال من جهة إعطائه عساكر الإسلام لتحصل لهم استطاعته الجهاد مع الكفار، وعند نزول عيسى عليه السلام تقرب القيامة وتكثر الأموال حتى لا يقبلها أحد، فلا يحتاج عساكر الإسلام إلى جزية الكفار.
قول (كما في سقوط نصيب مؤلفة القلوب) أي كسقوط حصة مؤلفة القلوب عن مصارف الزكاة فإنهم كانوا أقوامًا قد أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه، فيتألف قلوبهم بالإعطاء وأشراف يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظائرهم وأتباعهم، وقيل: أشراف يتألفون على أن يسلموا، وكان عليه السلام يعطيهم من خمس الخمس، والصحيح أنه عليه السلام كان يعطيهم من خمس الخمس من خالص ماله، وكان نصيب المؤلفة في زمان النبي عليه السلام لتكثير سواد الإسلام، فلما أعزه الله تعالى وكثر أهله سقط ذلك في زمن أبي بكر رضي الله عنه، فهذا من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته، وقيل: نسخ بإجماع الصحابة وباجتهادهم على ما في شرح التأويلات، ولا يشترط للنسخ زمانه عليه السلام عل ما قاله بعض المتأخرين كما في النهاية، وإنما سمي بمؤلفة القلوب لأنه قد ألف قلوبهم على الإسلام بإعطائهم الأموال.
وقَد رُوي بَيانُ عددِهِم في بعضِ الأحاديثِ، والأولى أنْ لا يقتَصَرَ على عددٍ في التسميةِ، فقد قالَ الله تعالى: ﱡﭐ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱠ ، ولا يُؤمَنُ في ذكرِ العددِ أن يُدخَلَ فيهم مَنْ ليسَ منهم، أو يُخرَجَ منهم من هُوَ فيهم.
قال الشارح: (وقد روي بيان عدتهم في بعض الأحاديث) على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن عدد الأنبياء فقال: “مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً” وفي رواية: “مائتا ألف وأربع وعشرون ألفاً”. (والأولى أن لا يقتصر على عدد في التسمية فقد قال الله تعالى: ﱡﭐ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱠ ، ولا يؤمن في ذكر العدد أن يدخل فيهم من ليس منهم) إن ذكر عدد أكثر من عددهم. (أو يخرج منهم من هو فيهم) إن ذكر عدد أقل من عددهم، يعني أن خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط المذكورة في أصول الفقه لا يفيد إلا الظن، ولا عبرة بالظن في باب الاعقتادات، خصوصاً إذا اشتمل على اختلاف رواية وكان القول بموجبه مما يفضي إلى مخالفة الواقع وهو عد النبي عليه السلام من غير الأنبياء وغير النبي من الأنبياء بناء على أن اسم العدد خاص في مدلوله لا يحتمل الزيادة ولا النقصان.
قال الخيالي:
قوله: (على تقدير اشتماله على جميع الشرائط) مثل العقل والضبط والعدالة والإسلام وعدم الطعن.
