وهو متكلمٌ بكلامٍ هو صفةٌ لهُ أزليةٌ.
قال الشارح: ولما كان في الثلاثة الأخيرة نزاع وخفاء كرر الإشارة إلى إثباتها وقدمها، وفصل الكلام بعض التفصيل فقال: (وهو) أي: الله تعالى (متكلم بكلام هو صفة له) ضرورة امتناع إثبات المشتق للشيء من غير قيام مأخذ الاشتقاق به، وفي هذا رد على المعتزلة حيث ذهبوا إلى أنه متكلم بكلام هو قائم بغيره ليس صفة له. (أزلية) ضرورة امتناع قيام الحوادث بذاته.
قال الخيالي:
قوله: (من غير قيام مأخذ الاشتقاق) وهو التكلم وقيامه يستلزم قيام الكلام وهو المطلوب، والمعتزلة يقولون بقيام المأخذ فيؤولونه بإيجاد الكلام وهو عدول عن الظاهر واللغة.
قال السيالكوتي:
قوله: (و قيامه يستلزم…إلخ) دفع لما يقال: إن مأخذ الاشتقاق التكلم لا الكلام وإنما الكلام أثره كما أن النقوش الخطية أثر الكتابة، فلا يلزم من ثبوت التكلم ثبوت الكلام ووجه الدفع ظاهر.
قوله: (والمعتزلة…إلخ) أي يقولون بأن ثبوت المشتق يقتضي ثبوت مأخذ الاشتقاق وأن ثبوت المتكلم يقتضي ثبوت التكلم لذاته تعالى لكن قيام التكلم بذاته تعالى لا يستلزم قيام الكلام، فإن معنى التكلم إيجاد الكلام، والقائم بذاته تعالى هو الإيجاد، والكلام عرض موجود في محل آخر، فلا يلزم ثبوت الكلام النفسي، فيه أن المعتزلة غير قائلين بقيام التكلم بمعنى خلق الكلام أيضًا بل إطلاق المتكلم والخالق عليه تعالى عندهم باعتبار معنى حاصل في غيره، قال في شرح مختصر العضدي في مسألة لا يشتق اسم الفاعل لشيء باعتبار معنى حاصل لغيره خلافًا للمعتزلة، قالوا: أطلق الخالق عليه تعالى باعتبار الخلق الذي هو حاصل للمخلوق انتهى كلامه. كيف وهم غير قائلين بالصفات والقيام والثبوت مع أنهم يقولون بأنه تعالى متكلم بمعنى أنه موجد الكلام، وحمل الموجد عليه تعالى لا يوجب قيام المأخذ به تعالى وأيضًا المختار عندهم أن كلامه هو الحروف والأصوات القائمة بذات القارئ والحافظ التي يستحيل بقاؤها، فإيجاد تلك الحروف قائمة بذات الحافظ والقارئ لأن أفعال العباد مخلوقة لهم لا بذاته تأمل.
قوله: (وهو عدول عن الظاهر واللغة) يعني ما قاله المعتزلة من أن معنى التكلم إيجاد الحروف خلاف الظاهر واللغة، فإن المتحرك من قام به الحركة لا من أوجده ولو في محل آخر، بخلاف ما إذا سمعنا قائلا يقول أنا قائم نسميه متكلمًا ولو لم نعلم أنه الموجد لهذا الكلام بل وإن علمنا أن موجده هو الله تعالى لا هو على ما هو رأي أهل الحق.
ليس من جنسِ الحروفِ والأصواتِ.
قال الشارح: (ليس من جنس الحروف والأصوات) ضرورة أنها أعراض حادثة مشروط حدوث بعضها بانقضاء البعض، لأن امتناع التكلم بالحرف الثاني بدون انقضاء الحرف الأول بديهي، وفي هذا رد على الحنابلة والكرامية القائلين بأن كلامه تعالى عرض من جنس الأصوات والحروف، ومع ذلك فهو قديم.
قال الخيالي:
قوله: (و مع ذلك فهو قديم) هذا قول الحنابلة وأما الكرامية فقائلون بحدوثه.
قال السيالكوتي:
قوله: (وأما الكرامية فقائلون بحدوثه) أي قائلون بأن الكلام المركب من الحروف والأصوات حادث قائم بذاته تعالى وهم يسمونه قول الله أما الكلام القديم عندهم فهو القدرة على التكلم على ما مر، قال في شرح المقاصد: لما رأت الكرامية أن بعض الشر أهون من بعض وأن مخالفة الضرورة أشنع من مخالفة الدليل ذهبوا إلى أن المنتظم من الحروف مع حدوثه قائم بذاته تعالى انتهى كلامه. هذا هو المشهور، لكن قال في المواقف في باب التنزيهات: إن الكرامية إنما يقولون بقيام الحادث الذي يحتاج الباري إليه في إيجاد الخلق وهو قوله: كن أو الإرادة على اختلاف بينهم.
وهو صفةٌ منافيةٌ للسكوتِ والآفةِ. والله تعالى متكلمٌ بها آمرٌ ناهٍ مخبِرٌ.
قال الشارح: (وهو) أي: الكلام (صفة) أي: معنى قائم بالذات (منافية للسكوت) الذي هو ترك التكلم مع القدرة عليه، (والآفة) التي هي عدم مطاوعة الآلات إما بحسب الفطرة كما في الخرس أو بحسب ضعفها وعدم بلوغها حد القوة كما في الطفولية. فإن قيل: هذا الكلام إنما يصدق على الكلام اللفظي دون الكلام النفسي، إذ السكوت والخرس إنما ينافي التلفظ. قلنا: المراد السكوت والآفة الباطنيان، بأن لا يريد في نفسه التكلم أو لا يقدر على ذلك، فكما أن الكلام لفظي ونفسي فكذا ضده؛ أعني: السكوت والخرس. (والله تعالى متكلم بها آمر ناه مخبر) يعني أنه صفة واحدة تتكثر إلى الأمر والنهي والخبر، باختلاف التعلقات كالعلم والقدرة وسائر الصفات، فإن كلاً منهما صفة واحدة قديمة, والتكثر والحدوث إنما هو في التعلقات والإضافات، لما أن ذلك أليق بكمال التوحيد، ولأنه دليل على تكثر كل منها في نفسها. فإن قيل: هذه الأقسام للكلام لا يعقل وجوده بدونها. قلنا: إنه ممنوع، بل إنما يصير أحد تلك الأقسام عند التعلقات، وذلك فيما لا يزال، وأما في الأزل فلا انقسام أصلاً. وذهب بعضهم إلى أنه في الأزل خبر، ومرجع الكل إليه، لأن حاصل الأمر إخبار عن استحقاق الثواب على الفعل والعقاب على الترك والنهي على العكس، وحاصل الاستخبار الخبر عن طلب الإعلام، وحاصل النداء الخبر عن طلب الإجابة. ورد بأنا نعلم اختلاف هذه المعاني بالضرورة واستلزام البعض للبعض لا يوجب الاتحاد.