قال السيالكوتي:
قوله: (مثل العقل والضبط والعدالة…إلخ) أما العقل فهو نور الباطن يدرك به حقائق المعلومات كما يدرك بالنور الحسي المبصرات، ويعتبر كماله وهو مقدر بالبلوغ، فلا يقبل خبر الصبي والمعتوه، وأما الضبط فهو سماع الكلام كما يحقق سماعه، ثم فهم معناه، ثم حفظ ببذل المجهود، ثم الثبات عليه بمحافظة حدوده ومراقبته بمذاكرته على إساءة الظن بنفسه إلى حين أدائه، فلا يقبل رواية من اشتهرت غفلته خلقه بأن كان سهوه ونسيانه أغلب من حفظه أو مساهمته بعدم اهتمامه بشأن الحديث وإن وافق القياس لقرابته أصل الضبط بالنسيان أو بعدم الاهتمام، وأما العدالة فهي الاستقامة في الدين ويعتبر كماله بان يكون المرء منزجرا عن محظورات دينه بأن لم يرتكب كبيرة ولم يصر على صغيرة، فلا تقبل رواية الفاسق لفوات أصل العدالة، ولا المستور في زماننا وهو الذي لم يعرف فسقه وعدالته لقصور عدالته، وأما الإسلام فهو قبول الدين الحق، والتصديق بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يكتفى بظاهره وهو نشوؤه على طريقة المسلمين، وثبوت الأحكام بتبعية الأبوين، بل اعتبر كماله أيضًا وهو البيان إجمالًا بأن يصف الله تعالى كما هو على سبيل الإجمال وان لم يقدر على التفصيل، فلا يقبل رواية الكافر والمبتدع وإن كان عاقلًا ضابطًا عادلًا في دينه؛ لأنه قد يتعمد الكذب للتعصب في الدين، وأما عدم الطعن فهو أن لا يكون الراوي مجروحًا في روايته، فلا يقبل رواية المطعون، والطعن إما من الراوي إن عمل بخلافه بعد الرواية فيصير مجروحًا ومن غيره، فأما من الصحابي فيكون جرحًا إن كان فيما لا يحتمل الخطأ، وإلا فلا وإن كان من أئمة الحديث، فإن كان مجملًا بأن يقول: هذا الحديث غير ثابت أو منكر أو مجروح لا يكون جرحًا وإن كان مفسرًا بما هو جرح شرعًا اتفاقًا، والطاعن من أهل النصيحة لا من أهل العداوة والتعصب يكون جرحًا وإلا فلا، وتفصيل جميع ما ذكرنا في في كتب الأصول.
وكُلُّهُم كانوا مُخبرينَ مُبلّغينَ عن الله تعالى صَادقينَ نَاصِحينَ.
قال الشارح: (وكلهم كانوا مخبرين مبلغين عن الله تعالى) لأن هذا معنى النبوة والرسالة. (صادقين ناصحين) للخلق لئلا تبطل فائدة البعثة والرسالة، وفي هذا إشارة إلى أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكذب خصوصاً فيما يتعلق بأمر الشرائع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة، أما عمداً فبالإجماع، وأما سهواً فعند الأكثرين، وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية، وإنما الخلاف في أن امتناعه بدليل السمع أو العقل. وأما سهواً فجوزه الأكثرون. وأما الصغائر فيجوز عمداً عند الجمهور خلافاً للجبائي وأبتاعه، ويجوز سهواً بالاتفاق إلا ما يدل على الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة. لكن المحققين اشترطوا أن ينهوا عليه فينتهوا عنه، هذا كله بعد الوحي، وأما قبل الوحي فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة.
قال الخيالي:
قوله: (وأما عمدا فبالإجماع) أي: الكذب عمدا فيما يتعلق بأمر الشرائع باطل إجماعا إذ لو جاز لبطل دلالة المعجزة وهو محال وهكذ في السهو وقال القاضي دلالة المعجزة فيما تعمد إليه وأما ما كان بلا عمد فلا يدخل تحت التصديق بالمعجزة.
قوله: (و في عصمتهم عن سائر الذنوب) يعني به ما سوى الكذب في التبليغ.
قوله: (أو العقل) وهو مذهب المعتزلة قالوا صدور الكبيرة يؤدي الي النفرة المانعة عن الإنقياد وفيه فوات الاستصلاح والغرض من البعثة، ويرد عليه أن الفساد في الظهور والكلام في الصدور.
قال السيالكوتي:
قوله: (إذ لو جاز…إلخ) يعني لو جاز كذب النبي في الأحكام التبليغية جوازًا وقوعيًا لبطل دلالة المعجزة على صدقه فيما أتى به من الله تعالى مع أن دلالة المعجزة على صدقه دلالة عادية قطعية، إنما قيدنا الجواز بالوقوعي، لأن الجواز العقلي لا ينفي الدلالة العادية، فإنا نعلم بالضرورة أن جبل أحد لم ينقلب ذهبًا مع جوازه في نفسه.
قوله: (وهكذا في السهو…إلخ) أي هكذا لا يجوز صدور الكذب عنه في الأحكام التبليغية سهوًا عند الأستاذ وجمهور المحققين لاستلزامه إبطال دلالة المعجزة على صدقه في جميع ما أتى به مطلقًا، وقال القاضي إلخ أي قال القاضي الباقلاني: أي يجوز صدور الكذب عنه في الأحكام التبليغية سهوًا؛ لأن دلالة المعجزة في الأحكام التي تعتمد وتقصد إليه، وأما ما يصدر بلا عمد وقصد فلا يدخل تحت التصديق بالمعجزة فلا ينافي جواز الكذب سهوًا لدلالة المعجزة، هذا والمعتمد أنه لا يجوز الكذب عنهم في الأحكام التبليغية مطلقًا.
قوله: (يعنى به ما سوى الكذب في التبليغ) أي في الأحكام التبليغية كذبًا كان أو غير كذب كسائر الذنوب والمعاصي.
قوله: (ويرد عليه…إلخ) أي يرد على ما قالوا أنه لو تم لدل على أنه يمتنع ظهور الكبيرة عنهم؛ لأنه الموجب للنفرة، وبالكلام في أنه يمتنع صدور الكبيرة عنهم فلا يكون الدليل مطابقًا للمقصود.
قال الشارح: وذهبت المعتزلة إلى امتناعها لأنها توجب النفرة المانعة عن اتباعهم فتفوت مصلحة البعثة. والحق منع ما يوجب النفرة كقهر الأمهات والفجور والصغائر الدالة على الخسة. ومنع الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة قبل الوحي وبعده، لكنهم جوزوا إظهار الكفر تقية. إذا تقرر هذا فما نقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية فما كان منقولاً بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره إن أمكن، وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة، وتفصيل ذلك في الكتب المبسوطة.
قال الخيالي:
قوله: (وإظهار الكفر تقية) أي خوفا لأن إظهار الإسلام حينئذ إلقاء النفس في التهلكة، ورد بأنه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة وأيضا منقوض بدعوة إبراهيم وموسى عليهما السلام في زمن نمرود وفرعون مع شدة خوف الهلاك وفيه بحث لجواز دفع خوف الهلاك في بعض الصور بإعلام من الله.
قوله: (فمصروف عن ظاهره) أي: بطريق صرف النسبة إلى غيرهم فإن الحمل على ترك الأولى ونحوه صرف عن الظاهر أيضا وفيه توحيه آخر بحمل العام على ما عدا الخاص المقابل له.
قال السيالكوتي:
قوله( إذ أولى الأوقات) بالتبعية وقت الدعوى لقلة الموافقين بل عدمها وكثرة المخالفين.
قوله: (فيه بحث…إلخ) هذا وارد على كلا وجهي الرد، وليس خاصًا بقوله: وأيضًا منقوض بدعوة الخ كما توهم، وحاصله أنه يجوز أن يكن دفع الخوف في بعض الصور وفي بعض الأوقات بإعلام من الله تعالى كما أعلم الله تعالى موسى وهارون دفعة بقوله: ﱡﭐ ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﱠ .
قوله: (أي بطريق صرف النسبة إلى غيرهم…إلخ) يعني أن المراد بصرف الظاهر هو الفرد الخاص؛ وهو صرف نسبة الذنب إلى غير الأنبياء كما في قوله تعالى: بحق آدم وحواء: ﱡﭐ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈﱠ أي جعلا أولادهما له شركاء بدليل قوله تعالى: ﱡﭐﲌ ﲍ ﱠ وإنما قلنا: إن المراد ذلك؛ لأن الحمل على ترك الأولى أيضًا صرف عن الظاهر فلا يحسن المقابلة بينهما.
قوله: (وفيه توجيه…إلخ) أي في عبارة الشارح توجيه آخر، بأن المراد بصرف الظاهر ما عدا ترك الأولى بحمل العام على ما عدا الخاص بقرينة المقابلة.
وأفضلُ الأنبياءِ محمدٌ عليهِ الصلاةُ والسلامُ.