قال الخيالي:
قوله: (و ذلك فيما لا يزال) هذا مذهب بعض الأشاعرة والجواب الحق أن عدم وجوده بدونها إنما هو بحسب التعلقات الأزلية وهو لا ينافي وحدة الصفة كالعلم الذي له كثرة بحسب تعلقاته واعترض على مذهب حدوث بأن وجود جنس الكلام بدون الأنواع محال وأجيب بأن ذلك في الجنس والنوع الحقيقيين والكلام صفة شخصية يعتبر تكثرها بحسب تعلقاتها.
قوله: (بأنا نعلم اختلاف هذه المعاني) فإن الأمر من حيث هو غير الخبر بخلاف الكلام لأنه كلام مخصوص ونظيره أن زيدا من حيث هو عالم يصدق عليه أنه زيد ولا يصدق عليه أنه زيد من حيث هو كاتب.
قوله: (و استلزام البعض للبعض لا يوجب الاتحاد) ولو سلم فجعل البعض راجعا إلى آخر ليس أولى من عكسه ولا شك في وجود نوع الاستلزام بين الكل.
قال السيالكوتي:
قوله: (هذا مذهب بعض الأشاعرة) وهو عبد الله بي سعيد القطان وجماعة من المتقدمين قالوا: إن كلامه تعالى صفة واحدة لا تعد فيه أصلًا، إنما التعدد بحسب التعلقات الحادثة بحسب حدوث المتعلقات.
قوله: (وذلك فيما لا يزال) قيل: يرد عليه أنه إذا كان الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي لزم ان يكون متعددًا كتعدد اللفظي، ومن ثمة ذهب الجمهور إلى أزلية التعلقات، أقول: هذا إنما يلزم لو كان دلالة اللفظي عليه دلالة الموضوع على الموضوع له، وليس كذلك عندهم بل هو دلالة الأثر على المؤثر، ولا يلزم من تعددالأثر تعدد المؤثر.
قوله: (والجواب حق) أي الجواب الحق المطابق لمذهب الجمهور أن عدم جواز وجود الكلام بدون التعلقات في الأزل لا ينافي أن يكون ذلك صفة واحدة حقيقية غير متكثرة بحسب الذات، فإن التكثر بحسب التعلقات والإضافات لا يوجب التكثر بحسب الذات، وإنما كان هذا الجواب حقًّا لعدم الاحتياج فيه إلى القول بأن دلالة اللفظي عليه دلالة الأثر على المؤثر الذي هو خلاف الظاهر
قوله: (واعترض على مذهب الحدوث…إلخ) نقل عنه في الحاشية هذا الاعتراض ليس بمختص بمذهب الحدوث، فلا وجه للاختصاص وهو الذي ذكره الشارح مع جوابه، فلا وجه لإيراده اللهم إلا أن يراد تلخيص السؤال والجواب، وحينئذ يرد الأول انتهى كلامه. يعني أن هذا الاعتراض وارد على مذهب الجمهور القائلين بأن تعلقات الكلام أزلية بأن يقال: كيف يكن صفة الكلام في نفسها غير أمر ولا نهي ولا خبر ولا يمكن وجود العام إلا في ضمن الخاص؟ فلا وجه لتخصيصه بمذهب الحدوث، وأجيب عنه بأنه أورد السؤال عليه كما وقع فيما بينهم على ابن سعيد حيث جعل حدوث الأقسام فيما لا يزال، ولو جعل التعلق أزليًّا يعرف منه إيراد السؤال عليه، والجواب عنه بالمقايسة، ومنشأ الاعتراض اشتباه النفسى بالكلام اللفظي فإن اللفظي لا يخرج عن هذه الأقسام ولا يوجد بدونها، فكذا النفسي، وإلا فجعل الأقسام أنواعًا لصفة شخصية مما لا يقدم عليه أحد.
قوله: ( فإن الأمر من حيث هو أمر…إلخ) يعني أن الأمر الذي هو الطلب بطريق الاستعلاء من هو حيث كذلك غير الخبر الذي هو الإعلام عن وقوع نسبة أو عدم وقوعها من حيث هو كذلك يدل على ذلك اختلاف لوازمهما، فإن الأول غير محتمل للصدق والكذب بخلاف الثاني.
قوله: (بخلاف إلكلام) دفع لما عسى أن يقال: إنه إذا كان الأمر من حيث هو مغايرًا للخبر يلزم أن يكون مغايرًا للكلام لأنه عين الخبر على ما قلتم من أنه صفة واحدة شخصية لا تكثر فيه بحسب الذات بل بحسب التعلقات، فيلزمكم أن لا تقولوا بانقسام الكلام إلى الأنواع المذكورة في الأزل كما لزم لمن جعله في الأزل خبرًا، وحاصل الدفع أنه لا يلزم من مغايرته للخبر مغايرته للكلام، فإن الأمر من حيث هو كلام مخصوص يعني أنه هو ذلك الصفة الشخصية لأنه حصل له خصوصية باعتبار تعلقه بالمأمور به، وهو لا يخرجه عن كونه ذلك الشخص، نعم يخرجه عن كونه متصفًا بحيثية أخرى من كونه خبرًا أو نهيًا أو استفهامًا أ نداءً، ونظيره أن زيدًا من حيث هو عالم يصدق عليه أنه زيد ولا يخرج بهذا الاعتبار عن كونه زيدًا، ولا يصدق عليه بذلك الاعتبار أنه زيد من حيثية أخرى كحيثيةكونه كاتبًا، والسر في ذلك أن هذه إضافات عارضة له غير داخلة في هويته، فلا يخرج يهذا الاعتبارات عن كونه ذلك الشخص، نعم إن هذه التعلقات والإضافات متباينة، فلا يصدق بعضها حين صدق البعض الآخر *قال الفاضل الجلبي: يرد عليه أن هذا لو تم لدل على كلية مسمى لفظ زيد، ألا يرى أنه يصدق على كثيرين مختلفين بالعدد كزيد من حيث هو كاتب ومن حيث هو عالم ومن حيث هو قائم إلى غير ذلك من الاعتبارات التي لا يكاد أن تنتهي، ولا يخفى أنه ليس بشيء لأن الصدق المعتبر في مفهوم الكلي المقول على كثيرين مختلفن بالعدد أن يكون مقولًا في جواب ما هو بمعنى أنه لو سئل عنها بما هي يقع لك الكلي جوابًا عنه لا أن يكون محمولًا عليها، ولا شك أنه لو سئل أن زيدًا الكاتب والقائم والنائم ما هم؟ يقال في جوابه: إنه إنسان لا إنه زيد على ما بين في موضعه.