قال الشارح: (وأفضل الأنبياء عليهم السلام محمد صلى الله عليه وسلم) لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱠ الآية، ولا شك أن خيرية الأمة بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه. والاستدلال بقوله عليه السلام: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر” ضعيف، لأنه لا يدل على كونه أفضل من آدم بل من أولاده.
قال الخيالي:
قوله: (ولا شك أن خيرية الأمة…إلخ) فيه منع ظاهر لجواز أن تكون الخيرية بحسب سهولة انقيادهم ووفور عقلهم وقوة إيمانهم وكثرة أعمالهم.
قوله: (لأنه لا يدل…إلخ) قد يقال المراد بأولاد آدم في العرف هو نوع الإنسان وهو المتبادر أيضا وفيه ما فيه، وقد يوجه أيضا بأن في أولاده من هو أفضل منه كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام على اختلاف الأقوال و فيه ضعف أيضا إذ قد قيل بأن آدم هو الأفضل لكونه أبا البشر والأولى أن يستدل بقوله عليه السلام” “أنا أكرم الأولين والآخرين عند الله ولا فخر”.
قال السيالكوتي:
قوله: (وفيه ما فيه) أي فيه من التكلف ما فيه بأن دعوى كون أولاد آدم عليه الصلاة والسلام حقيقة عرفية في نوع الإنسان ودعوى التبادر غير مسموعة، ومجرد الاحتمال لا يكفي في الاستدلال.
قوله: (وقد يوجه) أي قد يوجه الاستدلال بهذا الحديث بأنه يدل على أنه عليه الصلاة والسلام أفضل أولاد آدم عليه السلام، ولا شك أن في أولاده من هو أفضل منه على اختلاف الأقوال، فقيل: إنه نوح لكثرة عبادته مع طول عمره، وقيل: إبراهيم لزيادة توكله واطمئنانه، وقيل: موسى لكونه كليم الله ونجيه، وقيل: عيسى لأنه روح الله وصفيه، والأفضل من الأفضل أفضل فيكون نبينًا أفضل من آدم أيضًا وهو الظاهر.
قوله: (والأولى أن يستدل بقوله: إن أكرم الأولين…إلخ) وأما قوله عليه السلام: “لا تخيروني على أخي موسى، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى” فتواضع منه، ويجوز أن يكون توقفًا منه قبل علمه بكونه أفضل أو منعًا منه في أصل معنى النبوة على ما أشير إليه بقوله تعالى: ﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﱠ .
والملائكةُ عِبادُ الله تعالى العاملونَ بأمرِهِ، ولا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ ولا أُنُوثَةٍ.
قال الشارح: (والملائكة عباد الله تعالى العاملون بأمره) على ما دل عليه قوله تعالى: ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱠ ﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﱠ. (لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة) إذ لم يرد بذلك نقل ولا دل عليه عقل، وما زعم عبدة الأصنام أنهم بنات الله تعالى محال باطل وإفراط في شأنهم، كما أن قول اليهود أن الواحد منهم قد يرتكب الكفر ويعاقبه الله بالمسخ تفريط وتقصير في حالهم. فإن قيل: أليس قد كفر إبليس وكان من الملائكة بدليل صحة استثنائه منهم. قلنا: لا بل كان من الجن ففسق عن أمر ربه، لكنه لما كان في صفة الملائكة في باب العبادة ورفع الدرجة وكان جنياً واحداً مغموراً بالعبادة فيما بينهم صح استثناؤه منهم تغليباً. وأما هاروت وماروت فالأصح أنهما ملكان لم يصدر عنهما كفر ولا كبيرة، وتعذيبهما إنما هو على وجه المعاتبة كما يعاتب الأنبياء على الزلة والسهو، وكانا يعظان الناس ويعلمان السحر ويقولان ﱡﭐﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱠ ولا كفر في تعليم السحر، بل في اعتقاده والعمل به.
قال الخيالي:
قوله: (فبدليل صحة استثنائه) إذ الأصل في الاستثناء هو الاتصال وأيضا لو لم يندرج في الملائكة لم يتناوله أمرهم بالسجود فلم يوجد فسقه عن أمر ربه؟ وقد يجاب بأن أمر الأعلى يتضمن الأدنى بلا مرية.