قوله: (لا يوجب الاتحاد) وإلا لزم اتحاد بين كل أمرين بينهما ملازمة، وذلك بديهي البطلان.
قوله: (ولو سلم فجعل البعض…إلخ) أي ولو سلم أن الاستلزام يوجب الاتحاد، فجعل الأمر والنهي والاستفهام والنداء راجعًا إلى الخبر ليس أولى من عكسه، إذ لا شك في وجود وقوع الاستلزام بين الكل إذا ما من خبر إلا ويستلزم الأمر بالعلم بمضمونه والنهي عن العلم بخلافه وطلب الإقبال عليه كما لا يخفى، وبهذا ظهر فساد ما قال الفاضل الجلبي: إن استلزم الأخبار للإنسانية غير بين ولا مبين، ولوادعي مجرد الجواز والإمكان فهو غير مفيد، وقد يقال في وجه الترجيح: كل طلب في الكلام اللفظي يحصل بتصرف في الكلام الخبري، فإن قولنا: اضرب حصل بالتصرف في تضرب على ما بين في الصرف، فيكون الخبر أصلًا في اللفظي، فكذا في النفسي، وأنت خبير بأن هذا ظن لا يفيد الجزم على أن الرجوع في اللفظي أيضًا غير متيقن.
قال الشارح: فإن قيل: الأمر والنهي بلا مأمور ولا منهي سفه وعبث، والإخبار في الأزل بطريق المضي كذب محض يجب تنزيه الله تعالى عنه. قلنا: إن لم يجعل كلامه في الأزل أمراً ونهياً وخبراً فلا إشكال، وإن جعلناه فالأمر في الأزل لإيجاب تحصيل المأمور في علم الآمر، كما إذا قدر الرجل ابناً له فأمره بأن يفعل كذا بعد الوجود. والإخبار بالنسبة إلى الأزل لا يتصف بشيء من الأزمنة إذ لا ماضي ولا مستقبل ولا حال بالنسبة إلى الله تعالى، لتنزيهه عن الزمان، كما أن علمه أزلي لا يتغير بتغير الأزمان.
قال الخيالي:
قوله: (كما إذا قدر الرجل…إلخ) اعترض عليه بأن فيه عزما على الطلب وأما حقيقة فلا شك في كونها سفها، لا يقال يلزم منه أن لا يـأمرنا النبي عليه السلام بشيء أصلا وأنه قطعي البطلان لأنا نقول فرق بين الأمر الصريح والضمني والسفه هو الأمر الصريح للمعدوم.
قال السيالكوتي:
قوله: (اعترض عليه بأن فيه…إلخ) أي أن المتحقق في صورة تصور الرجل الابن وأمره بشيء هو العزم على الطلب وتخيله وهو ممكن، وإما نفس الطلب، فلا شك في كونه سفهًا، بل قيل: هو محال لأن وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال، كذا في شرح المواقف. وفيه أنه إنما يكون محالًا إذا طلب منه أن يأتي بالفعل حال عدمه، وأما إذا طلب أن يأتي به بعد وجوده فلا *قيل: فالحق أن نفس الطلب من المعدوم، وإن كان المطلوب الإتيان حال الموجود محل إشكال، إذ المعدوم ليس بشيء فهو غير فاهم للخطاب، فلا بد للطلب وإن كان المقصود الإتيان حال الوجود من فهم الخطاب.
قوله: (لا يقال يلزم منه أن لا يأمرنا النبي عليه السلام…إلخ) يعني أن ما ذكرت من أن في الصورة المذكورة العزم على الطلب يقتضي أن لا يأمرنا النبي عليه السلام بشيء ولا ينهانا بشيء بل عزم على الأمر والنهي بالنسبة إلينا وأنه قطعي البطلان ضرورة أن خطاب النبي عليه السلام عام لكل مكلف يولد إلى يوم القيامة، ولذا وجب الامتثال واختصاص خطاباته بأهل عصره وثبوت الحكم فيمن عداهم بطريق بعيد جدًا.
قوله: (لأنا نقول فرق بين الأمر الصريح) يعني أن خطاباته عليه السلام للحاضرين بالقصد والصراحة وللغائبين بالتبع والضمن والخطاب للمعدوم ضمنًا وتبعًا ليس سفهًا.
والقرءانُ كلامُ الله تعالى غيرُ مخلوقٍ.
قال الشارح: ولما صرح بأزلية الكلام حاول النبيه على أن القرآن أيضاً قد يطلق على هذا الكلام النفسي القديم كما يطلق على النظم المتلو الحادث فقال: (والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق) وعقب القرآن بكلام الله لما ذكره المشايخ من أنه يقال: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، ولا يقال: القرآن غير مخلوق، لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه الحنابلة جهلاً أو عناداً.
وأقام غير المخلوق مقام غير الحادث تنبيهاً على اتحادهما، وقصداً إلى جري الكلام على وفق الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق”
قال الخيالي:
قوله: (لئلا يسبق إلى الفهم…إلخ) فإن القرآن شائع الاستعمال في اللفظ وكلام الله تعالى بالعكس، وأيضا فيه تنبيه على الترادف.
قال السيالكوتي:
قوله: (فإن القرآن…إلخ) يعني أن إطلاق لفظ القرآن شائع على ذلك المؤلف عند أهل اللغة والقراء وعلماء أصول الفقه بخلاف كلام الله تعالى فإنه وإن كان كالقران مشتركًا بين اللفظي والنفسي لكن المتبادر منه ولو في عرف أهل السنة والجماعة هو النفسي، وقيل: وجه سبق الذهن من القرآن إلى هذا المؤلف أن القرآن يشعر بالقراآت المتعلقة باللفظ دون المعنى.