قوله: (صح استثنائه منه تغليبا) فحينئذ يكون الأمر بالسجدة لجماعة فيهم إبليس وعبر عنهم بالملائكة تغليبا.
قال السيالكوتي:
قوله: (إذ الأصل في الاستثناء…إلخ) أي الاستثناء الحقيقي هو المتصل؛ لأن الاستثناء الإخراج، فلا يتصور الإخراج بدون الدخول، وأما
المنقطع فيسمى استثناء بطريق المجاز فليس قسمًا منه حقيقة، وإنما جعلوه قسمًا نظرًا إلى الظاهر.
قوله: (وقد يجاب عنه بأن أمر الأعلى…إلخ) أي وقد يجاب عن الاعتراض المذكور بقوله: فإن قيل: ليس قد كفر إلى آخره بأن الجن أيضًا مأمورون مع الملائكة إلا أنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم للقطع بأن أمر الأعلى يستلزم أمر الأدنى، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل علم أن الأصاغر أيضًا مأمورون به، فالضمير في قوله: ﱡﭐ ﲛ ﱠ راجع إلى القبيلتين، كأنه قال: فسجد المأمورون إلا إبليس، وفيه تأمل ظاهر.
قوله: (فحينئذ يكون) إشارة إلى الفرق بين هذا الجواب والجواب المذكور بقوله: وقد يجاب، يعني فعلى هذا الجواب يكون الأمر بالسجود لجماعة من الملائكة كان إبليس داخلًا فيهم، وعبر عنهم بالملائكة تغليبًا للأكثر على الأقل أو الأشرف على الأدنى، فالاستثناء على هذا حقيقة لكونه داخلًا فيهم، لكن تسميته مجازًا باعتبار التغليب بخلاف الجواب السابق، فإنه لا حاجة فيه إلى تسميته ملكًا على سبيل التغليب؛ لأن محصله أن الأمر للفريقين إلا أنه استغنى بذكر أحدهما عن الآخر.
ولله تعالى كُتبٌ أنزَلَها على أنبيائِهِ، وبيّنَ فيها أمرَهُ ونهيَهُ، ووعدَهُ ووعيدَهُ.
قال الشارح: (ولله كتب أنزلها على أنبيائه وبين فيها أمره ونهيه ووعده ووعيده) وكلها كلام الله تعالى، وهو واحد، وإنما التعدد والتفاوت في النظم المقروء والمسموع، وبهذا الاعتبار كان الأفضل هو القرآن ثم التوراة ثم الأنجيل ثم الزبور كما أن القرآن كلام واحد ولا يتصور فيه تفضيل باعتبار الكتابة والقراءة يجوز أن يكون بعض السور أفضل كما ورد في الحديث. وحقيقة التفضيل أن قراءته أفضل لما أنه أنفع، أو ذكرالله تعالى فيه أكثر. ثم الكتب قد نسخت بالقرآن تلاوتها وكتابتها وبعض أحكامها.