قوله: (وأيضًا فيه تنبيه على الترادف) أي في ذكر الكلام بعد القرآن تنبيه على ترادفهما كما يقال: الإنسان البشر ضاحك، ولا يخفى أن التنبيه إنما يحصل لأن قوله: كلام الله عطف بيان لقوله: والقرآن، فإنه حينئذ يكون متحدًا معه في المفهوم وأورد لتوضيحه لا بدل لأن المقصود هو الحكم على القرآن بأنه غير مخلوق لا على كلام الله.
قال الشارح: ومن قال: “إنه مخلوق” فهو كافر بالله العظيم، وتنصيصاً على محل الخلاف بالعبارة المشهورة فيما بين الفريقين، وهو أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، ولهذا تترجم المسألة بمسألة خلق القرآن. وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم يرجع إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه، وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف، وهم لا يقولون بحدوث كلام نفسي. ودليلنا ما مر أنه ثبت بالإجماع وتواتر النقل عن الأنبياء صلوات الله عليهم أنه متكلم، ولا معنى له سوى أنه متصف بالكلام ويمتنع قيام اللفظي الحادث بذاته تعالى، فتعين النفسي القديم. وأما استدلالهم بأن القرآن متصف بما هو من صفات المخلوق وسمات الحدوث من التأليف والتنظيم والإنزال والتنزيل وكونه عربياً مسموعاً فصيحاً معجزاً إلى غير ذلك، فإنما يكون حجة على الحنابلة لا علينا، لأنا قائلون بحدوث النظم، وإنما الكلام في المعنى القديم، والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلماً ذهبوا إلى أنه متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محلها أو إيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ وإن لم يقرأ، على اختلاف بينهم. وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة، لا من أوجدها، وإلا لصح اتصاف الباري بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علواً كبيراً. ومن أقوى شبه المعتزلة أنكم متفقون على أن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواتراً، وهذا يستلزم كونه مكتوباً في المصاحف مقروءاً بالألسن، مسموعاً بالآذان، وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة.
قال الخيالي:
قوله: (وأنت خبير بأن المتحرك) يعني أن قولهم يخالف قاعدة اللغة وقد ثبت الكلام النفسي فلا ضرورة في العدل، فقوله وإلا لصح اتصاف الباري تعالى يريد به الصحة بحسب اللغة.
قال السيالكوتي:
قوله: (وقد ثبت الكلام النفسي…إلخ) دفع لما يقال: إنه إذا كان النقل مخالفًا للعقل يجب صرفه عن الظاهر وههنا كذلك، فإنه لوحمل المتكلم على من ثبت له الكلام يلزم قيام الحوادث بذاته تعالى إذ لا معنى للكلام إلا المركب من الأصوات والحروف المشروطة وجود البعض بانتفاء البعض الآخر، وحاصل الدفع أنه قد ثبت الكلام النفسي الذي ليس فيه شائبة الحدوث، فلا حاجة لنا إلى العدول عن الظاهر وحمل المتكلم على موجد الحروف والأصوات.
قوله: (يريد به الصحة بحسب اللغة…إلخ) دفع لما يقال من أن اتصافه تعالى بالأعراض بمعنى الايجاد صحيح، وإنما لم يطلق عليه تعالى لإيهامه معنى الاتصاف والقيام والتحيز وما يوهم الفساد إطلاقه موقوف على إذن الشرع عند المعتزلة بخلاف المتكلم إذ قد ورد به الشرع، وحاصل الدفع أن المراد أنه يصح وصف الباري تعالى بالمشتق من الأعراض المخلوقة له بحسب اللغة بأن يقال: إن الله تعالى أسود وأبيض ومتحرك ومتجسم ومتحيز إلى غير ذلك، ولا شك أنه غير صحيح بحسب اللغة، ألا يرى أنه لا يصح أن يقال لمن ألقى الحجر وأوجد الحركة فيه على ما هو رأي المعتزلة: إن ذلك الشخص متحرك.
وهو مكتوبٌ في مصاحِفِنا، محفوظٌ في قلوبِنا، مقروءٌ بألسنتِنا، مسموعٌ بآذانِنا، غيرُ حالّ فيها.
قال الشارح: فأشار إلى الجواب بقوله: (وهو) أي القرآن الذي هو كلام الله تعالى (مكتوب في مصاحفنا) أي بأشكال الكتابة وصور الحروف الدالة عليه (محفوظ في قلوبنا) أي بالألفاظ المخيلة (مقروء بألسنتنا) بالحروف الملفوظة المسموعة (مسموع بآذاننا) بذلك أيضاً (غير حال فيها) أي مع ذلك ليس حالاً في المصاحف ولا في القلوب والألسنة والآذان، بل هو معنى قديم قائم بذات الله، يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه، ويحفظ بالنظم المخيل ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف الدالة عليه، كما يقال: النار جوهر محرق، تذكر باللفظ وتكتب بالقلم، ولا يلزم منه كون حقيقة النار صوتاً وحرفاً. وتحقيقه أن للشيء وجوداً في الأعيان، ووجوداً في الأذهان، ووجوداً في العبارة، ووجوداً في الكتابة، والكتابة تدل على العبارة، وهي على ما في الأذهان، وهو على ما في الأعيان، فحيث يوصف القرآن بما هو من لوازم القديم كما في قولنا: القرآن غير مخلوق، فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج، وحيث يوصف بما هو من لوازم المخلوقات والمحدثات. يراد به الألفاظ المنطوقة المسموعة كما في قولنا: قرأت نصف القرآن، أو المخيلة كما في قولنا: حفظت القرآن، أو الأشكال المنقوشة كما في قولنا: يحرم للمحدث مس القرآن.ولما كان دليل الأحكام الشرعية هو اللفظ دون المعنى القديم عرفه أئمة الأصول بالمكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر، وجعلوه اسماً للنظم والمعنى جميعاً، أي للنظم من حيث الدلالة على المعنى لا بمجرد المعنى.