قال الخيالي:
قوله: (و هو واحد) أي: متحد من حيث إنه كلام الله وإن تفاوت من حيث خصوصيات النظم المقروء فعطف التفاوت على التعدد قريب من العطف التفسيري ولك أن تقول كلها كلام الله تعالى أي دال عليه فمعنى الوحدة ظاهر والأول أنسب لقوله كما أن القرآن كلام واحد.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي الكل متحد من حيث إنه) أي من حيث كونه كلامًا غير متفاوت في تلك الصفة، وإنما تفاوت مراتبها ودرجاتها من حيث تفاوت
النظم، فإن القرآن في أعلى المراتب وأقصاها لكون نظمه في أعلى المراتب من الفصاحة والبلاغة وإن حمل على أن كلها كلام الله النفسي فمعنى الوحدة ظاهر، فإن جميع الكتب واحد من حيث ذاتها لا تعدد ولا تفاوت في أنفسها، لكن جميعها كلامًا نفسيًا وهو صفة شخصية لا تعدد ولا تكثر فيه بوجه من الوجوه، وإنما تعددت ذواتها وتفاوتت مراتبها من حيث النظم؛ أي من حيث الوجود اللفظي لا من حيث الوجود العيني، وحاصل التوجيهن أن كلام الله قد يطلق على الكلام اللفظي المتعدد بالذات وقد يطلق على النفسي الواحد من جميع الجهات، فإن أريد به في قوله: كلها كلام الله اللفظي فمعنى قوله: كلها كلام الله ظاهر، لكن قوله: وهو واحد محتاج إلى البيان وهو أن ضمير هو راجع إلى الكل، والمراد بالوحدة الوحدة في صفة كونه كلام الله تعالى، فالمعنى أن جميع الكتب متحد من حيث إنه كلام الله تعالى من غير تفاوت في هذه الصفة، وإنما تعددت ذواتها وتفاوتت مراتبها بحسب تعدد النظم وتفاوت خصوصياته، فإن القرآن في أعلى المراتب وأقصى الدرجات كما أن نظمه في أقصى مراتب الفصاحة والبلاغة، وإن أريد بكلام الله تعالى في قوله: كلها كلام الله الكلام النفسي، فمعنى قوله كلها كلام الله كلها دليل على كلام الله الأزلي القائم بذاته تعالى، ومعنى قوله: وهو واحد ظاهر وهو أن كلام الله الأزلي واحد شخصي لا تعدد فيه ولا تفاوت، وإنما التعدد والتفاوت في نظم المقروء؛ أي في الكلام اللفظي الدال عليه.
قوله: (فعطف التفاوت على التعدد…إلخ) يعني إذا كان المراد بكلام الله تعالى الكلام اللفظي ويكون معنى الكل متحدًا من حيث كونه كلام الله تعالى يكون عطف التفاوت على التعدد في قوله: وإنما التعدد والتفاوت في النظم المقروء قريبًا من العطف التفسيري، بمعنى أنه كما يكون المقصود بالبيان هو المعطوف المفسر، ويكون ذكر المعطوف عليه استطراديًا لا يكون فيه كثير فائدة، كذلك المقصود بالبيان بيان جهة تفاوت الكتب وترجيح بعضها على بعض، إذ الخلفاء إنما هو فيه دون بيان تعددها؛ لأن ذلك على ذلك التقدير ظاهر غير محتاج إلى البيان، فذكرها استطرادي ليس فيه كثير فائدة، ولذا ترك المحشي أخذ التعدد في بيان حاصل التوجيه وقال: وإن تفاوت من حيث خصوصيات إلخ. ولم يقل: وإن تعدد وتفاوت من حيث تعدد النظم وتفاوت خصوصياته، وإنما لم يجعله عطفًا تفسيريًا لكن التعدد محمولًا على معناه الحقيقي على ما مر تقريره.
قوله: (والأول أنسب بقوله…إلخ) أي التوجيه الأول أنسب بقوله: كما أن القرآن كلام واحد لا يتصور فيه تفضيل، فإن معناه الظاهر كما في أن القرآن كلام واحد لا يتصور في كونه كلامًا تفاوت وتفضيل، ثم باعتبار القراءة والكتابة التي هي من جملة خصوصياته يكون بعض سوره أفضل كذلك جميع الكتب كلام واحد لا يتصور فيه تفاوت وتفضيل من تلك الحيثية لا باعتبار الخصوصيات مثل القراءة والكتابة وذلك ظاهر، وإنما قال: أنسب؛ لأنه يمكن توفيقه بالتوجيه الثاني بأن يقال: معناه كما أن القرآن دال على كلام واحد لا يتصور فيه تفاوت وتفضيل، ثم باعتبار القراءة والكتابة المتعلقة بالكلام اللفظي الدال عليه كلام واحد لا يتصور فيه تفاوت وتفضيل، ثم باعتبارالقراءة والكتابة المتعلقة بالكلام اللفظي الدال عليه يكون بعض السور أفضل، كذلك جميع الكتب دال على كلام واحد لا تفاوت فيه أصلًا، ثم باعتبار الخصوصيات المتعلقة بالكلام اللفظي الدال يكون بعض الكتب أفضل من بعض لكنه خلاف الظاهر.