قال الخيالي:
قوله: (فالمراد به الألفاظ المنطوقة…إلخ) يرد عليه أن هذا جواب آخر لا تحقيق جواب المصنف والتفصيل أنه لما تمسك المعتزلة بأن القرآن مكتوب محفوظ فيكون حادثا أجيب عنه تارة بأن وصفه بالكتابة مجاز من باب وصف المدلول بصفة الدال وأخرى بأن الموصوف هو اللفظ وقد يطلق القرآن بالاشتراك أو المجاز المشهور على اللفظ أيضا ولا يلزم منه حدوث المعنى فتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أن هذا…إلخ) يعني أن الظاهر المتبادر من قوله: و إذا وصف بما هو من لوازم القديم يراد به حقيقته الموجودة، و إذا وصف بما هو من لوازم المحدثات يراد به الألفاظ المنطوقة أن القران يطلق بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز على المعنيين النفسي واللفظي، فإذا وصف بما هو من لوازم القديم يراد به النفسي، وإذا وصف بما هو من لوازم المحدثات يراد به اللفظي أو المتخيل أو الأشكال، ويرد عليه أن المقصود تحقيق جواب المصنف على ما يدل عليه قوله: وتحقيقه، وهذا جواب آخر لا تحقيق جواب المصنف لأن حاصل جواب المصنف أن القران بمعنى الكلام النفسي يوصف بكونه مكتوبًا ومقروءًا ومحفوظًا ومسموعًا باعتبار وجوده في الكتابة والعبارة والذهن، فهي أوصاف له باعتبار الأمور الدالة عليه لا باعتبار حقيقته بل من قبيل الأوصاف التي جرت على غير ما هي له كما يقال: زيد مقروء ومسموع ومحفوظ باعتبار وجوداته الأربعة، وحاصل جواب الشارح أن الموصوف بهذه الأوصاف اللفظي الحادث دون النفسي القديم، و إنما قلنا: إن الظاهر المتبادر من قوله: وإذا وصف إلخ لأنه يمكن توجيهه بحيث يكون تحقيقًا لجواب المصنف بأن يقال معنى قوله: يراد به حقيقته الموجودة أن الملحوظ في هذه الصورة ذاته الموجودة في الخارج من غير ملاحظة أمر يدل عليه، إذ هو من قبيل وصف الشيء بما هو حاله حقيقة بخلاف ما إذا وصف بما هو من لوازم المحدثات إذ لا بد فيه من ملاحظة ما هو يدل عليه حتى يظهر صحة الوصف به لعلاقة الدالية والمدلولية، فعلى هذا معنى قوله: يراد به الألفاظ المنطوقة يراد به حقيقته من حيث يلاحظ معه الألفاظ المنطوقة أو المخيلة أو الأشكال المنقوشة، فحينئذ يكون تحقيقًا لجواب المصنف كما لا يخفى، قال الفاضل المحشي: هذا إنما يرد لو كان معنى قول الشارح: وتحقيقه تحقيق جواب المصنف وليس كذلك، بل هو جواب آخر لأن جواب المصنف لما كان بعيدًا خلاف الظاهر عدل الشارح عه فقال: وتحقيقه أي تحقيق الجواب انتهى. ولا يخفى عليك أنه لو كان مقصود الشارح إيراد جواب آخر عن شبهة المعتزلة فلا معنى لإيراد قوله: إن للشيء وجودًا في الأعيان إلخ بل الواجب حينئذ أن يقول: وتحقيقه أن القرآن يطلق على معنيين الكلام النفسي واللفظي فحيث يوصف بما هو من لوازم القديم يراد به إلخ ولله در من فسر قوله: وتحقيقه أي حقيق جواب المصنف لا تحقيق جواب آخر تأمل في هذا المقام فإنه من مزالق الأقدام.
قوله: (والتفصيل أنه لما تمسكت…إلخ) يعني في تفصيل الكلام في أن هذا جواب آخر لا تحقيق جواب المصنف أن المعتزلة لما تمسكوا بأن القرآن متصف بالأوصاف التي هي من سمات الحدوث فيكون حادثًا أجيب عنه تارة بأن وصفه الأوصاف المذكورة ليس باعتبار حقيقته حتى يلزم حدوثه بل هو مجاز عقلي من قبيل وصف المدلول بصفة الدال كما يقال سمعت هذا المعنى من فلان وقرأته في بعض الكتب وكتبته بيدي، وهذا حاصل جواب المصنف، وأجيب عنه تارة أخرى بأن الموصوف بهذه الأوصاف هو اللفظ وهو حادث عندنا، وإنما القديم هو النفسي وهو غير متصف بهذه الأوصاف، والقرآن يطلق عليهما إما بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز، هذا حاصل ما قرره الشارح بقوله: فحيث يوصف إلخ.
قال الشارح: وأما الكلام القديم الذي هو صفة الله تعالى فذهب الأشعري إلى أنه يجوز أن يسمع، ومنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وهو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه الله، فمعنى قوله تعالى: ﱡﭐ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﱠ يسمع ما يدل عليه، كما يقال: سمعت علم فلان، فموسى عليه السلام سمع صوتاً دالاً على كلام الله تعالى، لكن لما كان بلا واسطة الكتاب والملك خص باسم الكليم.
قال الخيالي:
قوله: (خص باسم الكليم) وقال بعضهم خص به لما سمعه من جميع الجهات على خلاف المعتاد.
قال السيالكوتي:
قوله: (وقال بعضهم…إلخ) أي قال بعض من لم يجوز سماع الكلام النفسي في وجه تخصيص موسى عليه السلام بالكليم أنه لما سمع كلامه تعالى من جميع الجهات على خلاف ما هو المعتاد خص به ولا يخفى أن هذا الوجه مندرج في عبارة الشارح، فإن معنى قوله فسمع موسى صوتًا دالًّا على كلام الله تعالى بلا واسطة الملك والكتاب سواء كان من جانب واحد لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا أو من جميع الجهات، وكلاهما خرق للعادة، وإنما قلنا: عند من لم يجوز سماع الكلام النفسي لأن من جوز سماعه كالشيخ الأشعري والإمام الغزالي فهو يقول خص به لأنه سمع كلامه الأزلي بلا حرف ولا صوت كما يرى ذاته في الآخرة بلا كم وكيف، وهم يجوزون تعلق الرؤية والسماع بكل موجود حتى الذات والصفات.
قال الشارح: فإن قيل: لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازاً في النظم المؤلف لصح نفيه عنه، بأن يقال: ليس النظم المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله تعالى، والإجماع على خلافه. وأيضاً: المعجز المتحدى به هو كلام الله تعالى حقيقة مع القطع بأن ذلك إنما يتصور في النظم المؤلف المفصل إلى السور، إذ لا معنى لمعارضة الصفة القديمة. قلنا: التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم ومعنى الإضافة أنه مخلوق الله تعالى، ليس من تأليفات المخلوقين، فلا يصح النفي أصلاً، ولا يكون الإعجاز والتحدي إلا في كلام الله تعالى، وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أنه مجاز فليس معناه أنه غير موضوع للنظم المؤلف، بل معناه أن الكلام في التحقيق وبالذات اسم للمعنى القائم بالنفس، وتسمية اللفظ به ووضعه لذلك إنما هو باعتبار دلالته على المعنى، فلا نزاع لهم في الوضع والتسمية.
قال الخيالي:
قوله: (إنما هو باعتبار دلالته) قيل اعتبار العلاقة يشعر بكونه منقولا لا مشتركا ويكون أيضا مجازا في المنقول عنه وهو باطل وجوابه أن النقل هجر المعنى الأول واعتبار العلاقة لا يقتضيه، وقد يجاب بأن اعتبار العلاقة لا يقتضى تأخر الوضع حتى يكون منقولا وفيه أن إثبات عدم ترتب الوضع في الكلامين مشكل لا ضرورة في التزامه.
قال السيالكوتي:
قوله: (قيل اعتبار العلاقة…إلخ) يعني أن قوله باعتبار دلالته عليه يدل على أن إطلاق كلام الله على اللفظي لعلاقة دلالته عليه واعتبار العلاقة يشعربكونه منقولًا لا مشتركًا لأن المشتر ك هو الذي يكون معناه متعددًا ولم يتخلل بينهما النقل مع أن المدعى أن كلام الله اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم واللفظي الحادث، ويلزم أيضًا أن يكون استعمال الكلام مجازًا في المنقول عنه أعني في الكلام النفسي بالنسبة إلى الناقل لأن اللفظ المنقول حقيقة في المنقول إليه مجاز في المنقول عنه بالقياس إلى الواضع الثاني الذي هو الناقل على ما بين في محله، وهذا باطل لأنه لو كان مجازًا في النفسي لصح نفيه عنه بأن يقال ليس المعنى القديم كلام الله تعالى وهو محال عندكم.
قوله: (وجوابه…إلخ) يعني أن النقل المعتبر في المنقول هو هجر المعنى الأول وتركه حتى لا يفهم بلا قرينة، واعتبار العلاقة لا يقتضي أن يكون المعنى الأول مهجورًا، فإنه يجوز أن يكون اللفظ موضوعًا بالاشتراك لمعنيين بينما علاقة مع عدم النقل والهجر كالإمكان للإمكان العام والخاص، وفيما نحن فيه كذلك فإن إطلاق الكلام على النفسي شائع فيما بينهم فيكون مشتركًا لا منقولًا، وإنما قلنا: النقل المعتبر في المنقول لأن في المجاز أيضًا نقلًا لكن مع عدم هجر المعنى الأول، قال الفاضل الجلبي: يرد عليه أنا لا نسلم أن الهجر معتبر في النقل بل المعتبر فيه كما حققه الشارح في التهذيب هو اشتهار اللفظ في المعنى الثاني حيث قال: إن تعدد مسمى اللفظ فإن وضع للكل فمشترك وإلا فإن اشتهر في الثاني فمنقول ينسب إلى الناقل، وإلا فحقيقة ومجاز انتهى كلامه. أقول: المراد من الاشتهار هو الاشتهار في المعنى الثاني بحيث يكون الأول مهجورًا على ما فسر شارحه به، كيف ولو كان مطلق الاشتهار كافيًا في النقل لزم أن يكون اللفظ الذي اشتهر في المعنى المجازي منقولًا؟ قال في التلويح: إن اللفظ إذا تعدد مفهومه فإن لم يتخلل بينهما نقل فهو المشترك وإن تخلل فإن لم يكن النقل لمناسبة فمرتجل، فإن كان لمناسبة فإن هجر المعنى الأول فمنقول وإلا ففي الأول حقيقة وفي الثاني مجاز، وأيضًا في شرح المطالع: وإن كان معنى اللفظ متعددًا فإما أن يتخلل بينهما نقل أو لا، فإن تخلل فأما أن يكون ذلك لمناسبة، فإن هجر الوضع الأول يسمى منقولًا شرعيًّا أو عرفيًّا أو اصطلاحيًّا على اختلاف الناقلين، وإن لم يهجر المعنى الأول يسمى بالنسبة إلى المعنى الأول حقيقة وإلى الثاني مجازًا، وكتب القوم مملوءة من هذا البيان لا حاجة إلى النقل والإتيان، قال: ولو سلم فنقول هذا لا ينافي إلا كونه منقولًا، وبمجرد ذلك لا يتم الجواب عن السؤال المذكور لأن لزوم المحال لا يكون مخصوصًا بكونه منقولًا بل مع كونه مجاًزا في المعنى الأول يلزم المحال أيضًا كما تقرر في السؤال، ولا خفاء في أن الهجر عن المعنى الأصلي غير معتبر في المجاز بل عدم الهجر معتبر فيه، لا يقال: لفظ الوضع في قول الشارح ووضعه لذلك مشعر باعتبار الوضع في المعنى الثاني، واعتبار الوضع ينافي كونه مجازًا إذ لا وضع في المجاز لأنا نقول: تحقق نوع وضع للمعنى الثاني بواسطة ملاحظة المناسبة بينه وبين المعنى الأول مع عدم ترك الأول لا ينفي كونه مجازًا بالنسبة إلى المعنى الثاني، وحقيقة بالنسبة إلى المعنى الأول، ولفظ الكلام على تقرير الشارح كذلك فيلزم المفسدة انتهى. أقول: كون لفظ الكلام كذلك على تقرير الشارح ممنوع، إذ معنى قوله ووضعه لذلك باعتبار دلالته أن تعيين لفظ الكلام لتلك الألفاظ لعلاقة الدالية والمدلولية، ولا شك أنه وضع شخصي لكون كل من الموضوع والموضوع له معينًا وهو غير متحقق في المجاز، وإلا لم يبق فرق بينه وبين الحقيقة، بل المتحقق فيه الوضع النوعي بمعنى أن الواضع وضع مثلًا أنه يجوز إطلاق لفظ الدال والمدلول والكل على الجزء واللازم على الملزوم إذا وجد القرائن يرشدك إلى ذلك تتبع كتب المعاني والأصول، قال الفاضل المحشي: والحق أن اعتبار العلاقة يقتضي كونه منقولًا لا مشتركًا على ما هو المشهور، قال في التلويح: لما تعذر الاطلاع على أن الناقل هل اعتبر العلاقة أم لا اعتبروا الأمر الظاهر وهو وجود العلاقة وعدمها فجعلوا الأول منقولًا والثاني مرتجلًا، فلزم في المرتجل عدم العلاقة وفي المنقول وجود العلاقة انتهى كلامه. أقول: ادعاء أن اقتضاء العلاقة كونه منقولًا مشهورًا افتراء محض ليس في الكتب المشهورة شائبة من ذلك، وما نقل من التلويح إنما يدل على أن وجود العلاقة معتبر في المنقول، وعدم وجودها معتبر في المرتجل، وأما أن وجودها يستلزم كونه منقولًا فلا، كيف ولو كان مجرد العلاقة كافيًا في النقل لزم أن يكون اللقظ المستعمل في المعنى المجازي منقولًا لتحقق العلاقة فيه كما لا يخفى؟ تأمل في هذا المقام، فإنه قد خبط فيه أولوا الأفهام.
قوله: (وقد يجاب بأن اعتبار العلاقة…إلخ) أي قد يجاب عن الاعتراض المذكور أن تاخر الوضع الثاني معتبر في المنقول على ما هو مقتضى النقل ومجرد اعتبار العلاقة لا يقتضي أن يكون الوضع الثاني متأخرًا عن الوضع الأول حتى يكون لفظ الكلام مجازًا في اللفظي لجواز أن يعتبر الواضع العلاقة بين المعنيين ويضع لهما معًا لفظًا واحدًا، فيكون مشتركًا لا منقولًا كما لا يخفى.
قوله: (فيه أن إثبات عدم ترتب الوضع…إلخ) يعني في الجواب المذكور نظر لأن المعترض لما كان مانعًا لثبوت الاشتراك الذي ادعاه الشارح بقوله: إن كلام الله اسم مشترك إلخ كان المجيب بقوله: وقد يجاب مثبتًا للاشتراك فلا بد له من إثبات عدم ترتب الوضعين وأن الوضع الثاني غير متأخر عن الوضع الأول لكن إثبات ذلك مشكل دونه خرط القتاد، ولا ضرورة في التزامه لوجود الجواب الذي لا تكلف فيه، وبما حررنا لك اندفع ما قال الفاضل المحشي: إن المجيب مانع لعدم تحقق الاشتراك فيكفيه الجواز ولا حاجة إلى التزام إثباته تأمل.
قال الشارح: وذهب بعض المحققين إلى أن المعنى في قول مشايخنا: كلام الله تعالى معنى قديم، ليس في مقابلة اللفظ حتى يراد به مدلول اللفظ ومفهومه، بل في مقابلة العين، والمراد به ما لا يقوم بذاته كسائر الصفات.ومرادهم أن القرآن اسم للفظ والمعنى شامل لهما، وهو قديم لا كما زعمت الحنابلة من قدم النظم المؤلف المرتب الأجزاء، فإنه بديهي الاستحالة، للقطع بأنه لا يمكن التلفظ بالسين من ” بسم الله ” إلا بعد التلفظ بالباء، بل معنى أن اللفظ القائم بالنفس ليس مرتب الأجزاء في نفسه كالقائم بنفس الحافظ من غير ترتب الأجزاء، وتقدم البعض على البعض، والترتب إنما يحصل في التلفظ والقراءة لعدم مساعدة الآلة، وهذا هو معنى قولهم: المقروء قديم والقراءة حادثة، وأما القائم بذات الله تعالى فلا ترتب فيه، حتى أن من سمع كلامه تعالى سمعه غير مرتب الأجزاء لعدم احتياجه إلى الآلة، هذا حاصل كلامهم. وهو جيد لمن تعقل لفظاً قائماً بالنفس غير مؤلف من الحروف المنطوقة أو المخيلة المشروط وجود بعضها بعدم البعض، ولا من الأشكال المرتبة الدالة عليه، ونحن لا نتعقل من قيام الكلام بنفس الحافظ إلا كون صور الحروف مخزونة مرتسمة في خياله، بحيث إذا التفت إليها كان كلاماً مؤلفاً من ألفاظ مخيلة أو نقوش مرتبة، وإذا تلفظ كان كلاماً مسموعاً.
قال الخيالي:
قوله: (اسم للفظ والمعنى شامل لهما وهو قديم) ويرد عليه أن كلام الله إن كان اسما لذلك الشخص القائم بذاته تعالى يلزم أن لا يكون ما قرأناه كلامه تعالى بل مثله، وفيه نظر للقطع بأن ما يقرؤه كل واحد منا هو القرآن المنزل على النبي عليه السلام بلسان جبرائيل عليه السلام وإن كان اسما للنوع القائم به يلزم أن يكون إطلاقه على ذلك الشخص بخصوصه مجازا فيصح نفيه عنه حقيقة وإن جعل من قبيل كون الموضوع له خاصا والوضع عاما يلزم أن يوصف كلامه تعالى بالحدوث أيضا حقيقة ولا مخلص إلا بأن يجعل مشتركا بين النوع وذلك الفرد الخاص.
قوله: (ليس مرتب الأجزاء في نفسه) يشكل الفرق حينئذ بين قيام ملع ولمع ونظائرهما إذ لا فرق إلا بترتب الأجزاء.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه أن كلام…إلخ) يعني إن أراد بقوله اسم اللفظ والمعنى أنه اسم لذلك الشخص القائم بذاته تعالى يلزم أن لا يكون ما قرأناه بل ما أنزل على النبي عليه السلام كلامًا ضرورة أنه ليس ذلك الشخص، فإن الأعراض تتشخص بتشخص المحل، وأنه باطل للقطع بأن ما نقرؤه هو القرآن المنزل على النبي عليه السلام المتحدى به بأقصر سورة حتي يكفر منكر كونه كلامه تعالى، وإن أراد به أنه اسم للنوع القائم بذاته أعني الألفاظ المخصوصة مع قطع النظر عن خصوصية المحل يلزم أن يكون إطلاقه على الشخص القائم بذاته تعالى من حيث خصوصيته وشخصيته مجازًا لكونه استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذ لم يوضع اللفظ لذلك الشخص بخصوصه، فيصح نفي كلام الله عن الشخص القائم بذاته حقيقة كما يصح أن يقال: زيد ليس بأسد وهو ظاهر البطلان، وإنما قيد بخصوصه لأن إطلاق العام على الخاص لا بخصوصه بل باعتبار عمومه، وكونه فردًا من أفراده حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له على ما بين في شرح التلخيص، وفيه بحث لأنه إن أراد بصحة النفي نفي صدق النوع عليه فلزومه ممنوع، إذ لا يصح سلب النوع عن فرده، وإن أراد أنه يصح نفي كون لفظ القرآن موضوعًا بإزائه بخصوصه فالملازمة مسلمة وبطلان اللازم ممنوع، وإن أراد أنه موضوع بالوضع العام لكل واحد من الجزئيات الشخصية القائمة بذاته تعالى وذوات القراء يلزم أن يوصف كلامه تعالى بالحدوث حقيقة لحدوث الجزئيات القائمة بذوات القراء ضرورة وجودها فيها بعد ما لم تكن وحدوث محالها أيضًا مع أنه لا يقول بحدوثه أصلًا بل يقول أن كل واحد من اللفظ والمعنى الموضوع لفظ القرآن له قديم حيث قال: القرآن اسم للفظ والمعنى، وهو قديم، إنما الحدوث للقراءة العارضة له، ولا شك أنه على هذا التقدير يلزم أن يكون اللفظ الذي وضع لفظ القرآن له حادثًا ضرورة أن الألفاظ القائمة بأذهان القراء حادثة سواء اعتبرت مع الترتيب أو بدونه، نعم إنها مماثلة للألفاظ القديمة القائمة بذاته تعالى، وبهذا ظهر فساد ما قال الفاضل المحشي من أنه لا استحالة في وصف كلام الله تعالى بالحدوث، فإن له أفرادًا متعددة، بعضها قديم وهو الشخص القائم بذاته تعالى، وبعضها حادث وهو الأشخاص القائمة بذوات المخلوقات، فلا إشكال أصلًا على أن هذه الأشخاص على هذا التقدير ليست أفرادًا له بل المعاني التي وضعت لكل واحد منها بالوضع العام.
قوله: (ولا مخلص إلا بأن يجعل…إلخ) أي لا مخلص عن هذا الاعتراض إلا بأن يجعل لفظ الكلام مشتركًا بين الشخص القائم بذاته تعالى وبين النوع، فحينئذ لا يكون إطلاقه على ذلك الشخص بخصوصه مجازًا، ولا يكون كلامه تعالى متصفًا بالحدوث لعدم حدوث النوع ضروة تحققه في ضمن الفرد القديم القائم بذاته تعالى أزلًا وأبدًا، وإنما الحادث الجزئيات المتشخصة بتشخصات المحال الحادثة، نقل عنه بل لا مخلص عنه إلا بأن يجعل مشتركًا بين ذلك النوع والفردين الخاصين، وإلا لزم أن يكون النظم المؤلف المعجز المنزل على النبي عليه السلام كلام الله تعالى مجازًا، وليس كذلك كما عرفت، وفيه أنه بقي لزوم أن يكون إطلاق الكلام على ما يقرأه كل واحد منا بخصوصه مجازًا، فيصح نفيه عنه، وذلك باطل بالإجماع، وأيضًا يلزم أن يوصف كلام الله تعالى بالحدوث حقيقة لحدوث النظم المنزل على النبي عليه السلام *قال بعض الفضلاء: فالمخلص اختيار الشق الأول وما يقرؤه كل واحد منا كان بالذات هو ما يقوم بذاته تعالى، وإن كان يغايره باعتبار تعلق قراءتنا به، وفيه تأمل.
قوله: (يشكل الفرق بقيام…إلخ) وكذلك يلزم أن لا يكون التحدي مع كلام الله تعالى ضرورة أن مدار البلاغة على أمور تقتضي ترتب الأجزاء من التقديم والتأخير، وأجيب بأن غرضه ليس نفي الترتب مطلقًا بل الترتب الزماني الذي يقتضي وجود بعض الحروف عدم الآخر، كيف وإن الحروف بدون الهيئة ولترتب الوضعي لا تكون كلمات ولا الكلمات كلامًا؟ ووجود الألفاظ المترتبة وضعًا وإن كان مستحيلًا ف يحقنا بطرق جري العادة لعدم مساعدة الآلات لكنه ليس كذلك في حقه تعالى، بل وجودها مجتمعة من لوازم ذاته تعالى، وليس امتناع الاجتماع من مقتضيات ذواتها، وفيه بحث إذ القول بالترتب الوضعي بين الحروف القائمة بذاته تعالى غير معقول لأنه إنما يتصور في الجسمانيات دون المجردات وإلا لزم انقسامها، ألا يرى أن الصورة القائمة بالنفس الناطقة ليس فيها ترتب وضعي، وقد يقال في الجواب أن انتفاء الترتب الزماني والوضعي لا يستلزم انتفاء الترتب مطلقًا حتى يلزم عدم الفرق لجواز أن يكون هناك ترتيب وتأليف يتحقق به الفرق، وعدم الشعور به لا ينافي وجوده في نفس الأمر، أقول يرد على الجوابين أنه يلزم أن لا يكون الكلام المنزل على النبي عليه الصلاة والسلام وما يقرؤه كل واحد منا كلام الله تعالى لأن الكلام على هذا هو الألفاظ القائمة بذاته تعالى بالترتب الوضعي أو الترتب الذي لا شعور به، وهو غير متحقق فينا إذ لا ترتب هنا سوى الترتب الزماني، وقيل في الجواب: إن ذلك الذاهب اعترف بعدم الفرق مطلقًا، فإن حاصل تحقيقه أن كلام الله تعالى صفة حقيقية بسيطة كسائر صفاته الكمالية، وإنما التعدد والتمايز بحسب التعلقات والاعتبارات، فلا يرد عليه ما ذكر، أقول: فيه بحث إذ لا إشعار في عباراته بأن كلامه صفة حقيقية بسيطة، كيف وكون الألفاظ القائمة بذاته تعالى راجعة إلى صفة حقيقية بسيطة مما لا يعقل ولا يتصور صحته؟